الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذاً فيكون تجويز جميع الأفعال المذكورة في النصوص: نفي للحدية المقدرة وفي ذلك إهدار للنصوص الواردة بالتقدير ونقض للإجماع على مقتضاها والله أعلم.
الخلاصة:
إنا نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يقرر في كتابه (زاد المعاد) ما دلت عليه النصوص واقتضاه الإجماع من أن عقوبة الخمر حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم
ويستدل على ذلك بمجامع النصوص الحديثية ويجيب عن أقواها في المعارضة وهو
حديث علي رضي الله عنه والله أعلم.
الفرع الثاني
بيان مقدار العقوبة
لشارب الخمر
هذه من مسائل العلم التي اشتد فيها الخلاف وكثرت فيها الأقوال حتى أوصلها الحافظ بن حجر إلى ستة أقوال (1) . وابن القيم في هذه المسألة يتحفنا برأيه من أن مقدار العقوبة: أربعون جلدة، وإن ما زاد عليها من أنواع العقوبات كلها تعزيرية: فزيادة الأربعين في عهد عمر رضى الله عنه زيادة تعزيرية لا حدية وقد اتفق عليها الصحابة رضي الله عنهم.
وزيادة الحلق للرأس تعزير. وزيادة النفي تعزير. وذلك بحسب ما رآه الولاة من الانهماك في شربها والجرأة عليها.
ويبيّن على ضوء هذا أن هذه الزيادات من الأحكام المتعلقة بالأئمة، إذ رأي
(1) انظر: فتح الباري 12/74 - 75
الوالي الانهماك في، شربها والجرأة عليها؟.
وهو في هذا العرض يتحفنا بخلاصة رأيه من غير سياق للأقوال ومناقشتها
فيقول: (ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم
…
وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق) .
سلف ابن القيم في هذا الرأي:
ابن القيم في هذا الرأي يوافق مذهب الشافعية والرواية الثانية عن الإمام أحمد.
في قولهم إن الحد: أربعون والزيادة إلى الثمانين تعزير. والتعزير موكول إلى رأي الإمام كما بسط مذهبهم الحافظ (2) وابن قدامة (3) .
أدلته:
استدل ابن القيم لهذا الاختيار بالأحاديث المرفوعة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
جلد أربعين من رواية علي وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم سياقها (4) . وإن هذا الفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تأيد التزامه حداً بذلك وباستمرار
العمل عليه في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وإنه بذلك تجتمع الأخبار وإليه رجع
علي رضي الله عنه (5) . وما فعله عمر رضي الله عنه إنما كان تعزيراً لوجود
المقتضى حيث انهمك الناس في شربها وكثرة الإقدام عليها. لهذا تنوع التعزير منه
تبعاً للمصلحة فمرة زاد أربعين، ومرة حلق، ومرة نفي والله أعلم.
(1) انظر: زاد المعاد 3/ 211.
(2)
انظر: فتح الباري 12/73.
(3)
انظر: المغني مع الشرح الكبير 10/339.
(4)
انظر: ص/558.
(5)
انظر: فتح الباري 12/74.
مذهب الجمهور:
اختيار ابن القيم هذا يخالف فيه مذهب الجمهور من أهل العلم منهم الحنفية والمالكية وأحد القولين عند الشافعية والرواية الثابتة عن الإمام أحمد وهو: أن مقدار حد الشارب ثمانون جلدة، كما حكاه النووي (1) وابن قدامة (2) وابن
حجر (3) وابن الهمام (4) .
أدلتهم:
استدلوا بما يلي:
1-
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين (5) . فهذا حديث نص لما ذهبوا
إليه.
رد هذا الدليل:
لكن هذا الحديث قد روي بأسانيد لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها به ابن دحيه (6) في كتابه (وهج الجمر في تحريم الخمر)(7) وعبد الرزاق في (مصنفه)(8)
بإسنادين كلاهما مرسلاً عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد رواه جماعة الحفاظ وقرروا أنه لا يصح عن رسول الله منهم ابن
(1) انظر: شرح مسلم 11/216.
(2)
انظر: المغنى 10/329.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 70- 72.
(4)
انظر: شرح فتح القدير 5/83.
(5)
انظر: نيل الأوطار للشوكاني 7/151.
(6)
هو: عمر بن الحسن بن دحية الكلبي المتوفى سنة 633 هـ. (انظر الأعلام للزركلي 5/201) .
(7)
انظر: تلخيص الحبير لابن حجر 4/72.
(8)
انظر: 7/379- 380
حزم (1) ، وابن حجر (2) ، والشوكاني (3) . إذا فلا تقوم به حجة لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2-
ما روي من الآثار عن عمر رضي الله عنه من أنه جلد الشارب ثمانين جلدة، وأنه بذلك استشار الصحابة رضي الله عنهم فاتفق رأيهم عليه
فكان إجماعاً كما حكاه ابن قدامة (4) .
ومنها ما رواه عبد الرزاق: أن عمر رضى الله عنه شاور الناس في جلد الخمر، وقال إن الناس قد شربوها واجترأوا عليها. فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فاجعله حد الفرية، فجعله عمر حد الفرية ثمانين (5) . وأصل جعل عمر رضي الله عنه حد الخمر ثمانين في صحيح البخاري (6) .
مناقشة هذا الدليل:
هذا الدليل مناقش من عدة وجوه منها ما يلي:
أ- إن روايات هذا الأثر على كثرة مخارجها وتعدد ألفاظها لم يأتِ في شيء منها حسب التتبع أن عمر رضي الله عنه نقص الحد عن أربعين بل رواية الأربعين ثابتة في عامة الروايات عن عمر رضي الله عنه من أنه كان في
صدر خلافته يجلد أربعين كما في رواية البخاري وإنما الذي حصل منه
هو الزيادة فلو لم تكن (الأربعين) حداً عنده لنقص عنها تبعاً لمقتضيات
الأحوال. فهي إذا زيادة تعزيرية لا حدية، يزيده وضوحا الوجه بعده:
(1) انظر: تلخيص الحبير لابن حجر 4/72.
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
انظر: نيل الأوطار 7/151.
(4)
انظر: المغني 10/321.
(5)
انظر: المصنف 7/378.
(6)
انظر: المرجع السابق.
ب- إنه جاء في عامة الروايات أيضاً تعليل الزيادة وهي أن عمر رضي الله عنه رأى أن الناس قد اجترأوا على شربها وتتابعوا وتهالكوا فيه فاستشار
الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. فهذا يدل على أن الحد ثابت عندهم
وهو (أربعون) جلدة وأن الزيادة إلى ثمانين حصلت لحصول المقتضى لها
وهو (تهالك الناس في شربها) .
ج- أنه ثبت أن عمر رضي الله عنه تدرج بالجلد للشارب من أربعين إلى ستين ثم إلى ثمانين كما في رواية عبد الرزاق (1) .
(إن عمر رضي الله عنه جلد أربعين سوطاً. فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين. فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين. ثم قال هذا أدنى الحدود) . وهل هذا التنوع في الزيادة إلا دليل على أن هذه الزيادة من باب التعزير لا الحد.
د- أنه ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه في الوقت الذي يحد فيه الشارب بثمانين
حده أيضاً بأربعين كما رواه الدارقطني مطولاً وفيه (أن عمر رضي الله
عنه جلد في الخمر ثمانين) قال: (وكان عمر رضي الله عنه إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلّة ضربه أربعين)(2) .
وجه الاستدلال:
دلّ هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه في الوقت الذي كان يجلد فيه الشارب ثمانين كان يجلد أيضاً أربعين وهذا دليل أن هذه الزيادة تعزير وإلا لما جاز له أن ينقص في الجلد عن الحد المقدر.
هـ- إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأبا بكر أربعين واستمر ذلك إلى أواخر خلافة
(1) انظر: المصنف 7/377.
(2)
انظر: سنن الدارقطني 3/157. وأصله في سنن أبي داود 4/628وانظر في تخريجه
(التعليق المغني على الدارقطني للآبادي 3/157- 158) .
عمر رضي الله عنه كما في حديث السائب بن يزيد عند البخاري (1) . فهذا دليل على أنهم فهموا أن ذلك هو الحد المقدر ولم يجاوزوه زيادة في الحد كما لم يجاوزوا غيره من الحدود المنصوصة. ولو قيل إن هذه الزيادة هي من الحد لكان هذا الاستنباط يعود على النص بالإبطال وهذا لا يجوز. فترجح إذا أن تكون هذه الزيادة تعزيراً لا حداً.
وهذا تؤيده الآثار المروية عن عمر رضي الله عنه: مثل تدرجه بالضرب ومثل ضربه في وقت واحد أربعين وثمانين تبعاً للمصلحة. ومثل ما رواه أبو عبيد في الغريب عن عمر أنه أتى بشارب، فقال المطيع بن الأسود: إذا أصبحت غداً فاضربه. فجاء عمر فوجده يضربه ضرباً شديداً فقال: كم ضربته؟ قال: ستين قال: اقتص منه بعشرين) (2) . قال أبو عبيد في معنى ذلك (يعني اجعل شدة ضربك له قصاصاً بالعشرين التي بقيت من الثمانين
…
ويؤخذ من هذا: أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حداً لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به) (3) .
و أما دعوى الإجماع في عهد عمر رضي الله عنه حيث وافقه كبار الصحابة على أن الحد ثمانون جلدة (4) . فهذا متعقب بأن علياً رضي الله عنه رجع
منه. ومن قبله عثمان رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تعقب الإجماع (5) : (وتعقب بأن علياً رضي الله عنه أشار على عمر بذلك ثم رجع عنه واقتصر على الأربعين
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/66.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر 12/73. وقال إسناده صحيح.
(3)
انظر: فتح الباري 12/73- 74.
(4)
انظر: المغني 10/339.
(5)
انظر: فتح الباري 12/73.