المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده - الحدود والتعزيرات عند ابن القيم

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع البحث:

- ‌دوافع البحث:

- ‌مسلك البحث الإجمالي:

- ‌خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:

- ‌كتاب الحدود

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) :

- ‌المبحث الأول:في آثار المعاصي شرعاً وقدراً

- ‌المبحث الثاني:في حكم إقامة الحد بدار الحرب

- ‌اختياره رحمه الله تعالى

- ‌سلفه في تقرير هذا الاختيار:

- ‌ استدلاله من السنة:

- ‌ استدلاله بالإجماع:

- ‌ استدلاله بقياس الأولى

- ‌مسلك الموازنة:

- ‌المبحث الثالث:في تأخير الحد لعارض

- ‌المبحث الرابع:إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

- ‌ استدلاله بقياس الأولى:

- ‌الترجيح والاختيار:

- ‌باب حد الزنى

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

- ‌المبحث السادسفي اشتراط الإسلام في الإحصان

- ‌المبحث السابع:في عقوبة الزاني المحصن

- ‌المناقشة والترجيح:

- ‌المبحث الثامن:في عقوبة من زنى بجارية امرأته

- ‌المبحث التاسع:في عقوبة من زنى بذات محرمة

- ‌المبحث الرابع عشر:في مفاسد اللوطية الصغرى

- ‌المبحث الخامس عشر:في مفاسد اللواط

- ‌بَابُ حدِّ القذْف

- ‌توطئة

- ‌ مواطن بحث القذف عند العلماء:

- ‌المبحث الخامس:عقوبات القاذف

- ‌العقوبة الأولى: جلد القاذف

- ‌العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته

- ‌الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب

- ‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

- ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

- ‌الترجيح:

- ‌باب حد الخمر

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت الخمر خمراً:

- ‌حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم:

- ‌أسباب السكر:

- ‌ الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر

- ‌1- تحريم القطرة من الخمر

- ‌الفرع الثانيبيان مقدار العقوبة

- ‌الترجيح:

- ‌ رأي ابن حزم

- ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

- ‌ التعزير: بالنفي

- ‌التعزير بالحلق للرأس:

- ‌تعزير الشارب في رمضان:

- ‌الفرع الخامس:العقوبة المالية للخمار

- ‌المبحث الخامس:إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة

- ‌باب حد السرقة

- ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

- ‌الشرط الخامس: انتفاء الشبهة

- ‌ العقوبات التعزيرية للسارق

- ‌المبحث السابع:في توبة السارق

- ‌باب الردة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول:في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني:في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الخامس:في توبة الزنديق

- ‌باب التعزير

- ‌المبحث الأولفي مقدار التعزير

- ‌ المسلك الرابع

- ‌الترجيح:

- ‌المبحث الثاني:في أنواع العقوبات التعزيرية

- ‌الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال

- ‌الخاتمةفي خلاصَة البحث ونتائجه

الفصل: ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

‌المبحث الأول:

حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

(1)

من ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن صيانة الأموال والمحافظة عليها فكان من حكمة الله ورحمته بعباده أن فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم ويخل بأمنهم على أموالهم. ففرض عقوبة قطع اليد من

السارق. وجاء في نص صريح محكم وتنزيل يتلى فقال تعالى (2) (والسارق والسارقة

فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) .

وفي هذه الآية، جماع القول بالحكمة (جزاءً بما كسبا نكالاً من الله) . فبيّن سبحانه أن (القطع) هو الحكم المطابق لمجازاة (السارق) لا نقص ولا شطط فلم يجعل عقوبته الجلد، فيكون جزاء، ناقصاً عن مقابلة الجرم. ولم يجعله إعداماً للنفس فيكون فيه مجاوزة لما يستحقه الجرم. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) :

(إن عقوبة القطع للسارق أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذي الناس وأخذ أموالهم) .

وقال أيضاً (4) :

(ولم يشرع في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدالته لتزول النوائب وتنقطع

(1) انظر: أعلام الموقعين 2/95، 96، 106 - 107.

(2)

الآية رقم 38 سورة المائدة.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 2/96.

(4)

انظر: أعلام الموقعين 2/95.

ص: 351

الأطماع عن التظالم والعدوان. ويقنع كلّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه) .

وقال أيضاً (1) :

(إن المقصود هو الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفّ عدوانه أقرب، وإن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً

وإن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

ثم أن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرّاً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له. والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.

واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران. ولهذا يقال:

(وصلت جناح فلان) إذا رأيته يسير منفرداً، فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصاً لجناحه. وتسهيلاً لأخذه أن عاود السرقة.

فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفاً في العدو.

ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفاً في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب.

ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة. ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على

وضم فيستريح ويريح) (2) .

(1) انظر: أعلام الموقعين 2/106- 107.

(2)

انظر: فيما يأتي بيان عقوبة الإتيان على الأطراف.

ص: 352

المبحث الثاني:

كشف الشبه الواردة على: عقوبة السارق بالقطع (1) .

أورد ابن القيم رحمه الله تعالى التساؤل المشهور من نفاة القياس والحكم والتعليل

من وجود التفريق بين المتماثلين. والجمع بين المختلفين. وفي هذا ذكر إيرادهم في السرقة وكشف عنها بما لا يدع لقائل مقالاً.

ونفاة القياس إنما أوردوا هذا وأمثاله لفك شرعية القياس لا للقدح في حكم السرقة فحاشاهم بل هم مؤمنون بحكم الله ودينه وشرعه ولا يعتريهم في ذلك شك

ولا يساورهم فيه وهم.:

أما في عصرنا فهذه الإيرادات ونحوها هي النافذة الموهومة التي نفث منها

- المستشرقون وأذنابهم- بإلقاء الشبه وتكوين الشكوك لا في هذا الحد (قطع السارق) فحسب بل ليتدرجوا بالرعاع من أولاد المسلمين، الغرباء عن إسلامهم- إلى ترك الإسلام جملة وتفصيلاً؟

ولكن نقول بكل ثبات: وأنى لهم أن يتم ذلك؟؟؟.

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(2) .

وابن القيم رحمه الله تعالى في مباحثه هذه كأنما أعطى رحمه الله تعالى نسخة من شبه المستشرقين فكر عليها بالنقض والرفض حتى أصبحت أثراً بعد عين بل ولا أثر.

لهذا فإنني أورد هذه الإيرادات على لسان مورد الشبه والاعتراض (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة)(3) .

(1) انظر: أعلام الموقعين 2/52، 61- 62، 93- 94، بدائع الفوائد 2/211 - 212.

(2)

الآية رقم 9 سورة الحجر.

(3)

الآية رقم 42 سورة الأنفال.

ص: 353

الاعتراض الأول: أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق.

نعى ابن القيم على المتباكين على هؤلاء اللصوص، الذين يقولون إن القطع شر محض على المقطوع فقال (1) :

(السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً. لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق

عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة

أفليس في عقوبة هذا الصائل خير

محض وحكمة وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام

به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الربّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة. فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه موَضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته. ولا تلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد

سواء ولا فرق أصلاً وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة؟. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى (2) (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف

تحكمون) وقولة (3) (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا

(1) انظر: بدائع الفوائد 2/ 211- 212.

(2)

الآية رقم 36 سورة القلم.

(3)

الآية رقم 21 سورة الجاثية.

ص: 354

وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وقوله (1)(أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) . فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزّه سبحانه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزّته

وإلاهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيراً. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام

كما إذا جاء من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم

ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها

وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر:

نعمة الله لا تعاب ولكن

ربما استقبحت على أقوام.

هذا ما قرره ابن القيم بحماس متدفق ضد هذا الاعتراض المريض المتلخص: أن

في هذه العقوبة حماية للمجتمع من ضرر هذه الجريمة، واهتماماً بتهذيب المجرم

وتطهيره مع إبداء كمال المناسبة بين الجريمة والعقاب.

ويطيب لي في هذا المقام أن أذكر ما أوضحه الأستاذ عبد الكريم زيدان،

في تفنيد هذا الاعتراض ونقضه فقال (2) :

(أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع فهذا إذا. كان صحيحاً فمن الصحيح

(1) الآية رقم 28 سورة ص.

(2)

انظر: كتابه، مجموعة بحوث فقهية ص/413 سنة 1396 بيروت. مؤسسة الرسالة.

ص: 355

أيضاً أن يقال: إن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرماً سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على

السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم. فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلاً. بل إن السجن أصبح مكاناً أميناً للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام.

أما قطع اليد فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جداً، والتاريخ خير شاهد على ما نقول فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق) .

الاعتراض الثاني: كيف يكون القطع لمن سرق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها (1) .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك (2) :

(هذا من تمام حكمة الشارع: فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه. فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضاً. وعظم الضرر. واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس. فيمكنهم أن يأخذوا على يديه. ويخلصوا حق المظلوم. أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه. وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس.

فليس كالسارق. بل هو بالخائن أشبه.

(1) انظر: أعلام الموقعين 2/52.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 2/ 61- 62.

ص: 356

وأيضاً فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يقاتلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً فهو كالمنتهب.

وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. ولكن يسوغ كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال) .

ومدار الدفع من ابن القيم لهذا الاعتراض: هو توفر الحرز في السرقة وهو غاية

ما يملكه الناس من الاحتراز. مع اختفاء السارق. وهذا المعنى لا يوجد في كل من المنتهب والمختلس. والغاصب على ما أوضحه رحمه الله تعالى (1) . الاعتراض الثالث: التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها فإن ديّتها خمسمائة دينار وبين عقوبتها بالقطع إذا سرق فإن نصاب السرقة الموجب للقطع ثلاثة دراهم (2) ؟.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن ذلك (3) :

(وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار: فمن أعظم المصالح والحكمة.

فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف:

فقطعها في ربع دينار حفظاً للأموال. وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظاً لها وصيانة.

وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال (4) :

(1) وانظر: فتح الباري لابن حجر 12/98.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 2/52.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 2/63.

(4)

نسب ابن حجر في (فتح الباري 12/98) البيت الأول: لأبي العلاء المعرى، أحمد بن عبد الله هلك سنة 449 هـ (انظر: لسان الميزان لابن حجر 1/203- 208) وقد نسب له البيتين=

ص: 357

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض مالنا إلا السكوت له

ونستجير بمولانا من العار

فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت. وضمنه الناظم قوله (1) :

يد بخمس مئين عسجد وديت لكنها

قطعت في ربع دينار

حماية الدمّ أغلاها، وأرخصها

خيانة المال، فانظر حكمة الباري

وروي أن الشافعي (2) رحمه الله تعالى أجاب بقوله:

هناك مظلومة غالت بقيمتها

وههنا ظلمت هانت على الباري

وأجاب شمس الدّين الكردي (3) بقوله:

قل للمعري عار أيما عار

جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار

لا تقدحن زناد الشعر عن حكم

شعائر الشرع لم تقدح بأشعار

فقيمة اليد نصف الألف من ذهب

فإن تعدت فلا تسوى بدينار

ومنه يتضح للمنصف أن هذا التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها وبين نصاب القطع إذا جنت هو عين الحكمة والعدل والصيانة لأبدان الناس وأموالهم. وهذا الاعتراض الآثم أورده جماعة من العلماء ولكن لا يخرجون في جوابهم عما ذكره ابن

القيم رحمه الله تعالى. وهو نقض جلى مبناه على التفاوت العظيم بين الجنايتين.

= فيه. وانظر: في الدراسة عن المعري كتاب (أباطيل وأسمار- لمحمود شاكر) ط المدني بمصر سنة

972 م

(1)

ذكر ابن حجر في (فتح الباري 12/98) البيت الثاني جواباً من: القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي المتوفى سنة 422 هـ. (وانظر في ترجمته الأعلام للزركلي 4/335) .

(2)

إن كان المراد أن الشافعي رحمه الله تعالى أجاب شخصاً معترضا فنعم وإن أريد أنه أجاب

المعري فلا. للتفاوت الكبير بين زمانيهما فالشافعي رحمه الله توفي سنة 204 هـ. والمعري توفي

سنة 449 هـ.

(3)

لم أجد له ترجمة.

ص: 358

وممن أورده الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) . وفي (لسان الميزان)(2)

وقال (3) :

(قال السلفي (4) : إن كان المعري قال هذا الشعر معتقداً معناه فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب) .

حكمة التشريع في جعل نصاب السرقة ربع دينار:

وابن القيم رحمه الله تعالى بعد نقض هذا الاعتراض يتحفنا بحكمة الشرع في تخصيص القطع بهذا القدر (ربع دينار) زيادة منه في نقض مقالة المعري وأضرابه

فيقول (5) :

(وأما تخصيص القطع بهذا القدر: فلأنه لا بد من مقدار يجعل ضابطاً

لوجوب القطع، إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك.

فلا بد من ضابط: وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار.

وقال إبراهيم النخعي (6) وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه (7) . فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم، إذ لا يلحقهم ضرر بفقده

وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة: فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن

(1) انظر: 12/98.

(2)

انظر: 1/203-208.

(3)

انظر: 1/205.

(4)

هو: أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة (بكسر السين وفتح اللام) الأصبهاني حافظ محدث مات

سنة 576 هـ. (انظر: الأعلام للزركلي 1/209) .

(5)

انظر: أعلام الموقعين 2/64.

(6)

هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي المتوفى سنة 196 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/46) .

(7)

انظر: المغني لابن قدامة 10/242

ص: 359

يمونه غالباً. وقوت اليوم للرجل وأهله له خطر عند غالب الناس، وفي الأثر المعروف (1)(من أصبح آمناً في سربه (2) معافىً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما (3)

حيزت له الدنيا بحذافيرها) (4) .

المبحث الثالث:

في بيان جملة من شروط القطع في السرقة

للقطع في السرقة شروط منها ما يعود إلى السارق نفسه ومنها ما يعود إلى المسروق منه ومنها ما يعود إلى المسروق ذاته، ومن هذه الشروط المتفق عليه ومنها المختلف فيه وجميعها مسطرة في كتب المذاهب المشهورة (5) .

وحسبنا هنا ذكر ما تناوله قلم التحقيق من ابن القيم رحمه الله تعالى وهي أربعة شروط:

الشرط الأول: أن تكون السرقة من حرز.

الشرط الثاني: أن يكون المسروق بما لا يسرع إليه الفساد.

الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصاباً.

الشرط الرابع: مطالبة المسروق منه بماله.

(1) هو حديث حسن الإسناد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه. خرجه الترمذي 4/574 رقم 2346 وابن ماجه 2/1387 رقم 4141.

(2)

سربه: بكسر السين أي في نفسه (انظر: النهاية لابن الأثير 2/356) .

(3)

حيزت: جمعت (انظر: الترمذي 4/ 574) .

(4)

حذافيرها: الحذافير الجوانب. وقيل الأعالي. واحدها: حذفار. والمعنى (فكأنما أعطي الدنيا بأسرها)(انظر: النهاية لابن الأثير 1/356) .

(5)

انظر: للحنفية: حاشية بن عابدين 4/82. وفتح القدير لابن الهمام 5/119 - 128.

وللمالكية: جواهر الإكليل للأزهري 2/289. وللشافعية: نهاية المحتاج للرملي 7/418-

445.

وللحنابلة: كشاف القناع 6/129- 148.

وانظر في هذه المذاهب: المغني لابن قدامة10/239. وبداية المجتهد لابن رشد 445 -

451.

والمحلي لابن حزم11/386 - 433. ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة للدمشقي ص/278- 283. والإفصاح لابن هبيرة 2/414- 425

ص: 360

الشرط الخامس: انتفاء الشبهة.

الشرط السادس: ثبوت السرقة بشهادة عدلين أو إقرار مرتين.

وبيانها على هذا الترتيب كما يلي:

الشرط الأول: أن تكون السرقهَ من حرز (1) .

وابن القيم رحمه الله تعالى في حديثه عن الحرز يتكلم عنه من ناحيتين:

الأولى: شرطية.

الثانية: بيان أنواع من الحرز مختلفة باختلاف الأموال والأحوال.

وبيانها كما يلي:

الأولى: شرطية الحرز:

اشتراط إخراج السرقة من حرز، هو قول الجماهير من أهل العلم منهم الأئمة

(1) الحرز: في أصل وضعه اللغوي (الموضع الحصين) كما في مقصد النبيه للنووي ص/69،

ص/141، والقاموس 2/178، ومختار الصحاح للرازي ص/ 120 وقال:

(ويقال هذا حرز حريز، ويسمى (التعويذ) حرزاً و (احترز) من كذا و (تحرز منه) أي توقاه.

وشرعاً: اختلفت فيه كلمة أهل الاصطلاح على ما يلي:

1-

قال ابن الهمام في (شرح فتح القدير 5/142) : هو في الشرع كاللغة إلا أنه يفيد بالمالية أي المكان الذي يحرز فيه المال) .

2-

وقال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن 6/162) : الحرز، هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله.

3-

وقال الرملي في (نهاية المحتاج 7/426) : الشرع أطلق الحرز ولم تضبطه اللغة فيرجع فيه إلى العرف، وهو مختلف باختلاف الأحوال والأوقات والأموال) .

4-

وقال الحجاوي في (زاد المستنقع 3/123 مع حاشيته السلسبيل) : حرز المال ما العادة

حفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه.

ومن هذه التعاريف نجد التواطؤ بين معناه اللغوي والشرعي: من أن الحرز المكان المعد لحفظ المال فيه، كما نجد اتفاق النقول على أن حرز كل شيء بحسبه والله أعلم.

ص: 361

الأربعة. بل حكى عليه الإجماع. كما ذكره ابن قدامة (1) وابن هبيرة (2) وابن حزم (3) وابن الهمام (4) .

وابن القيم رحمه الله تعالى ينص على: اعتبار الحرز في السرقة وإخراجه منه (5) .

استدلال ابن القيم (6) :

ويستدل لذلك الاعتبار بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التمر المعلق فقال (من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (7) فلا شيء عليه. ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة. ومن سرق منه

شيئاً بعد أن يؤويه الجرين (8) فبلغ ثمن المجن (9) فعليه القطع) رواه أبو داوود (10) والترمذي (11) وابن ماجه (12) واللفظ لأبي داوود..

وجه الاستدلال:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيانه (13) :

(فيه اعتبار الحرز فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه

(1) انظر: المغني 10/249، 10/ 262.

(2)

انظر: الإفصاح 2/414.

(3)

انظر: مراتب الإجماع ص/135.

(4)

انظر: شرح فتح القدير 5/142.

(5)

انظر: زاد المعاد 3/212

(6)

انظر: المرجع السابق.

(7)

خبنة: هي معطف الإزار وطرف الثوب والمعنى: أن لا يأخذ منه في ثوبه (انظر: النهاية لابن الأثير 2/9) .

(8)

الجرين: جمعه: جرن. وهو: موضع تجفيف التمر. (انظر: النهاية لابن الأثير 1/263) .

(9)

المجن: جمعه: مجان. وهو: الترس الذي في الحرب سمي بذلك لأنه جنة أي سترة انظر: النهاية

أياً 4/301) .

(10)

انظر: سنن أبي داوود 4/550

(11)

انظر: سنن الترمذي 3/ 584. وقال: حديث حسن.

(12)

انظر: سنن ابن ماجه 2/865

(13)

انظر: زاد المعاد 3/212

ص: 362

على سارقه من الجرين) .

وهذا القدر من الاستدلال وبيان وجهه هو عمدة القائلين بشرطية الحرز من السنة النبوية ولهذا قرروا أنه يخص آية السرقة وهي قوله تعالى (1) (والسارق

والسارقة فاقطعوا أيديهما) الآية كما خصصت باعتبار النصاب. وهذا ما قرره ابن قدامة (2) وابن الهمام (3) وغيرهما والله أعلم.

الثانية: بيان أنواع من الحرز مختلفة باختلاف الأموال والأحوال.

عرفنا من بيان حد الحرز في الاصطلاح أنه يختلف باختلاف الأموال والأحوال والبلدان (4) وابن القيم رحمه الله تعالى يوضح بعضاً منها في حدود ما دلت عليه الوقائع في عهد النبوة ومنها ما يلي:

أ- حرز الثمار

من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه المتقدم ذكره (5) : بين ابن القيم رحمه الله تعالى أن الثمار لها ثلاثة أحوال حالتان لا قطع فيهما والثالثة فيها القطع فقال (6) :

(جعل النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ الثمرة ثلاثة أحوال حالة لا شيء فيها وهو ما إذا أخذه من

شجرة وأخرجه. وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره (7) سواء قد انتهى

جفافه أم لم ينتهي) . وهذا حكم متفق عليه لدى الأئمة الأربعة إلا أن الحنفية يشترطون أن تكون الثمار جافة غير رطبة ولهذه المسألة مزيد بحث يأتي إن شاء الله في الشرط الثاني.

(1) الآية رقم 38 سورة المائدة.

(2)

انظر: المغني 10/ 250.

(3)

انظر: فتح القدير 5/142.

(4)

انظر: ص/622 جتشيو؛

(5)

انظر: ص/623.

(6)

انظر: زاد المعاد 3/212.

(7)

البيدر: هو بمعنى الجرين تقدم ص/623

ص: 363

ب- الإنسان حرز لثيابه وفراشه:

عن صفوان بن أمية (1) رضي الله عنه قال: كنت نائماً في المسجد على خيصة (2)

لي ثمنها ثلاثين درهاً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل. فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم.

فأمر به ليقطع. فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهاً. أنا أبيعه وأنسئه (3) ثمنها. فقال هلا كان قبل أن تأتيني به) . رواه أبو داوود (4) . والنسائي (5) . وابن ماجه (6) واللفظ لأبي داوود.

ذكر ابن القيم حديث صفوان هذا مختصراً (7) ثم قال في الاستنباط منه (8) :

(فيه أن الإنسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان سواء كان في المسجد أو غيره) .

وهذا من الأحكام المتفق عليها في المذاهب الأربعة على ما هو مسطر في مدوناتهم من أن الإنسان حرز لثيابه وفراشه ومتاعه فيعتبرون الحرز هنا بالحافظ

والملاحظ لا بالمكان (9) والله أعلم.

ج- المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه.

عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترساً (10)

(1) هو: صفوان بن أمية بن خلف القرشي المكي المتوفى سنة 41 هـ. وقيل غيرها (انظر: التقريب

لابن حجر 1/267) .

(2)

خميصة: هي ثوب معلم أو صوف معلم. وجمعها: خمائص. (انظر: النهاية لابن الأثير 2/ 81) .

(3)

أنسئه: النسأ التأخير. والمراد هنا: البيع إلى أجل معلوم (انظر: النهاية لابن الأثير 5/45) .

(4)

انظر: سنن أبي داوود 4/553- 555.

(5)

انظر: سنن النسائي 8/ 60.

(6)

انظر: سنن ابن ماجه 2/865.

(7)

انظر: زاد المعاد 3/ 211.

(8)

انظر: 3/212.

(9)

انظر: 10/ 0251 المغني لابن قدامة 10/ 251، وشرح فتح القدير 5/145، ونهاية

المحتاج 7/428، وجواهر الإكليل 2/292.

(10)

الترس: هو المجن وتقدم معناه (انظر عون المعبود 4/236) .

ص: 364

من صفة النساء (1) ثمنه ثلاثة دراهم) رواه أبو داوود (3) . وهو بمعناه في مسلم (3) . والنسائي (4) . ساق ابن القيم هذا الحديث بمعناه فقال (5) :

(وقطع صلى الله عليه وسلم سارقاً سرق ترساً كان في صفة النساء في المسجد) .

الاستدلال من هذا الحديث:

ثم قال في الاستدلال منه لذلك (6) :

(وفيه أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من سرق منه

ترساً وعلى هذا: فيقطع من حصيره وقناديله وبسطه وهو أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله وغيره.

ومن لم يقطعه قال: له فيها حق فإن لم يكن (فيها حق كالذي قطع) . وهذا الحق هو الجلوس على الفراش والشرب من السقاء ونحو ذلك من آلات المسجد. مناقشة ابن القيم:

إذا عرفنا أن (الترس) هو (المجن) والمجن آلة من آلات الحرب و (صفة النساء) يراد بها مصلى النساء وهو مكان مظلل لهن في آخر المسجد (7) فإنه يحصل

عند التأمل وقفة شديدة في هذا الاستدلال.

ذلك أن الترس ليس من المعتاد وضعه في المسجد بل هو آلة تكون عائديتها للمالك لها ومصلي النساء ليس حرزاً بنفسه (حرز مكان) فإن حرزيته من حرز

(1) صفة النساء: مكان مظلل في المسجد لصلاة النساء (انظر عون المعبود 4/236) .

(2)

سنن أبي داود 4/548.

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي 11/184.

(4)

انظر: سنن النسائي 8/69.

(5)

انظر: زاد المعاد 3/ 211.

(6)

انظر: زاد المعاد 3/ 212.

(7)

انظر: عون المعبود 4/236

ص: 365

المسجد، فيبقى أن نفسر هذه الواقعة فيما يظهر والله أعلم على ما فرعه جماعة الفقهاء (1) : من أن سرقة المتاع من المسجد فيه القطع إذا كان محرزاً بملاحظ قريب منه وهذا (حرز بالحافظ) لا بالمكان والله أعلم.

أما ما يعتاد وضعه فيه: من حصيره وقناديله وبسطه فهي مسألة مستقلة عن هذه وهي محل خلاف بين أهل العلم إذا كان السارق مسلما. على قولين كما ذكرهما ابن القيم رحمه الله تعالى:

القول الأول:

أنه لا قطع بذلك وهو مذهب الحنفية (2) ، والشافعية (3) . والمعتمد من مذهب الحنابلة (4) بل ذكر ابن قدامة في (المغني)(5) لا قطع وجهاً واحداً في المذهب.

الدليل:

هو كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من التعليل- أن له فيه حق الانتفاع فأورث ذلك شبهة تدرء الحد كالسرقة من بيت المال فلا قطع (6) .

القول الثاني:

أنه يقطع بسرقة قناديل المسجد وبسطه وحصيره ونحو ذلك وهو وجه في المذهب الحنبلي حكاه المرداوي (7) وهو مذهب المالكية بشرط عندهم وهو: أن

(1) انظر: المغني- لابن قدامة 10/256 وشرح فتح القدير لابن الهمام 5/145، 5/147.

(2)

انظر: فتح القدير لابن الهمام 5/132.

(3)

انظر: نهاية المحتاج للرملي 7/435.

(4)

انظر: كشاف القناع 6/139.

(5)

انظر: المغني 10/256.

(6)

انظر: ما تقدم ص/626. والمغني 256.

(7)

انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10/275 والمرداوي هو: علاء الدين أبو

الحسن علي بن سلمان المرداوي المتوفى سنة 885 هـ. (انظر، الأعلام للزركلي 5/104) .

ص: 366

تجري العادة بترك ذلك ليلاً ونهاراً فإن كانت ترفع منه في غير أوقات اجتماع الناس للصلاة وتركت في غيرها فسرقت فلا قطع لسارقها (1) وهذا هو ما قرره

ابن القيم رحمه الله تعالى مستدلاً بالحديث المذكور آنفاً. والظاهر عدم توجه الاستدلال منه كما تقدم في مناقشته. ولم أر لدى الحنابلة أو المالكية تعليلاً لهذا وهذه مما أستخير الله فيها.

الشرط الثاني: أن يكون المسروق مما لا يسرع إليه الفساد.

هذا الشرط من مفردات الحنفية عن الجمهور.

وتحرير مذهب الحنفية هو: أنه لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد: كاللبن واللحم ولو قديد أو الثمار والفواكه الرطبة أما إذا كانت الثمار مثلاً يابسة وآواها الجرين ففيها القطع (2) .

مذهب الجمهور:

وهو القطع في الطعام والثمار إذا كان من حرزه كما الجرين لا فرق بين اليابس والرطب عندهم (3) .

الدليل في هذا الشرط نفياً وإثباتاً:

مدار الخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا الشرط هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم ذكره ولفظه.

(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير

(1) انظر: جواهر الإكليل 2/292.

(2)

انظر: الهداية بحاشية فتح القدير 5/130، وشرح فتح القدير 5/130- 131، والمغني 10/247 - 248.

(3)

انظر: المغني 10/247 - 248، 10/263 وشرح فتح القدير 5/130- 131

ص: 367

متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة. ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع) .

فعند الحنفية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة لأنه

يسرع الفساد إليه لرطوبته. وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد.

وعند الجمهور: مدار التعليل على الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة.

موقف ابن القيم من هذا الاستدلال وبيان اختياره:

وابن القيم رحمه الله تعالى يناقش وجهة الحنفية هذه ويصحح مذهب الجمهور ويختاره فيقول (1) :

(إن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه

من الجرين.

فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن هذا النقصان ماليته لإسراع الفساد إليه. وجعل هذا أصلاً في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه. وقول الجمهور: أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال: حالة لا شيء فيها وهو ما إذا أكل منه

بفيه. وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع وهو ما إذا أخذه من شجرة

وأخرجه.

وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره سواء كان قد انتهى جفافه أو لم ينته فالعبرة للمكان والحرز لا ليبسه ورطوبته.

ويدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على

سارقها من عطنها فإنه حرزها) .

وهذه مناقشة ينشرح لها الصدر وهي مقتضى نص الشارع فإنه علق الحكم

(1) انظر: زاد المعاد 3/313

ص: 368

بالقطع على (إيوائه الجرين

) وهذا نص على أن مدار الحكم: الحرز لا الرطوبة

واليبس.

ويزيد هذا قوة على قوته: ذلك التنظير بسارق الشاة من مرعاها فلا قطع كسارق الثمرة من الشجرة وأما سارق الشاة من مراحها وعطنها ففيه القطع كالسارق للثمرة من الجرين وهذا: لتوفر الحرز فيهما.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بين الحكمين في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:

(سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كم تقطع اليد. قال: لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن ولا تقطع في حريسة (1) الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن) رواه النسائي (2) .

الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصاباً (3) .

ساق ابن القيم رحمه الله تعالى أربعة أحاديث تدل على أن مقدار نصاب السرقة الموجب للقطع: ثلاثة دراهم أو ربع دينار وهي:

1-

قال (4) :

(قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم) . وهذا الحديث رواه

البخاري (5) . ومسلم (6) . وأبو داود (7) . والنسائي (8) كلهم من حديث ابن عمر رضي

(1) الحريسة: إثارة إلى ما يحرس بالجبال من المواشي من أنه ليس حرزاً لها وإنما حرزها إذا آواها المراح (انظر النهاية لابن الأثير 1/367) .

(2)

انظر: سنن النسائي 8/78.

(3)

انظر: زاد المعاد 3/211.

(4)

انظر: المرجع السابق.

(5)

انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/97.

(6)

انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 11/182.

(7)

انظر: سنن أبي داوود 4/547.

(8)

انظر: سنن النسائي 8/69

ص: 369

الله عنهما.

2-

قال (1)

(وقضى صلى الله عليه وسلم أنه لا تقطع اليد في أقل من ربع دينار) . وهذا الحديث رواه

البخاري (2) . ومسلم (3) . وأبو داود (4) والترمذي (5) . والنسائي (6) . وا بن

ماجه (7) .

3-

قال (8) :

(وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى) . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في (مسنده)(9) من حديث عائشة رضي الله عنها والبيهقي في (السنن الكبرى)(10) .

وأصل هذا الحديث في الصحيحين (11) وغيرهما بلفظ (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) من حديث عائشة رضي الله عنها.

4-

قال (12) :

(وقالت عائشة رضي الله عنها لم يكن تقطع يد السارق في عهد رسول الله

(1) انظر: زاد المعاد 3/211.

(2)

انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/96.

(3)

نظر: مسلم بشرح النووي 11/181.

(4)

انظر: سنن أبي داوود 4/445.

(5)

انظر: سنن الترمذي 4/ 50.

(6)

انظر: سنن النسائي 8/ 70.

(7)

انظر: سنن ابن ماجه 2/862.

(8)

انظر: زاد المعاد 3/211.

(9)

انظر: الفتح الرباني للساعاتي 16/ 110.

(10)

نظر: 8/255.

(11)

انظر: البخاري مع فتح الباري 12/96، ومسلم بشرح النووي11/182.

(12)

انظر: زاد المعاد 3/211

ص: 370

صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة (1) وكان كل منهما ذا ثمن) . هذا الحديث رواه البخاري (2) . ومسلم (3) .

الاستدلال من هذه الأحاديث:

ثم قال (4) ابن القيم رحمه الله تعالى في الاستدلال من هذه الأحاديث على مقدار نصاب السرقة قال فيها (إنه لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم أو ربع دينار) .

الترجيح:

هذا ما ذكره ابن القيم في مقدار النصاب الموجب للقطع وهو مذهب اختاره من نحو عشرين مذهباً في مقدار نصاب السرقة ساقها الحافظ ابن حجر في كتابه (فتح الباري)(4) وذكر أدلتها وقرر فيها أن صح ما ورد في أقل مقدار للنصاب في السرقة هو (ربع دينار) أو (ثلاثة دراهم) .

وقد ورد فيه حديث بصيغة القول وهو حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم (اقطعوا في ربع دينار فصاعداً، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك) . وقال (6) : إن

سائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها.

ومن كلام الحافظ هذا نعرف سر اختيار ابن القيم لمقدار النصاب في السرقة (ثلاثة دراهم أو ربع دينار) .

وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد.

(1) الحجفة: هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره. وهي والترس نوعان

من المجن (انظر فتح الباري 12/104) .

(2)

انظر: البخاري مع فتح الباري 12/97.

(3)

انظر: مسلم مع شرح النووي 11/183.

(4)

انظر: زاد المعاد 3/212

(5)

انظر: 12/106 -107.

(6)

انظر: المغني 10/ 242. وفتح الباري 12/ 106.

ص: 371

وعليه تدل السنة القولية والفعلية والله أعلم.

الشرط الرابع: مطالبة المسروق منه بماله.

في سياق ابن القيم رحمه الله تعالى لأحكام النبي صلى الله عليه وسلم في السرقة ذكر حكمه

صلى الله عليه وسلم بقطع سارق رداء صفوان بن أمية كما تقدم. ثم قال (1) :

(فيه أن المطالبة في المسروق شرط في القطع ولو وهبه إياه أو باعه قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القطع كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال (هلا كان قبل أن تأتيني

به) .

اختلاف العلماء في هذا الشرط:

وهذا الشرط محل خلاف بين أهل العلم على قولين:

القول الأول:

اشتراط المطالبة وهو مذهب أبي حنيفة (2) . والشافعي (3) . وإحدى الروايتين عن أحمد وهي المذهب (4) .

الدليل:

هو حديث صفوان كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى.

القول الثاني:

لا تشترط المطالبة. وهذا مذهب مالك (5) . والرواية الثانية عن أحمد (6) وذكر

(1) انظر: زاد المعاد 3/212.

(2)

انظر: فتح القدير لابن الهمام 5/159.

(3)

انظر: المغني لابن قدامة 7/277، ونهاية المحتاج للرملي 7/422.

(4)

انظر: المغني لابن قدامة10/277. والإنصاف للمرداوى 10/248

(5)

انظر: المنتقى للباجي 7/164. ورحمة الأمة للدمشقي ص/282.

(6)

انظر: الإنصاف للمرداوي 10/248.

ص: 372