الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- تحريق الخليفتين عمر وعلي رضى الله عنهما لأمكنة الخمارين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(ومنها- أي من التعزيرات المالية- تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر) .
والآثار عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريق أمكنة الخمارين عقوبة لهم مستفيضة خرجها أبو عبيد (2) ، وخرج عبد الرزاق (3) 0 الآثار في ذلك عن عمر رضي الله عنه والله أعلم.
المبحث الخامس:
إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة
(4)
في معرض بحث ابن القيم رحمه الله تعالى للحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في الدماء والأموال والحدود، ضرب لها المثال بحد الشارب بالرائحة تنبعث من فمه أو بالخمر يتقيؤها وإن هذا من الأحكام التي اتفق عليها الصحابة
رضي الله عنهم.
وفي بيان هذا يقول رحمه الله تعالى (5) :
(وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/309 وانظر أيضاً ص/13 منه.
(2)
انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص/100- 104
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 9/229- 230
(4)
انظر: الطرق الحكمية ص/4، وأعلام الموقعين 3/20، 3/197، وزاد المعاد 2/78-
79، 143، 3/211.
(5)
انظر: الطرق الحكمية ص/4
رضي الله عنهم، بوجوب الحد بالرائحة للخمر أو قيئه خمراً اعتماداً على القرينة الظاهرة) .
وقال أيضاً (1) :
(وكان أهل المدينة في زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم يحدون
بالرائحة والقيء) .
فنجد ابن القيم رحمه الله تعالى استدل لهذه المسألة وهي الحد بالرائحة بأحكام الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما مع عدم وجود المخالف لهما في ذلك.
الخلاف وأدلته:
إن معرفة قوة انتخاب هذا الرأي أو ضعفه من ابن القيم يقتضي ذكر الخلاف
في هذه المسألة ومناقشته وتحرير الأدلة رواية ودراية ومناقشة وجوه الاستدلال منها فإلى بيان الخلاف مع ذكر أدلته ومناقشتها.
القول الأول:
أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة من الفم أو القيء وهذا قول الجمهور منهم الثوري وأبو حنيفة. والشافعي. وأحمد في إحدى الروايتين كما حكاه ابن قدامة وقال (2) :
(وهو قول أكثر أهل العلم) .
وجهة هذا القول:
هي أن يقال إن مجرد وجود الرائحة مثلاً لا يلزم منه الشرب فقد تتفق
الروائح.
(1) انظر: أعلام الموقعين 3/197.
(2)
انظر: المغني 10/332. وانظر أيضاً فتح الباري لابن حجر 10/65
أو ظنها ماء فلما أحس بها في فيه مجها. أو شرب منها لغصة بقدر ما يسيغها فأوجدت رائحة أو تقيئها.
وهذه ونحوها وجوه محتملة تورث شبهة والحد لا يقام مع وجود شبهة. فالنتيجة إذا أنه لا يجب إقامة الحد بالرائحة أو القيء.
وقد كشف عن وجهة مذهب الجمهور ابن قدامة فقال (1) :
(لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماءً فلما صارت في فيه مجها،
أو ظنها لا تسكر أو كان مكرهاً أو أكل نبقاً (2) بالغاً أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر. وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرء بالشبهة) .
وقال الحافظ ابن حجر في تعليل مذهب الجمهور (3) :
(لأن الروائح قد تتفق والحد لا يقام مع الشبهة) .
وقال النووي في التعليل (4) :
(أنه لا يجب الحد بمجرد ريحها لاحتمال النسيان والاشتباه والإكراه وغير ذلك هذا مذهبنا ومذهب آخرين) .
القول الثاني:
وجوب إقامة الحد بالرائحة أو القيء وهذا مذهب مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. والرواية الثانية عن الإمام أحمد (5) .
وهؤلاء هم سلف بن القيم في اختياره في هذه المسألة.
(1) انظر: المغني 10/332.
(2)
النبق: هو حمل السدر (انظر القاموس 3/294) .
(3)
انظر: فتح الباري 10/65.
(4)
انظر: شرح مسلم 6/88.
(5)
انظر: المغني مع الشرح الكبير 10/332، وفتح الباري 9/ 50
أدلة هذا القول:
لا تخرج أدلة هذا القول عما ذكره ابن القيم من أن هذا مقتضى ما حكمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد ذكرها رحمه الله تعالى على سبيل الإشارة والإجمال وتفصيلها على ما يلي:
1-
حكم عمر رضي الله عنه.
وذلك فيما رواه السائب بن يزيد (أن عمر رضي الله عنه كان يضرب بالريح) رواه ابن أبي شيبة (1) .
وفي رواية عبد الرزاق (2) بسنده إلى السائب بن يزيد (أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب، فجلده، الحد تاماً) .
وجه الاستدلال:
ووجه الدلالة من هذا الأثر ظاهرة من أن عمر رضي الله عنه أقام الحد بالقرينة الظاهرة وهي: وجود رائحة الخمر.
2-
حكم ابن مسعود رضي الله عنه:
وهذا الحكم من رواية الصحيحين: البخاري (3) ومسلم (4) . ولفظه عند البخاري بإسناده إلى علقمة (5) قال:
(كنا بحمص فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه سورة يوسف: فقال رجل ما هكذا أنزلت فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت. ووجد منه ريح
(1) انظره: بواسطة فتح الباري 10/65.
(2)
انظر: المصنف 9/228.
(3)
انظر: صحيح البخاري مع شرح فتح الباري 9/47. كتاب فضائل القرآن.
(4)
انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي 6/87.
(5)
هو: علقمة بن وقاص الليثي المدني من ثقات التابعين مات في خلافة عبد الملك (انظر تقريب التهذيب لابن حجر 2/31) .
الخمر. فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله. وتشرب الخمر. فضربه الحد) .
وجه الدلالة منه:
يقال في وجه الدلالة من هذا الأثر أنها ظاهرة أيضاً من إقامة ابن مسعود الحد بالرائحة.
3-
حكم عثمان رضي الله بالحد بالقيء.
وهذا الحكم رواه مسلم (1) وأبو داود (2) . ولفظه عند مسلم بإسناده إلى حضين بن المنذر
أبو ساسان الرقاشي (3) قال:
(شهدت عثمان رضي الله عنه وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم. فشهد عليه رجلان. أحدهما: حمران (4) أنه شرب الخمر. وشهد آخر أنه رآه يتقيأ. فقال عثمان إنه لم يتقيئها حتى شربها. فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن (5) فاجلده. فقال الحسن: ولّ حارّها من تولى قارّها (6) . فكأنه
وجد عليه. فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده. فجلده. وعلي يعدّ حتى بلغ أربعين فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. وجلد أبو بكر أربعين. وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي) .
(1) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 11/216.
(2)
انظر: سنن أبي داود 4/622.
(3)
هو: ابن المنذر الرقاشي مات سنة 100 هـ. وليس في الصحيحين (حضين) غيره (انظر شرح مسلم للنووي 11/219) .
(4)
هو: ابن أبان مولى عثمان رضي الله عنه مات سنة 75 هـ. (انظر تقريب التهذيب لابن حجر
1/198) .
(5)
هو: ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه توفي سنة 50 هـ. (انظر تقريب التهذيب لابن حجر
1/168) .
(6)
معناها: ول العقوبة والضرب من توليه العمل والنفع. والقار: البار (انظر معالم السنن للخطابي 6/285) .
وجه الدلالة منه:
هي أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن من تقيأ الخمر يحد حد الشارب كما تفيده هذه القصة وقد أشار إلى ذلك النووي (1) .
4-
اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بهذه القرينة الظاهرة من وجود الرائحة تنبعث من فمه أو وجوده يتقيؤها. وقد حكى ابن القيم هذا الاتفاق وأنه لا يعرف لعمر وابن مسعود في حكميهما السابقين مخالفة من الصحابة رضى الله عنهم (2) .
القول الثالث:
أن الذي يجب عليه الحد بالرائحة من يكون مشهوراً بشرب الخمر مدمناً عليها.
حكاه ابن المنذر عن بعض السلف كما ذكره الحافظ فقال (3) :
(وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهوراً بإدمان شرب الخمر) .
ومنهم عمر رضي الله عنه وابن الزبير (4) رضي الله عنه كما رواه عنهما عبد الرزاق فقال (5) :
(عن معمر (6) . عن إسماعيل بن أمية (7) قال: كان عمر إذا وجد من رجل ريح
(1) انظر: شرح مسلم للنووي 1/279.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/211 والطرق الحكمية ص/4.
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر 9/50.
(4)
هو: عبد الله بن الزبير بن العوّام الأسدي رضى الله عنه توفي قتيلاً سنة 73 هـ. (انظر تقريب
التهذيب لابن حجر 1/415) . (5) انظر: المصنف 9/228، 229.
(6)
هو: معمر ابن راشد الأزدي مولاهم مات سنة 54 هـ. (انظر التقريب لابن حجر) .
(7)
هو: إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص مات سنة 44 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 1/67) .
شراب جلده جلدات إن كان ممن يدمن شرب الخمر. وإن كان غير مدمن
تركه) .
وعن ابن جريج (1) عن ابن أبي مليكة (2) . يزعم أنه استشار ابن الزبير- وهو
أمير الطائف- في الريح أيجلد فيها. فكتب إليه: إذا وجدتها من المدمن وإلا فلا) .
القول الرابع:
أنه لا يحد بمجرد الرائحة بل لا بد أن ينضم معها قرينة أخرى مثل أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر. وهذا هو اختيار الشيخ ابن قدامة كما حكاه الحافظ عنه في (فتح الباري) فقال (3) : (ولما حكى الموفق في: المغنى الخلاف في وجوب الحد بالرائحة المجردة اختار ألا يحد بالرائحة وحدها بل لا بد معها من قرينة كأن يوجد سكران، أو يتقيأها. ونحوه أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر) .
وهذا الاختيار لابن قدامة لا يوجد في مظنته من كتابه (المغني) في نسخه المطبوعة (4) والله أعلم.
وهذا الرأي مروي عن عطاء رحمه الله تعالى كما رواه الشافعي في مسنده بسنده
عن ابن جريج قال:
(قلت لعطاء أتجلده في ريح الشراب. فقال عطاء أن الريح لتكون من الشراب
(1) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مات سنة 50 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 1/520) .
(2)
هو: عبد الله بن عبد الله ابن أبي مليكة التيمي المدني توفي سنة 117 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 1/431) .
(3)
انظر:9/50.
(4)
انظر: كتاب الأشربة من المغني مع الشرح الكبير10/325 - 346.
(5)
انظر: بدائع المنن في ترتيب مسند الشافعي والسنن- للساعاتي 2/306.
الذي ليس فيه بأس. فإذا اجتمعوا جميعاً على شراب واحد فسكر أحدهم جلدوا جميعاً الحد تماماً) .
معنى هذا الأثر:
قال الساعاتي في بيان معنى هذا الأثر (1) :
(معناه أن مجرد الريح بدون سكر لا يوجب الحد لأنه قد يشتبه بريح شيء مباح، أما لو فرضنا أن من وجد منه ريح الشراب مع جماعة وسكر أحدهم فإنه يجب عليهم الحد جميعاً) .
وهكذا يرمي إلى أن الحد لا يقام بمجرد الرائحة بل لا بد من ضميمة قرينة أخرى إليه والله أعلم.
المناقشة والترجيح:
بعد بيان الخلاف وأدلته. يبقى ما هو الراجح من هذه الأقوال والاختيارات
هل هو ما ذهب إليه ابن القيم من وجوب الحد بالرائحة أو القيء، ودلل عليه،
وأكثر من ذكره في بعض كتبه أم أن الراجح سواه؟؟
إن مدار البحث في هذه المسألة يدور على تقرير قاعدتين:
الأولى: دراسة هذه الأحكام من الصحابة رضي الله عنهم بجمع ألفاظها وبيان مخارجها حتى نرى هل يتم لابن القيم وسلفه من أهل العلم رحمهم الله تعالى الاستدلال بها على الحد بمجرد الرائحة أو القيء أم لا.
الثانية: الكشف عن الشبه التي أوردها نفاة وجوب الحد بالرائحة أو القيء وهل هي محتملة أم غير محتملة.
وبيان ذلك على ما يلي:
(1) انظر: المرجع السابق.
أولاً: مناقشة أدلة ابن القيم وسلفه من العلماء من الحد بمجرد الرائحة أو القيء وهي كما يأتي:
1-
مناقشة الاستدلال بحكم عمر رضي الله عنه:
إن حكم عمر رضي الله عنه من الآثار التي وقع فيها لبس واشتباه بسبب اختصار بعض الرواة لها فهي وإن تعددت مخارجها وألفاظها قصة واحدة وأصلها في صحيح البخاري معلقة قال (1) :
(وقال عمر وجدت من عبيد الله ريح شراب وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته) .
وهذا المعلق قد وصله الشافعي في (مسنده)(2) ومالك في (الموطأ)(3) كلاهما
من حديث السائب بن يزيد عن عمر. لكن في روايتهما أبهما اسم الذي وجد منه ريح الشراب.
وقد وصلها أيضاً سعيد ابن منصور في (سننه)(4) وعبد الرزاق في (مصنفه)(5) وصرحا في روايتهما باسم الذي وجد منه ريح الشراب. وهذا لفظه عند عبد الرزاق قال في روايته عن معمر عن الزهري:
(عن السائب بن يزيد قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال أني وجدت من عبيد الله ريح الشراب. واني سألته عنها. فزعم أنها الطلاء. وإني سائل عن الشراب الذي شرب فإن كان مسكراً جلدته. قال فشهدته بعد ذلك يجلده) .
ثم رواها عبد الرزاق أيضاً مختصرة بلفظ (عن السائب أنه حضر عمر يجلد
(1) انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 10/62.
(2)
انظر: بدائع المنن في ترتيب مسند الشافعي والسنن/ للساعاتي 2/306. (3) انظر: الموطأ 2/178.
(4)
انظر: فتح الباري لابن حجر 10/65.
(5)
انظر: 10/228
رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاماً) (1) .
قال الحافظ ابن حجر (2) :
(ظاهر هذه الرواية أنه جلده بمجرد وجود الريح منه. وليس كذلك لما تبين
من رواية معمر) .
ثم أن ابن أبي شيبة أخرج هذه الرواية في (مصنفه) كما ذكرها ابن حجر في (فتح الباري)(2) بلفظ هو أشد لبساً واختصاراً فقال (عن السائب أن عمر كان يضرب في الريح) .
فهذه روايات هذا الأثر مدارها كلها موصولة على السائب بن يزيد عن عمر رضي الله عنه مما يدل على أن الكل رواية لقصة واحدة وإن تعددت مخارجها وإن اللبس إنما حصل من اختصار بعض الرواة لها وقد كشف عن ذلك جازماً به الحافظ ابن حجر ثم قال (4) :
(وقد تبين برواية معمر- عند عبد الرزاق- أن لا حجة فيه لمن يجوز إقامة الحد بوجود الريح) .
وهذا رد من الحافظ على من يستدل برواية ابن أبي شيبة مثلاً على أن عمر رضي الله عنه كان يضرب بوجود الريح.
وهذا من الوضوح بمكان فإن عمر رضي الله عنه لما وجد من الرجل وهو ابنه عبيد الله- ريح الشراب أقر ابنه عبيد الله أنه شرب (الطلاء) فرجع عمر رضي الله عنه بالحكم إلى علته وهي (الإسكار) فلما علم أن (الطلاء) يسكر. أقام عمر رضي الله عنه الحد على ابنه عبيد الله إذ شرب المسكر.
(1) انظر: 10/228.
(2)
انظر: فتح الباري 10/65.
(3)
انظر:10/65.
(4)
انظر: فتح الباري 10/65.
فلم يكن الحكم بهذا بمجرد وجود الرائحة بل استدل بهذا الأثر وهو (الرائحة) على وجود المؤثر وهو (الشرب) فاعترف ابنه بالشرب وزعم أنه (الطلاء) والطلاء مسكر فحده عمر رضي الله عنه لأنه شرب المسكر.
فتبين إذا من مناقشة هذا الأثر رواية ودراية أنه لا حجة فيه لابن القيم رحمه الله تعالى لإقامة الحد بوجود الرائحة والله أعلم.
ب- مناقشة الاستدلال بحكم ابن مسعود رضي الله عنه.
أما حكم ابن مسعود رضي الله عنه (وهو أنه وجد من الرجل ريح الخمر. فقال له: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر. فضربه الحد) . فما أجله من
إسناد وأصحه ويكفي أنه من رواية الشيخين البخاري ومسلم. لكن دلالته على وجوب الحكم بمجرد الرائحة غير مسلم بها لأمرين هما:
1-
حمل هذا الحكم على أن الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر كما قرره النووي فقال (1) :
(هذا محمول على أن الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها لاحتمال الاشباه والنسيان والإكراه وغير ذلك هذا مذهبنا ومذهب آخرين) .
وهذا جواب مسلم به. ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
وقال الحافظ ابن حجر في معرض مناقشته لدلالة هذا الأثر (2) :
(وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك) .
فهذا الأثر ليس نصاً في أن موجب الحد وجود الرائحة مجردة بل يحتمل وجود اعتراف بالشرب فلا يتم الاستدلال به إذا والله أعلم.
(1) انظر: شرح مسلم 6/88.
(2)
انظر: فتح الباري 9/ 50
2-
أن هذا مجرد رأي لابن مسعود رضي الله عنه وقد خولف. والمخالف
له علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرها الحافظ ابن حجر فقال (1) : (ووقع عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث- يشير إلى حكم ابن مسعود- النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يشهد عليه) . فهذا إذا مجرد رأي من ابن مسعود والرأي قد يخطئ ويصيب وقد خطأه الخليفة الراشد علي رضي الله عنه..
ولذا نعلم أن قول ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يعلم لابن مسعود مخالف من الصحابة رضي الله عنهم إنما قرر ذلك لمنتهى علمه هو رحمه الله تعالى وإلا فقد علم وجود المخالف كما ذكره الحافظ بن حجر نقلاً عن الإسماعيلي.
فكيف يكون هذا الأثر حجة على وجوب الحكم بالرائحة مجردة مع ذلك الاحتمال وهذه المخالفة.
ولذا والله أعلم فإن البخاري ومسلما لم يخرجا هذا الأثر في أحكام الحدود: فمسلم رحمه الله تعالى ذكره في زمرة أحاديث فضائل القرآن أثناء أحكام الصلوات. ولذا ترجم له النووي بقوله (باب فضل استماع القرآن)(2) . والبخاري
رحمه الله تعالى ذكره في (كتاب فضائل القرآن) وترجمه بقوله (باب القراءة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3) . ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب الحدود، مع دقة فهمه رحمه الله تعالى، وقوة استنباطه حتى أنه ليقطع الأحاديث على أبواب العلم مراعاة لما فيها من تعدد الأحكام والله أعلم.
ولعله واضح بهذا أنه لا يسلم الاستدلال لابن القيم ولا لسلفه من أهل العلم- بهذا الأثر على الحد بمجرد الرائحة والله أعلم.
(1) انظر: فتح الباري 9/ 50.
(2)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 6/87.
(3)
انظر: صحيح البخاري 9/46
ب- مناقشة الاستدلال بحكم عثمان رضي الله عنه.
أما الاستدلال على وجوب إقامة الحد بمجرد الرائحة- بحكم عثمان رضي الله
عنه كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه أبعد ما يكون في الاستدلال
وجه ذلك:
أن حمران ابن أبان وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فهو من ثقات التابعين
وأجلة علمائهم كما ذكره الحافظ ابن حجر (1) ، شهد عند عثمان رضي الله عنه بأن الوليد شرب الخمر. وشهد شاهد آخر بأنه رأى الوليد يتقيأها، فانضمت شهادة التقيؤ إلى شهادة الشرب. فقال عثمان رضي الله عنه (لم يتقيأها حتى شربها) . وقد
شهد حمران بأنه شربها، فهذا ظاهر جداً من أن عثمان رضي الله عنه لم يحد الوليد بمجرد القيء لها إضافة إلى أن الوليد بن عقبة رضي الله عنه قد شرب وشرب كما ذكره أخباره في ذلك الحافظ ابن حجر (2) .
ولهذا والله أعلم فإن مخرجي هذا الأثر لم يترجموه بما يفيد الحد بالقيء كما تقدم.
فهل يبقى بعد هذا التمسك بهذا الأثر لمن قال أن عثمان رضي الله عنه حد بمجرد القيء؟؟.
د- مناقشة الاستدلال بدعوى اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على إقامة الحد بالرائحة والقيء.
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لا يعلم مخالف لعمر وابن مسعود وغيرهم بالحكم بإقامة الحد بالرائحة والقيء وأن هذا اتفاق من الصحابة رضي الله عنهم في
على ذلك؟.
(1) انظر: الإصابة 1/379.
(2)
انظر: الإصابة 3/ 601
وفي الواقع أن هذه دعوى اتفاق تخالف المحل المأخوذة منه كما ظهر جلياً من مناقشة الحكم العمري. والحكم العثماني. وحكم ابن مسعود رضي الله عنه بيان ذلك:
أن حكم عمر رضي الله عنه لم يكن موجبه الرائحة بل إقرار ابنه عبيد الله بالشرب. وحكم عثمان رضي الله عنه لم يكن موجبه الشهادة بالتقيؤ بل بالشهادة على الشرب مع انضمام شهادة التقيؤ إليها مع أن الوليد رضي الله عنه قد شرب
وشرب. وحكم ابن مسعود رضي الله عنه قد وجد له مخالف وهو علي رضي الله عنه. مع احتمال أن يكون المحدود قد أقر فيكون هذا موجب الحكم فيضعف الاستدلال إذا بوجوب الحد بالرائحة.
ثانياً: الكشف عن الشبه التي أوردها نفاة الحد بالقيء أو الرائحة وهل هي محتملة أم غير محتملة.
قاعدة الشرع المطردة درء الحدود بالشبهات للأحاديث المتكاثرة المتعاضدة في هذا المعنى (1) كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ادفعوا
الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) رواه ابن ماجه (2) .
وحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ادرأوا الحدود عن
المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي (3) .
وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم (4) .
(1) انظر: تلخيص الحبير لابن حجر 4/56- 57
(2)
انظر: سنن بن ماجه 2/850 رقم 2545
(3)
انظر: جامع الترمذي 4/33
(4)
انظر: فتح القدير 5/32
الشبه الواردة:
إذا كانت قاعدة الشرع درء الحد بالشبهة فما هي الشبه الواردة هنا وبيانها على ما يلي:
1-
شبهة الاشتباه:
وهي واردة من جهتين. من جهة اشتباه الروائح فإن من الأشربة والمآكل المباحة ما يوافق برائحته رائحة الخمر كشراب التفاح. والنبق البالغ. ومن جهة المشروب نفسه فإنه قد يشتبه على الشارب شراب تفاح مباح بشراب خمر حرام فيشربه يظنه المباح.
فانبعاث الرائحة إذا أو تقيؤه لا يكون قرينة ظاهرة سالمة يقام بها الحد. لأن هذا الاشتباه ليس مجرد شبهة بل هو شبهة محتملة الورود.
وقد أشار إلى هذه الشبهة. النووي في (شرح مسلم)(1) وابن قدامة في (المغني)(2) وابن حجر في (فتح الباري)(3) . وقد تقدم نقل أقوالهم في هذا. 2- شبهة النسيان:
كأن يكون لديه عصير أو نبيذ قد تخمر فنسى تخمره فشربه. وقد أشار إلى هذه النووي في (شرح مسلم) كما تقدم.
وهذه شبهة واردة أيضاً لأن اتخاذ العصير والنبيذ دون ثلاث ليال مباح أصلاً، والتخمر وارد. والنسيان عذر مسقط للجزاء كما في قوله تعالى (4)(ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) الآية.
(1) انظر: شرح مسلم 6/88.
(2)
انظر: المغني 10/332.
(3)
انظر: فتح الباري 10/65.
(4)
من الآية 286 سورة البقرة.
فتكون هذه شبهة محتملة لا أنها مطلق شبهة.
الى غير ذلك من الشبه الواردة كشبهة الإكراه. وشبهة جهل كونها خمراً ونحو ذلك من الشبه التي يحتمل ورودها غالباً لا أنها مجرد احتمال.
فهذه وأمثالها شبه يدرء معها الحد بالرائحة أو القيء لأن هذه قرينة لا تقوى على مدافعة هذه الشبه.
الترجيح:
يتبين من دراسة الخلاف وأدلته أن مما ذهب إليه ابن القيم من وجوب الحد بالقرينة الظاهرة كالرائحة أو القيء غير مترجح لعدم ظهور دلالة الأدلة المذكورة على مقتضاه ففي هذا القول نوع إفراط لاحتمال الشبهة الدارءة للحد.
وفي مقابل هذا القول: مذهب نفاة وجوب الحد بالقرينة الظاهرة لوجود احتمال شبهة. والله أعلم.
والذي يظهر والله أعلم هو القولان الثالث (1) والرابع (2) فإنا لو نظرنا لرأينا هذين القولين مآلهما إلى قول واحد، وهو: أن الحد بالرائحة مثلاً لا يجب إلا بضميمة قرينة إليه تنفي الشبهة وتبعد الاحتمال. وبذلك تلتئم الأدلة ويجتمع شملها. وهذا هو ما ذهب إليه جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه، وابن الزبير رضي الله عنه. وعطاء رحمه الله تعالى. وابن قدامة رحمه الله تعالى.
وعليه فإن الحد بالرائحة والقيء يكون في مثل الصور الآتية.
الأولى: أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهوراً بإدمان شرب الخمر. وبها
(1) انظر: ص/596.
(2)
انظر: ص/597
قال عمر رضي الله عنه (1) .
الثانية: أن يوجد جماعة الفساق على شراب فيكون في بعضهم سكر. والبعض تنبعث الرائحة من فمه. فيحد الجميع. وبها قال عمر بن عبد العزيز (2) . وعطاء (3) .
الثالثة: أن يوجد مع الرائحة عوارض السكر والتقيؤ، كما ذكره ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) .
الرابعة: أن يشهد على شخص شاهدان أحدهما بالشرب والثاني بالرائحة أو القيء كما في قصة عثمان رضي الله عنه مع الوليد رضي الله عنه (5) .
وهذا القول كما تلتئم به النصوص ويجتمع شملها تدل عليه أيضاً قضايا السلف
وأقوالهم.
أما أن يوقع الحد بمجرد الرائحة مثلاً فلا.
وقد وقع ما يدل على أن ذلك غير موجب للحكم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (6) :
(شرب رجل فسكر، فلقى يميل في الفج. فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك. فقال أفعلها. ولم يأمر فيه بشيء) .
(1) انظر: ص/956.
(2)
انظر: مصنف عبد الرزاق 9/227.
(3)
انظر: مصنف عد الرزاق 9/227.
(4)
انظر: ص/597.
(5)
انظر: ص/602.
(6)
انظر: سنن أبي داود 4/619
وجه الدلالة منه:
قال الخطابي في وجه الدلالة من هذا الحديث (1) :
(يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول. وإنما لقي في الفج يميل، فظن به السكر فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه على ذلك والله أعلم) .
وهذا من أحسن محامل الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقع الحد بمجرد وجود قرينة (تمايل الرجل) لاحتمال أن هذا من السكر أو من غيره من المؤثرات. ولم ينضم إلى ذلك ما يوجب انتفاء الشبهة وإقامة الحد والله أعلم.
(1) انظر: معالم السنن: 9/283