المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته - الحدود والتعزيرات عند ابن القيم

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع البحث:

- ‌دوافع البحث:

- ‌مسلك البحث الإجمالي:

- ‌خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:

- ‌كتاب الحدود

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) :

- ‌المبحث الأول:في آثار المعاصي شرعاً وقدراً

- ‌المبحث الثاني:في حكم إقامة الحد بدار الحرب

- ‌اختياره رحمه الله تعالى

- ‌سلفه في تقرير هذا الاختيار:

- ‌ استدلاله من السنة:

- ‌ استدلاله بالإجماع:

- ‌ استدلاله بقياس الأولى

- ‌مسلك الموازنة:

- ‌المبحث الثالث:في تأخير الحد لعارض

- ‌المبحث الرابع:إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

- ‌ استدلاله بقياس الأولى:

- ‌الترجيح والاختيار:

- ‌باب حد الزنى

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

- ‌المبحث السادسفي اشتراط الإسلام في الإحصان

- ‌المبحث السابع:في عقوبة الزاني المحصن

- ‌المناقشة والترجيح:

- ‌المبحث الثامن:في عقوبة من زنى بجارية امرأته

- ‌المبحث التاسع:في عقوبة من زنى بذات محرمة

- ‌المبحث الرابع عشر:في مفاسد اللوطية الصغرى

- ‌المبحث الخامس عشر:في مفاسد اللواط

- ‌بَابُ حدِّ القذْف

- ‌توطئة

- ‌ مواطن بحث القذف عند العلماء:

- ‌المبحث الخامس:عقوبات القاذف

- ‌العقوبة الأولى: جلد القاذف

- ‌العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته

- ‌الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب

- ‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

- ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

- ‌الترجيح:

- ‌باب حد الخمر

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت الخمر خمراً:

- ‌حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم:

- ‌أسباب السكر:

- ‌ الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر

- ‌1- تحريم القطرة من الخمر

- ‌الفرع الثانيبيان مقدار العقوبة

- ‌الترجيح:

- ‌ رأي ابن حزم

- ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

- ‌ التعزير: بالنفي

- ‌التعزير بالحلق للرأس:

- ‌تعزير الشارب في رمضان:

- ‌الفرع الخامس:العقوبة المالية للخمار

- ‌المبحث الخامس:إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة

- ‌باب حد السرقة

- ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

- ‌الشرط الخامس: انتفاء الشبهة

- ‌ العقوبات التعزيرية للسارق

- ‌المبحث السابع:في توبة السارق

- ‌باب الردة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول:في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني:في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الخامس:في توبة الزنديق

- ‌باب التعزير

- ‌المبحث الأولفي مقدار التعزير

- ‌ المسلك الرابع

- ‌الترجيح:

- ‌المبحث الثاني:في أنواع العقوبات التعزيرية

- ‌الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال

- ‌الخاتمةفي خلاصَة البحث ونتائجه

الفصل: ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

أي لقوله تعالى (1) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً الآية.

‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

؟

أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى هذا الحكم في معرض الحجاج بين- الطرفين المانعين والقابلين لشهادته بعد التوبة، ولم يقرر اختيار واحد منهما (2) .

وسر الخلاف هو: هل الموجب لرد شهادة القاذف بعد الحد، هو نفس القذف. أم الموجب لرد شهادته: هو الفسق بالقذف؟.

فمن قال: إن السبب الموجب لرد شهادته هو الفسق بالقذف، لم يجعل رد. شهادته من تمام عقوبة الحد. وهذا مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد (3) . وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان لهذا في أواخر: مبحث قبول شهادة القاذف بعد توبته (4) .

‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

.

ذكر ابن القيم في هذه قولين للعلماء وأدلى بحججهما ومناقشة كل منهما للآخر (5) . وتفصيل ذلك على ما يلى:

القول الأول:

وهو أنه لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب وقد بيّن ابن القيم القائلين به

فقال (6) :

(1) الآية رقم 4 سورة النور.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 1/123، 1/128

(3)

انظر: المغني لابن قدامة 12/ 76، وفتح القدير لابن الهمام 5/ 107، 6/ 475، 6/47.

(4)

انظر: أيضاً سابقه.

(1)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 122- 125.

(6)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 122. وانظر ما يأتي: فتح القدير لابن الهمام 6/ 475 وبدائع الصنائع للكاساني 6/ 271. والمغنى لابن قدامة 12/ 76.

ص: 227

(وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأهل العراق، وهو ثابت عن جماعة من السلف منهم مجاهد (1) . وعكرمة. والحسن (3) . ومسروق (3) . والشعبي (د) . في إحدى الروايتين عنهم وهو قول شريح (5) .

أدلة هذا القول:

ذكر ابن القيم حجة هذا القول من الكتاب والسنة ومناقشته المخالفين لهم فيها على التفصيل الآتي:

1-

الدليل من الكتاب.

استدل المانعون على المنع مطلقاً بموضعين من آية القذف هما (6) :

1-

الاستثناء في الآية:

قال الله تعالى (7)(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) الآية.

(1) هو: مجاهد بن جبر المخزومي مولاهم مات سنة 131 هـ. خلاف (انظر: التقريب لابن حجر 2/30) .

(2)

هو: الحسن بن أبي الحسن البصري الإمام المشهور مات سنة 110 هـ.

(انظر: التقريب لابن حجر 1/165) .

(3)

هو: مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي مات سنة 62 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 2/242) .

(4)

هو: عامر بن شراحيل الشعبي مات بعد المائة من الهجرة (انظر: التقريب لابن حجر 1/ 387) .

(5)

هو: شريح بن الحارث النخعي الكوفي القاضي مات سنة 80 هـ. أو بعدها

(انظر: التقريب لابن حجر 1/349) .

(6)

الآية رقم 4 سورة النور.

(7)

الآية رقم 4 سورة النور.

ص: 228

وجه الاستدلال:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً وجه الاستدلال لهم من الآية (1) : (احتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبد المنع من قبول شهادتهم بقوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) وحكم عليهم بالفسق ثم استثنى التائبين من الفاسقين. وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده) .

وهذا الاستدلال راجع إلى مسألة أصولية مشهورة قررها الحنفية في مذهبهم

(2)

وهي:

(أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات رجع الاستثناء للأخير فقط) . فاستثناء الذين تابوا في هذه الآية إنما يرجع إلى الجملة الأخيرة منها وهي قوله (وأولئك هم الفاسقون) فالتوبة تزيل وصف الفسق فقط ولا يعود الاستثناء إلى ما ذكر قبله من الجمل المتعاطفات وهي في هذه الآية جملتين: الحد- وعدم قبول شهادته. فلو تاب القاذف وصار من أصلح الناس فلا تقبل شهادته.

ب- الاستدلال الثاني من الآية:

وهو أن رد شهادة القاذف من الأحكام العقابية للقاذف فلا يسقط هذا العقاب بالتوبة كما أن الحد لا يسقط عنه بالتوبة.

ويبسط ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الوجه من الاستدلال لهم فيقول (3) :

(قالوا: ولأن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته. ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد. فلو قذف ولم يحد لم ترد شهادته. ومعلوم أن الحد إنما زاده طهرة وخفف عنه إثم القذف أو رفعه. فهو بعد الحد خير منه قبله. ومع هذا فإنما

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/122.

(2)

انظر: فتح القدير لابن الهمام 6/ 475. وتفسير القرطبي 12/ 181. وأضواء البيان للشنقيطي 6/89.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 122- 1/ 126. وانظر: فتح القدير لابن الهمام 6/ 475

ص: 229

ترد شهادته بعد الحد. فردها من تمام عقوبته وحده.

وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة. ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبته إقامة الحد عليه فكذلك شهادته.

وقال سعيد بن جبير: (1)(تقبل توبته فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم. ولا تقبل شهادته) .

وقال شريح (لا تجوز شهادته أبداً وتوبته فيما بينه وبين ربه) .

وسر المسألة: أن رد شهادته جعل عقوبة لهذا الذنب، فلا يسقط بالتوبة كالحد) .

ونستطيع أن نفهم من هذا الاستدلال تكونه من فصلين:

الأول: أن رد شهادة القاذف ولو تاب عقوبة من تمام الحد. فلا تسقط هذه العقوبة بالتوبة.

الثاني: قياس هذه العقوبة على عقوبة الحد: فكما أن الحد لا يسقط بالتوبة

فكذلك تمامه وهو: عدم قبول شهادته.

تعقب هذا الاستدلال في، فصله الأول:

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لذلك فقال (2) :

(وأما قولكم (إن رد الشهادة من تمام الحد) فليس كذلك، فإن الحد تم باستيفاء عدد5 وسببه نفس القذف. وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد. فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق وحصول الحد. وها متغايران) .

(1) سعيد بن جبير، هو الأسدي مولاهم فقيه الكوفة قتله الحجاج بن يوسف سنة 95 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/ 292) .

(2)

انظر: أعلام الموقعين 1/128

ص: 230

وعندي أن استدلال الحنفية هذا غير وارد أصلا فما سيق لأجله ذلك:

لأنه لا نزاع بين الحنفية ومخالفيهم أن المحدود في قذف لا تقبل شهادته قبل

أن يتوب.

والخلاف في قبولها بعد توبته. فرد الشهادة إذا حكم ذو طرفين:

الطرف الأول: الحكم برد شهادة القاذف قبل توبته وهذا حاصل عند الجميع بالإجماع وسواء قلنا أن موجبه القذف كما يقوله الحنفية. أو قلنا: موجبه الفسق بالقذف كما يقوله الجمهور.

الطرف الثاني: الحكم برد شهادة القاذف إذا تاب وهو محل النزاع بين الحنفية والجمهور.

هل يستمر الرد ولو تاب كما يقوله الحنفية. أم تقبل إذا تاب كما يقوله الجمهور.

وهذه هي صورة النزاع التي من أجلها يورد كل من الطرفين لها الاستدلال.

فتبين إذا أن الاستدلال المذكور من الحنفية غير وارد أصلاً في صورة النزاع

إذ الخلاف في الغاية لا في أصل الحكم برد شهادة القاذف؟

فلمن ينصر مذهب الجمهور أن يتنزل على استدلال الحنفية فيقول: نوافقكم

أن رد الشهادة من تمام الحد. لكنه رد معلق بالتوبة لا مؤبد والله أعلم.

تعقب القياس في هذا الاستدلال:

أما قياس الحنفية، عقوبة رد شهادة القاذف على عقوبته بالجلد فكما لا تسقط عقوبة الجلد بالتوبة فكذلك عقوبته برد الشهادة.

فهذا القياس يرد عليه القادح بافتراق العلة فإن العلة في (الحد بالجلد) هي (القذف) ذاته فالقذف هو العلة الموجبة للحد. أما العلة في إيجاب (عدم قبول شهادته) فهي مترددة بين القذف أو الفسق بالقذف فلا يتم الاستدلال بهذا القياس إذا والله أعلم.

ص: 231

2-

الدليل من السنة:

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى استدلال الحنفية من السنة بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة. ولا محدود في الإسلام. ولا ذي غمر (1) على

أخيه) .

وذكر طرقه وألفاظه فقال (2) :

(قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي (3) عن آدم ابن فائد (4) . عن عمرو بن

شعيب (5) عن أبيه (6) ، عن جده (7) عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة. ولا محدود في الإسلام. ولا ذي غمر على أخيه) .

وله طرق إلى عمرو. ورواه ابن ماجه (8) من طريق حجاج بن أرطاة (9) عن عمرو. ورواه البيهقي (10) من طريق المثنى بن الصباح (11) عن عمرو.

(1) الغمر: بكسر الغين المعجمة هو: الحقد والضغن (انظر: النهاية لابن الأثير 3/ 384) .

(2)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 122- 123.

(3)

أبو جعفر الرازي: مشهور بكنيته واسمه عيسى بن أبي عيسى بن ماهان قال ابن حجر في التقريب 2/406: صدوق سيء الحفظ مات في حدود الستين روى له أصحاب السنن) .

(4)

آدم بن فائد: قال ابن حجر في (لسان الميزان 1/ 336) مجهول قاله الذهبي وابن أبي حاتم.

(5)

عمرو بن شعيب: بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص مات سنة 118 هـ. قال ابن حجر في التقريب (صدوق) 2/ 72.

(6)

أبيه: في هذا خلاف كبير هل يريد أباه شعيباً أم يريد جده محمداً لأنه قد توفي والده وصار يسمي جده بأبيه في هذا خلاف كبير انظره. في شرح ألفية السيوطي.

(7)

جده: يريد به الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. ص/246/48

(8)

انظر: سنن بن ماجه 2/ 792 رقم 2366.

(9)

الحجاج: هو ابن أرطاة النخعي. قال بن حجر في التقريب 1/ 152 صدوق كثير الخطأ والتدليس مات سنة 145 هـ.

(10)

انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/ 155.

(11)

المثنى بن الصباح: هو اليماني أبو عبد الله قال ابن حجر في التقريب 2/ 228 (ضعيف اختلط بآخره وكان عابداً من كبار السابعة مات سنة 149 هـ.)

ص: 232

قالوا روى يزيد ابن أبي زياد (1) الدمشقي. عن الزهري. عن عروة (2) عن عائشة ترفعه (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد، ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب عليه شهادة زور. ولا ظنين (3) في ولاء أو قرابة) وروى عن سعيد ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً) (4) .

تعقب هذا الدليل:

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لهذا الدليل من جهتين هما:

تعقبه من جهة إسناده:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) :

(قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف. فإن آدم ابن فائد غير معروف ورواته عن عمرو قسمان: ثقات، وضعفاء. فالثقات لم يذكر أحد منهم (أو مجلوداً في حد) .

وإنما ذكره الضعفاء كالمثنى ابن الصباح، وآدم، والحجاج.

وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف) .

وهذا التعقيب مسلم به عند جماعة الحفاظ كابن حجر في (تلخيص الحبير)(6) والشوكاني في (نيل الأوطار)(7) ومن قبلهما الترمذي في (سننه)(8) . فإن أصل

(1) يزيد ابن أبي زياد الشافعي: مات سنة 136 هـ. وهو ضعيف كما قاله الحافظ في التقريب 2/365

(2)

عروة: هو ابن الزبير بن العوّام من أئمة التابعين مات سنة 94 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 2/19)

(3)

ظنين: أي متهم. وظنين الولاء الذي ينتمي إلى غير مواليه لا تقبل شهادته للتهمة (انظر: النهاية لابن الأثير 3/163) .

(4)

انظر: سنن الترمذي 4/ 545 رقم 2298.

(5)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 125.

(6)

انظر: 4: 198

(7)

انظر: 8/301- 302.

(8)

انظر: 4/545- 546

ص: 233

الحديث قوي الإسناد كما ذكره بن حجر وغيره. لكن أسانيده بهذه الزيادة (أو مجلوداً في حد) ضعيفة لأن مدارها على من ذكر والله أعلم. ثم ذكر رحمه الله تعالى تعقب الجمهور له من حيث دلالته على فرض صحته فقال (1) :

(ولو صحت الأحاديث لحملت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له) .

وهذا أيضاً نقد مسلم والاتفاق عليه ذلك أن لفظ (أو مجلوداً في حد) يشمل أي حد من الحدود كالخمر والزنا والقذف ونحوها. لأنه نكرة في سياق النفي فيفيد العموم. والاتفاق جار على أن المحدود في خمر مثلا تقبل شهادته إذا تاب فكذا يقال في القاذف لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية مخصصاً لعموم الحديث بالنسبة له. وإذاً فلا يتم الاستدلال به على المنع من قبول شهادة القاذف ولو تاب والله أعلم.

3-

أن هذا هو مقتضى حكمة الشرع في التغليظ بالزجر.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :

(قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي وهو من أوفى الجرائم فناسب تغليظ الزجر. ورد الشهادة من أقوى أسباب الزجر. لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس إذ هو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه وإبطال لها)

مناقشة الجمهور لهذا الاستدلال:

ثم ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - مناقشة الجمهور لهذا ونقضه من وجوه فقال (3) :

(1) انظر إعلام الموقعين 1 / 125

(2)

انظر إعلام الموقعين 1 / 127

(3)

انظر إعلام الموقعين 1 / 127

ص: 234

(قال القابلون: تغليظ الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحة الزجر بالحد، وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد (وإلا فلا تطلق نساؤه (1) ، ولا يؤخذ ماله، ولا يعزل عن مناصبه ولا تسقط روايته) لأنه أغلظ في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة رضي الله عنه، وتغليظ الزجر من الأوصاف التي لا تنضبط، وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذه من ظهره.

وأيضاً فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس وقلّ أن يوجد القذف من أحدهم، وإنما يوجد غالباً من الرّعاع والسقط ومن لا يبالي برد شهادته وقبولها.

وأيضاً فكم من قاذف انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم، ومصلحة الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما هي محتاجة إليه وهو كثير الوقوع منها. ثم هذه المناسبة يعارضها ما هو أقوى منها: فإن رد الشهادة أبداً تلزم منه مفسدة فوات الحق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها، ولا يلزم مثل ذلك في القبول فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير من عدل تائب قد أصلح ما بينه وبين الله، ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه، والشارع له تطلعٍ إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها، فكيف يبطل حقا قد شهد به عدل مرضي مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه رواية وفتوى) .

ونستطيع أن نلخص وجوه التعقب هذه فما يلي:

1-

أن مصلحة الزجر متحصلة بالحد. وتغليظ الزجر وصف لا ينضبط فلا يعلق له حكم.

(1) الظاهر أن صحة العبارة هكذا (وإلا فلتطلق نساؤه، وليؤخذ ماله، وليعزل عن مناصبه ولتسقط روايته) وبها ينتظم الكلام والله أعلم.

ص: 235

2-

أن زجر القاذف برد شهادته لا يتحقق في كلّ أحد لتفاوت الناس. فهو غير مطرد في حق كل أحد.

3-

أن قاعدة الشرع المطردة (رد المفاسد وتغليظها وجلب المصالح وتكثيرها) ، وما يترتب على رد شهادته أبداً من المفاسد، تغمر المصلحة في ذلك والله أعلم.

هذا ما قرره ابن القيم من الاستدلال للحنفية ومناقشة الجمهور لهم. والذي يظهر بعد التأمل قبول الاستدلال ومناقشته في آن واحد على الوجه الآتي: وهو أن قول الحنفية أن رد شهادة القاذف من باب التغليظ بالزجر.

يقال نعم هو كذلك لكن إلى غاية وهي: حصول توبته. وإذا كان التغليظ معيناً حصل انضباطه.

وأيضاً فالقذف عادة إنما يحصل من الرّعاع لا من أعيان العباد وهم لا ينزجرون غالبا برد شهاداتهم، وإذا كانوا يمثلون الأكثرية من القاذفين فإن المقصود- والله أعلم- من رد الشهادة لا يحصل بالنسبة للأكثر والعبرة بهم.

وما لم يتب فهو محكوم بفسقه ورد شهادته وأما إذا تاب فقد تجلت هذه الظلم والتوبة في الإسلام تجب ما قبلها من الذنوب كالإسلام بعد الشرك يجب ما قبله من الضلال والكفر. وحينئذ إذا قلنا باستمرار رد شهادته ولو بعد التوبة تنزلت هذه الوجوه من الرد التي ذكرها الجمهور في تعقبهم على الحنفية والله أعلم. 4- تنظير هذه العقوبة بقطع يد السارق:

يقرر ابن القيم دليلهم على أن رد شهادة القاذف أبداً حتى لو تاب هو عقوبة في محل الجناية وهو لسانه، وهذا مثل عقوبة الشارع في قطع يد السارق فيقول في استدلالهم (1) :

(1) انظر أعلام الموقعين 1/136

ص: 236

(ثم هو عقوبة في محل الجناية، فإن حصلت بلسانه، فكان أولى بالعقوبة فيه وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق فإنه حد مشروع في محل الجناية) .

تعقب الجمهور لهذا الاستدلال:

ثم يذكر ابن القيم تعقب الجمهور لذلك فيقول (1) :

(وأما قولكم (إن العقوبة تكون في محل الجناية) فهذا غير لازم- كما في عقوبة الشارب والزاني، وقد جعل الله سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان، وإنما جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة، فإذا أزال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها) .

والذي أقطع به أن هذا تنظير في مقابلة النص فإن الآية الكريمة نصت على أن عقوبة القاذف الحسية هي جلده ثمانين جلدة. والجلد للقاذف عقوبة في غير محل الجناية، إذ محلها اللسان بينما الجلد في الظهر. وأما رد شهادته فهي عقوبة معنوية أو بما يسمى في الاصطلاح الحادث (فقد اعتبار) فكيف يتم التنظير بقطع يد السارق فافترقا إذاً.

ولابن القيم رحمه الله تعالى بحث مستفيض على اعتراض نفاة المعاني من قولهم أن الشارع جاء بالتفريق بين المتماثلين. ومن بينها إيرادهم هذا التنظير. وقد تعقبه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (أعلام الموقعين)(2) .

هذا هو القول الأول وما وسع ابن القيم من ذكر الأدلة له ومناقشتها. ولننتقل إلى ما ذكره عن القول الثاني وأدلته ومناقشتها.

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/128.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 2/ 106- 109

ص: 237

القول الثاني:

وهو قبول شهادة القاذف إذا تاب وقد بيّن ابن القيم القائلين به فقال (1) : (والثاني: تقبل، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك) .

أدلة هذا القول:

ذكر ابن القيم أدلة هذا القول من الكتاب والسنة ومناقشة المانعين لهم فيها وبيانه على التفصيل الآتي:

1-

الدليل من الكتاب.

استدلوا على أن الاستثناء في آية القذف وهو قوله تعالى (

إلا الذين تابوا) (2) الآية عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى (3)(ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون) . ولا يعود على الجملة الأولى وهو قوله تعالى (فاجلدوهم ثمانين جلدة لإجماع المسلمين على أن حد القذف لا يسقط بالتوبة. وفي بيان استدلالهم يقول ابن القيم (4) :

(قال الآخرون، واللفظ للشافعي: والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل الفقه إلا أن يفرق بين ذلك خبر) ثم قال ابن القيم:

(قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد، فإن المسلمين مجمعون

على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة. وقد قال أئمة اللغة: إن الاستثناء يرجع إلى ما

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/ 122. وانظر ما يأتي: المغنى لابن قدامة 12/ 76 فتح القدير لابن الهمام 6/ 475. بدائع الصنائع للكاساني 6/ 271 نهاية المحتاج للرملي 8/ 291. جواهر الإكليل على مختصر خليل 2/235.

(2)

الآية رقم 5 سورة النور.

(3)

الآية رقم 4 سورة النور.

(4)

انظر: أعلام الموقعين 1/123

ص: 238

تقدم كله. قال أبو عبيدة في كتاب القضاء (وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته. وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تقبل أبداً، وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع من عند قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ثم استأنف فقال (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة.

وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تبع بعضه بعضاً على نسق واحد فقال (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) فانتظم الاستثناء كل ما كان قبله.

وقال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به، لأن من قال به أكثر وهو أصح في النظر ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب) .

الاستثناء في هذه الآية بين الحنفية والجمهور:

هذا هو مذهب الجمهور في الاستثناء في هذه الآية من أن الاستثناء عامل في الفسق ورد الشهادة والحنفية كما تقدم مذهبهم: أن الاستثناء في هذه الآية عامل في الفسق فقط.

ومدار الخلاف في هذه الآية يرجع إلى خلاف الفريقين في قاعدة أصولية

وهي:

أن الاستثناء إذا جاء بعد جل متعاطفات فإنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل

أو عقل يخصصه ببعضها وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (1) .

(1) انظر: روضة الناظر لابن قدامة ص/ 134. والأحكام للآمدي 2/ 300 ط مؤسسة النور بالرياض سنة 1388 هـ. وتفسير القرطبي 12 /180. وأضواء البيان للشنقيطي 6/ 89

ص: 239

وعند الحنفية: عندما يقررون هذه القاعدة لا يقولون (إنه يرجع لجميعها) ولكن يقولون: يرجع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط (1) .

ففي هذه الآية تقدم الاستثناء، ثلاث جمل متعاطفات هي:

أ- (فاجلدوهم ثمانين جلدة) .

ب- (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) .

ج- (وأولئك هم الفاسقون) .

وقد قرر غير واحد الإجماع على أن الاستثناء (إلا الذين تابوا) غير عامل في جلده في الجملة الأولى فالتوبة لا تسقط عن القاذف حد الجلد. كما قرروا أيضاً أنه بالإجماع: فإن الاستثناء عامل في فسقه في الجملة الثالثة. فالتوبة تزيل عن القاذف وصف الفسق.

ومحل الخلاف في عمل الاستثناء في رد الشهادة؟:

فأبو حنيفة لا يعمله فيه للقاعدة المذكورة عنده.

والجمهور يعملونه طرداً للقاعدة المذكورة عندهم إذ لا يوجد دليل من نقل أو عقل يخصص عدم لحوق الاستثناء به.

هذه هي خلاصة خلاف العلماء في الاستثناء بعد المتعاطفات. وقد استظهر شيخنا محمد الأمين (2) رحمه الله تعالى ما قرره العلامة القرطبي في (تفسيره)(3) وتتابع عليه جماعة من المتأخرين منهم: ابن الحاجب (4) من المالكية. والغزالي من

(1) انظر: المراجع السابقة. وأيضاً: فتح القدير لابن الهمام 6/ 476.

(2)

انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/ 90- 91.

(3)

انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 180- 181.

(4)

ابن الحاجب: هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المالكي المتوفى سنة 646 هـ. طبع له (مختصر منتهى السول والأول) انظر في ترجمته (طبقات الأصوليين للمراغي 2/ 67) .

ص: 240

الشافعية (1) . والآمدي من الحنابلة (2) . من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة إلا بدليل يدل عليه

ولعل ابن القيم رحمه الله تعالى لم يصرح باختيار له في هذه المسألة لذلك والله أعلم.

والذي يظهر لي والله أعلم أنه قد دلّ الدليل على رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) .

أ- عمل الصحابة رضي الله عنهم.

ب- محض القياس على قاعدة الشريعة المطردة في قبول شهادة كل تائب.

ج- عموم قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) .

2-

الاستدلال من الأثر

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى استدلال الجمهور بقبول الصحابة رضي الله عنهم شهادة القاذف بعد توبته كما في قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (3) فإن عمر رضي الله عنه قبل شهادة نافع (4) ، وشبل (5) لما تابا، ورد شهادة أبي بكرة (6) إذ

(1) الغزالي: هو محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الطوسي توفي سنة 505 هـ. (انظر: طبقات الأصوليين للمراغي 2/ 8) .

(2)

الآمدي: هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي على بن محمد الآمدي المتوفى سنة 631 هـ. (انظر: طبقات الأصوليين للمراغي 2/ 57) .

(3)

المغيرة: بن شعبة بن مسعود الثقفي الصحابي المشهور رضي الله عنه توفي سنة 50 هـ. على الصحيح من الخلاف (انظر: التقريب لابن حجر 2/ 269) .

(4)

نافع: هو ابن الحارث بن كلدة الثقفي أخو أبي بكرة لأمه (انظر: الإصابة لابن حجر 3/514) .

(5)

شبل: هو ابن معيد بن عبيد الجلي وفي صحبته وفي ايم أبيه خلاف ذكره الحافظ بن حجر في (الإصابة 2/ 159) .

(6)

أبو بكرة: هو نفيع بن الحارث الثقفي صحابي مشهور بكنيته مات سنة 51 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 2/ 306) .

ص: 241

أبى أن يتوب (1) .

وقد حكى ابن قدامة في (المغنى)(2) أن هذا محل إجماع من الصحابة رضي الله عنهم.

3-

محض القياس على قاعدة الشريعة المطردة من قبول شهادة كل تائب:

وفي هذا يوضح ابن القيم استدلالهم فيقول (3) :

(قالوا وأعظم موانع الشهادة: الكفر، والسحر، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت اتفاقاً، فالتائب من القذف أولى بالقبول.

قالوا وأين جناية قتله من قذفه.

قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلاً يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (4) . وعند هذا فيقال: توبته من القذف تنزله منزلة من لم يقذف فيجب قبول شهادته. أو كما قالوا.

قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم وهي الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو سبب الرد، فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع.

وهذا القياس مستوف لأركانه المعتبرة على ما يلي:

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/ 123 وانظر ما يأتي: مصنف عبد الرزاق 7/ 384 والمغني لابن قدامة 12/ 75.

(2)

انظر: المغني لابن قدامة 12/ 75.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 1/ 125- 126 وانظر: المغني 12/ 75.

(4)

رواه ابن ماجه 2/ 1419 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو حديث حسن. انظر: فيض القدير للمناوي 3/ 276. والسنن الكبرى للبيهقي 10/154

ص: 242

فالمقيس عليه: مثلاً التائب من الزنا.

والمقيس: التائب من القذف.

والحكم: قبول شهادة التائب.

والعلة: أي المعنى المشترك بينهما في رد الشهادة قبل التوبة هي: الفسق. تعقب الحنفية لهذا القياس:

ذكر ابن القيم تعقب الحنفية لهذا القياس بأنه قياس مع الفارق ويكمن وجه الفرق في نفي وجود علة الأصل وهي: الفسق في الزنا مثلاً - في الفرع وهو القذف فإن علته تتمة الحد بسبب القذف لا الفسق به. فقال (1) :

(قالوا: وأما التائب، من الزنا، والكفر، والقتل، فإنما قبلنا شهادته لأن ردها كانت نتيجة الفسق، وقد زال، فخلاف مسألتنا، فأنا قد بينا أن ردها من تتمة الحد، فافترقا) .

رد الجمهور لهذا التعقيب:

لكن الجمهور لا يرضون هذا القادح ويشير ابن القيم إلى ردهم له فيقول (1) : (وأما قولكم: إن رد الشهادة من تتمة الحد. فليس كذلك. فإن الحد تم باستيفاء عدده. وسببه نفس القذف. وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف، لا الحد. فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما متغايران) . والذي يظهر والله أعلم أن القادح الذي أورده الحنفية غير وارد. ولا منافاة بينه وبين ما ذهب إليه الجمهور بيان ذلك:

أما أنه غير وارد: فإن الحنفية يلزمهم أن لا يرجعوا الاستثناء إلى (الفسق)

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/127.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 1/128

ص: 243

لأن الحكم بفسقه مسوق مساق الجملتين قبله: الجلد. ورد الشهادة. فهو من تتمة الحد إذاً. وهم لا يقولون بهذا وبالإجماع فإن التوبة تزيل وصف الفسق. ورد الشهادة أثر مترتب على فسقه بالقذف فإذا زال الوصف ارتفع ما ترتب عليه: وهو رد الشهادة. وهذا ألصق بأصول الشريعة وأجرى على قواعدها. من قبول توبة التائبين، ورجوع المذنبين.

فإنه ما من محدود إلا ويحكم بفسقه لجرمه وما من تائب إلا ويحكم بارتفاع فسقه بتوبته ولا عهد للشريعة بذنب يتأبد عقابه ما عاش صاحبه.

4-

قال ابن القيم في الاستدلال للجمهور (1)

(قالوا الحد يدرء عنه عقوبة الآخرة. وهو طهرة له، فإن الحد طهرة لأهلها. فكيف تقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد، وترد أطهر ما يكون. فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهراً كاملاً) .

الخلاصة والترجيح:

هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من سياق الخلاف وأدلته ومناقشتها ولم يصرح رحمه الله تعالى باختيار أي من القولين. وقد تبين أن مدار الخلاف ومحل التجاذب بين القولين يعود إلى معرفة ما يعود إليه الاستثناء في الآية. وقد ظهرت عائديته إلى الفسق بالإجماع. وعدم عوده على الجلد بالإجماع ودلالة القرائن على عوده إلى (عدم قبول الشهادة) فتقبل إذا شهادة التائب من القاذف المحدود والله أعلم.-

وبمناسبة تعلق القبول على التوبة من القاذف فإن الحاجة تشتد إلى معرفة كيفية توبة القاذف. وهذا ما يتضح في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/125

ص: 244

المبحث السادس:

في توبته (1)

اختلف العلماء في صورة توبة القاذف على قولين:

أحدهما: أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهذا قول جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه وبه قال الشافعي (2) . وأحمد (3) .

الثاني: أن توبته أن يصلح ويحسن حاله وحسبه الاستغفار وإن لم يكذب نفسه

في ذلك. وهذا قول جماعة منهم مالك رحمه الله تعالى (4) وقد حكى ابن القيم رحمه الله تعالى القولين واختار القول الأول ودلّل عليه وبيّن ضعف القول الثاني. وفي ذلك يقول (5) :

(الصحيح من القولين: أن توبة القاذف: إكذابه نفسه، لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه، لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة.

وأما من قال: إن توبته أن يقول (استغفر الله) من القذف، ويعترف بتحريمه، فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف. ولا يحصل له به براءة عرضه مما

(1) التوبة: مصدر تاب يتوب توبة وتوباً ومتابة. والتوبة: الرجوع إلى الله عن معصيته. (انظر: القاموس للفيروز آبادي 1/ 41) وانظر في مبحث التوبة عند ابن القيم 1/ 179- 400 من مدارج السالكين.

(2)

انظر: نهاية المحتاج للرملي 8/ 291. وتفسير القرطبي 12/ 179. والمغني لابن قدامة 12/77.

(3)

انظر: المغني لابن قدامة 12/77 - 78.

(4)

انظر: تفسير القرطبي المالكي 12/ 179.

(5)

انظر: مدارج السالكين 1/ 363

ص: 245

قذفه به. فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب، فإن فيه حقان: حق الله: وهو تحريم القذف فتوبته منه باستغفاره، واعترافه بتحريم القذف. وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود.

وحق للعبد: وهو إلحاق العار به بتوبته منه: بتكذيبه نفسه.

فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين) .

وهذا القول المختار لدى ابن القيم رحمه الله تعالى واضح الدليل قوى التعليل وقد اشتمل على القول الثاني: فإن القذف فيه حقان: حق لله تعالى. وحق لعبده. ولا يحصل التخلص منها إلا: بالاستغفار والندم والعزم ألا يعود وأن يكذب نفسه فيكون بهذا قد تاب بأداء الحقين حق الله تعالى وحق عبده.

اعتراض وجوابه:

أورد ابن القيم رحمه الله تعالى اعتراضاً على القول المختار وهو أن القاذف إذا كان صادقاً في قذفه لمعاينته الزنا فكيف يسوغ له أن يكذب نفسه ويكون ذلك من تمام توبته.

فقال في الإيراد والجواب (1) :

(فإن قيل إذا كان صادقاً قد عاين الزنا، فاْخبر به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب، ويكون ذلك من تمام توبته؟.

قيل: هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال: أن توبته الاعتراف بتحريم القذف والاستغفار منه. وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف وأخبر أنه كاذب عنده، ولو كان خبره مطابقاً للواقع (2) . فنقول:

(1) انظر: مدارج السالكين 1/ 364- 365.

(2)

يشير إلى قوله تعالى (فإذ لم يأتوا بالشهداء. فأولئك عند الله هم الكاذبون) من الآية رقم 13 سورة النور.

ص: 246

الكذب، يراد به أمران. أحدهما: الخبر غير المطابق لخبره. وهو نوعان: كذب عمد.

وكذب خطأ.

وكذب العمد معروف.

وكذب الخطأ مثل كذب: أبي السنابل بن بعلك (1) في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها أنها لا تحل حتى يتم لها أربعة أشهر وعشراً.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كذب أبو السنابل)(2) .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (كذب من قالها) لمن قال (حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ)(3) .

ومنه: قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه (4)(كذب أبو محمد) حيث قال (الوتر واجب)(5) .

فهذا كله من كذب الخطأ. ومعناه (أخطأ) قائل ذلك.

والثاني من أقسام الكذب: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به، وإن كان خبره مطابقاً لمخبره. كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا، والإخبار به فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقاً لمخبره. ولهذا قال تعالى (6) (فإذ يأتوا بالشهداء.

(1) أبو السنابل: هو ابن بعلك- على وزن جعفر- ابن الحارث القرشي صحابي مشهور (انظر: الإصابة لابن حجر 4/ 96- التقريب له أيضاً 2/ 431) .

(2)

هذا مشهور بحديث سبيعة الأسلمية رضي الله عنها، انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 9/ 469. وقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

انظر: ذخائر المواريث للنابلسي 4/ 190.

(3)

عامر: هو بن سنان الأسلمي المعروف بابن الأكوع. وقصة قتله في خيبر (انظر: الإصابة لابن حجر 2/241) .

(4)

عبادة: هو ابن الصامت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه مات سنة 34 هـ. وقيل غير ذلك (انظر: الإصابة لابن حجر 2/ 260) .

(5)

انظر: سنن أبي داود 2/ 130.

(6)

الآية رقم 13 سورة النور.

ص: 247