الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما لو كان ثمة بينة أو اعتراف لكان الأمر بقتله حداً لازماً والله أعلم- والحمد لله على براءة حرم نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الشك والريبة.
نهاية المطاف في هذا القسم: التعزير بالقتل:
يظهر من مباحث القتل تعزيراً على سبيل الإجمال والتفصيل: أن القتل تعزيراً مشروع عند عامة الفقهاء على التوسع عند البعض والتضييق عند آخرين في قضايا معينة
وأن القول الصحيح الذي يتمشى مع مقاصد الشرع وحماية مصالح الأمة وحفظ الضروريات من أمر دينها ودنياها: هو القول بجواز القتل تعزيراً حسب المصلحة وعلى قدر الجريمة إذا لم يندفع الفساد إلا به على ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى.
وأن الأدلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى للتدليل على جواز أن يبلغ القتل تعزيراً لا يسلم له منها إلا قتل الجاسوس المسلم تعزيراً وقتل من اتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم وأن قتل الشارب في الرابعة هو من باب التعزير بناءً على هذا القول والله أعلم.
القسم الثاني: التعزيرات المالية (1) .
انتصر ابن القيم رحمه الله تعالى للقول بمشروعية التعزيرات المالية واستدل عليها بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأقضية الصحابة رضي الله عنهم من بعده في ذلك. وذكر قول المخالف المانع وناقش أدلته، وفي خضم هذا المبحث قسم العقوبات المالية باعتبارين، فصارت مباحثة في ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تنويع العقوبات المالية باعتبار الانضباط وعدمه.
الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال
.
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/12، 307- 324، أعلام الموقعين2/ 98، وإغاثة اللهفان 1/332
الفرع الثالث: الخلاف في مشروعية التعزير بالمال مع التدليل والمناقشة. وبيانها
على هذا الترتيب كما يلي:
الفرع الأول: في تنويعها باعتبار الانضباط وعدمه.
يوضح ابن القيم رحمه الله تعالى أن العقوبات المالية تنقسم من حيث الانضباط وعدمه إلى قسمين:
الأول: نوع منضبط، وهو ما قابل المتلف لحق الخالق: كإتلاف الصيد في الإحرام، أو لحق المخلوق كإتلاف ماله.
الثاني: نوع غير منضبط: وهو ما يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح فهو لا يتقدر بمقدار لا يقبل الزيادة أو النقص، مثل اجتهاد عمر رضي الله عنه في تحريق قصر سعد لما احتجب عن الرعية.
وفي بيان هذا التنوع يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(وهذا الجنس من العقوبات- أي المالية- نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط: فالمضبوط: ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق آدمي كإتلاف ماله، وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبهَ بقوله (ليذوق وبال أمره) ، ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه.
وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره.
وعقوبة الموصي له ببطلان وصيته.
ومن هذا الباب: عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها.
وأما النوع الثاني، غير المقدر: فهو الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ولذلك لم تأت به الشريعة بأمر عام، وقد لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود) .
(1) انظر: أعلام الموقعين2/ 98
الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال.
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في التعزيرات المالية وذكر تقسيمه لها إلى ثلاثة أقسام هي:
1-
التعزير بإتلاف المال. مثل شق أوعية الخمر، وتحريق أمكنة الخمارين (2) .
2-
التعزير بتغيير المال. مثل تقطيع الستر الذي فيه صورة إلى وسادتين (3) . 3- التعزير بتمليك المال. مثل أضعاف الغرم على السارق من غير حرز (4) . وهذه الأقسام الثلاثة نستطيع تصنيفها على سبيل الاختصار إلى قسمين:
1-
عقوبة في المال: وتشمل، الإتلاف والتغيير.
2-
عقوبة بالمال: وتشمل، التمليك للمال فقط. والله. أعلم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى العديد من الأمثلة من السنة النبوية وذكرها
في معرض الاستدلال لمشروعية التعزير بالمال وهذا ما تراه إن شاء الله في الفرع الآتي والله أعلم.
الفرع الثالث: الخلاف في مشروعية التعزير بالمال (5) .
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في جواز التعزيرات المالية على قولين حكاها واختار رحمه الله تعالى استمرار مشروعيتها ودلل على ذلك بأدلة من السنة المشرفة وعمل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ومن بعدهم من الأئمة ثم ناقش
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/313. ومجموع فتاوى ابن تيمية 38/113. في رسالته (الحسبة) ، وتبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتاوى عليش 2/296- 197. والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/335- 338.
(2)
انظر: فيما تقدم ص/590.
(3)
انظر: مجموع فتاوى بن تيمية 28/115.
(4)
انظر: فيما تقدم ص/666.
(5)
انظر: الطرق الحكمية ص/308- 312، وزاد المعاد2/ 66، 3/212، 17، 28، أعلام الموقعين2/ 98
دليل الممانع وجمع خلاصة مبحثه هذا بقوله (1) :
(اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت، والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة، في كل زمان ومكان حسب المصلحة إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة) . وبيان الخلاف وأدلته ومناقشته مفصلاً على ما يلي:
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في مشروعية التعزيرات المالية على قولين بيانهما كالآتي:
القول الأول: مشروعية التعزيرات المالية فيجوز التعزير بها.
وفي بيان القائلين به يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(وأما التعزير بالعقوبات المالية: فمشروع أيضاً في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد، وأحد قولي الشافعي) .
وحكاه الشوكاني مذهباً لآل البيت بلا خلاف بينهم (3) ، وهو مروي أيضاً عن
أبي يوسف صاحب أبي حنيفة (4) .
أدلته:
استدل له ابن القيم رحمه الله تعالى بأقضية متنوعة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه
في ذلك فقال (5) :
(1) انظر: أعلام الموقعين2/ 98.
(2)
انظر: الطرق الحكمية ص/308. وتبصرة الحكام بهاش فتاوى عليش 2/298، والتعزير في الشريعة الإسلامية. ونيل الأوطار 4/139.
(3)
انظر: نيل الأوطار 4/139.
(4)
انظر: حاشية بن عابدين 3/184، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/331.
(5)
انظر: الطرق الحكمية ص/308- 309
(وقد جاءت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع:
منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده (1) .
ومثل: أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفها (2) .
ومثل، أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين (3) .
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر- بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأنسية
ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر (4) .
ومثل: هدمه مسجد الضرار (5) .
ومثل: تحريق متا الغال (6) .
ومثل: حرمان السالب الذي أساء على نائبه (7) .
ومثل: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر (8) .
ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة (9) .
ومثل: أخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تعالى (10) .
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه، فلم يعرض له أحد.
(1) انظر: نيل الأوطار 4/139 والحديث رواه مسلم.
(2)
انظر: فيما تقدم ص/320.
(3)
انظر: رواه مسلم من حديث ابن عمر انظر صحيح مسلم 3/1647 تحقيق فؤاد عبد الباقي.
(4)
انظر: زاد المعاد 2/142.
(5)
انظر: زاد المعاد 3/ 17.
(6)
انظر: زاد المعاد 2/ 66 وقال فيه (وأمر بتحريق متاع الغال، وضربه وحرقه الخليفتان بعده) وانظر: تلخيص الحبير 4/ 81، ونيل الأوطار 4/139.
(7)
انظر: الحديث فيه مطولاً في سنن أبي داوود 3/163- 165.
(8)
انظر: فيما تقدم ص/364.
(9)
انظر: نيل الأوطار 4/139.
(10)
انظر: نيل الأوطار 4/138.
(6)
انظر: سنن أبي داوود 4/428 رواه من حديث بريدة رضي الله عنه.
ومثل: قطع نخل اليهود، إغاظة لهم (1) .
ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر (2) . ومثل: تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية (3) ..
وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها.
وجه الاستدلال:
أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التنوع في العقوبات المالية على وجه الإتلاف: كما في كسر دنان الخمر وشق ظروفها، والتحريق لمتاع الغال والثوبين المعصفرين، وتغييراً كما في قصة الستار، ومضاعفة للغرم على السارق من غير حرز، وعلى كاتم الضالة ونحو ذلك في أقضية الصحابة رضي الله عنهم على حسب اختلاف الأحوال ومراعاة المصالح ودفع المفاسد والله أعلم.
القول الثاني: عدم جواز التعزير بالمال.
وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن والشافعي في قوله الأخير (4) .
أدلته:
ادعى أرباب هذا القول أن التعزيرات المالية منسوخة وأن الإجماع قد قام على نسخها فلا تشرع العقوبة بها (5) .
(1) سورة الحشر قوله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين) الآية رقم (5) .
(2)
انظر: فيما تقدم ص/321.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/ 17.
(4)
انظر: حاشية ابن عابدين 3/184، ونيل الأوطار 4/138، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/331.
(5)
انظر: نيل الأوطار4 /138- 139، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/333
مناقشة ابن القيم لهذا الدليل:
أبطل ابن القيم رحمه الله تعالى دعوى النسخ هذه بأنه لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع يدل على صحة دعوى النسخ فأين الدليل الناسخ؟ وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) :
(ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلاً واستدلالا، فأكثر هذه المسائل: سائغ في مذهب أحمد وغيره وكثير منها سائغ عند مالك. وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضاً لدعوى نسخها، والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها فمذهب أصحابه عيار للقبول والرد؟ وإذا ارتفع عن هذه الطبقة: ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضاً، فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ) .
والنووي رحمه الله تعالى وهو من كبار الشافعية قد نفى الإجماع على النسخ ورفض النسخ فقال (الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ)(2) .
الترجيح:
هذه هي آراء العلماء وأدلتهم وأرجح القولين فيما يظهر لي والله أعلم- هو جواز التعزير بالمال إذا تحققت المصلحة التعزيرية كما اختاره الإمام ابن القيم والله أعلم.
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/309.
(2)
انظر: نيل الأوطار 4/138