الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبناها على الاختصار، ولا دخل للشروط فيها. وعليه فإن التعريف الشامل هو أن
يقال:
(القذف: هو الرمي بوطء، أو نفي نسب، موجب للحد فيهما) .
شرح التعريف:
فالرمي بوطء، يشمل الرمي بزنا أو لواط. ويشمل أيضاً الشهادة به عند عدم اكتمال نصابها (أربعة شهود)(1) .
أو نفي نسب: وهو قذف يوجب الحد عند الجميع.
موجب للحد فيهما: إشارة إلى ما يجب توفره في القاذف كالعقل وفي المقذوف كالإحصان وهوْ (العفة) وفي لفظ القذف مثل لفظ (زاني) أو (لوطي) والله أعلم.
تنبيه: في
مواطن بحث القذف عند العلماء:
يعقد علماء الشريعة في مدوناتهم الحديثية والفقهية: بابين لأحكام القذف. أحدهما: في أحكام قذف الزوج لزوجته ويعقدون له باباً باسم (باب اللعان)
ومحله في أعقاب فرق النكاح (2) .
الثاني: في أحكام حد القذفة غير الزوجين أو منهما إذا لم يتلاعنا. ويعقدون له باباً باسم (باب حد القذف) ويذكرونه في كتاب الحدود (3) .
(1) القاذف المنفرد برؤية الزنى، والأخبار به، كاذب في حكم الله لقوله تعالى (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) . انظر: مدارج السالكين 1/ 365.
(2)
انظر المغنى لابن قدامة 9/20، ونهاية المحتاج للرملي 7/ 97 وفتح القدير لابن الهمام 5/89
(3)
انظر: المغنى لابن قدامة 10/ 201. ونهاية المحتاج للرملي 7/ 415. وفتح القدير لابن الهمام 5/ 89. وحاشية الرهوني على الزرقاني 8/122.
إلا أن الشافعية رحمهم الله تعالى يذكرون جلّ أحكام (حد القذف) في أواخر باب اللعان (1) . ولهذا يقتضي الأمر بالتنبيه كما وقع مثل ذلك لابن هبيرة في الإفصاح (2) .
وفي (كتاب الشهادات)(3) يذكر العلماء حكم شهادة القاذف إذا تاب. وكيفية توبته والله أعلم.
(1) انظر: نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي 7/97- 105.
(2)
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح 2/ 360 (باب القذف واللعان) .
(3)
انظر: المغنى لابن قدامة 12/ 76، ونهاية المحتاج للرملي 8/ 291. فتح القدير لابن الهمام 6/ 475. وحاشية الرهوني على الزرقاني 7/ 382. وجواهر الإكليل على مختصر خليل للأزهري 2/ 235
مباحِث ابن القيم في حدّ القذف
وفي كل من هذه المواطن المتقدمة قريباً بحث ابن القيم رحمه الله تعالى جملة من المسائل ونحن هنا في تبيان آرائه في الحدود سوف نعيش معه إن شاء الله تعالى في مباحثه لأحكام (حد القذف) لا نتجاوزها سوى ذكر مبحثين لمناسبة لطيفة اقتضت ذكرهما وإلا فمحلهما (كتاب الشهادات) وهما:
أ- حكم شهادة القاذف المحدود إذا تاب.
ب- بم تكون توبة القاذف.
والمناسبة المقتضية لهذا (مبحث عقوبة القاذف برد شهادته) واقتضى ذلك الحديث عن شهادته إذا تاب هل تقبل أم لا. ومن هنا اشتدت الحاجة إلى معرفة التوبة التي بها تقبل شهادته. وقد أجريت سياق بحوثه في ذلك على النسق الآتي:
المبحث الأول: أول قذف في الإسلام: في قصة الإفك.
المبحث الثاني: حكمة التشريع في حد القاذف بالزنا دون الكفر؟.
المبحث الثالث: حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون العبد.
المبحث الرابع: في التعريض بالقذف.
المبحث الخامس: في عقوبات القاذف.
المبحث السادس: في توبة القاذف.
وإلى الحديث عنها واحداً إثر واحد على هذا الترتيب.
المبحث الأول:
في أول قذف في الإسلام، في قصة الإفك
المراد بأول قذف في الإسلام ما كان بين غير الزوجين مما يوجب الحد. أما إذا كان بين الزوجين فيوجب اللعان وفي حديث أنس رضي الله عنه قال (أول لعان كان في الإسلام أن شريك ابن سحماء (1) قذفه هلال ابن أمية (2) بامرأته) (3) .
وعليه: فقد اشتهر أول قذف في الإسلام بين غير الزوجين بقصة القذف الكاذب على عائشة رضي الله عنها. المشتهرة قصتها باسم (قصة الإفك)(4) . وأنزل الله فيها قرآناً يتلى من سورة النور تبرئة من الله للصديقة بنت الصديق وحبيبة رسول ربّ العالمين إذ قال تعالى (5)(إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لم بل هو خير لم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) الآيات.
وابن القيم رحمه الله تعالى في ظل سياقه لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم من كتابه (زاد المعاد)(6) يسوق الأحداث المتعلقة بالمغازي فلما عقد فصلاً في (غزوة المريسيع)(7) الشهيرة (بغزوة بني المصطلق) في شعبان سنة خمس من الهجرة ذكر (قصة الإفك) لأنها وقعت بعد القفول من هذه الغزوة.
(1) هو: شريك بن سحماء- ينسب لأمه- واسم أبيه: عبدة بن مغيث البلوي عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه (انظر: الإصابة لابن حجر 2/ 147) .
(2)
هو: هلال ابن أمية بن عامر الأنصاري رضي الله عنه (انظر: الإصابة لابن حجر 3/ 574) . هذا الحديث مشهور بحديث الملاعنة. رواه أصحاب الكتب الستة
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 9/ 445.
(4)
الإفك: هو الكذب (انظر: تفسير القرطبي 12/ 198) .
(5)
الآية رقم 11- إلى 22 سورة النور.
(6)
انظر: 2/113- 115.
(7)
المريسيع اسم بئر أو ماء لخزاعة على يوم من وادي الفرع وإليه تضاف (غزوة بني المصطلق) . (انظر: القاموس للفيروز آبادي 3/30) . وهو جنوب المدينة والله أعلم.
_________
قصة الإفك:
لا يختلف علماء التفسير أن سبب نزول هذه الآيات هو ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضي الله عنها وقد ساقها البخاري رحمه الله تعالى في (صحيحه)(1) مطولة. وابن القيم رحمه الله تعالى ساق القصة مختصراً لمقاصدها فقال (3) :
(ونحن نشير إلى قصة الإفك: وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها. وكانت تلك عادته مع نسائه فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها: فجاء النفر الذي كانوا يرحلون هودجها (3) . فظنوها فيه فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها. وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال. فرجعت عائشة رضي الله عنها إلى منازلهم وقد أصابت العقد فإذا ليس بها داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل (4) : إنا لله وإنا إليه راجعون. زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم.
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 8/ 452- 455. وقد ذكر طرقه ورواياته عند مسلم وغيره وشرحه شرحاً وافيا ابن حجر من 8/455- 8/481.
(2)
انظر: زاد المعاد 2/ 114.
(3)
الهودج: مركب للنساء (انظر القاموس 1/220) وهو كالمحمل يربط على الإبل.
(4)
هو: صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه مات سنة 58 هـ. وقيل غير ذلك انظر الإصابة لابن حجر 2/ 184) .
كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم (1) وفي السنن فلما رآها عرفها وكان يراها قبل نزول الحجاب فاسترجع وأناخ راحلته فقربها إليها فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة. فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به. ووجد الخبيث عبد الله ابن أبي متنفساً فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه. فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه.
فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ثم استشار أصحابه في فراقها. فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحاً لا تصريحاً وأشار إليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء.
وقد حبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً في شأنها ثم جاء الوحي ببراءتها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين ولم يحد الخبيث عبد الله ابن أبي مع أنه رأس الإفك) (3) .
الحكم والغايات المحمودة في هذه القصة (4) :
وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى في تضاعيف سياقه للقصة إلى جملة من الحكم
(1) أبو حاتم: هو محمد بن إدريس الرازي. أحد الحفاظ مات سنة 277 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 2/143) .
(2)
هو: رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول هلك سنة تسع من الهجرة (انظر: تفسير ابن كثير 2/378 في تفسير قوله تعالى
(ولا تصل على أحد منهم ماتَ أبداً) الآية 94 سورة التوبة.
(3)
هذا السياق استخلصته من كلام ابن القيم المطول في ذلك فليتنبه.
(4)
انظر: زاد المعاد 2/113-114- 115. وانظر: فتح الباري لابن حجر 8/468- 469
والأسرار التشريعية في هذه القصة: كاستشارته صلى الله عليه وسلم لعلي وأسامة رضي الله عنهما. وتوقفه صلى الله عليه وسلم في شأنها. وتأخر نزول الوحي
…
الخ. واقتصر هنا على ما له تعلق بحد القذف وهو إيراده رحمه الله تعالى عدداً من الوجوه في الجواب عن السؤال الآتي:
لم لم يحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن أبي. فقال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة والخبيث ليس أهلاً لذلك وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو البينة. وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه ولم يكن يذكروه بين المؤمنين.
وقيل: حد القذف حق لآدمي لا يستوفي إلا بطلبه، وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي.
وقيل: ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً، وهي: تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام فإنه كان مطاعاً فيهم رئيساً عليهم فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده. ولعله ترك لهذه الوجوه كلها. فجلد مسطح ابن أثاثة (2) وحمنة بنت جحش (3) ، وحسان بن ثابت (4)
(1) انظر: زاد المعاد 2/ 115.
(2)
هو: مسطح ابن أثاثة بن عباد المطلبي مات سنة 34 هـ. (انظر: الإصابة لابن حجر 3/388) .
(3)
هي: حمنة بنت جحش الأسدية أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها
(انظر: الإصابة 4/ 266 والتقريب 2/ 595) ولم يذكر الحافظ وفاتها.
(4)
هو: حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري مات سنة 40 هـ. على خلاف (انظر: الإصابة لابن حجر 1/325) .
وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيراً لهم وتكفيراً. وترك عبد الله ابن أبي إذاً: فليس هو من أهل ذاك) .
تعقب الحافظ ابن حجر لابن القيم:
والحافظ ابن حجر يقف على هذه الوجوه من الحكمة التي أبداها ابن القيم في ترك حد عبد الله ابن أبي فيتعقبه بأن الرواية قد وردت بإقامة الحد على عبد الله ابن أبي فيقول (1) :
(وأبدى صاحب (الهدى)(2) الحكمة في ترك الحد على عبد الله ابن أبي، وفاته أنه ورد ذكره أيضاً فيمن أقيم عليه الحد. ووقع ذلك في رواية أبي أويس (3) عن الحسن بن زيد (4) عن عبد الله ابن أبي بكر (5) أخرجه الحاكم (6) في (الإكليل) .
وليت الحافظ رحمه الله ساق الإسناد بتمامه ليتم الكشف عن درجته. وعلى أي حال كان فإنا نستفيد من سياق ابن القيم هذا تلك الجامعية الفذة والقدرة العجيبة على استحضار هذه الوجوه المتعددة وإملائها من حفظه في خضم ذلك الكتاب الضخم الذي ألّفه في سفره والله أعلم.
(1) انظر: فتح الباري 8/479.
(2)
يريد به: ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) .
(3)
أبو أويس: هو عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي المدني صدوق يهم مات سنة 167 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/426) .
(4)
الحسن بن زيد: ابن الحسن بن علي بن أبي طالب مات سنة 168 هـ. قال ابن حجر في التقريب 1/ 166 (صدوق يهم) .
(5)
هو: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني مات سنة 135 هـ. (انظر: التهذيب لابن حجر 5/164- 165) .
(6)
الحاكم: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 229) .
المبحث الثاني
حكمة التشريع في حد القاذف بالزنى دون الكفر (1) .
لابن القَيم في كتابه (أعلام الموقعين)(2) بحث مستفيض في الرد على نفاة القياس ونقض إيراداتهم وتقويض شبههم وفيه أورد سؤالهم المشهور: وهو قولهم إن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين وضربوا له عدداً من الأمثلة منها قولهم (3) :
(وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه) .
فأجاب ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا السؤال مبيناً حكمة التشريع في ذلك فقال:
(وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر ففي غاية المناسبة:
فإن القاذف بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه فجعل حد الفرية تكذيباً له، وتبرئة لعرض المقذوف. وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمي بها مسلماً. وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف
في تكذيبه، ولا يلحقه من العار بكذبه عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة. ولا سيما إن كان المقذوف امرأة، فإن العار والمعرة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر) .
(1) انظر: 2/52- 156.
(2)
انظر: 2/ 106.
(3)
انظر: 2/106
فمن هذا النص نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يرد دعوى التفريق بين الحد بالرمي بالزنا دون الرمي بالكفر بإبراز حكمة التشريع في حد القذف ومدارها على: عدم القدرة من المقذوف بنفي ما رمى به من الزنا فجعل حد القذف تكذيباً للقاذف. وتبرئة للمقذوف. وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي تبهرج المجتمع. وتلطخه بالعار والمعرة. ولا سبيل للمقذوف ظلماً إلى نفي ما قذف به من الزنا إلا بمجرد التكذيب للقاذف، وهذا غير مقنع لنفوس البشر ولا يكون مذهباً لتشعب ظنونهم فجعل الله حد الفرية لكف هذه الآثام وحماية لمجتمع الإسلام من أن يزن بريبة أو يرمى بنقيصة. فتبقى أعراض المسلمين محترمة تحت ستر الله ورحمته، الألسنة عنها مقفلة والظنون عنها محجمة وبذلك يكون الإسلام قد حفظ للمسلمين ضرورة من ضروريات معاشهم وقيام مدنيتهم وذلك بحفظ أعراضهم وصيانتها فأوجب حد القذف ثمانين جلدة للقاذف الكاذب الجاني بكذبه الزمن، على حرمة الأعراض تقويضاً لمعنوياتهم وإدخالاً لعنصر الفساد في مصلحة تعايشهم قال الله تعالى (1) :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) .
ولهذا عظم الله سبحانه معصية القذف بعشر آيات متواليات من سورة النور تكذيباً لقصة الإفك (2) على عائشة رضي الله عنها فقال تعالى (3) : (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) الآيات.
قال الحافظ بن حجر في (فتح الباري)(3) :
(قال الزمخشري)(4) : لم يقع في القرآن من التغليظ من معصية ما وقع في معصية
(1) الآية رقم 4 سورة النور.
(2)
الآية رقم 11 سورة النور إلى الآية رقم 22.
(3)
انظر: 8/477.
(4)
الزمخشري هو: محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المتوفى سنة 538 هـ. صاحب التفسير المشهور باسم (الكشاف)(انظر: الأعلام للزركلي 8/ 55) .
الإفك بأوجز عبارة وأشنعها، لاشتماله على الوعيد الشديد والعتاب البليغ، والزجر
العنيف واستعظام القول في ذلك واستشناعه بطرق مختلفة، وأساليب متنوعة، كل واحد منها كاف في بابه بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان إلا بما هو دون ذلك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو منه بسبيل) .
هذا طرف من حكمة التشريع الموجبة للتفريق بين الرمي بالزنى والرمي بالكفر بالحد بالأول دون الثاني.
ونحن إذا وازنا بين اللفظين لا نجد تلك المعاني والأسرار التشريعية تتوفر في الرمي بالكفر وذلك للمعاني التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى ومدارها: على وجود القدرة من المرمى بالكفر بتكذيب ما رمى به من الكفر من وجود شاهد الحال بقيامه بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس المفروضات ونحوها واطلاع المسلمين على ذلك وظنونهم غير متشعبة ولا مختلفة وهذا كاف في تكذيب قول القاذف وإظهار زيفه فالقاذف غيره بالكفر إذا كاذب والمقذوف بريء بطبيعة الحال، فلا حاجة إذاً إلى تقرير عقوبة مقدرة عليه لتكذيبه وإظهار براءة المقذوف بالكفر وهذا بخلاف المقذوف بالزنا فلا تبرز هذه المعاني إلا تقرير عقوبة مقدرة فكان ذلك بجلد القاذف المعتدي على أعراض المسلمين ثمانين جلدة مقرراً في دين الله وشرعه بنص واضح جلي محكم.
على أن هذا لا يعفي قاذف غيره بالكفر من عقوبة تعزيرية فإن الشريعة أمسكت بلسان السليط ورمت به في مكان بعيد عن الفحش والبذاء والتطاول على
قيم الناس ومعنوياتهم ومقومات حياتهم فطفحت نصوص الكتاب والسنة بصيانة هذا الثغر وحراسته من أن ينطق بفحش أو يفري في عرض (1) . ولهذا قرر العلماء في مدوناتهم الفقهية تعزير من قذف مسلماً بغير الزنا في (باب التعزير)(2) والله أعلم.
(1) انظر: الداء والدواء 145، 230.
(2)
انظر: على سبيل المثال: المغنى لابن قدامة 10/ 347. فتح القدير لابن الهمام 5/ 112
المبحث الثالث
حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون العبد (1) :
وفي معرض رده أيضاً على من قال أن الشريعة قد جمعت بين المختلفين وفرقت بين المتماثلين قال في بيان حكمة التشريع في حد قاذف الحر دون قاذف العبد: (وأما جلد قاذف الحر دون العبد فتفريق لشرعه بين ما فرق الله بينهما بقدره:
فما جعل الله سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدراً ولا شرعاً.
وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالفارق بين الحر والعبد، وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم.
فالله سبحانه وتعالى فضل بعض خلقه على بعض، وفضل الأحرار على العبيد
في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف.
وجعل العبد مملوكاً والحر مالكاً، ولا يستوي المالك والمملوك.
وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك موجب العدل والإحسان، فإنه يوم الجزاء لا يبقى هناك عبد ولا حر ولا مالك ولا مملوك) .
وابن القيم رحمه الله تعالى في إظهار محاسن التشريع في هذا التفريق يشترك مع غيره من المتقدمين في ذلك كالقرطبي ويشاركه غيره من المتأخرين كابن حجر ومن ذلك ما يلي:
قول القرطبي المالكي:
قال القرطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الجامع لأحكام القرآن)(2) :
(1) انظر: أعلام الموقعين 2/ 109.
(2)
انظر: 12/174- 175.
(أجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما. ولقوله عليه السلام (من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) خرجه البخاري (1) ومسلم (2) وفي بعض طرقه: إن قذف عبده بزنى ثم لم يثبت أقيم عليه الحد يوم القيامة ثمانون) ذكره الدارقطني (3) .
قال العلماء:
وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى. ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة. واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافأوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم. فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة وتبطل فائدة التسخير حكمة من الحكيم العليم لا الله إلا هو) .
قول الحافظ ابن حجر الشافعي:
وقال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري)(4) معللاً التفريق:
(لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره
في الآخرة، وإنما خص ذلك في الآخرة تمييزاً للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافأون في الحدود ويقتص لكل منهم إلا أن يعفوا، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى) .
ونحن لو قارنا بين كلام هؤلاء الأئمة ابن القيم والقرطبي وابن حجر لوجدنا
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/ 185. وهو بنحو من هذا اللفظ.
(2)
انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي 11/131. واللفظ المذكور لمسلم.
ورواه أيضاً أبو داود 4/ 363. والترمذي 4/ 335 ولفظهما نحو لفظ البخاري ومسلم.
(3)
انظر: سنن الدارقطني 3/213-214 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: 12/ 185
كلامهم يدور على التباين بين مرتبتي الحر والعبد. لكن ابن القيم أوسع في البيان والإيضاح والله أعلم.
مناقشة الحكم بالتفريق:
جواب ابن القيم هذا يعتبر أنه رحمه الله تعالى يرى التعزير ولكن هل هذا الحكم مسلم به أم هو محل خلاف؟.
بتتبع كلام أهل العلم في هذه المسألة نجد أن فيها قولين لأهل العلم وهما على ما يلي:
القول الأول:
أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا وإنما عليه التعزير. وهذا ما تناقلته كتب المذاهب لا تكاد تختلف فيه (1) .
أدلتهم:
استدلوا بدليلين:
1-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. ورواه أبو داود والترمذي (2) .
وجه الاستدلال منه:
أنه لو وجب على السيد حد في الدنيا إذا قذف عبده لذكره كما ذكره في الآخرة فلما لم يذكره دل على أنه لا حد عليه.
(1) انظر: فتح القدير لابن الهمام 5/ 91 والمغنى لابن قدامة 10/ 202 والمحلي لابن حزم 11/328.
(2)
انظر: فما تقدم ص/ 470 حيث ذكرت مواضع التخريج.
2-
الإجماع:
وقد حكى الإجماع على هذا الحكم بالتفريق غير واحد من أهل العلم منهم النووي (1) . والقرطبي (2) . وابن قدامة (3) والحافظ ابن حجر (4) .
القول الثاني:
أن الحر إذا قذف العبد أقيم عليه الحد. وهو قول الظاهرية وانتصر له ابن حزم
في كتابه (المحلى)(5) .
أدلتهم:
يستدل لمذهبهم بما يلي:
1-
عموم آية القذف وهي قوله تعالى (6) (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية.
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه وتعالى رتب حكم الذين يرمون المحصنات أي العفائف على الإحصان وهو العفة. وهذا يشمل الحر والعبد لأن (المحصنات) جمع معرّف
بـ (أل) فيفيد العموم، كما أن لفظ (الذين) اسم موصول عام، فيشمل الذين يرمون الأحرار أو العبيد بناء على تفسير المحصنات بالعفائف. فيجب إذا حد قاذف العبد كقاذف الحر.
(1) شرح مسلم 11/131.
(2)
انظر: تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 12/ 174.
(3)
المغني 10/202.
(4)
انظر: فتح الباري 14/ 185.
(5)
انظر: 11/328- 330.
(6)
الآية رقم 4 سورة النور.
2-
ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أميراً من الأمراء سأل ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل، قال: يضرب الحد صاغراً. رواه عبد الرزاق (1) . وابن حزم (2) من طريقه وسنده صحيح) .
ففي هذا تصريح من ابن عمر لإقامة الحد على قاذف العبد.
مناقشتهم لأدلة القول الأول:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم (4) فلم أرَ من ناقشه من المخالفين. وقد ساقه ابن حزم في أدلة مخالفيه ولم يتعقبه بشيء.
وأما الإجماع:
فقد ناقشه الحافظان ابن حزم (5) وابن حجر (6) . بأن رأي ابن عمر والحسن البصري على خلافه فلا إجماع إذا فلا يسم الاستدلال به.
تعقب هذه المناقشة:
في الواقع أن استدلال ابن حزم بقول ابن عمر ومناقشته للإجماع به غير واردة، لأن رأي ابن عمر هو في (أم الولد) لا في مطلق الرقيق. كما أنه في قذف شخص أم ولد لشخص آخر وهنا تنتفي الملكية المانعة من الحد فلا يستلزم الحد هنا - لو سلم - وجوبه فيمن قذف مملوكه. وهذه مسألة مستقلة عن محل النص والإجماع ولهذا فإن العلماء يبحثون هذه المسألة في أعقاب المسألة الأولى (7) .
(1) انظر: المصنف 7/ 439.
(2)
انظر: المحلي 11/328.
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر 12/ 185.
(4)
انظر: ص/15.
(5)
انظر: المحلي 11/328 - 329.
(6)
انظر: فتح الباري 12/ 185.
(7)
انظر: تفسير القرطبي 12/ 175. وفتح الباري لابن حجر 12/ 185. وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/ 104
والخلاف فيها قائم بين مدعي الإجماع أنفسهم في المسألة الأولى: وهي قذف العبد. وأما نقضه بأنه رأى الحسن على خلافه فالحسن البصري رحمه الله تعالى من التابعين فهو بعد انعقاد الإجماع فلا يكون ناقضاً له على أن ابن حجر ذكره رأياً له عرياً من الإسناد فلا بد من المطالبة به ليعلم ثبوته عنه من عدمه.
ومن هذا يتضح أن الإجماع سالم من النواقض فيتم الاستدلال به والله أعلم. الراجح:
والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا حد على الحر إذا قذف العبد لوضوح دليله من السنة ونقل الإجماع على مقتضاها والله أعلم.
المبحث الرابع:
التعريض (1) بالقذف (2)
يقرر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (أعلام الموقعين) قاعدة الشريعة المطردة وهي (أن العبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) وفي معرض حديثه هذا ذكر مبحث المعاريض في الحدود والحقوق. وذكر نقلاً مستفيضاً عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقرر فيه أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم مضت فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق: على ما يظهرون والله تعالى يدين بالسرائر وضرب لهذا عدداً من الأمثلة، ذكر منها أن الشارع لم يعلق حكم القذف على التعريض بالقذف وقرر أنه لا يجب بذلك الحد.
(1) التعريض: هو كلام له وجهان ظاهر وباطن فيقصد قائله الباطن ويظهر إرادة الظاهر (انظر: المفردات للراغب ص/ 331. وفتح الباري لابن حجر 12/ 175) .
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/107، 114، 115، 141، 170.
ثم أخذ ابن القيم رحمه الله تعالى في مناقشة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بذلك وبيّن أن محض السنة والقياس هو: الحد بالتعريض بالقذف. وبيان ذلك فما يلي:
أدلة الإمام الشافعي:
استدل الشافعي رحمه الله تعالى على نفي الحد بالتعريض بالقذف بما يلي:
1-
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (جاء أعرابي (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله، أن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال هل لك من إبل قال نعم،
قال ما لونها قال: حمر. قال فيها من أورق (2) . قال: نعم: قال: فأنى كان ذلك.
قال: أراه عرق نزعه. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) رواه البخاري (3)
ومسلم (4) .
وجه الاستدلال:
قال الشافعي رحمه الله تعالى (الأغلب على من سمع الفزاري بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود) وعرّض بالقذف أنه يريد القذف ثم لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن التعريض ظاهراً بالقذف. فلم بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم القذف) . يريد الشافعي رحمه الله تعالى: أنه لما كان قول الأعرابي الفزاري محتملاً لغير القذف لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف فدل على أنه لا حد في التعريض بالقذف.
(1) الأعرابي: هو ضمضم بن قتادة الفزاري (انظر: فتح الباري لابن حجر 9/443) .
(2)
أورق: هو الذي فيه سواد غير حالك بل يميل إلى الغبرة (انظر: فتح الباري لابن حجر 9 انظر: 443) .
(3)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/ 175، 9/ 442.
(4)
انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي 10/133.
(5)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 114
_________
ووجه التعريض: أنه قال: (غلاماً أسود) أي وأنا أبيض فكيف يكون
مني (1) .
وهذا الاستدلال من الشافعي هو عمدة نفاة الحد بالتعريض بالقذف عند الحنفية والحنابلة (2) .
مناقشة ابن القيم للشافعي:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) :
(إن قول الأعرابي (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود) فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحاً ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتياً عن حكم هذا الولد. أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح صدره له. ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف
…
) .
أدلة ابن القيم:
استدل ابن القيم بعد ذلك على وجوب الحد بالتعريض بما يلي:
1-
وجود المعرة بالتعريض بالقذف.:
يذكر ابن القيم (أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح مثل قول من يشاتم غيره (أما أنا فلست بزان وليست أمي بزانية)(4) .
وهذا الاستدلال من ابن القيم مسطر لدى المالكية القائلين بوجوب الحد
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 9/ 443.
(2)
انظر: المغنى لابن قدامة 10/ 213، وفتح القدير لابن الهمام 5/ 100. (3) انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(4)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141
بالتعريض بالقذف كما بسطه القرطبي في (تفسيره)(1) .
3-
حد عمر رضي الله عنه لمن عرض بالقذف وموافقة الصحابة عليه رضي
الله عنهم.
قال رحمه الله تعالى (2) :
(وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضى الله عنهم. والأثر عن عمر رضي الله عنه بذلك رواه عبد الرزاق في (المصنف) بسنده (3)(أن رجلا في زمن عمر بن الخطاب قال: ما أمي بزانية ولا أبي بزان قال عمر: ماذا ترون، قالوا: رجل مدح نفسه، قال: بل انظروا فإن كان بالآخر بأس، فقد مدح نفسه، وإن لم يكن به بأس فلم قالها فوالله لأحدنه فحده) .
رد الشافعي لدعوى الاتفاق:
قال ابن القيم نقلاً عن الشافعي (4) :
(فإن قال قائل: فإن عمر حد في التعريض قبل استشارة الصحابة فخالفه بعضهم، ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة) والدلالة يعني بها احتمال القذف وعدمه وهذه شبهة فلا حد.
تعقب ابن القيم لمناقشة الشافعي:
لكن ابن القيم رحمه الله تعالى لا يرتضي رد الشافعي هذا وبيّن أن القائل لم يخالف عمر فقال (5) :
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 173.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 425.
(4)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 15.
(5)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141
(وأما قوله له- يعني الشافعي- رحمه الله تعالى (فإنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم) فإنه يريد ما رواه مالك عن أبي الرجال (1) . عن أمه: عمرة بنت عبد الرحمن (2) . أن رجلين استبا في زمن عمر رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر رضي الله عنه، فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأمه وأبيه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين) .
وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر، فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة) . ثم ذكر ابن القيم أنه قد صح عن عمر رضي الله عنه من وجوه أخر وعن جماعة من السلف على ما يلي:
أ- أن هذا الحكم من عمر رضي الله عنه قد صح عنه من وجوه أخر. بين ابن القيم أن هذا الحكم صح عن عمر رضي الله عنه من عدة وجوه وهو يريد بهذا تقوية الاتفاق على استمرار عمر رضي الله عنه على (الحكم بذلك واستشهار ذلك فقال)(3) :
وقد صح عن عمر رضي الله عنه من وجه أنه حد في التعريض فروى معمر (4) عن الزهري (5) عن سالم (6) عن أبيه (7) أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة (8) .
(1) أبو الرجال: هو محمد بن عبد الرحمن الأنصاري من طبقة التابعين
(انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 295 والتقريب لابن حجر 2/ 183) .
(2)
عمرة: هي بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري ماتت قبل المائة (انظر: التقريب لابن حجر 2/ 607) .
(3)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(4)
معمر: هو ابن راشد الأزدي مولاهم مات سنة 154 هـ. (انظر: التقريب 2/ 266) .
(5)
الزهري: هو محمد بن سالم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة 125 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 2/ 207) .
(6)
سالم هو: بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد الفقهاء السبعة مات سنة 106 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/ 280) .
(7)
أبيه: يريد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(8)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 421. والمحلي لابن حزم 11/ 334
وروى ابن جريج (1) عن ابن أبي مليكة (2) عن صفوان (3) وأيوب (4) عن عمر أنه حد في التعريض) (5)
ب- أنه رأي عثمان رضي الله عنه.
قال رحمه الله تعالى:
(وذكر أبو عمر (6) أن عثمان كان يحد في التعريض، وذكره ابن أبي شيبة) (7) .
ج- وهو رأي عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى (8) :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (9) :
(وكان عمر ابن عبد العزيز يرى الحد في التعريض (10) .
د- قال ابن القيم رحمه الله تعالى (11) :
(وهو قول أهل المدينة والأوزاعي)(12) .
(1) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مات سنة 150 هـ. ثقة يدلس. (انظر: التقريب لابن حجر 1/520) .
(2)
هو عبد الله بن عبيد الله التيمي المدني مات سنة 117 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/431) .
(3)
هو: صفوان بن سليم المدني المتوفى سنة 232 هـ. ثقة عابد (انظر: التقريب 1/ 368) .
(4)
هو: أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة حجة مات سنة 231 هـ. (انظر: التقريب 1/ 89) .
(5)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 421. والمحلي لابن حزم 11/ 334.
(6)
أبو عمر: هو عند الإطلاق ابن عبد البر.
(7)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(8)
هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي توفي سنة 101 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 2/59) .
(9)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(10)
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 424.
(11)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(12)
الأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمر والمتوفى سنة 157 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر 1/593) .
ومن هنا نرى ابن القيم يسند رأيه بأنه مذهب جماعة من السلف منهم الخليفتان الراشدان عمر وعثمان رضي الله عنهما والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. والإمام الأوزاعي وهو قول أهل المدينة والله أعلم.
3-
القياس:
ثم إن ابن القيم رحمه الله تعالى يبين أن هذا الرأي وهو حد القاذف بالتعريض كما أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين. فهو مؤيد بدلالة القياس عليه. فتطابق النقل والعقل وفي ذلك يقول:
(وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية) .
وهذا القياس نجده بعد النظر قياساً مستوفياً لأركانه وشرائطه على ما يلي: أولاً: ذكر المقيس وهو التعريض بالقذف.
ثانياً: ذكر المقيس عليه: وهو الطلاق مثلاً بالكناية.
ثالثاً: العلة: كون الكل ألفاظاً يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده
الصريح.
رابعاً: الحكم: وهو ترتب ما رتب الشارع على كل من الحكم الشرعي: من وقوع الطلاق بالكناية مثلاً، ووجوب حد القذف بالتعريض.
4-
دلالة الوضع اللغوي عليه:
ومن وراء هذه الأدلة من الأثر والقياس يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن إيقاع حد القذف بالتعريض هو مقتضى لغة العرب فيقول (2) : (واللفظ إنما وضع
(1) انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 141.
لدلالته على المعنى، فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة) .
الخلاصة والترجيح:
من هذا العرض لما ذكره ابن القيم في مبحث حد المعرض بالقذف ومما لحقه مما يوجبه بيان ذلك المبحث يتبين ما يلي:
أولاً: أن القول بنفي الحد هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
ثانياً: وأن القول بوجوب الحد في التعريض بالقذف هو مذهب مالك رحمه الله تعالى.
وأن ابن القيم رحمه الله تعالى يرى وجوب الحد بالتعريض لكن يرد ههنا سؤال مهم؟.
وهو هل يرى وجوب الحد بالتعريض بالقذف مطلقاً أم بالتعريض الذي يفهم منه معنى القذف معنى واضحاً للقرائن التي تحتف به؟.
والذي يظهر بعد تأمل لكلام ابن القيم رحمه الله تعالى هو الثاني:
أي أنه اختار وجوب الحد بالتعريض في القذف إذا قامت القرائن على تحديد القصد في ذلك وفهم ذلك من التعريض فهماً واضحاً لا لبس فيه وهذا هو ما يتمشى مع قاعدتي الشريعة التي يقررهما ابن القيم ويطيل في الاستدلال لها من (أن العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات)(1) . وقاعدة (درء الحد بالشبهات) فإذ احتفت القرائن مع أن المراد بالتعريض ذات القذف انتفت الشبهة وتحقق الحد. وإذا ضعفت القرائن قويت الشبهة وانتفى الحد.
(1) انظر: كلامه على تأثير القرائن في ذلك: أعلام الموقعين 3/133