الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جعل هذه القاعدة من مؤيدات تأخير الحد عن الغزاة بل هو أولى كما تقدم والله أعلم.
تقسيم العوارض حسب المصلحة الموجبة لتأخير الحد:
ومن هنا نستطيع أن نقسم العوارض الموجبة لتأخير الحد- لدى ابن القيم- على ما يلي:
1-
عارض لمصلحة الإسلام والمسلمين، كما في تأخيره عن الغزاة كما تقدم.
2-
عارض لمصلحة المحدود ذاته كما في تأخيره لحر أو برد أو مرض. 3- عارض لمصلحة المحدود وغيره كما في تأخيره عن الحامل.
4-
عارض لمصلحة الغير كما في تأخيره عن- المرضع حتى يفطم الرضيع وكما في تأخيره عن الحامل إذا كان الحد بالقتل. والله أعلم.
المبحث الرابع:
إقامة الحد بالقرينة الظاهرة
(1)
من القضايا الكلية الشرعية التي عالجها ابن القيم رحمه الله تعالى في مواطن كثيرة
من كتبه: (الحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في حقوق الله تعالى وحقوق العباد) . وساق لذلك شتى وجوه الأدلة من أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم. وأوضح أن القاضي إذا أهمل العمل بالقرائن الظاهرة أضاع الحقوق وتعرض للحكم بالظلم والعدوان. كما يقرر أن الحكم بموجبها هو أولى من الحكم بشهادة الشهود لأن هذا خبر يحتمل الصدق والكذب، أما العمل والحكم بالقرينة الظاهرة فهو أبعد من احتمال الكذب فالحكم به إذاً أولى من الحكم بالشهادة.
(1) انظر في بيان هذا المبحث: الطرق الحكمية ص/ 1- 63. أعلام الموقعين1/ 88، 2/313، 2/20، 4/370 - 377، بدائع الفوائد 3/117، 3/152 وغيرها.
وقد ضرب لهذا كثيراً من الأمثلة من أقضية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من الحكم بالقرائن الظاهرة وشواهد الأحوال في شتى القضايا والأحكام.
ومن الأحكام بالقرينة الظاهرة في كتاب الحدود ما يلي:
1-
إقامة حد الزنى: بالحبل.
2-
إقامة حد السرقة: بوجود المسروق في حوزة السارق.
3-
إقامة حد السكر: بوجود الرائحة أو القيء.
ويأتي إن شاء الله تعالى- بيان الحكم بكل قرينة من هذه القرائن الثلاث في بابها لانفراد كلّ قرينة بأدلة ومناقشة لها والله أعلم.
المبحث الخامس:
أثر التوبة (1) في الحدود (2)
لابن القيم رحمه الله تعالى في أحكام التوبة مباحث فائقة تناولت الكثير من جوانبها، منها أبحاثه في توبة أصحاب الحدود: في مسائل والذي يعنينا هنا: هو مبحثه العام في أثر التوبة في درء الحد من عدمه. أما مباحثه الخاصة في بعض الحدود فيأتي بيانها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وعليه فقد تبين أن أثر التوبة في الحد درءاً أو إيجابا يكون على حالتين:
(1) التوبة: لغة الرجوع عن الذنب. واصطلاحا: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الأفعال الممدوحة. وقيل غير ذلك (التعريفات للجرجاني ص/63. ومختار الصحاح ص/ 80) .
(2)
انظر: في مباحث ابن القيم في التوبة ما يلي: مدارج السالكين 1/178- 434، 3/435، وطريق الهجرتين ص/417- 451، والداء والدواء ص/125، 11-214، والوابل الصيب ص/ 14- 16. وأعلام الموقعين2/ 78- 79، 3/19،143.
الحالة الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه، فهذه التوبة لا تسقط- الحد بالاتفاق، كما حكاه رحمه الله تعالى بقوله (1) :
والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقاً) .
الحالة الثانية: أن تكون توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه. وأثر التوبة في سقوط العقوبة الحدية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين:
محل اتفاق.
ومحل اختلاف.
وقد بينهما ابن القيم رحمه الله تعالى على ما يلي:
1-
محل الاتفاق:
وهو المحارب (2) : إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه الحد بالاتفاق (3) .
الدليل:
والأصل في هذا قوله تعالى (4) (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،
(1) انظر: أعلام الموقعين 3/142 ط 143.
(2)
المحارب: لغة اسم فاعل وهو من الحرب بفتح الراء، يقال حرب ماله: أي سلبه. والمحاربون، وقطاع الطريق اسمان في الاصطلاح الشرعي لمسمى واحد، وهم: الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان فيغصبون المال مجاهرة لا سرقة (المطلع ص/376، وكشف القناع 6/149) .
(3)
انظر: أعلام الموقعين2/ 78. والمغني مع الشرح الكبير 10/214 - 315، 316. والإفصاح 2/ 434.
(4)
الآية رقم 33 سورة المائدة.
أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) .
2-
محل الاختلاف:
وهو: في توبة من عدا المحارب من مرتكبي الجرائم الحدية كالزنى والسرقة ونحوهما - إذا تاب قبل القدرة عليه، في هذا خلاف على قولين.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن نفاة المعاني والقياس قالوا: إن الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلين، فاعتبرت توبة المحارب قبل القدرة عليه، دون غيره من مرتكبي الجرائم الحدية. فرفض ابن القيم رحمه الله تعالى هذا التفريق، وقرر طرد الحدود كلها على نسق واحد، فتقبل توبة مرتكبي الجرائم الحدية قبل القدرة عليهم. وذكر أن هذا أحد القولين في المسألة، ونصب الأدلة عليه من السنة والقياس. وذكر القول المخالف القائل بالتفريق وما يستدل به وأجاب عنه. وإلى بيان ذلك مفصلاً:
القول الأول: قبول التوبة قبل القدرة عليه.
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن قبول توبة من ارتكب جريمة حدية قبل القدرة عليه هو إحدى الروايتين عن أحمد وهو القول الصواب (1) .
وهذا هو المعتمد أيضاً من مذهب الشافعية (2) .
(1) انظر: أعلام الموقعين2/ 79، والمغني مع الشرح الكبير 10/316. انظر: نيل الأوطار 7/ 120، والمغني مع الشرح الكبير 10/316.
استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بالسنة والقياس على ما يلي:
1-
حديث أنس رضي الله عنه (1) :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(في الصحيحين (3) من حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علىّ، ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه رجلُ (4) فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: أليس قد صليت معنا قال: نعم قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك) . وذكره أيضاً من حديث أبي إمامة (5) رضي الله عنه نحوه عند النسائي (6) وقد رواه أيضاً: مسلم (7) . وأبو داود (8) .
(1) هو: أنس بن مالك بن النضر الأنصار الخزرجي رضي الله عنه توفي سنة 92 هـ. (انظر: الإصابة 1/84- 285 والتقريب 1/84) .
(2)
انظر: أعلام الموقعين 2/78- 79.
(3)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/123. وصحيح مسلم مع شرح النووي 17/ 81. وانظر: نيل الأوطار 7/ 106- 107.
(4)
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري 12/134: لم أقف على اسمه.
(5)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 21- 22. وأبو إمامة: هو صدى بن عجلان الباهلي رضي الله عنه توفي سنة 86 هـ. (انظر: الإصابة 2/ 175) .
(6)
انظر: نيل الأوطار 7/ 106.
(7)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 17/ 81- 82.
(8)
انظر: سنن أبي داود باختصار المنذري 6/218
الخلاف في حكم هذا الحديث:
قبل ذكر بيان ابن القيم رحمه الله تعالى لوجه الاستدلال من هذا الحديث. أذكر بيانه لمسالك العلماء في الحكم الذي تضمنه هذا الحديث لأن ذكر وجه الاستدلال فرع لتصحيح المسالك الذي يدل عليه هذا الحديث. وهذه بيان مسالك العلماء في هذا الحديث:
أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أن للناس في معنى هذا الحديث ثلاثة
مسالك:
المسلك الأول: حمل معنى الحديث على من أقر بحد مبهم فإنه لا يقام عليه الحد.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا هو أحد المسالك وعليه ترجمة النسائي (1) فقال ابن القيم (2) :
(ومن تراجم النسائي على هذا الحديث (من اعترف بحد ولم يسمه) .
وهو أيضاً مسلك أبي داود في (سننه)(3) فقد ترجم عليه بقوله (باب في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) .
وهوِ أيضا ظاهر صنيع البخاري في (صحيحه)(4) فإنه ترجم عليه بقوله (باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟) . قال ابن حجر في كشف مراد البخاري من ترجمته المذكورة (5) : (وظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر
(1) انظر: نيل الأوطار 7/107.
(2)
انظر أعلام الموقعين 3/ 22.
(3)
انظر: سنن أبي داود باختصار المنذري 8/216.
(4)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/133.
(5)
انظر: فتح الباري 12/ 134
بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب) .
وعليه فإن من أقر بحد منهم فلا يجب عليه الحد إلا إذا عينه وأصر عليه المقر
به طالباً التطهير به من وراء التوبة. أما إذا لم يعينه أو عينه ولم يصر عليه فلا يقام عليه الحد مع التوبة. قال بن حجر عن ابن القيم: في بيان هذا المسلك (1)(أحدها: أن الحد لا يجب إلا بعد تعيينه والإصرار عليه من المقر به) .
توجيه هذا المسلك:
هو أن هذا الرجل: أقر بحد مبهم لم يفسره، والحدود مختلفة المقادير فلا يتمكن الإمام من إقامتها مع الإبهام فستر عليه الشارع ودرأ عنه الحد للإبهام (2) .
تعقب هذا التوجيه:
هو أن يقال: أنه ورد في بعض روايات هذا الحديث تفسير الحد بالزنى وأنه أقر به صريحاً فانتفى الإبهام والله أعلم (3) .
المسلك الثاني: حمله على الخصوصية بذلك الرجل (4) .
وجه هذا المسلك:
وقد بينه ابن حجر فقال (5) :
(يحتمل أن يختص بالذكور: لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده
(1) انظر: فتح الباري 12/ 135.
(2)
انظر: نيل الأوطار 7/107.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 134. ويأتي بيان هذه الرواية قريباً.
(4)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 22.
(5)
: فتح الباري 12/ 134
بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم في غيره إلا فيمن علم أنه مثله في ذلك وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
تعقب هذا المسلك:
ويمكن التعقيب على هذا المسلك من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل يقوم عليها. ولهذا فإن في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، في قصة الرجل الذي أصاب من امرأة دون المسيس، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائباً، أتبعه صلى الله عليه وسلم برجل، فدعاه، فتلى عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل-) إلى آخر الآية (1)، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أله خاصة، أم للناس كافة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: للناس كافة (2) .
المسلك الثالث: حمله على سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (الثالث: سقوِط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أصح المسالك) .
وجه هذا المسلك:
الأول: أنه قد جاء في بعض روايات الحديث: التصريح بتعيين الحد وهو (الزنى) وذلك من حديث أنس رضي الله عنه قال (4) : (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني زنيت فأقم عليّ الحد. الحديث) .
(1) من الآية رقم 14 سورة هود.
(2)
انظر: سنن أبي داود باختصار المنذري 7/276- 278. وقد رواه أيضاً مسلم وغيره. انظر: نيل الأوطار 7/106. وفتح الباري 12/ 134.
(3)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 22.
(4)
انظر: فتح الباري 12/134. وقد ساقها بسند على شرط البخاري.
فحديث أنس من هذه الطريق يفسر الرواية المبهمة في حديثه من الطريق الآخر عنه وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وأن الحد ليس بمبهم وإنما هو معين.
ولذا قال الحافظ بن حجر بعد سياق هذا اللفظ (1) : (وقد يتمسك به من قال:
إنه إذا جاء تائباً سقط عنه الحد) .
الثاني: أن التوبة قبل القدرة قاومت السيئة فأسقطت الحد.
وهذا الوجه حكاه ابن القيم رحمه الله تعالى في وجه الاستدلال من حديث المغيث الآتي بعده (2) وفي الواقع أن التوجيه به يشمل الحديثين معاً. وهذا ما فهمه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حيث ذكر أن ابن القيم رحمه الله تعالى صحح هذا المسلك وقواه بذلك فقال ابن حجر بعد سياقه المسلك المذكور عن ابن القيم (3) :
(وقواه- أي ابن القيم- بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعاً بخشية الله تعالى وحده تقاوم السيئة التي عملها، لأن حكمة الحدود الردع عن العود، وصنيعه ذلك دال على ارتداعه فناسب رفع الحد عنه لذلك والله أعلم) .
المسلك الرابع:
هذه هي المسالك الثلاثة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى. وهناك مسلك رابع للإمام النووي رحمه الله تعالى (4) وغيره: وهو: أن الذنب الذي فعله هذا
(1) انظر: فتح الباري 12/134.
(2)
انظر: أعلام الموقعين3/ 22.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 135.
(4)
انظر: شرح النووي على مسلم 17/ 81، وفتح الباري 12/134. والنووي هو: محيي الدين ابن شرف بن مري الخزامي المتوفى سنة 676 هـ. (انظر: النجوم الزاهرة 8/277) .
المعترف كان من الصغائر لا الكبائر.
وجه هذا المسلك (1) :
هو ما جاء في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة والذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر.
تعقب هذا المسلك:
وهذا متعقب بأنه جاء في بعض روايات حديث أنس رضي الله عنه تفسير الحد الذي اقترفه بالزنى فثبت كون المعترف به جريمة حدية من الكبائر لا الصغائر والله أعلم.
الترجيح:
هذه مسالك العلماء في هذا الحديث وما يمكن توجيه كلّ مسلك به وما تعقب
به، والذي يظهر والله أعلم- أن ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى من حمل الحديث على سقوط الحد [بالتوبة](*) قبل القدرة عليه- هو الصواب للأمرين المذكورين في توجيه هذا المسلك وهما أن الحد وقع مفسراً لا مبهماً وأن التوبة قبل القدرة قاومت السيئة والله أعلم.
وجه الاستدلال:
وبعد تصحيح هذا المسلك من حمل الحديث: على سقوط الحد عن التائب قبل القدرة عليه فإن دلالته على هذا الحكم واضحة ذلك: أن هذا الرجل قد وقع في حد وهو حد الزنى كما صرحت به بعض الروايات وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه معترفاً به تائباً إلى الله تعالى فأسقط عنه النبي صلى الله عليه وسلم الحد ولم يقمه عليه لأن التوبة
(1) انظر: شرح مسلم للنووي 17/ 81، وفتح الباري 12/ 134.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع: (بالتوجه)
قبل القدرة قاومت الجريمة مقاومة الدواء للداء (1) . وفي بيان هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (فهذا لما جاء تائباً بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له- ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به
…
) . والله أعلم.
حديث المغيث (3) :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) : (عن وائل (5) رضي الله عنه أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاؤا به يقودونه إليها: فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلقوا به فارجموه. فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر لك. وقال للذي أغاثها: قولاً حسناً فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لأنه قد تاب إلى الله) (6) .
(1) انظر: أعلام الموقعين 3/ 21.
(2)
انظر: أعلام الموقعين2/ 79.
(3)
اشتهر هذا الحديث باسم حديث المغيث: وهو الرجل الذي أغاث المرأة.
(4)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 19- 20.
(5)
هو: وائل بن حجر ابن ربيعة الحضرمي رضي الله عنه مات في ولاية معاوية رضي الله عنه (انظر: الإصابة 3/ 592، والتقريب 2/ 328) .
(6)
الحديث رواه الترمذي 4/ 55 وابن ماجة 2/866. وانظر: ذخائر المواريث 3/126
وجه الاستدلال:
هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الحد المعترف بالزنى قبل القدرة إذ قد تاب إلى الله تعالى قبل القدرة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل
منهم (1) فالحسنة: وهي اعترافه [طوعا](*) إلى الله قبل القدرة عليه- دافعت السيئة وهي (الزنى) فدل ذلك على سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة. وفي بيان وجه الاستدلال يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(سقوط الحد عن المعترف- يعني في هذا الحديث- إذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم فقال (إنه قد تاب إلى الله) . وأبى أن يحده. ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعاً واختياراً خشية من الله وحده وإنقاذاً لرجل مسلم من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء ذاك الداء، وكانت القوة الصالحة، فزال المرض، وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك، فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للمرحلة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق) .
3-
حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
واستدل ابن القيم أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) .
(1) طرف من حديث ماعز رضي الله عنه (انظر: نيل الأوطار 7/107) .
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 21.
(3)
انظر: أعلام الموقعين 2/78
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (لوعا)