الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد السابع: (من
كتاب الوقف
إلى نهاية الإقرار)
كتاب الوقف
…
[كتاب الوقف]
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: ونرى الوقف صحيحاً.
وسئل: إذا أراد إنسان أن ينفع نفسه من ماله
…
إلخ؟
فأجاب: إذا أراد إنسان أن يوقف وقفاً من ماله، فإن شاء جعله معيناً في أرض بعينها، أو نخلاً بعينه، وإن شاء جعله شيئاً معلوماً، قادماً في غلة نخله أو أرضه؛ وما فعل من ذلك فهو حسن إن شاء الله تعالى.
وسئل: هل يلزم الوقف المعلق بالموت، أو شرط فيه الرجوع؟ وهل يجوز ذلك؟
فأجاب: الذي صححه غير واحد من الحنابلة وغيرهم، أنه يصح تعليقه بالموت، ويصير وصية، ويعتبر من الثلث، كسائر الوصايا؛ قال في الشرح الكبير: يصح في قول الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في الإنصاف: قال الحارثي: كلام الأصحاب يقتضي أن الوقف المعلق على الموت، أو على شرط الحياة، لا يقع لازماً قبل وجود المعلق عليه; قال الحارثي: المنصوص عن أحمد في المعلق على الموت هو اللزوم. قال الميموني
في كتابه: سألته عن الرجل يقف على أهل بيته، أو على المساكين بعده، فاحتاج إليها، أيبيع على قصة المدبر؟ فابتدأني أبو عبد الله بالكراهة لذلك، فقال: الوقوف إنما كانت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يبيعوا ولا يهبوا. قلت: فمن شبهه وتأول المدبر عليه، والمدبر قد يأتي عليه وقت يكون فيه حراً، والموقوف إنما هو شيء وقفه بعده، وهو ملك الساعة، قال لي: إذا كان يتأول. قال الميموني: وإنما ناظرته بهذا، لأنه قال: المدبر ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئا؟ فقلت: هكذا الوقوف، ليس لأحد فيها شيء، الساعة هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حراً.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عما إذا لم يجد من كان الوقف تحت يده حججاً للوقف، ولا شهوداً، ولا شيئاً من البينات غير مجرد وضع اليد، فما العمل فيه؟ هل إذا أقر بوقفيته، ولم يعين الواقف، يقبل منه؟
فأجاب: يثبت الوقف بالاستفاضة، ولا حاجة إلى معرفة اسم الواقف. وإن لم يستفض فيكفي إقرار من هو تحت يده بذلك، ما لم ينازع في ذلك بحجة شرعية.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن موضع النخلة
الوقف إذا سقطت؟
فأجاب: إذا وقف نخلة معينة، فالذي نرى أن موضعها لا يكون وقفاً بذلك، فإذا سقطت النخلة زال حق أهل الوقف؛ وقد صرح بذلك الفقهاء، فيما إذا أقر بنخلة أو باعه إياها، تناول ذلك الجذع فقط، فإذا سقطت لم يكن له إعادتها، كما نص عليه الإمام أحمد، فيما إذا أقر له بنخلة.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثرى: إذا وقف نخلة فبادت، فالعرف ومقاصد الناس معتبر; والعرف في وقتنا: أن الْمُوقف لا يقصد إلا جذع النخلة، وأنها لا تعاد إذا بادت، مع أن القياس يقتضي ذلك في أن الفرع لا يتبعه الأصل، وأن الأصل يتبعه الفرع، إلا أن يوقف بستاناً ونحوه، فالقرينة تقتضي دخول الأصل والفرع معاً في الوقفية.
سئل الشيخ عبد العزيز بن حسن: عن جعل بعض الواقفين وقفه قدراً معلوماً في ملكه أو نخله، فإذا باد النخل
…
إلخ؟
فأجاب: العمل: على جواز ذلك، وجوز شيخ الإسلام وقف المنفعة المفردة، كخدمة عبد موصى بها مدة، ثم يقفها الموصى له فيها. انتهى. فيؤخذ ذلك القدر من غلة ما جعل فيها حيث حصل، فاضلاً عن حصة العامل
على النخل، إن كان المجعول فيه نخلًا ولو لم يبق للمالك سواه، ويؤخذ كاملاً من غلة الأرض، إن كان المجعول فيها أرضاً، حيث فضل عن نصيب رب الزرع، ولو لم يبق لرب الأرض غيره، وإن كان هو الزارع أخذ منه على كل تقدير.
وسمعت شيخنا عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمه الله، أفتى مرة بذلك، أعني: أخذ تمر مقدر في ثمر نخل، ولا بين الوارث والمشتري فرق في ذلك، سواء كان المشتري عالماً به أو جاهلاً، إلا أن الجاهل يثبت له الخيار إذا علم.
فلو قال قائل: إذا لم يبق من ريع النخل سوى القدر الموقوف، جعلتم الموروث عن الواقف للموقوف عليه، فأين التركة التي يخرج من ثلثها؟
قلنا العبرة بخروج الموقوف، أو الموصى به من الثلث حين الموت، ليس قبله ولا بعده. وإذا باد النخل فالذي يظهر لي: أن القدر الموقوف ينقطع بفناء النخل، وتبقى الأرض طلقاً؛ هذا إن كانت الصيغة: وقفت في نخلي. أما إن قال: في ملكي، فالظاهر أن ذلك القدر يستمر في الأرض، ما دامت حيث انتفع بها، لأن المتعارف من ألفاظ أهل هذه الأعصار، أن الملك اسم للأرض، سواء اتصل بها غراس أم لا، لا سيما في بلدتكم وما قاربها من البلاد.
وكذلك الحكم لو قال: في هذه الدمنة، بل هذا أولى، ولو كان القدر الموقوف في الملك أو الدمنة تمراً؛ إذ لا تفيد قرينة كونه تمراً خصوصيته بالنخل، فينقطع بانقطاعه، بدليل قول بعض الواقفين: جعلت في ملكي أو أرضي أو داري أضحية، فيعلم بالاضطرار أن قصده: يشترى من غلة الأرض، أو بثمن غلتها أو بأجرتها، أو أجرة الدار أضحية.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الوقف على المسجد؟
فأجاب: الوقف على المسجد جائز، بل مستحب، لأنه من أعمال البر والقربات; وأما وقف الشرك الذي على طاعة، فيجب الوفاء به في الإسلام.
وسئل: عن وقف لم يذكر له مصرف، أو ذكر
…
إلخ؟
فأجاب: إذا وقف وقفاً وذكر مصرفه ثم انقطع، أو لم يذكر مصرفاً، فقد اختلف العلماء في هذا الوقف: هل يصح أو لا؟ وقدم في المغني أنه يصح، وذكره قول مالك وأبي يوسف، وأحد قولي الشافعي: أنه إذا وقف وقفاً على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة كالمساكين ونحوهم، قال في المغني: ويصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف،
وبه قال الشافعي. وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين؛ واختاره القاضي والشريف. وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال المسلمين. وأما إذا كان وقف وقفاً، ولم يذكر له مصرفاً بالكلية، فقال في المغني: إذا قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه؛ وابن حامد يصحح الوقف، قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صُرف إلى مصارف الوقف المنقطع الذي ذكرناه في أول المسألة، وأن فيه ثلاث روايات عن أحمد؛ فتأمله يتضح لك الأمر إن شاء الله.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن دعاوى في أوقاف لم يكن لها وثائق، منها: أناس ببعض القرى التي نهبت في آخر القرن الثالث عشر؛ ومشهور عند أهل الأحساء: أن أوراقهم أتلفت، وإنما بقي عندهم الولاية في الأملاك والأوقاف، فإذا حصل بينهم نزاع في الأوقاف، وليس هناك نص واقف، هل يكون حكمها حكم الوقف المنقطع الآخر، أم لا؟ وهل يجب يمين على المدعى عليه، والأمر مشتهر أن الأوراق ضلت منه؟
فأجاب: قال في الإنصاف، عند قول المقنع: وهل يدخل فيه ولد البنت - فذكر كلاماً طويلاً - ثم قال: فوائد -
إلى أن قال - الرابعة: قال في التلخيص: إذا جهل شرط الواقف، وتعذر العثور عليه، قسم على أربابه بالسوية؛ فإن لم يعرفوا، جعل كوقف مطلق لم يذكر مصرفه. انتهى. وقال في الكافي: لو اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف؛ فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه. انتهى.
وقال الحارثي: إن تعذر الوقوف على شرط الواقف، وأمكن التأنس بتصرف من تقدم ممن يوثق به، رجع إليه، لأنه أرجح مما عداه؛ والظاهر صحة تصرفه، ووقوعه على الوفق. انتهى.
فقد عرفت منه: أنه إذا كان الوقف في يد ثقة، يصرفه مصرفاً معيناً في مثل هذه المسألة، أنه يعمل بذلك، وأنه إذا لم يكن شيء من ذلك، يصير حكمه حكم الوقف المطلق، يكون لأقرب ورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، كالوقف المنقطع؛ هذا إذا جهل أصل المصرف.
وأما إن علم أصله، لكن جهل شرط الواقف، أو التقديم، أو التأخير، أو التفضيل، ونحو ذلك، فهذا يستأنس فيه بصرف الثقة الذي هو بيده، وبعمله كما تقدم؛ فإن لم يكن فيقسم بين أهل الجهة بالسوية، كما تقدم، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الوقف الذي لم يذكر له مصرف، إذا انقرض الموقوف عليهم، فمشهور المذهب أنه يكون لورثة الواقف، وقفاً عليهم نسباً بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم: فللبنت مع الابن الثلث، والباقي له. وإن كان الوارث أخاً شقيقاً وأخاً لأب، انفرد به الشقيق. وقال ابن أبي موسى: يكون ملكاً للورثة؛ قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد. وقال الشافعي: يكون وقفاً على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء. واختار الموفق أنه يصرف إلى المساكين؛ وهو رواية عن أحمد. فإن كان في أقارب الواقف فقراء، فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب؛ هذا كلامه في المغني.
وأجاب أيضاً: الذي وقف وقفاً على جهة بر، ولم يعين مصرفاً معيناً، فالذي أرى أنه يصرف في فقراء أقاربه، لا سيما فقراء ورثته، ويصرف في غير ذلك من وجوه البر، كفطر صوام ونحو ذلك.
فصل
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن مراعاة شرط الواقف؟
فأجاب: منصوص علمائنا، رحمهم الله، في كتبهم:
يلزم بشرط مستحب، خاصة وأن الشرط المكروه باطل اتفاقاً؛ قال شيخ الإسلام: وقول الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، في وجوب العمل، مع أن التحقيق: أن لفظ الموقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد، يحمل على عادته ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع أو لا. وقال: لا خلاف أن من وقف على صلاة، أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي لم يصح؛ والشرط إنما يلزم الوفاء به، إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا وقف إنسان وقفاً وأشهد عليه، والشاهد والكاتب يعرفان معنى ما نطق به من لغته وعرفه، فكتب الكاتب خلاف ما نطق به الموقف وأراده، ظناً منه أن المعنى واحد، كما إذا قال: على أولادي وأولادهم، وهم عالمون منه إرادة التعقيب دون التشريك؟
فأجاب: يتعين العمل بما شهدا عليه من لفظ لغته، وعلماه من إرادته، وإنما يحكم على العامة في هذا ونظائره بما تقتضيه لغتهم، ويدل عليه عرفهم، وإن عدلوا عن الصيغ الاصطلاحية عند الفقهاء، لكون المعتد بالمقصود; قال أبو العباس: للفقهاء في صفة العقود ثلاثة أقوال: أحدها: الأصل في العقود أنها لا تصح إلا
بالعبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك البيع والإجارة، والنكاح والوقف، والعتق وغير ذلك; وهذا ظاهر قولي الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، لكون الأصل عندهم هو اللفظ.
والقول الثاني: أنها تصح بالأفعال كالوقف، كمن بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه، وكبعض الإجارة؛ فهذه العقود لو لم تنعقد بالأحوال الدالة عليها، لفسدت أكثر أحوال الناس. وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاملات في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه، ولم يجره العرف.
والقول الثالث: أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها، من قول أو فعل؛ فكل ما عده الناس بيعاً أو إجارة، فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال؛ انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر، لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.
فلا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيره، إذا كان ما يتعاقدون به دالاً على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات؛ وهذا هو الغالب على
أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد. فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر. وهذه القاعدة: من أن العقود تصح، بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها العامة؛ ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل: إن هذا القول يخالف الإجماع القديم، وهو من البدع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى ملخصاً. والمنصف لا يعدل عنه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا وقف إنسان قِدْرا أو رحى، هل ذلك وقف عام ينتفع به، كالمساجد والمقبرة؟
فأجاب: إن ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق، كان ذلك وقفاً عاماً ينتفع به، وإن قيد ذلك على شخص أو جهة، تقيد به.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أنه يصرف فيما يناسب ذلك، مثل أن يشترى به قِدْر ونحوه، من نظيره من الوجه المذكور. فإن كان ذلك وصية لا وقفاً، فيعمر منها الماعون، وما فضل
للورثة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن أوقاف في يد من لا يصرفها في مصارفها؟
فأجاب: والأسبال والأوقاف، يجب صرفها إلى أهلها؛ وإن كانت في يد من لا يصرفها أخذت منه، وصرفت إلى من يستحقها. والأرض المنذورة للمساجد، لعمارتها أو ضيوفها، أو المساكين فيها، فهي على وقفها ولا يغيرها الوارث، ويلزمه أن يؤديها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها، يصرفونها في مصارفها.
وسئل: عن وقف على مسجد لم يبين مصرفه؟
فأجاب: الوقف الذي على المسجد، ولا بين مصرفه، فإنه يصرف إلى إمامه ومؤذنه وعمارته وما ينوبه، ويجعل على الركية منه شيء.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما الذي وقف على المسجد بعض أملاكه، فإن عين الصائمين، أو الإمام أو المؤذن، تعين ما عينه الواقف من الجهات؛ فإن لم يعين جهة، فالوقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن، والقيم، وكذا عمارته كتطيين سطحه، وإبدال خشبة تنكسر فيه، ونحو ذلك.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، رحمه الله: عن ريع
عقار وقف، انتقل من طبقة إلى طبقة، أرضاً أو نخلاً من مزارعة، أو مساقاة أو أجرة، بعد ظهور الثمرة، ومتى تستحق الطبقة الثانية لذلك؟ وهل بين من كان يستحقها بوصف، أو مقابلة عمل فرق؟
فأجاب: الكلام في هذه المسألة كالكلام في الحمل، في أنه يتجدد حقه من الوقف بوضعه لا قبله، من ثمر وزرع، كتجدد حق المشتري؛ هذا هو المشهور في المذهب. ومن المعلوم أنه إذا بيعت أرض وفيها زرع كبر ونحوه، أنه للبائع ما لم يشترطه مشتر، وكذا إذا بيع نخل قد تشقق طلعه، أنه للبائع ما لم يشترطه المشتري. فهكذا حكم الحمل المستحق للوقف بعد وضعه; قال في المغني: ومن وقف على أولاده، أو أولاد غيره وفيهم حمل، لم يستحق شيئاً قبل انفصاله؛ قال أحمد في رواية جعفر بن محمد، فيمن وقف نخلاً على قوم وما توالدوا، ثم ولد مولود: فإن كانت النخل قد أبرت، فليس له فيها شيء، وهو للأول، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم.
وإنما قال ذلك، لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه، فيتبعه حصته من الثمر، كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل، فكانت للأول، لأن الأصل كان كله له فاستحق ثمرته، كما
لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود منها شيئاً كالمشتري; وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئاً، ويستحق مما ظهر بعد ولادته. وإن كان الوقف أرضاً فيها زرع يستحقه البائع، فهو للأول؛ وإن كان مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه، لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل، كتجدد ملك المشتري فيه. انتهى كلامه.
وهذا التعليل الذي علل به، ظاهر في أن حكم الطبقة الثانية حكم الحمل، وهو واضح - ولله الحمد -؛ قال في الإنصاف: تجدد حق الحمل بوضعه من ثمر وزرع، كمشتر؛ نقله المروذي، وجزم به في المغني والشرح والحارثي، وقال: ذكره الأصحاب في الأولاد، وقدمه في الفروع، ونقل جعفر: يستحق من زرع قبل بلوغه الحصاد، ومن نخل لم يُؤبَّر، فإن بلغ الزرع الحصاد، وأُبِّر النخل لم يستحق شيئاً - إلى أن قال - قال في الفروع: ويشبه الحمل إن قدم إلى ثغر موقوف عليه فيه، أو خرج منه إلى بلد موقوف عليه فيه، نقله يعقوب، قال: قياسه من نزل في مدرسة ونحوه.
قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة، كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عاماً، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة، من ريع الوقف في السنة،
لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهراً مثلاً، فيأخذ جميع مغل الوقف، ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة، فلا يستحق شيئاً، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. انتهى. قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله، وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ، وللورثة من المغل بقدر ما باشر مورثهم. انتهى.
قال في القواعد الفقهية: واعلم أن ما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه هاهنا، إنما هو إذا كان استحقاقه بصفة محضة، مثل كونه ولداً أو فقيراً ونحوه؛ أما إن كان استحقاقه الوقف عوضاً عن عمل، وكان المغل كالأجرة، فيقسط على جميع السنة، كالمقاسمة القائمة مقام الأجرة، حتى من مات في أثنائه استحق بقسطه، وإن لم يكن الزرع قد وجد؛ وبنحو ذلك أفتى الشيخ تقي الدين. انتهى.
فظهر من كلامهم: أن من كان استحقاقه بصفة، ككونه ولداً أو فقيراً، أو نحو ذلك، أن حكمه في استحقاقه من زرع الأرض الموقوفة، وثمر الشجر الموقوف حكم المشتري؛ هذا هو المعمول به في المذهب. وأما من كان استحقاقه في مقابلة عمل، ففيه الخلاف كما تقدم; فصاحب الفروع قاس هذه على المسألة التي قبلها، فقال: وقياسه من نزل في مدرسة ونحوه، وتبعه في الإقناع وغيره; وكلام الشيخ تقي الدين، وابن عبد القوي، وابن
رجب، بخلاف ذلك، والعمل به أولى إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان الوقف مؤجراً، فالذي ظهر لنا من كلامهم، أن الأجرة تقسط على جميع السنة. فمن مات من المستحقين في أثناء السنة، فله من الأجرة بقدر ما مضى من السنة، وهو صريح في كلام بعضهم، كما قال ابن رجب، رحمه الله، في أثناء كلام له، قال: لا نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثاني، ولم تنفسخ إجارته، أنهم يستحقون الأجرة من يوم الانتقال. انتهى.
فهذا على القول بأنها لا تنفسخ بموت المؤجر من الطبقة الأولى، وعلى القول الثاني، الذي هو الصحيح عند ابن رجب، وصححه الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف: أنها تنفسخ; فإن المنافع تنتقل للطبقة الثانية، فتكون الأجرة لهم من حين انتقل الوقف إليهم.
قال ابن رجب أيضاً، في أثناء كلام له: ومن أمثلة ذلك: الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأول، أو من آجروه، ثم انتقل إلى البطن الثاني والزرع قائم، فإن قيل الإجارة لا تنفسخ، وللبطن الثاني حصتهم من الأجرة، فالزرع مبقى لمالكه بالأجرة السابقة. وإن قيل بالانفساخ، وهو المذهب الصحيح، فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدة، إذا كان بقاؤه بغير تفريط من المستأجر، فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه؛ وقد نص عليه الإمام أحمد في
رواية مهنا، في مسألة الإجارة المنقضية، وأفتى به في الوقف الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن علي: عن ثمرة وقفت على إمام مسجد، ومات الإمام قبل ظهور الثمرة؟
فأجاب: ذكر ابن رجب، رحمه الله، في قواعده، أن الثمرة تقسط على جميع السنة، فيستحق كل منهما بقسطه; قال: وبه أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقال به ابن عبد القوي; وعند صاحب الفروع: أن حكمه حكم المشتري، في أن الثاني إن كان إماماً قبل ظهور الثمرة، ثم ظهرت في مدته، فهو يستحقها كلها; وإن كان بعد ظهورها فهي للأول دون الثاني، وتبعه في الإقناع وغيره; والعمل بالقول الأول أولى إن شاء الله تعالى، لأن القول الثاني يفضي إلى أنه قد يصلي إمام شهراً، وتخرج الثمرة في مدته، ثم يزول بعد ذلك، فيستحق مغل الوقف، ويصلي غيره سائر العام، ولا يستحق شيئاً من المغل، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن رجل وقف أضحية وقربة، هل يكتفي بجلد الأضحية؟
فأجاب: إذا شرط في غلة الوقف أضحية وقربة، فالذي أرى أنه يلزم شراء قربة، فلا يكتفي بجلد الأضحية.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على من يقوم مقامه؟
فأجاب: هو على ظاهره، إن كان مقامه علماً وتدريساً، أو مقامه أنه كهف لأرامل عشيرته، أو أنه في محل ضيف ومقصد، أو نحو ذلك، أو تعليم قرآن، أو غير ذلك من المقامات، مثل نزوله في بيت آبائه وأجداده لمن يقصده، وقيامه بمسألة مثلهم، أو نحو ذلك من المقامات المحمودة التي يجب أن يوجد بعده من يقوم مقامه فيها، والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجل وقف على ضيف قصراً فيه أولاده؟
فأجاب: هذا الوقف له سبب ومقتضى: فأما السبب فهو: إعانة ساكن القصر من ذرية الواقف على الضيف، والمقتضى: ورود الضيف. والسبب له ركنان: أحد ركنيه: تعيين المحل، والثاني: القرابة، فإذا تخلف أحد ركنيه وهو خلو المحل من الساكن، تعين الركن الثاني مع وجود المقتضى؛ فإذا كان الضيف يرد على بعض الأولاد دون بعض، تعين الصرف عليه دون من لا يرد عليه الضيف.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كتاب وقف في بلد؟
فأجاب: وأما إذا شرط واقف الكتب ونحوها، لا تخرج من بلد سماه، فلا أرى جواز نقلها من تلك البلد، ما دام في البلد من ينتفع بها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: من أحق بولاية الوقف؟
فأجاب: الأحق من أوصى إليه الواقف، وعينه ناظراً على الوقف، فإن لم يعين ناظراً، فإن كان الوقف على عدد محصور، كقرابته مثلاً، فكل إنسان ناظر على حصته. وإن كان الوقف على غير معين، كالوقف على المساجد ونحو ذلك، فالنظر في ذلك إلى الحاكم، ويستنيب في ذلك من هو أصلح، ولا يجعل نيابة الوقف بيد من لا يصلح للولاية؛ وليس لأحد منهم أن يفعل في الوقف ما يضر به، من أي أنواع الضرر.
وسئل: عن الوقف على المسجد، هل القيام والنظر وما يتعلق به على الإمام؟
فأجاب: هذه المسألة وجوابها يعلم مما تقدم، وذلك إذا عرفت أن ولايته إلى الحاكم: فإن كان الحاكم جعل ولايته إلى إمام المسجد فذلك إليه، وإن جعله الحاكم إلى غير الإمام فليس للإمام الاعتراض على نائب الحاكم، فإن فعل ما لا يجوز رفع أمره إلى الحاكم. ولا ينبغي للإمام ولا
غيره السكوت، إذا رأى من النائب خللاً وتضييعاً للوقف.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: من وقف وقفاً وجعل للناظر وضعه فيما يراه أنفع، والمراد فيما يراه أكثر ثواباً، هل يجوز للناظر أو يجب أو يستحب له صرف شيء من منافع الوقف، في قضاء دين الواقف بعد موته؟
فأجاب: لا يجب صرف شيء من غلة الوقف في قضاء دين الواقف، حياً كان أو ميتاً، بل لا يستحب، بل لا يجوز; قال الخرقي، رحمه الله: ولا يجوز أن يرجع إليه - أي الواقف - شيء من منافعه؛ قال في المغني - بعد ذكره كلام الخرقي -: وجملة ذلك: أن من وقف وقفاً صحيحاً، فقد صارت منافعه للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها، إلا أن يكون وقف شيئاً للمسلمين، فيدخل في جملتهم: مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو شيئاً يعم المسلمين فيكون كأحدهم، لا نعلم في هذا كله خلافاً. ثم قال الخرقي بعد كلامه: إلا أن يشترط الأكل منه، فيكون له ما شرط؛ وصحة هذا الشرط من مفردات المذهب، وأكثر العلماء يقولون بفساد الوقف المشروط فيه ذلك.
وقولهم: لا يجوز للواقف أن ينتفع بشيء منه، عام، وقضاء دين الميت بعد موته فيه نفع له، وأظنه لو كان حياً واستفتاكم، لم تجوزوا له ذلك؛ فما الفرق بين الحياة
والموت؟ وما الفرق بينه وبين الناظر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن عمار الوقف
…
إلخ؟
فأجاب: عمار الوقف مقدم على مستحقه، ويعمر من الغلة إلا إن كان لأهل البلد، عرف أنه يعمره الفلاح أو شيء سهل، والعادة أنه ما يخصه شيء من ذلك؛ فكذلك إذا صار لرجل نخلة أو نخلتان في نخل، وليستا بسبل، وقال: ما أؤجرهما ولا أسقيهما; وتذكر أنك سألت الشيخ، عفا الله عنه، وقال: ما يجبر مالكهما على إجارتهما ولا سقيهما؛ فهو على ما ذكر، رحمه الله، إلا إن فعل مالكهما مضرة، كدخوله على أهل النخل أو سقيهما وتردده لذلك، لأن هذا يعرف أن ذلك يضر بصاحب النخل الذي فالحه.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن بيت، وقف في رغبته شيء مقدر، وعمر فيه بعض الأولياء من الورثة، وكان ساكناً فيه، ثم نازعه بعض الورثة، هل يرجع بما أنفقه على الوقف؟
فأجاب: يرجع، لأنه في العادة لا ينفق إلا لأجل السكنى.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وإذا احتاج الملْك الذي فيه الصّبْرة إلى تحصيل ماء، أو إصلاح مسيل، أو سد حائط، أو غير ذلك مما يراد لحفظ الأصل، فهو على
المالك، ولا يبخس المستحق شيئاً لذلك، لأن ما كان لحفظ الأصل فمؤنته على المالك، وهذا الأصل مملوك، بدليل جواز بيعه، والشفعة بالشركة فيه إذا بيع منه شقص؛ وقد عرفت أن الوقف لا يجوز بيعه ولا يشفع بشركته. نعم لو كان الوقف نخلات معينة، أو موضعاً من أرض معيناً، خصه من مؤنة تحصيل الماء، وتصليح المسيل ونحوهما بقدر نسبته إلى العقار، لمصادفة الوقف عينه، وهذا الموقوف أصله.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله: عن أرض سبل بعض السنين ما تزرع، وبعض السنين تزرع، هل يجوز غرسها؟ ويجعل فيها قيمتها من العيش، كل سنة إجارة لها؟
فأجاب: يجوز له أن يغرسها، ويجعل فيها كل سنة شيئاً معلوماً من العيش، لأجل السبالة ما دام النخل راكداً فيها، ولو دون الشيء الذي قدره مسبلها الأول، على نظر الولي.
قال الشيخ إبراهيم بن عبيد: لما وقعت الفتنة، وسفكت الدماء، واستحلوا الأموال، حاذر زيد على وقف أبيه أن يؤخذ، أو يقطع نخله، فنظرنا المصلحة في بيع شقص من الوقف، يكافي عن الوقف من أخذ الكل، وأجزنا له ذلك لأجل المصلحة الراجحة، فباع ثمن الوقف، ودفع بالثمن عن الوقف المذكور.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قسمة الوقف؟
فأجاب: قسمة الوقف يعمل فيها بما هو أصلح للوقف: فإن كان الأصلح قسمته قسم، وإلا ترك بحاله؛ ولا يجوز تغيير الوقف عن حاله إلا لمصلحة. ولو أراد بعضهم القسمة من غير مصلحة منع من ذلك.
وسئل: عن أرض في غلتها آصع، وتعطلت، وطلب بعض الورثة قسمتها؟
فأجاب: أما الأرض التي جعل في غلتها آصع وهي متعطلة، وطلب أهلها قسمتها، فلا مانع من القسمة والحالة هذه؛ فإذا اتفقوا على القسمة قسمت بينهم، والسبالة قادمة في غلة الأرض المذكورة، فإن حصل في القسمة ضرر، وامتنع بعضهم لم يجبر، وكذا إن كان فيها ضرر على السبل.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الأرض يجعل فيها أصواع
…
إلخ؟
فأجاب: الأرض التي يجعل فيها أصواع معلومة، إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء؛ وكل سنة لها حكمها.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الوقف إذا كان
جزءاً مشاعاً معلوماً، كالربع أو الخمس مثلاً، جاز أن يقسم؛ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما إذا كان الوقف مقدماً في غلة هذا النخل، فلا يقسم إلا أن يكون قسم مهايأة غير لازم، كأن يكون لهؤلاء ما فضل بعد الوقف من غلة هذه السنة مثلاً، ويكون للآخرين ما فضل عن غلة السنة بعدها. ولو طلب أحد الشركاء المساقاة عليه أجيبوا، ويقسم ما فضل بعد الوقف على الورثة بحسب سهامهم.
وأجاب أيضاً: وما ذكرت من وصول الجواب، فالحمد لله على ذلك، وتذكر أن عدم الإجبار في المسألة ظاهر، وأما عدم جوازها بالتراضي فمشكل; فأقول: نص العلماء على المنع من قسمة مثل هذا، إذا كان الوقف شيئاً مقدراً من الغلة؛ ودليل المنع ظاهر في كلامهم، مما سأشير إليه بعد، إن شاء الله تعالى. وأما ما سنح لك من القول بالجواز فمشكل، حتى على قولك، لأن التراضي من جهة الوقف متعذر لكونه على الوجوه التي ذكرت، ولعدم أهلية ناظر الوقف. وأما قولك: إن العقار المذكور مقدم في غلته صبرة، وباقيه طلق، فهذا علة المنع من القسمة والبيع، لأن غلة الأصل قد تنقص فلا يبقى منها إلا بقدر المقدر للوقف أو دونه فسيستغرق الأصل.
وأما قولكم: فهي كالخراج في الأرض الخراجية، فأقول لا يقاس الوقف على أرض الخراج، وما علمت أحداً
من العلماء سبق له مثل هذا القياس، وهو أيضاً قياس مع الفارق؛ فإن الزكاة لا تجب في الوقف على غير معين، بخلاف الخراجية فإنه يجب فيها العشر والخراج، ففارقها بذلك; والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه لا ينقص الغلة، ولا يمنع من هي في يده استغلالها لقلة الخراج، وكل إمام عدل لا يضع على الأرض من الخراج إلا ما تطيقه، فلا يمنع أهلها من الاستغلال; فلذلك قال العلماء: إنه لا يزاد فيه ولا ينقص، إلا إذا تغير السبب؛ ففارقت مسألتنا من هاتين الجهتين أيضاً؛ فتأمل، فإن هذا الوقف لا يزاد ولا ينقص، ولو لم يبق من المغل إلا قدره.
وقولكم: كما منعوا بيع أرض العنوة لموقفها، أقول: هذا مما يؤيد المنع من البيع والقسمة في هذه الصورة، وإن كنا نرى أن سبب المنع غير هذا.
وأما قولكم: الثانية: أنهم قد صرحوا بجواز قسمة الوقف على جهة واحدة، على ما استظهر صاحب الفروع صحيح، لكن ذكر في الإنصاف عن القواعد ما يخالف ما في الفروع، فقال: وقال في القواعد، هل يجوز قسمته؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه كإفراز الطلق من الوقف، وهو المجزوم به في المحرر. والطريق الثاني: أنه لا يصح قسمته على الوجهين جميعاً على الأصح؛ وهي طريقة صاحب الترغيب. وعلى القول بالجواز، فهو مختص بما
إذا كان وقفاً على جهتين لا على جهة واحدة؛ صرح به الأصحاب، نقله الشيخ تقي الدين. انتهى.
إذا عرفت أن القول بالجواز، الذي هو خلاف الأصح في هذه الصورة بعينها، فأين هذه من مسألتنا؟ وهي لا يمكن فيها معرفة مقدار ما يخص هذه الغلة الموقوفة من أصلها التي عينت فيه، مع ما في ذلك أيضاً من الضرر الظاهر على الوقف، من تفريقه في أيدي أناس لا يمكن تمييز نصيبهم بدون مشاركة نصيب الوقف لهم. وقولكم: فليس هو كالوقف المحض الذي فيه كلام الشيخ، أقول: نعم ليس كهو، فإذا كان الشيخ قد منع من قسمة الوقف إذا كان جهة واحدة، مع إمكان إفراز نصيب كل واحد من العدد الموقوف عليهم المحصورين، مع ما في ذلك من مصلحة انتفاء ضرر المشاركة، فلأن يمنع من قسمة وقف لا يمكن معرفة ما يخصه من الأصل، لتطرق النقصان على الغلة غالباً، من باب أولى.
وقولكم: إن قسمته تقلل أيدي الملاك عليه، فلا يكونوا شركاء متشاكسين، أقول: تقليل الوقف وأتعاب ناظره بتكثير الطامع فيه. فقد ظهر من هذا الجواب بعض ما أخذ المانعون، فتأمله يظهر لك صحة مأخذهم، وحسن مداركهم. وأما ما ذكرته عن الإقناع، في قسمة المهايأة، فقد ذكرت في الجواب قبل هذا عبارة شيخ الإسلام، وقال
في الإنصاف: إذا اقتسما المنافع بالزمان والمكان صح، وكان ذلك جائزاً على الصحيح من المذهب، قدمه في المغني والشرح، والنظم والرعايتين، والحاوي الصغير والفروع وغيرهم; ثم قال عن الشيخ تقي الدين: لا تنفسخ حتى ينقضي الدور، ويستوفي كل واحد حقه. انتهى; وآثرنا الإيجاز والاختصار على التطويل والإكثار، وبالله التوفيق.
وأجاب أيضاً: وإذا كان قسم نخل المغارسة أصلح للوقف، قسم.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا اقتسموا وجعلوا للوقف قطعة تفي، ثم تعطلت، فالذي تقتضيه قواعد الفقهاء: أن الإفراز للوقف المذكور الموقوف لا يصح، لوجوب العمل بنص الواقف وتعيينه؛ وهذا تَحيّل على إبطال الوقف، أو تقليله بتحويله عن جميع الملك، إلى جزء يسير منه، يتلف بتلفه، ويضعف بضعفه; ومن المعلوم ضرورة، أن غرض الواقف جعله في غلة جميع الملك، وبقاؤه على الدوام، وعبارة الفقهاء طافحة بمنع التصرف في الوقف، ممن له الولاية عليه، بما لاحظَّ أو مصلحة للوقف فيه، أو بما يقلل الرغبة فيه، ولو مآلاً.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: وأما حصر الأضاحي المقدمة في جميع الملك، في جانب منه معين،
أو نخلات معينة، فلا ينبغي هذا، لأن المعين قد ينقطع نفعه وغيره باق.
قال الشيخ علي بن عيسى: هذا صحيح، وهو المفتى به عندنا.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: الذي أوصى في ثلث ماله بثلاث أضاحي، ثم أفرز له الورثة شقصاً قدر عشير الثلث، وهو وقت الإفراز يفي بالأضاحي، والآن لا يفي بواحدة، ثم طلب ولي الأضاحي إكمالها من ثلث مال الموصي، فهذا الإفراز ظلم من الورثة، لا يجوز للورثة حيازتها في بعض الثلث، لأن ظاهر لفظ الموصي تقديم الأضاحي، والخارج من الثلث بعدها، ولا يجوز العدول عن نصه.
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب: الدليل على بطلان أوقاف كثير من أهل الوقف على الذين يرثونهم، أمور كثيرة من الأصول والفروع، ويعرف ذلك بمعرفة الوقف المشروع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في أنواع الصدقة: أن يتصدق الإنسان ببعض ماله في الطرق التي أمر الله بها، مريداً بذلك وجه الله والدار الآخرة، ويجعلها صدقة جارية صح الأصل، مع الانتفاع
بالفرع، كما فعل عمر وطلحة وغيرهما.
فإذا عرفت أن الوقف بالإجماع ما قصد به القربة، فهنا قاعدة مجمع عليها، وهي: أنه لا يجوز لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشرع شيئاً من الواجبات، ولا من المستحبات، بل يكون ذلك العمل بدعة وضلالة يضر ولا ينفع؛ والدليل ليس على النافي، بل على المثبت، فإذا لم يرد دليل عن الشارع أن هذا الوقف مشروع، فالأصل مع النافي، وهو أنه لا دين إلا ما شرعه الله ورسوله.
يوضح هذا: أن العباس بن عتبة، أوصى بوصايا عند موته، فسأل الوالي القاسم بن محمد، فقال: انظر ما وافق الحق منها فأمضه، وما لا فرُدَّه، فإن عائشة حدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد "1. فإذا كان بعض مشاهير التابعين، يرد من وصاياه كل ما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما حدث بعد ذلك؟ كما لو لم نجد نصاً في المسألة.
وأما النصوص على بطلان هذا الوقف، فمن وجوه: منها ما ثبت أن رجلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق ستة أعبد عن دُبُر، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم، وجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال فيه قولاً شديداً; وفي رواية أنه قال:" لو حضرته، لم يدفن في مقابر المسلمين " 2؛ وفي هذا الحديث عبرة عظيمة، وذلك أن فعل
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/180، 6/240، 6/256) .
2 أبو داود: العتق (3958) .
هذا خير من أوقافهم بكثير، وأقرب إلى الحق.
ومثله من الأوقاف: أن يكون عند الرجل العقار، الذي لا مال له غيره، فيقفه على مسجد، ووجه بر لله تعالى، ويستثني غلته مدة حياته، وليس فيه من المخالفة إلا الزيادة على الثلث؛ وأوقافنا هذه يقف الرجل عقاراته التي هي غالب أمواله، أو لا مال له غيرها، ويستثني غلتها، ويزيد على فعل ذلك الرجل، بأن مقصده تعدي حدود الله، وعدم الرضى بها؛ فأين هذا من هذا؟ فلو قدرنا أن هذه الأوقاف كوقف طلحة، فهذا الحديث صريح: أنه لا يجوز للحاكم أن يجيز منها ما زاد على الثلث، فكيف وهي باطلة من وجوه كثيرة.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد: "أن بعض الصحابة طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فقال عمر: إني أظن الشيطان قذف في قلبك أنك تموت عن قريب، وأيم الله لتراجعهن، أو لأورثهن من مالك، ثم آمر بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال". فليتدبر المؤمن الخالي عن التعصب والهوى هذا الحديث، ويعرف الفرق بينه وبين مسألتنا.
ومعلوم: أن الطلاق حلال بالإجماع، لكن لما ظن عمر أن مراده حرمان النساء، وحجر المال على بنيه، قال فيه هذا القول الغليظ؛ فكيف يجعل هذا الأمر الذي من
فعله، أمر عمر برجمه كقبر أبي رغال أمراً مشروعاً، ويجوز الوقف فيه، ويثاب على حرمان النساء وغيرهن؟! ويتحيل بهذا بطلب الصدقة والقربة; وإنما هذه الأوقاف تشابه من قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [سورة التوبة آية: 49] تحيلاً على ترك الجهاد بالورع؛ وهؤلاء تحيلوا على تعدي الحدود بالوقف، ولا شك أن هذا من أنواع النفاق.
وأما كلام الأئمة: فقال في الشرح الكبير: إن الميموني سأل أحمد عن بعض مسائل الوقف، فقال: ما أعرف الوقف إلا ما ابتغي به وجه الله; وقال أيضاً: قال أحمد أحب إلي أن لا يقف ماله، ويدعه على فرائض الله؛ ومعلوم: أن توقيف المال لو كان صحيحاً عند أحمد على الورثة، لكان أحب إليه من تركه، لكونه قربة مطلوبة للشارع.
وأما كلام المتأخرين: فقال في الشرح أيضاً: إذا وقف ثلثه في مرضه على بعض ورثته، فروي عن أحمد عدم الجواز. والثانية: يجوز، واحتج بأن وقف عمر قال:"تليه حفصة ما عاشت، لا جناح على من وليه إن أكل". ثم رجح الشارح الرواية الأولى، قال: وأما خبر عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، وليس ذلك وقفاً عليها، فلا يكون ذلك وارداً في محل النّزاع.
إذا تبين هذا، فالذين يصححونه يحتجون بثلاث حجج:
إحداها: العمومات الدالة على الصلة، كقوله:" صدقتك على ذي الرحم: صدقة وصلة " 1، وقوله:"ثم أدناك أدناك" 2؛ وهذا من العجائب، وهو من جنس من أجاز الصلاة في أوقات النهي، والصيام في الأعياد، بالعمومات الدالة على فضيلة الصلاة والصيام؛ ولكن هذا شأن من أراد اتباع المتشابه، يترك النصوص الصريحة، ويستدل بما لا دليل فيه.
والذين يقولون: لا يجوز لأحد أن يشرع ما لم يشرع الله، ولا يجوز لأحد أن يغير حدود الله، يأمرون بصلة القريب، خصوصاً الأدنى، ولا تناقض بين ذلك، والذي أمر بالصلة والصدقة، هو الذي قال:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14]، وهو الذي قال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] ؛ فلا يجوز أن تضرب الأدلة بعضها ببعض، ويترك بعضها، بل كلها حق يصدق بعضها بعضاً.
الثانية: أن الصحابة وقفوا على أولادهم، ويحتجون بجواب الحميدي، وهذا عنه جوابان: أحدهما: أن المرسل الذي اختلف في العمل به، هو مرسل التابعين،
1 الترمذي: الزكاة (658)، والنسائي: الزكاة (2582)، وابن ماجة: الزكاة (1844) ، وأحمد (4/214)، والدارمي: الزكاة (1680) .
(2)
أحمد (2/226) .
وأما مراسيل المتأخرين، فأهل العلم مجمعون على أنه لا يثبت بها حكم. الجواب الثاني: أنهم ذكروا في جملتهم عمر والزبير، وهذا عمر وقفه معروف، وإنما جعل الولاية إلى حفصة، ومعلوم أن الإنسان إذا وقف على ابن السبيل والأيتام، وجعل ولِيَّهُ المصلح من ذريته، وله على عمله كذا وكذا، ليس مما نحن فيه.
وأما الزبير، فعبارة البخاري في صحيحه:"وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن"؛ ومثال ذلك: أن يقف على بر مثل مسجد، أو الفقراء أو الأضاحي، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فهو مقدم على ذلك، وليس هذا مما نحن فيه، ولعل وقف الصحابة كلهم على هذه الكيفية. وعلى كل حال: من ادعى خلاف ما قلناه، فعليه الدليل بالإسناد الثابت عنهم.
الثالثة: العبارات التي توجد في كلام بعض العلماء: وإن وقف على أولاده، أو قال كذا وكذا وأمثال ذلك، يستدلون به على صحة هذا الوقف؛ وليس في هذا كله ما يدل على ما ذهبوا إليه، وغاية ما يدل كلامهم عليه، أن الرجل إذا وقف بعض ماله يريد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد حرمان أحد، ولا تحريم بيعه عليهم خوف الفقر، بل مقصوده وجه الله، أنه يصح. وهذه المسألة مع كون فيها ما فيها، فليست مسألتنا، والذين قالوا هذه العبارات هم
الذين اشترطوا: أنه لا بد أن يكون على وجه بر. وذكروا أن الوقف على المباح باطل، وهم الذين ذكروا أن الحيل على الحرام لا تحل؛ فإذا جمع الإنسان كلامهم تبين له ما قلنا، ولو قدرنا أنهم أرادوا ذلك، فالواجب عند التنازع الرد إلى الله والرسول، وقد تقدم من نصوص الكتاب والسنة ما يشفي ويكفي.
وإذا كان الشارع قال: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1، فحجر عليه ذلك مع كونه لا يعده ديناً، فكيف إذا قصد التقريب بهذا المنهي عنه، وأقر على نفسه أن هذا مقصده. ومثل من منعه في الوصية وأجازه في الوقف، مثل من حرم نكاح الأخت إذا كان لمجرد الشهوة، ثم يقول: إن قصد بر أخته فهو نكاح صحيح، وعمل ينال به ثواب الأبرار؛ فعسى الله أن يوفقنا وإخواننا لما يحب ويرضى.
وقال أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه: هذه كلمات، جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة، وذلك: أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه، مثل الوقف على الأيتام، وصوام رمضان، والمساكين أو أبناء السبيل، فقال شريح القاضي وأهل الكوفة: لا يصح ذلك الوقف،
1 أبو داود: الوصايا (2870)، وابن ماجة: الوصايا (2713) .
حكاه عنهم الإمام أحمد; وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة. فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة، مثل قوله: صدقة جارية، ومثل وقف عمر، وأوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله، ليس فيها تغيير لحدود الله.
وأما مسألتنا فهي: إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفَرَّ من قسمة الله، وتمرد عن دين الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار، لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه - البدعة الملعونة - صدقة بر تقرب إلى الله، ويقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله، فهذه مسألتنا؛ فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من الأدلة.
فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر: تغيير شرع الله ودينه، والتحيل على ذلك بالتقرب إليه؛ وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة، أو امرأة ابن، أو نسل بنات، أو غير ذلك، أو يعطي من
حَرَمَه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف، وعوده طلقاً، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر.
ولكن من أوضحها دليل واحد، وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت تدعي أن هذا مما يحب الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده، وإيثاره على غيره، حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [سورة التغابن آية: 15] .
فإذا شرع الله لهم أن يقفوا أموالهم على أولادهم، ويزيدوا من شاؤوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أتراهم رغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عش؟ أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة ولم يعلموها، حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه!
فإن ادعى أحد: أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛ والدليل على هذا: أن هذا الذي تتبع الكتب وحرص على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره، ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبي هريرة الذي فيه:" صدقة جارية " 1، فهذا حق؛ وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غير حدود الله، وتقرب بما لم يشرعه الله، ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه.
وأما حديث عمر: أنه "تصدق بالأرض على الفقراء، والرقاب، والضيف، وذوي القربى، وأبناء السبيل"، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد، ليس له حجة إلا هذا الحديث، لأن عمر قال:"لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف"، وإن حفصة وليته، ثم وليه عبد الله ابن عمر؛ فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح، وذكرا أن أكل الولي ليس زيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا. يقول صاحب الضحية: لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من وجهين:
الأول: أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم
1 مسلم: الوصية (1631)، والترمذي: الأحكام (1376)، والنسائي: الوصايا (3651)، وأبو داود: الوصايا (2880) ، وأحمد (2/372)، والدارمي: المقدمة (559) .
يقفوا على ورثتهم، ولو كان خيراً لبادروا إليه؛ وهذا المصحح لم يصحح بقوله:"ثم أدناك أدناك "1. فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله لم يوقف عليهم؟ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظن أنه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله؟
الثاني: أن من احتج على صحة الوقف على أولاده وتفضيل البعض، لم يحتج إلا بقوله:"تليه حفصة، ثم ذو الرأي، وأنه يأكل بالمعروف"؛ وقد بينا معنى ذلك، وأنه لم يبر أحداً، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحابة إلا هذا، تبين لك أن قولهم: تصدق أبو بكر بداره على ولده، وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه: أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار، لأنهم من أبناء السبيل، كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها، وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يقف مسجداً ويصلي فيه.
وعبارة البخاري في صحيحه: "وتصدق أنس بدار، فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكن". فتأمل عبارة البخاري يتبين لك ما ذكر
1 أحمد (2/226) .
عن الصحابة، مثل من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في المسجد، ويقول: إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجنف والإثم؟ على أن هذه العبارة كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى؛ وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن احتج بها فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا معناه، ولله الحمد.
إذا تبين لك: أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث عمر. وقوله:"ليس على من وليه جناح"، وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به، تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة، على بطلان وقف الجنف والإثم.
وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجنف والإثم؟ وما مثله إلا كمن رأى رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه، فقال:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق: 9-10]، ويقول: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، أو يذكرون فضل الصلاة. وكذلك مسألتنا، إذا قلنا:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11]، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [سورة النساء آية:
12] .
أو قلنا: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " 1، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا:" اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " 2، وادعوا علينا: أن الصحابة وقفوا، هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة، حتى يحتج علينا بذلك؟!
وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق، ومراده: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة، ورد البدعة، واتبع القرآن. وأما قوله: إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل بالمعروف، وإن زيداً وعمراً سكنا داريهما التي وقفا، فيا سبحان الله! من أنكر هذا؟ وهذا كمن وقف مسجداً وصلى فيه وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته; وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعمل صحيح، كمن وقف داره على المسجد، أو أبناء السبيل، أو استثنى سكناه مدة حياته؛ وكل هذا يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم.
وأما قوله: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، وقوله:" صدقتك على رحمك: صدقة وصلة " 3، وقوله:" ثم أدناك أدناك " 4، وأشباه ذلك؛ فكل هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
1 أبو داود: الوصايا (2870)، وابن ماجة: الوصايا (2713) .
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587)، ومسلم: الهبات (1623) ، وأحمد (4/270) .
3 الترمذي: الزكاة (658)، والنسائي: الزكاة (2582)، وابن ماجة: الزكاة (1844) ، وأحمد (4/214)، والدارمي: الزكاة (1680) .
4 أحمد (2/226) .
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11] ، ووقف الإنسان على أولاده، ثم أخرج نسل الإناث، محتجاً بقوله:" ثم أدناك أدناك " 1، أو صلة الرحم، فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة، أو عمة فقيرة، فتزوجها يريد الصلة، واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي حدود الله، التي حد في سورة النساء قال:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14] ؛ فإذا قال: الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا مثل قوله: من تزوج خالته، إذا تزوجها لفقرها، ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق، فبينوه.
وأما قول عمر: "إن حدث بي حادث أن "ثمغى" صدقة"، هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط؛ وبعض العلماء يبطله، فاستدلوا به على صحته. وأما قوله: إن عمر وقفه على الورثة، فيا سبحان الله! كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه في "ثمغى" وغيرها، معروفة مشهورة; وأما قول عمر:"إلا سهمي الذي بخيبر، أردت أن أتصدق بها"، فهذا دليل على أهل الكوفة، كما قدمناه، فأي دليل في هذا على صحة هذا الوقف الملعون، الذي بطلانه أظهر من بطلان حيلة أصحاب السبت بكثير.
وأما "وقف حفصة الحلي على آل الخطاب"، فيا
1 أحمد (2/226) .
سبحان الله! هل وقفت على ورثتها؟ أو حرمت أحداً أعطاه الله، أو أعطت أحداً حرمه الله، أو استثنت غلة مدة حياتها؟ فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً، على الضعيف من آل مقرن، أو مثل ذلك، هل أنكرنا هذا؟ وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه؟ وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح، وليس مما نحن فيه، وإن كان مراد القائل: أنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه، فهذا كذب ظاهر، ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر.
وأما كون حفصة وقفت على أخ لها يهودي، فهو لا يرثها، ولا ننكر ذلك. وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة: أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة؛ ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية، وكل هذا ظاهر لا خفاء فيه؛ ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على الجهال، كما فعل غيره، فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه، وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام، فالخلف والخليفة على الله؟
وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، فيا لها من كلمة ما أجمعها! ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوقف وجه الله، لأجل من أفتاه بذلك، فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين الله ولو صحت نية فاعلها، فقال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي لفظ:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2؛ هذا نص الذي قال الله فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] .
فمن قبل ما آتاه الرسول وانتهى عما نهى، وأطاعه ليهتدي، واتبعه ليكون محبوباً عند الله، فليوقف كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة، وغيرهم من الصحابة وأهل العلم.
وأما هذا الوقف المحدث الملعون، المغير لحدود الله، فهذا الذي قال الله فيه بعدما حد المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/180، 6/240، 6/256) .
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 13-14] . وقد علمتم ما قال الرسول فيمن أعتق ستة العبيد، وما رد وأبطل من ذلك، فهو شبيه من أوقف ماله كله خالصاً لوجه الله، على مسجد أو صوام أو غير ذلك، فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف؟!
وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77] ، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن فعل الخير: اتباع ما شرع الله، وإبطال ما غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله؛ هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح، خصوصاً مع قوله صلى الله عليه وسلم:" وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة " 1، وقوله:" لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل "، وقوله:" لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها "2. فليتأمل اللبيب الخالي من التعصب والهوى، الذي يعرف أن وراءه جنة وناراً، الذي يعلم أن الله يطلع على خفيات الضمير، هذه النصوص، ويفهمها فهماً جيداً، ثم ينَزلها على مسألة وقف الجنف والإثم، ثم يتبين له الحق إن شاء الله.
وأجاب أيضاً: وأما المسائل التي ذكرت، فاعلم أولاً: أن الحق إذا لاح واتضح، لم يضره كثرة المخالف،
1 أبو داود: السنة (4607)، وابن ماجة: المقدمة (42)، والدارمي: المقدمة (95) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3460)، ومسلم: المساقاة (1582)، وابن ماجة: الأشربة (3383) ، وأحمد (1/25)، والدارمي: الأشربة (2104) .
ولا قلة الموافق، وقد عرفت بعض غربة التوحيد، الذي هو أوضح من الصلاة والصوم، ولم يضره ذلك. فإذا فهمت قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وتحققت أن هذا حتم على المؤمنين، فاعلم: أن مسألة الأوقاف، فيها النزاع معروف في كتب المختصرات; ذكر في شرح الإقناع في أول الوقف: أنهم اتفقوا على صحة الوقف على المساجد والقناطر، يعني نفعهما لا الوقف عليهما، واختلفوا فيما سوى ذلك.
إذا تبين لك، فاعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد " 1، وفي الصحيح:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 2، وتقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهذا، ولو أمر به لكان الصحابة أسبق الناس إليه وأحرصهم عليه، وتقطع أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسد الذرائع، وهو من أعظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله، هذا على تقدير أن العالم المنسوب إليه هذا، يصحح مثل أوقافنا، وأنى ذلك، وحاشا وكلا، بل يبطل الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمر مباح، ويقول: لا بد منه على أمر قربة.
وأما كونه جعل ماله بعد الورثة على بر هذا لم يرد
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/180، 6/240، 6/256) .
إلا بعد انقراضهم، وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا، ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثاني; وذكر بطلان مثل هذا، في الشرح الكبير، وغيره.
وأما وقف المرأة على ولدها، وليس لها زوج، فكذلك تعرف: أن الوقف على الورثة ليس من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو شرعه لكان أصحابه أسرع الناس إليه، سواء شرط على قسم الله أم لا؛ وهذا في الحقيقة يريد أمرين: الأول: تحريم ما أحل الله لهم، من بيعه وهديته والتصرف فيه. والثاني: يحرم زوجات الذكور وأزواج الإناث، فيشابه مشابهة جيدة ما ذكره الله عن المشركين في سورة الأنعام؛ ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به كاف في فساده، صلحت نية صاحبه أم فسدت. وأما إذا لم يعلم هل هذا على من يرث أم لا، ولكن الاستفاضة أنه على من يرث، فأنا لا أدري عن هذه المسألة؛ لكن أرى التوقف عنها، ولا ينْزع عن يد من يأكله إلا ببينة.
وأما مسألة آل جمعة، فهي باطلة، لكونها وقفاً على الورثة، وأيضاً يحرم بعضهم، وأيضاً لم يشرع.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: وأما الذي وقف على ذريته الذكور، والأنثى حياة عينها، فهذا وقف الإثم والجنف، لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات ما جعل الله لهم في العاقبة، وهذا
الوقف على هذه الجهة بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ وغايته: تغيير فرائض الله بحيلة الوقف; وقد صنف فيها شيخنا، رحمه الله تعالى، وأبطل شبه المعارضين، ولا يجيزه إلا مرتاب في هذه الدعوة الإسلامية، وقصده مخالفة إمام المسلمين، أو جاهل لا يعرف السنة من البدعة، والهدى من الضلال، جاهل بأصول الشرع ومقاصد الشريعة؛ نعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم.
وأجاب ابنه: الشيخ عبد اللطيف: الذي أوصى فيما خلف بثلاث حجج، وثلاث أضاحي، وباقي ثلث ماله وقفاً على عياله، وعلى عيال عياله ما تناسلوا، ويخص الضعيف، فإن استووا فهم فيه بالسوية على حسب الميراث
…
إلخ; ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا وصية لوارث " 1، فما أوصى به الميت لورثته من الوقف باطل، وإنما يثبت ما فيها من الوصية بالحجج والأضاحي، والباقي ميراث على ما بينه الله في كتابه.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن أوصى بأن يجعل الثلث من ماله يشتري به ملكاً في الأحساء، ويجعل على الذرية بموجب الشرع، ولم يعين فيه أعمال بر، فهل يكون على ذرية الموصي ذكورهم، وإناثهم بالسوية؟ أو يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؟ وإن مات أحد من الذكور، أو الإناث، فهل أولاده ينَزلون منْزلته في
1 الترمذي: الوصايا (2121)، والنسائي: الوصايا (3641، 3643)، وابن ماجة: الوصايا (2712) ، وأحمد (4/187)، والدارمي: الوصايا (3260) .
الموصى به؟ وهل أولاد الموجودين الأحياء، يشاركون آباءهم في الموصى به؟
فأجاب: الوقف المذكور على هذه الصفة وقف باطل، كما هو الصحيح عند محققي الحنابلة وغيرهم، إلا إذا اتفقت الورثة، وكانوا كلهم مرشدين، على جعل شيء منه في عمل بر وقربة، صح ذلك، وما فضل من الريع حكمه حكم الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن مات أحد من الورثة الذكور أو الإناث، فنصيبه لورثته، ينَزلون منْزلته، وكذلك الزوجة لها ميراث في الثلث، هذا هو العدل والشرع.
وأجاب أيضاً: الذي وقف الثلث، ثم وقف بقية ملكه على أولاده، على حسب الميراث، وقفه باطل، لأنه مضاد لقسم الله في المواريث، فالذي يطلب تصحيح هذا، مبتلى بالهوى ومعارضة الشرع.
سئل الشيخ حسن بن الشيخ حسين بن علي، رحمهم الله: عن الوقف على أعمال البر، وفاضله على الذرية؟
فأجاب: الوقف على الذرية لا يجوز، سواء كان كله أو فاضلاً، وللشيخ والدنا رحمه الله رسالة في هذا الوقف مبطلاً له، سماها: إبطال وقف الجنف والإثم، فتأملها يزل عنك إن شاء الله الإشكال. فيقسم فاضل هذا الوقف على
ورثة الواقف، وورثتهم من بعدهم: فيكون لهذه البنت نصف أمها، وباقيه على عصبة أمها. هذا الذي ندين الله به، ولا نتوقف لأجل كلام الأصحاب، والحق ضالة المؤمن.
وسئل أيضاً: إذا وقف على عياله، هل يدخل أولاد البنت والبنات، قبل أن ينقرض البطن الأول؟
فأجاب: هذا الوقف هو وقف الجنف والإثم والميل، كما قرره الشيخ محمد، رحمه الله، في رسالته المعروفة، وأقام الأدلة القاطعة على ذلك، فراجعها، وأبطل هذا الوقف، وهو الحق الذي لا شك فيه؛ وعلى قول المتأخرين: لا يدخل ولد البنت والبنات إلا بعد انقراض البطن الأول، وقد أخرجوا ولد البنات من الأولاد؛ فلا تلتفت إلى ما قرروه، وعليك بإبطاله.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: أما حرمان أولاد البنات، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أفتى بفساد هذا الوقف، وأدلة فساده ظاهرة - ولله الحمد - أنها على غير ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وسئل أيضاً: إذا وقف رجل وقفاً، وجعل الفاضل على ذريته، هل يدخل فيه الزوجة وغيرها من الورثة؟ وذرية الولد الذي مات أبوه وهو حي؟
فأجاب: هذا الوقف غير صحيح، على الصحيح، كما هو معروف من كلام الشيخ محمد رحمه الله، وغيره من أهل التحقيق، لأن هذا في حكم الوصية للذرية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "1. وأما على قول من صححه، فلا يدخل فيه أحد من الورثة غير الذرية، وأما ذرية الولد فيستحقونه بعد آبائهم مرتباً بطناً بعد بطن، ولا فرق بين من مات أبوه قبل أو بعد.
وسئل: عن لفظ القريب والأقرب.
فأجاب: أما لفظ القريب والأقرب فبينهما فرق، وهو أن القريب يعم الأقارب كلها، والأقرب يخص من كان إلى الميت أقرب من غيره من القرابة.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن وقف نخلاً على جهة من جهات البر أو على أناس معينين، واشترط أن ذريته أولى به إن احتاجوا إليه؟
فأجاب: هذا صحيح عند العلماء، ولا نعلم أحداً منعه، ومما يدل على ذلك وقف الزبير الذي اشترط فيه السكنى للمردودة من بناته.
وأما من وقف على عياله، فهذا إذا لم يكن له ورثة غيرهم، فالظاهر الجواز، ولا نعلم علة توجب المنع، وإن
1 الترمذي: الوصايا (2121)، والنسائي: الوصايا (3641)، وابن ماجة: الوصايا (2712) ، وأحمد (4/187)، والدارمي: الوصايا (3260) .
كان له ورثة غيرهم وقف على الإجازة.
وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده.
وسئل أيضاً: عن وقف صورته: وقف زيد ملكه المسمى بكذا، المعروف في البلد الفلاني، على أخيه عمرو، ثم على ذريته من بعده؟
فأجاب: هذا الوقف المذكور صحيح لازم من رأس المال، لا يحسب من الثلث، لكونه منجزاً في الصحة. وقلنا: إنه وقف منجز، لإقراره بذلك إقراراً مطلقاً، غير معلق بموته؛ فبذلك صار وقفا منجزا.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟
فأجاب: يدخل فيه أولاده حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف، فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف: أما الوقف على الضعيف، فكثير من الناس يستعمل الضعيف بمعنى الفقير،
والفقير عندهم من لا يجد كفاية، ولو بالقدرة على الكسب؛ والفقراء متفاوتون بعضهم أحوج من بعض، فيلزم الناظر أن يعطي كلاً بحسبه.
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن حسن: أما الذي وقف على الضعفاء من ذريته وأقاربه، يدخل فيه الضعيف من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه وإن نزلوا، الأقرب فالأقرب; فإن لم يكن فيهم ضعيف، فالظاهر أن حكمه حكم المنقطع، يكون على أقرب ورثة الواقف نسباً حينئذ وقفاً عليهم ولو أغنياء.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن وقف على أولاده
…
إلخ؟
فأجاب: الذي تقرر في وقف الذي وقف على أولاده، للذكر مثل حظ الأنثيين، على أن من مات عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد رجع نصيبه إلى أهل الوقف. إنه لما مات ابن الابن عن غير ولد، رجع نصيبه لابن الموصي وبناته الأربع، فلما مات الابن صار نصيبه لابنه وابنته، للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات اثنتان من بنات الموصي عن أختيهما وابن أخيهما وأخته، للذكر مثل حظ الأنثيين. فصحت المسألة من تسعين: للأختين اثنان وأربعون، ولابن الابن اثنان وثلاثون، ولأخته ستة عشر. ثم مات ابن
الابن عن أخته وعمته، فصار لابنة الابن ثلث الوقف إلا تسعه، ولعمتيها ثلثاه وتسع الثلث. هذا ما تحقق في هذه المسألة، وليس فيها انقطاع لا في الوسط ولا في الانتهاء، خلافاً لمن توهم ذلك.
قال في الشرح الكبير: فإن قال: وقفت على أولادي، ثم على أولاد أولادي، على أن من مات من أولادي عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين، فمات أحدهم عن ابنين، انتقل نصيبه إليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد، فنصيبه لأخيه وابن أخيه بالسوية، لأنهم أهل الوقف.
صورة وقف أفتى فيه الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أوقف رجل نصيبه في العقار المسمى
…
على أولاد أخيه بطناً بعد بطن، للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس للبنت إلا حياتها.
فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: الصورة التي أبطلها الشيخ محمد، رحمه الله، هي: ما إذا وقف شخص على ورثته، واشترط فيه ما لا يحل من حرمان أولاد البنات، فأما هذا فليس فيه حرمان وارث يمنع صحته، والله أعلم.
سئل ابنه: الشيخ عبد اللطيف: عمن وقف على ابني ولده زيد، وهما: عمرو، وبكر، وما تناسلوا بطناً بعد بطن، ومن بعدهم على عيال ولده خالد وما تناسلوا؟
فأجاب: مقتضاه أن عيال خالد، وعيالهم، في الوقف سواء، من غير ترتيب، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وسئل: عمن أوصى بثلث ماله، وقفاً على أولاده ما تعاقبوا وتناسلوا، والوقف المذكور على أولاده لصلبه، وأوصى بأن ابن ابنه داخل في وقف الثلث، له ما لأبيه؟
فأجاب: هذه الوصية صحيحة، يشترك فيها أولاد الموصى لصلبه ذكرهم وأنثاهم، وما ذكر لابن ابنه صحيح، ينَزل منْزلة أبيه وأعمامه، ويقاسمهم حصته كما ذكره الموصى، ولا يحجب الأعلى منهم من دونه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عن رجل بيده وقف منصوص، وموقوف على يده وذريته، بطناً بعد بطن، واستولى ابنه عليه بعده، وخلف ثلاث بنات
…
إلخ؟
فأجاب: ظاهر السؤال أن الذي بيده الوقف ليس وكيلاً، بل موقفاً عليه وذريته، بمعنى: أن غلة الوقف له ولذريته، وإن أوهم قول السائل على يده الوكالة؛ إذا ثبت هذا، فالموقوف عليه إن كان من ورثة الواقف، كولده
ونحوهم فهو باطل، وهو وقف الجنف والإثم، الذي ألف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في إبطاله رسالتين أو أكثر، وذكر على ذلك من الأدلة ما فيه كفاية; وأما الأصحاب فيجيزون مثل هذا الوقف.
وأما إن كان الموقوف عليه ليس من ورثة الواقف، فهو صحيح، ويكون الوقف بين ثلاث البنات المذكورات بالسوية، ومن مات منهن رجع نصيبها لبقية أخواتها؛ فإذا لم يبق من الثلاث أحد، صار الوقف لأولاد الثلاث بالسوية: الذكر والأنثى سواء؛ فإذا لم يبق منهم أحد، انتقل للدرجة التي بعدهم على التفصيل السابق، وهكذا كما هو نص الواقف بقوله: بطناً بعد بطن.
ودخول أولاد البنات هو على رواية عن أحمد، اختارها جمع، منهم صاحب الشرح الكبير، وهي المفتى بها عندنا لقوة دليلها. والرواية الأخرى: لا يدخلون، وهي المذهب، واختارها أكثر الأصحاب؛ فعليها يكون الوقف بعد انقراض البنات الثلاث، حكمه حكم منقطع الآخر، والمذهب: أنه لورثة الواقف نسباً وقفاً عليهم، وفيه خلاف.
وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: عن قول الواقف: هذا وقف على أولادي، ثم على أولادهم، هل هذا ترتيب جملة على مثلها؟ أم ترتيب أفراد؟ وإذا قال: من
مات عن ولد فنصيبه لولده، هل هذا قرينة في دخول أولاد البنات أم لا؟ وما معنى ترتيب الجملة؟ وترتيب الأفراد؟ أفيدونا مأجورين.
فأجاب: إذا قال: هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الجملة على مثلها، ومعناه: أنه إذا مات واحد من الأولاد الموقوف عليهم وله أولاد، لم يستحق أولاده شيئاً، بل يرجع نصيبه إلى من في درجته، وليس للبطن الثاني شيء ما دام موجوداً من البطن الأول أحد؛ هذا هو معنى ترتيب الجملة على مثلها.
وقد ذهب جماعة من محققي أصحابنا إلى أن هذا من باب ترتيب الأفراد على مثله، منهم الشيخ تقي الدين، والعلامة ابن مفلح صاحب الفروع، وابن قاضي الجبل؛ وقال ابن أبي المجد: هو قوي في المعنى. وقال ابن اللحام - جامع الاختيارات -: هو أظهر. ومعنى هذا الذي ذهب إليه هؤلاء المحققون: أنه من باب ترتيب الأفراد على مثلها: إذا مات واحد من المذكورين في السؤال، انتقل نصيبه إلى أولاده، لا إلى من في درجته، والله أعلم.
وأما إذا قال الموقف: من مات عن ولد فنصيبه لولده، فقد حكى غير واحد من الأصحاب: الإجماع في دخول أولاد البنات والحالة هذه، والله أعلم. وأما معنى:
ترتيب الجملة على مثلها، وترتيب الأفراد، فقد ظهر لك معناهما مما تقدم، والله أعلم.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن رجل وقف على المستضعف من ذريته، والموجود له ابن هو الآن غني وولد ابن، وأولاد بنت، ولابن الموقف الغني أولاد بنت، يريد أن ينْزلوا منْزلته؟
فأجاب: الكلام في المسألة في مقامات: الأول: صحة مثل هذا الوقف أو عدمها. الثاني: من يدخل في هذا الوقف ومن لا يدخل. الثالث: كون استحقاقهم على الترتيب أو الاشتراك. الرابع: التفضيل بين الذكر والأنثى وعدمه.
فأما المقام الأول: فإنه لا ريب في صحة مثل هذا الوقف، وكلام العلماء في ذلك معروف، وقد استدل عليه بوقف الزبير رضي الله عنه حيث جعل للمردودة السكنى.
وأما المقام الثاني: فإنه يدخل في هذا الوقف: المستضعف من أولاد بنيه وإن نزلوا بلا نزاع، كما في الإنصاف.
وأما أولاد البنات، فالمذهب أنهم لا يدخلون، وعن الإمام أحمد رواية أنهم يدخلون. قال في الإقناع وشرحه: وإن وقف إنسان على عقبه، أو عقب غيره أو نسله، أو ولد
ولده أو ذريته، دخل فيه - أي الوقف - ولد البنين وإن نزلوا، لتناول اللفظ لهم، ولا يدخل فيه ولد البنات بغير قرينة، لأنهم لا ينتسبون إليه كما تقدم; وعنه: يدخلون، قدمها في المحرر والرعاية، واختارها أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، وأولادهن أولاده حقيقة، لقوله:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} إلى قوله: {وَعِيسَى} [سورة الأنعام آية: 84-85] وهو ولد بنته، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن ابني هذا سيد " 1 يعني: الحسن، الحديث رواه البخاري; قال في الشرح: والقول بدخولهم أصح وأقوى دليلاً. انتهى من الإقناع وشرحه.
قال في الإنصاف: ونقل عنه في الوصية: يدخلون، وذهب إليه بعض أصحابنا، وهذا مثله. قلت: بل هي هنا رواية منصوصة من رواية حرب; قال في القواعد: ومال إليه صاحب المغني، وهي طريقة ابن أبي موسى والشيرازي; قال الشارح: القول بأنهم يدخلون أصح وأقوى دليلاً، وصححه الناظم، واختاره أبو الخطاب في الهداية في الوصية، وصاحب الفائق، وجزم به في منتخب الآدمي، وقدمه في المحرر والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم، واختاره ابن عبدوس في تذكرته. انتهى كلام صاحب الإنصاف.
وهذا هو المفتى به، وأفتى به الشيخ حمد بن
1 البخاري: الصلح (2704)، والترمذي: المناقب (3773)، والنسائي: الجمعة (1410)، وأبو داود: السنة (4662) ، وأحمد (5/37، 5/44، 5/47، 5/49، 5/51) .
عبد العزيز، وقال في فتواه: وهذا اختيار ابن القيم، رحمه الله، وأفتى به شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن. ويأتي في المقام الثالث بعض النقول، التي تزيد هذا إيضاحاً، إن شاء الله تعالى.
وأما المقام الثالث: فإن استحقاقهم يكون على الترتيب بطناً بعد بطن؛ هذا هو الذي يدل عليه كلام الأصحاب، فإنهم صرحوا بذلك فيما إذا وقف على أولاده. قال ابن ذهلان: وإذا قال: هذا وقف على الضعيف من أولادي، أو أولاد زيد، فللبطن الأعلى فالأعلى، والذكر كالأنثى، أي كل ضعيف منهم. انتهى.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن رجل وقف على الضعفاء من عياله وأقاربه؟
فأجاب: يدخل فيه أولاده، حتى ولد البنات، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن فيهم ضعيف فحكمه حكم المنقطع، يصير على أقرب ورثته بالنسب حينئذ وقفاً عليهم، ولو كانوا أغنياء. انتهى، وبمثل ذلك أفتى الشيخ عبد العزيز بن حسن حرفاً بحرف، إلا أنه زاد: الذكر والأنثى سواء.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين - في أثناء جواب له -: وأما من وقف على المحتاج من ذريته، فلا أرى به بأساً، وكلام العلماء ظاهر في جوازه؛ فعلى هذا لو استغنى أولاده
لصلبه، وفي أولادهم من هو محتاج، صرف إلى ولد ولده. انتهى. وأفتى بذلك الشيخ حسن بن حسين بن علي في مسألتين، وكلامه موجود عندنا، لولا خشية الإطالة لنقلته لك.
فقد عرفت من هذا: أن أولاد بنت ابن الواقف لا يشاركون أولاد أولاد الواقف، لكونهم أعلى منهم درجة.
وأما المقام الرابع: فكلام الأصحاب ظاهر في أن الذكر والأنثى سواء، إذا وقف على أولاده؛ قال في المغني والشرح والإنصاف: بغير خلاف نعلمه؛ فتحصل مما تقدم: أنه متى وجد مستضعف من البطن الأول، فلا شيء للمستضعف من البطن الثاني، وهكذا، وأن أولاد البنات يدخلون على الراجح.
وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عن معينات وقف بالأحساء؟
فأجاب: أما الأضاحي فهي وقف مطلق، والمفتى به عندنا أنها تصرف إلى ورثة الواقف نسباً، سواء كانوا أغنياء أو فقراء; وأما المنصوص عليه للفقراء والمساكين، وأهل الحاجة، فالذي أرى: أن أقارب الواقف الفقراء الموجودين في المجمعة أولى بذلك، لأنه قد قام بهم وصفان: القرابة والفقر، والواقف قد أطلق ولم يقيد صرفه بمحل، فتعين صرفه إلى أقاربه الفقراء، لترجح جانبهم بالقرابة.
قال أبو العباس ابن تيمية: إذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة. اهـ.
وقال في الإقناع وشرحه: ويصرف منقطع الآخر، كما لو وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مالاً، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز.
وكذا ما وقفه وسكت، إن قلنا: يصح الوقف حينئذ، فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسباً، لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، لقوله عليه السلام:" إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " 1، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، فكذا صدقاته المنقولة، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف صحيح صح وصرف إليه؛ وعرف المصرف هنا، أولى الجهات به، فكأنه عينهم لصرفه. انتهى ملخصاً.
يؤيد ذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن أبا طلحة لما تصدق ببيرحاء، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها حيث شاء، جعلها صلى الله عليه وسلم في أقارب أبي طلحة " 2، فهذه صدقة مطلقة، وقد صرفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقارب المتصدق; وقد أجبنا في مسألة تشبه هذا.
وكتب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على جوابنا ما أجاب به الأخ عبد الله العنقري، وفقه الله، من أن أقارب الواقف الفقراء أحق بالوقف من غيرهم هو الصواب؛ فليعلم
1 البخاري: الوصايا (2742)، ومسلم: الوصية (1628)، والترمذي: الوصايا (2116)، والنسائي: الوصايا (3627)، وأبو داود: الوصايا (2864) ، وأحمد (1/176)، ومالك: الأقضية (1495)، والدارمي: الوصايا (3196) .
2 البخاري: الزكاة (1461)، ومسلم: الزكاة (998)، والترمذي: تفسير القرآن (2997)، والنسائي: الأحباس (3602)، وأبو داود: الزكاة (1689) ، وأحمد (3/141)، ومالك: الجامع (1875)، والدارمي: الزكاة (1655) .
ذلك، والله أعلم بالصواب.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا قال: على أولادي أو على ذريتي
…
إلخ؟
فأجاب: يختلف: أما إذا قال: على أولادي، فما دام باق من أولاده أحد ذكر أو أنثى، استحق جميع الوقف، فإذا انقرض البطن الأول صار لولدهم؛ وفي دخول أولاد البنات خلاف مشهور. وكذا إذا قال: على أولادي كل على قدر ميراثه، فلا يستحق البطن الثاني شيئاً حتى ينقرض البطن الأول. وأما الوقف على الذرية، فيتناول جميعهم: قريبهم وبعيدهم، ذكورهم وإناثهم سواء؛ وفي دخول أولاد البنات أيضاً، الخلاف المشهور.
وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز: الراجح أن أولاد البنات يدخلون في الذرية، وعليه الدليل من الكتاب والسنة، لأن الله ذكر عيسى في جملة ذرية إبراهيم، وهو ابن ابنته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن:" إن ابني هذا سيد " 1 وهو ابن ابنته فاطمة. وقول المتأخرين من الحنابلة: إن أولاد البنات لا يدخلون في الذرية والأولاد، قول ضعيف مخالف للدليل، وليس معهم إلا قول الشاعر 2 وهو دليل
1 البخاري: الصلح (2704)، والترمذي: المناقب (3773)، والنسائي: الجمعة (1410)، وأبو داود: السنة (4662) ، وأحمد (5/37، 5/44، 5/47، 5/49، 5/51) .
2 هو قوله:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
…
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ساقط لا يعارض به الكتاب والسنة. وهذا قول شيخ الإسلام، وقدماء الأصحاب، وهو الذي يفتى به شيخنا عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى.
حكم الشيخ عبد الله بن دهيش في وقف نصه على أولاده، ثم من بعدهم أولادهم وأولاد أولادهم، ما تناسلوا بطناً بعد بطن، والآخر أوصى بعقاره على ابنه وابنته، ثم بعدهما على أولادهما، وأولاد أولادهما بطناً بعد بطن: أن تكون غلة الأوقاف بين ابن بنت بنت الموقف، وابن ابن بنته، وابنة ابن ابنته، وابنة ابن ابنه، بينهم أرباعاً، دون البطن الرابع. وفي وقف نصه على ابن له، ولم يذكر له مالاً، فصار منقطع الآخر، ولم يكن له سوى بنت ابنه، وابنة ابن ابنه: بينهم أرباعاً فرضاً ورداً، كما هو المقرر في المذهب، ودفعه إلى الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف يسأله عن صحته؟
فأجاب: ما حكمت به في الأوقاف الثلاثة، من اشتراكهم دون غيرهم، وفي الوقف الرابع من أن حكمه حكم منقطع الآخر، وقسمته من أربعة فرضاً ورداً، هو الصواب، والله أعلم.
سأل الشيخ عبد الله العنقري، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عن دخول أولاد البنات في الوقف على
الأولاد، إذا كان مطلقاً بلا نص، ولا قرينة؟
فأجاب: أنت فاهم مسائل الخلاف؛ ومسألة دخول أولاد البنات في عموم الأولاد في الدخول في الوقف من غير قرينة، مسألة خلافية، في مذهب أحمد، رحمه الله: وبعض الأصحاب من المتأخرين يرون المنع مع عدم القرينة، وبعض الأصحاب من المتقدمين، وهو الذي اختاره في الشرح الكبير - لما ذكر الخلاف - دخول أولاد البنات ولو مع الإطلاق. فإذا عرفت هذا، فالأمر الذي قد سبقك من مفاتي نجد، لا تلتفت إليه، ولا يسوغ معارضته، والأمر الجديد الذي يرجع إليك عند أول حدوثه، قوة الدليل: ما ذهب إليه صاحب الشرح، والمفتى به قريب من الصواب، والله أعلم.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن بيع نخلة وقف تعطلت
…
الخ؟
فأجاب: أما بيع ذلك لما ذكر فلا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث "1. وقد تنازع العلماء في جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه: فأجازه أحمد وغيره، ومنعه الشافعي وغيره.
1 البخاري: الشروط (2737)، ومسلم: الوصية (1633)، والترمذي: الأحكام (1375)، وأبو داود: الوصايا (2878) ، وأحمد (2/55) .
والبيت الذي للغرباء، فالذي أرى: - إذا لم يمكن إصلاحه على نحو حالته الأولى - أنه يباع ويجعل في شيء يختص به الغرباء.
وسئل الشيخ محمد بن محمود: عن وقف خرب وتعطل نفعه
…
إلخ؟
فأجاب: إذا بلغ الحد المذكور الذي هو قريب تعطل المنفعة، جاز بيعه وصرف ثمنه في مغل يصرف في مستحق الوقف المذكور.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن إبدال الوقف
…
إلخ؟
فأجاب: إذا أبدل صاحب الملك صاحب الوقف، فإن كان ذلك لمصلحة الوقف، بحيث يكون بالياً، أو كثير الخراب، وأراد إبداله بعامر، فهذا يجوز على القول الراجح؛ وهو القول بجواز المناقلة بالوقف للمصلحة، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين، وابن القيم، رحمهما الله، بشرط أن يكون ذلك صادراً ممن له ولاية على الوقف، من جهة الواقف، أو من جهة الحاكم.
وأما على كلام الحنابلة، وكثير من الفقهاء: فلا يجوز إلا أن تتعطل منافع الوقف، وحينئذ فمتى صدر المناقلة على غير الوجه المأذون فيه، فالوقف بحاله، لا تتغير
وقفيته، ولا يملك بالمبادلة.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: النخل الوقف الذي تعطل سنتين مثلاً، ولا وجد من يعمره، وخيف هلاكه، ووجد أرض طيبة هل ينقل فيها؟
فأجاب: ينقل في الأرض الطيبة، لأنها أصلح للوقف من النخل المذكور.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن أوصى بثلث ماله من عقار، ودار، وأثاث، جعل الوصية في قطع متعددة، والمصلحة تقتضي بجعلها في عقار متحد؟ فإن كان تعلمون أن لفظ الموصي يجعل القطع المذكورة وقفاً لازماً لا يجوز العدول عنه، فتبقى على وقفيتها، وإن رأيتم جواز جمعها في العقار الذي يكون أصلح للوقف وللموقوف عليهم، فبينوا لنا ذلك جزيتم عنا وعن المسلمين خيراً؟
فأجاب: الذي يظهر لي: جواز جعلها في عقار متحد، لأن ذلك مصلحة ظاهرة للوقف وللورثة؛ وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: أنه يجوز مخالفة نص الواقف إلى ما هو أنفع وأحب إلى الله. وقد ذكر الحافظ ابن رجب، رحمه الله، في شرح الأربعين، في الكلام على حديث عائشة، رضي الله عنها:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد "1.
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/180، 6/240، 6/256) .
قال: وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد، لما سئل عن رجل له مساكن، فأوصى بثلث ثلاث مساكن، هل يجمع له في مسكن واحد؟ حدثتني عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " 1"، خرجه مسلم؛ ومراده: أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله وأنفع جائز، وقد حكي هذا عن عطاء، وابن جريج. انتهى. والله أعلم.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إذا كان ولد المسبل فقيراً
…
إلخ؟
فأجاب: إذا كان ولد المسبل فقيراً، فهو أولى بالسبالة.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها؟
فأجاب: تصرف على المساجد وأبواب البر. وأما إذا انتقل أهل بلد عن بلادهم، وفيها مسجد عامر وفيه خشب، فإن كان يصلى فيه فلا يجوز نقضه، وإن كان متعطلاً فلا بأس أن يؤخذ خشبه، ويجعل في مسجد غيره.
وأجاب أيضاً: وأما خشب المسجد المتعطل، فتؤخذ وتجعل في نظيره وهو مسجد آخر، ولو كان ببيع أو غيره، ولا تترك تعطل بلا نفع. وأما أرض المسجد المتعطلة، فلا بأس أنها تزرع بأجرة، وتصرف أجرتها في عمارة مسجد آخر.
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/180، 6/240، 6/256) .
وأجاب أيضاً: وأما ما فضل عن حاجة مسجد، صرف إلى مسجد محتاج.
وله أيضاً: أما صرف الفاضل من تمر الصوام، فإذا استغنى أهل المسجد الذين جعل الوقف عليهم، فقال الشيخ تقي الدين: ما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر، لأن الواقف له غرض في الجنس والجنس واحد. وقال في موضع آخر: يجوز صرفه في سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه، وإن علم أن وقفه يبقى وجب صرفه، لأن بقاءه فساد. انتهى.
فعلى كلامه الأول: يصرف في نظيره في مسجد آخر، وعلى كلامه الثاني: يجوز للناظر صرفه إلى جهة وإن لم تكن نظير الجهة الأولى، إذا رأى المصلحة في ذلك. وإذا كان في النخل الموقوف فسيل، وغرس في وقف آخر، فلا أرى به بأساً، إذا كان النخل الموقف غنياً عن ذلك؛ وصرف الوقف من جهة إلى جهة جائز له إذا كان لمصلحة. وأما تبديل ولي الوقف تمراً بعيش أو عيشاً بتمر، فإذا كان فعله للمصلحة فلا أعلم فيه بأساً، إذا كان أصلح للموقف عليها. وأما كونه يسلم في الوقف قبل حصول الثمرة فلا يجوز، ويدعه إلى السنة المقبلة.
وسئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا وقف
على جهة معينة، ثم أراد الواقف أو غيره صرفه إلى جهة أخرى
…
إلخ؟
فأجاب: يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة، على الصحيح من المذهب، نقله الجماعة، وقدمه في الفروع وغيره، وقطع به أكثرهم، وعليه الأصحاب. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند. انتهى من الإنصاف.
فجوز الشيخ تغييره إلى ما هو أصلح، لا إلى ما هو مثله أو دونه، ووجه الأول وقوع الوقف لازماً، وانتقال الملك فيه بمجرد عقده إلى الله تعالى، ومعنى الانتقال هو انفكاكه عن اختصاصات الآدميين. قال العلامة ابن زياد الشافعي: والذي يظهر المنع في صورة السؤال، والواقف وغيره في هذا سواء، لزوال الملك عنه بالوقف.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن وقف نخلة أو نخلتين مثلاً، يشترى من غلتها أضحية، واحتاج أولاد الواقف حاجة شديدة، ربما من مثله يموت جوعاً إذا لم يبع الأصل، هل يجوز صرف الغلة إلى من احتاج من أولاد الواقف
…
إلخ؟
فأجاب: وأما صرف غلة ذلك إلى المحتاج من أولاد
الواقف، فقال: الأصحاب: يتعين صرف غلة الوقف إلى الجهة المعينة إلا ما فضل عنها; ونص على ذلك الإمام أحمد، ولم يفرق أحمد والأصحاب بين حالة الحاجة وغيرها. وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية، واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند.
فعلى اختيار الشيخ، رحمه الله: يجوز صرف ثمن الأضحية إلى من اشتدت حاجته من ولد الواقف. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قال رجل لعطاء: رجل جعل ذوداً في سبيل الله، قال: له ذو قرابة محتاجين؟ قال: نعم، قال: فادفعها إليهم؛ فكانت هذه فتياه في هذا وأشباهه.
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن وقف على مسجد محبس على ذرية الواقف، وفيهم من يصلح للإمامة، ولكن أقل أحوالهم أشاعرة
…
الخ؟
فأجاب: لا يجوز تقديم مبتدع إماماً في الصلاة، وإن كان نص الواقف وشرطه كما ذكرت؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وغير خاف عليك إمامة الفاسق، فكيف بالمبتدع؟
وسئل أيضاً: عمن أوصى بثلثه في حجة وأضحية، وأوقف باقيه على ذريته وذريتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وماتت واحدة من البنات قبل الموصي، فهل يستحق ورثتها كورثة من ماتت بعده؟
فأجاب: نعم يستحق كغيره.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة، أو سراج مسجد، هل يصرف إلى مدرسة أو مسجد آخر
…
إلخ؟
فأجاب: إذا وقف إنسان وقفاً على مدرسة معينة
…
إلخ، فقد صرح الفقهاء بأن هذا شرط يجب العمل به، وإنما تنازعوا فيما فضل عن الجهة المعينة: فنص أحمد: أن ما فضل من وقف المسجد من حصره وزيته عن حاجته، يجوز صرفه إلى مسجد آخر، ويجوز الصدقة به على فقراء المسلمين؛ وعنه رواية أخرى: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به. وقيل: إن علم أن ريعه يفضل عنه دائماً وجب صرفه وإلا فلا، قاله الشيخ تقي الدين. وأما الأرض التي يجعل فيها آصع معلومة، فالذي نرى: أنها إذا زرعت أخذ منها ما جعل فيها، وإذا لم تزرع فلا يجب شيء، وكل سنة لها حكمها.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصح له
الإفطار في المسجد؟ هل هو الفقير؟ أو من أراده؟
فأجاب: إن كان الواقف خصه بالفقراء، فلا يأكل منه إلا الفقراء، ولا يجوز للغني الأكل منه، وإن كان جعله لمن أفطر في المسجد، فمن حضر فليفطر، الغني والفقير.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، رحمهم الله: أن الوقف المذكور على الصورة المسؤول عنها، يجب صرفه إلى إمام المسجد المعين الراتب، ولا يجوز الاجتهاد فيه وصرفه إلى غير مستحقه الراتب فيه.
وقال الشيخ عبد الله أيضاً: وأما الريع إذا لم يكف أضحية، أرصد حتى تكمل الأضحية، ولا يسلف.
وقال الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: إن كان إذا أخرها سنة أو سنتين حصل من الغلة ثمن أضحية، فيؤخرها، وإن كان الريع قليلاً وتأخذ مدة ما حصل أضحية، فيجتهد: إما أن يؤخرها، أو يضمها مع غيرها. والشيخ حسن بن حسين أفتى أنه يرصد الريع قل أو كثر حتى يكمل ثمن أضحية؛ هذا في الوصايا خاصة، وأما التبرع فأمره واسع.
وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: عن فرش المسجد، هل يجوز أخذ شيء منه أو يبقى في موضعه؟ أو يصرف في مصلحة أخرى للمسجد أو لغيره؟
فأجاب: لا يجوز أخذ شيء منه، بل ترصد لمصالح المسجد.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: أنقل كلام العلماء وأشير إلى ما هو الراجح عندنا: قال في المقنع وشرحه الإنصاف للمحقق المرداوي، رحمه الله: وما فضل من حصره وزيته، جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين؛ هذا هو المذهب نص عليه، وجزم به في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع وغيره.
وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين. وقال أيضاً: يجوز صرفه في سائر المصالح وبناء المساكن، لمستحق ريعه القائم بمصلحته. انتهى. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام هو الصواب، لأنه أسعد بالدليل من غيره.
سئل بعضهم: إذا سبل إنسان في أرض نقداً معلوماً، ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟
فأجاب: هذه المسألة نظيرة ما لو أقرضه فلوساً فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم أن له القيمة وقت القرض، حتى إن الشيخ تقي الدين، رحمه الله، طرد ذلك في الديون، كالصداق وعوض الخلع، والغصب والصلح؛ فإذا أقرضه فلوساً أو باعه بها ونحو ذلك، ثم حرمها السلطان، وتركت المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه؛ فهذه المسألة مثلها، فإذا جعل الواقف نقداً معلوماً في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله قيمة تلك الفلوس قبل كسادها.
وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم آل الشيخ: إذا تعطلت منافع الوقف وبيع، ولم يأت ثمنه بمثله؟
فأجاب: إذا كان لبيع الوقف مسوغ، وبيع ولم يأت ثمنه بمثله، فإنه يشتري به من جنسه أنقص منه، والله أعلم.