الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القضاء
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: هل يقوم أمير البلد مقام الحاكم عند عدمه، فيما يتعلق بالحاكم، أم لا؟
فأجاب: أما مطلقاً فلا، وأما في الجملة أو في بعض المسائل فربما، قال في الإقناع: فإن عدم الولي مطلقاً أو عضل، زَوَّجَها ذو سلطان في ذلك المكان، كوالي البلد وكبيره، وأمير القافلة ونحوه؛ فإن تعذر، زَوَّجَها عدل بإذنها. قال أحمد في دهقان القرية - أي رئيسها -: يزوج من لا ولي لها، إذا احتاط في الكفء، والمهر، إذا لم يكن في الرستاق قاض. انتهى. قال الزركشي: لأن دهقان القرية هو كبيرها، فهو بمنزلة حاكمها والقائم بأمرها. انتهى.
وقال ابن عقيل في الفصول، في الصلاة على الميت: إذا اجتمع السلطان وغيره، قدم السلطان، فإن لم يحضر أمير البلد، فالحاكم. انتهى. وصرح ابن عطوة بالإلزام بما يصدر من واحد، ككبار نجد الحاكمين على قراهم، هو ووجوه أهل قريته، من بيع تركة أو قضاء دين، على الوجه
الشرعي.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: إذا توقف المفتي، هل يكون داخلاً في الكتمان؟
فأجاب: اعلم أن الذي يتناوله الوعيد: الذي عنده علم عن الله ورسوله، فيسأل عنه فيكتمه، وأما من أشكل عليه الحكم، فتوقف حتى يتبين له حكم الله ورسوله، فهذا لا حرج عليه إذا توقف، ولو عرف اختلاف العلماء. والواجب على المفتي: أن يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين الله وبين عباده، فيما أحل لهم وحرم عليهم، فلا يتكلم إلا بعلم، وما أشكل عليه أو جهله، فليكله إلى عالمه.
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: واحذر القول على الله بلا علم، فإن الله تعالى لما ذكر المحرمات العظام، ختمها بقوله:{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] ؛ فجعل القول بلا علم قريناً للشرك في الآية الكريمة؛ والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلفها، ويحملها ما لا تطيق، ويعرضها لسخط الله ومقته. ومن أعظم التكلف: أن يتكلم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتكلم في دين الله بما علم، وإن لم يكن عنده علم، فليقل: الله أعلم.
ولا تستح من قول: لا أدري، فقد قيل: إذا ترك العالم قول: لا أدري، أصيبت مقاتله. فإذا وقع عليك قضية من القضايا، فإن كان عندك علم فتكلم به، وإلا فإن أمكن فيها الإصلاح فأصلح فيها، فإن الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فإن لم يمكن الصلح، ولم يرض به الخصمان، فاصرفهما عنك ولا تَعاظَمْ ذلك، ولا تستح منه، فإن الأمر عظيم، ولا بد من يوم تعاد فيه الخصومات عند رب العالمين، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر آية: 30-31] .
[فصل في التسرع في الفتوى]
وقال الشيخ سعيد بن حجي: قال ابن القيم: فصل: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود أحدهم أنه يكفيه إياها غيره؛ فإذا رأى أنها قد تعينت عليه، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، وأقوال الخلفاء الراشدين، ثم أفتى. وقال عبد الله بن المبارك: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال: في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا"، قال ابن عباس:"إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه لمجنون"، وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم
علماً". انتهى ملخصاً.
وقال في آداب المفتي: اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لكنه معرض للخطإ والخطر، ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّع عن الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1، رواه الشيخان. وعن ابن مسعود:"عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا، أو نهى عن كذا، فيقول الله له: كذبت"، رواه الطبراني.
وعن الشافعي، وقد سئل عن مسألة فسكت ولم يجب، فقيل له: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي، أو في الجواب. وعن مالك، أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة، فلا يجيب في واحدة منها؛ وكان يقول: من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب، أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب. وعن أبي حنيفة، أنه سئل عن سبع مسائل، فقال فيها: لا أدري. وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك لما عرف من الأقاويل. انتهى.
شعراً:
من كان يهوى أن يُرَى مُتَصَدِّرا
…
ويكره لا أدري أُصِيبَتْ مَقاتِلُه
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: ولكن ينبغي للمفتي
1 البخاري: العلم (100)، ومسلم: العلم (2673)، والترمذي: العلم (2652)، وابن ماجة: المقدمة (52) ، وأحمد (2/162، 2/190، 2/203)، والدارمي: المقدمة (239) .
والقاضي، إذا ابتلي بشيء من المسائل، أن يجتهد في تحري الصواب، أو يقلد إن لم يتبين له الراجح; والمسائل التي يقع فيها الخلاف بين العلماء، وليس مع أحد القولين حديث صحيح صريح، بل القول فيها بالاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فالذي ينبغي للإنسان فيها التوقف، إلا القاضي الذي لا بد له من القول، فيجتهد في تحري الصواب، وإلا فلا ينبغي لأحد أن يحرم على الناس شيئاً إلا بدليل.
بل ينبغي للمفتي أن يقول للسائل: ما أحب لك هذا، أو أكره هذا، أو يقول: بعض العلماء يمنعون من هذا، أو يحرمون، إن كان أحد قد قال بتحريمه; هذا الذي ينبغي للإنسان أن يستعمله في المسائل التي فيها الخلاف. وإن كان أحد فعل فعلاً، قال جمهور العلماء بالمنع منه، فينهى الفاعل عنه، ويمنع منه من غير أن يقال بتحريمه.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عمن أمر أن يحكم بما شرع الله ورسوله، فوجد لبعض من سبق قضاء يخالف كتاباً أو سنة، أو تقرير أهل العلم من أهل مذهبه أو إجماعهم، هل يسوغ له السكوت على ذلك الخطأ؟ أم يجب عليه الحكم بالحق والقضاء به، مع رفض الخطإ إن قدر وجوده؟
فأجاب: يجب عليه الحكم بالحق، سواء أمر به أو لا، لكن إذا سبق لغيره حكم في مسألة، بما يخالف نصاً من
كتاب أو سنة أو إجماع، فإنه يجب نقض ذلك الحكم، لكن لا يتولى نقضه إلا من حكم به، فإن أبى نقضه، أجبر على ذلك، فإن امتنع، نقضه غيره؛ ولا يخفاك أن هذا يحتاج المتكلم فيه إلى سعة علم، وثقوب فهم وتمام اطلاع على كلام العلماء وإجماعهم وخلافهم، فكثيراً ما يظن بحكم أنه مخالف للكتاب أو السنة أو الإجماع وليس كذلك.
وأما حكمه بما يخالف تقارير أهل مذهبه أو إجماعهم إن تصور ذلك، فهذا لا يكون واجب النقض مطلقاً، فإن كان يرى ويعتقد أن كلام أهل مذهبه هو الصواب والحق، وحكم بما يخالفه فإنه ينقض؛ فإن بعض فقهائنا ذكر وجوب نقض حكم الحاكم إذا حكم بخلاف ما يعتقده. وأما إن حكم بخلاف قول أهل مذهبه لرجحان القول المخالف، لقول أهل مذهبه في الدليل، وكان له معرفة بهذا الشأن، ومن فرسان هذا الميدان، فإنه لا يتعرض لحكمه، والله أعلم.
[السؤال عن رشوة الحاكم]
قال شيخ الإسلام: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: سألتم - رحمكم الله - عن رشوة الحاكم، الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " لعن الراشي والمرتشي " 1، وذكرتم أن بعض الناس حملها على ما إذا حكم الحاكم بغير الحق، وأما أخذ الرشوة من صاحب الحق، والحكم له به فهي حلال عنده، مستدلاً بقوله:" أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله " 2، وإنكم استدللتم عليه بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
1 الترمذي: الأحكام (1336) ، وأحمد (2/387) .
2 البخاري: الطب (5737) .
ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 41] ، وأجابكم بأنها نزلت في كعب بن الأشرف، وبأن الناس فرضوا لأبي بكر لما تولى الأمر درهمين كل يوم، وكذلك قول من قال: وإن قال: لا أحكم بينكما إلا بجعل؟
فأقول: أما صورة المسألة فهي أشهر من أن تذكر، بل هي تعلم بالفطرة، فإن حكام زماننا لما أخذوا الرشوة، أنكرت عليهم العقول ذلك والفطر بما جبلها الله عليه، من غير أن يعلموا أن الشارع نهى عنها، ولكن إذا جادل المنافق بالباطل، ربما يروج على المؤمن، فيحتاج إلى كشف الشبهة.
ونقدم قبل الجواب مقدمة، وهي: أن الله سبحانه لما أظهر شيئاً من نور النبوة في هذا الزمان، وعرف العامة شيئاً من دين الإسلام، وافق أنه قبل ذلك ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين، وأبعدهم عن معرفة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ضروا في الرياسة بالباطل، وفي أكل أموال الناس، ويدعون أنهم يعملون بالشرع، ولا يعرفون شيئاً من الدين، إلا الأشياء من كلام بعض الفقهاء في البيع، والإجارة، والوقف والمواريث، وكذلك في المياه والصلوات، ولا يميزون بين حقه من باطله، ولا يعرفون مستند قائله.
وأما العلم الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفوا
منه خبراً، ولم يقفوا منه على عين ولا أثر، قد تراجمت بهم الظنون، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ؛ ومصداق هذا كله: أن الداعي لما أمرهم بتوحيد الله، ونهاهم عن عبادة المخلوقين، أنكروا ذلك عليه، وزعموا أنه جهالة وضلالة، مع كون هذه المسألة أبين في دين محمد صلى الله عليه وسلم من كون العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً؛ بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك، وجادل عليه وقاتل عليه. ثم هؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء، اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنه دين جديد، ومذهب خامس، وأنهم لم يسمعوه من مشايخهم ومن قبلهم، ولقد صدقوا في ذلك.
وبالجملة: فهذا الحديث قد خالف أهواءهم، من وجوه متعددة:
الأول: أنهم لا يعرفونه، مع كونهم يظنون أنهم من العلماء.
الثاني: أنه خالف عادات نشؤوا عليها؛ ومخالفة العادات شديد.
الثالث: أنه مخالف لعلمهم الذي بأيديهم، وقد أشربوا حبه كما أشرب بنو إسرائيل حب العجل.
الرابع: أن هذا الدين يريد أن يحول بينهم وبين مآكلهم الباطلة المحرمة الملعونة، إلى غير ذلك من الأمور التي يبتلي الله بها العباد.
فلما ظهر هذا الأمر، اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما
أمكنهم، وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم. فلما غلظ الأمر وبهرهم نور النبوة، ولم يجيء على عاداتهم الفاسدة، تفرقوا فيه كما تفرق إخوانهم الأولون: فبعض قال: هذا مذهب ابن تيمية، كما لمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة، وبعضهم قال: كتب باطلة، كقوله:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [سورة الفرقان آية: 5]، وبعضهم قال: هؤلاء يريدون الرياسة، كما قال:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 78] ، وتارة يرمون المؤمنين بالمعاصي، كما قالوا لنوح، فأجابهم:{وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 112] ، وتارة يرمون بالسفاهة ونقص العقل، كما قالوا:{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13]، فأجابهم تعالى بقوله:{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13] ، وتارة يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم، وبأفعالهم التي خالفت العادات، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [سورة المطففين آية: 29] ، وتارة يكذبون عليهم الأكاذيب العظيمة، كقوله:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4] ، وتارة يذمون دين الإسلام، بما يوجد من بعض المنتسبين إليه، من رثاثة الفهم والمسكنة، كما قالوا:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27] ، وتارة تقطع قلوبهم من الحسرة والغيظ، إذا رأوا الله قد خفض بهذا الدين
أقواماً، ورفع به آخرين، كقولهم:{أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] ، إلى غير ذلك من الأمور التي يطول شرحها.
وبالجملة: فمن شرح الله صدره للإسلام، ورزقه نوراً يمشي به في الناس، بينت له هذه الأمور التي وقعت في وقتنا هذا، كثيراً من معاني القرآن، وتبين له شيء من حكمة الله في ترداد هذا في كتابه، لشدة الحاجة إليه; فيقال لهؤلاء المردة، آكلي أموال الناس بالباطل، ومذهبي أديانهم مع أموالهم، ما قال عمر بن عبد العزيز:"رويداً يا ابن بنانة! فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لأتفرغن لك ولأهل بيتك، حتى أدعهم على المحجة البيضاء؛ فطالما تركتم الحق، وأوضعتم في الباطل".
وأما المسألة، والجواب عنها، فنقول: قد علم بالكتاب والسنة، والإجماع، والفطر والعقول: تحريم الرشوة وقبحها، والرشوة: هو ما يأخذه الرجل على إبطال حق، أو إعطاء باطل، وهذه يسلمها لك منازعك، وهي أيضاً: ما يأخذ على إيصال الحق إلى مستحقه، بمعنى: أن الحاكم لا يوصل الحق إلى مستحقه، بل يسكت ولا يدخل فيه حتى يعطيه رشوة، فهذه حرام منهي عنها بالإجماع، ملعون من أخذها؛ فمن ادعى حلها فقد خالف الإجماع.
وقوله: بأي شريعة حكمت بتحريم هذا؟ فنقول:
حكمت بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع على ذلك علماء أمته، وأحل ذلك المرتشون الملعونون. ومن أنواع الرشوة: الهدايا التي تدفع إلى الحاكم بسبب الحكم، ولو لم يكن لصاحبها غرض حاضر، لا أعلم أحداً من العلماء أرخص في مثل هذا. ومن العجب: إذا كان في كتابهم الذي يحكمون به، يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه، ومجلسه وكلامه والدخول عليه، فأين هذا من أكل عشرة حمران على أحد الخصمين؟! فإن لم يعطه أخذ بدلها من صاحبه وحكم له. سبحان الله! أي شريعة أحلت هذا؟! وأي عقل أجازه؟! ما أجهل من يجادل في مثل هذا، وأقل حياءه، وأقوى وجهه!!
وأما أدلته التي استدل بها، فلا تنس قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7] ؛ ولما جادل النصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألوهية عيسى، احتجوا عليه بشيء من القرآن، وكذلك الخوارج يستدلون على باطلهم بمتشابه القرآن، وكذلك الذين ضربوا الإمام أحمد، يستدلون عليه بشيء من متشابه القرآن، وما أنزل الله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الآية [سورة آل عمران آية: 7] ، إلا لما يعلم من حاجة عباده إليها.
فأما استدلال هذا الجاهل الظالم، بقوله:" أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 1، فجوابه من وجوه:
الأول: أن
1 البخاري: الطب (5737) .
المؤمنين إذا فسروا شيئاً من القرآن، بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلام المفسرين ليس لهم فيه إلا النقل، اشتد إنكارك عليهم، وتقول: القرآن لا يحل لكم تفسيره، ولا يعرفه إلا المجتهدون، وتارة تفتري الكذب الظاهر، وتقول: إن ابن عباس إذا أراد أن يفسر، خرج إلى البرية خوفاً من العذاب، وأمثال هذه الأباطيل والخرافات، ومرادهم بذلك: سد الباب، لا يُفتح للناس طريق إلى هذا الخير، فكيف يكون نقلنا لكلام المفسرين منكراً، وتفسيرك كتاب الله وتحريفك الكلم عن مواضعه حسناً؟! هذا من أعجب العجب.
الوجه الثاني: أن هذا لو كان على ما أولته عليه، فهو في الأخذ على كتاب الله، وأنت متبرئ من معرفة كتاب الله، والحكم به، شاهد على نفسك بذلك.
الوجه الثالث: أن هذا لو كان فيما ذهبت إليه، لكان هذا مخصوصاً بتحريم الرشوة التي أجمع العلماء على تحريمها.
الوجه الرابع: أن حمل الحديث على هذا، من أبين الفرية الظاهرة، والكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن معنى ذلك: في الإنسان الذي يداوي المريض بالقرآن، فيأخذ على الطب والدواء، لا على الحكم وإيصال الحق إلى مستحقه، ويدل عليه اللفظ الآخر:"كُل. من أكل برقية باطل، وقد أكلت برقية حق"، والقضية شاهد بذلك.
يوضحه الوجه الخامس الوجه الخامس: وهو أن يقال: هذا الجاهل المركب، من استدل قبلك بهذا الحديث، على أن الحاكم إذا أراد أن يوصل الحق إلى مستحقه، يجوز له أن يشترط لنفسه شرطاً، فإن حصل له وإلا لم يفعل، فإن كان وجده في كتاب، فليبين لنا مأخذه، وما أظنه بأهل العلم من الأولين والآخرين، الذين أجمعوا على أن ذلك لا يجوز، أيظن أن إجماعهم باطل؟ وأنهم لم يفهموا كلام نبيهم حتى فهمه هو؟! وأما استدلاله: بأن الناس فرضوا لأبي بكر لما ولي عليهم كل يوم درهمين، فهذا من أعجب جهله، ومثل هذا مثل من يدعي حل الزنى الذي لا شبهة فيه، ويستدل على ذلك بأن الصحابة يطؤون زوجاتهم، وهذا الاستدلال مثله سواء بسواء، وذلك، أن استدلاله بقصة أبي بكر يدل على شدة جهله بحال السلف الصالح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي العمال من بيت المال، وكان الخلفاء الراشدون يأكلون من بيت المال، ويفرضون لعمالهم، ولا أعلم عاملاً في زمن الخلفاء الراشدين إلا يأكل من ذلك، بل الزكاة التي هي للفقراء، جعل الله فيها نصيباً للعمال الأغنياء.
ولكن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي واشتغل بالخلافة عن الحرفة، وضع رأس ماله في بيت المال، واحترف للمسلمين فيه، فأكل بسبب الخلافة، وبسبب وضع ماله في
بيت المال، وبسبب الحرفة؛ فأين هذا من أكل الرشوة التي حرمها الله ورسوله؟ وأين هذا من الحاكم الذي إذا وقعت الخصومة، فأكثرهم برطيلا هو الذي يغلب صاحبه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فإن قالوا: لما عدم بيت المال أكلنا من هذا، قلنا: هذا مثل من يقول: أنا أزني لأني عزب لا زوجة لي، فهو هذا من غير مجازفة. وقولهم: نفعل كذا لأجل مصلحة الناس، فنقول: ما على الناس أضر من إبليس ومنكم، أذهبتم دنياهم وآخرتهم، والناس يشهدون عليكم بذلك. هؤلاء أهل شقراء، شرطوا لابن إسماعيل كل سنة ثلاثة وثلاثين أحمر، ويسكت عن الناس ويريحهم من أذاه، ولا يحكم بين اثنين ولا يفتي، فلم يفعل واختار حرفته الأولى.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: نهى تبارك وتعالى عن أمور:
الأول: افتراء الكذب على الله.
الثاني: القول عليه بلا علم.
الثالث: المحاجة والمجادلة بغير علم، بقوله:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [سورة آل عمران آية: 66]، وقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [سورة الحج آية: 3] .
الرابع: قولك ما ليس لك به علم مطلقاً، وقال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] .
ومن النوع الرابع: نهيه عن تزكية الرجل وتبرئته بلا علم، أو رمي البريء، كما في قوله تعالى:{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} الآيات [سورة النساء آية: 105] .
وأما ما يتعلق بخبر غيرك فأمور:
الأول: أنك مأمور بتصديق الصدق؛ وهذا أصل الإيمان، وأدلته كثيرة.
الثاني: أنك مأمور بتكذيب الكذب، كما في الكفر بالطاغوت وفي قوله:{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النور آية: 12] . ومن ذلك إذا اشتمل الخبر على صدق وكذب، فصَدِّق الصدق وكَذَّب الكذب، كما في قول أهل الكتاب في المسيح، وغير ذلك.
الثالث: أنك مأمور بالتثبت في خبر الفاسق، لا تصدقه ولا تكذبه حتى يتبين لك أمره، وكذلك خبر من ألقى السلام وهو في أرض الحرب، وما يحتاج إلى التثبت فيه، فلا تصدقه ولا تكذبه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"ما حدثكم به أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " 1؛ وهذا هو الرابع. ومن ذلك أنك منهي عن تصديق المنكر المتهم، كما في قصة بني أبيرق.
أما الكذب فهو أنواع:
الأول: الكذب المتعارف.
الثاني: كلام من يظن أنه صادق لكنه ليس بمعذور، كما في قوله:"كذب"، وفي قتل عامر:"كذب من قال ذلك".
الثالث: في المعاريض إذا أتت على غير الرخصة.
الرابع: إذا كان الخبر مأموراً بكتمانه، كقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
1 أبو داود: العلم (3644) ، وأحمد (4/136) .
الْكَاذِبُونَ} [سورة النور آية: 13] .
وأما قاعدة الحكم، فذكر فيها أربع قواعد:
الأولى: من قوي جانبه بالأصل واليد، قوي باليمين.
الثانية: إذا قوي جانب صاحبه بشاهد واحد، قوي باليمين.
الثالثة: في مسألة النكول: إذا قوي جانب المدعَى بالنكول، أوردت عليه اليمين، إذا ساغ ردها فلم يحلف، قوي جانب المدعَى عليه.
الرابعة: إذا قوي جانب المدعي باللوث والأيمان، أو جانب القاذف بالأيمان واللعنة، أو قوي جانبها بالأيمان واللعنة، فلم يحكم عليه بأنه قاذف، ولا يحكم عليها بأنها زانية.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ، رحمهم الله: إذا تحاكم اثنان إلى رجل حكماه ورضيا به، هل يلزم أحدهما الآخر بما قاله؟ وهل هو محسن؟
فأجاب: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، وحكماه بينهما جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما؛ وبهذا قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: لا يلزم حكمه إلا بتراضيهما; ولنا ما روى أبو شريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال: ما أحسن هذا! من أكبر ولدك؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح " 1، أخرجه النسائي.
1 النسائي: آداب القضاة (5387)، وأبو داود: الأدب (4955) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من حكم بين اثنين تراضيا عليه، فلم يعدل بينهما، فهو ملعون "، ولولا أن حكمه يلزمهما لم يلحقه هذا الذم، ولأن "عمر وعلياً تحاكما إلى زيد بن ثابت"، "وتحاكم عمر وأعرابي إلى شريح، قبل أن يولى القضاء"، "وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم". انتهى من شرح المقنع.
وقال في الإنصاف: نفذ حكمه في المال، وينفذ في القصاص والحدود، والنكاح واللعان، في ظاهر كلامه، وهو المذهب. وقال القاضي: لا ينفذ إلا في الأموال خاصة، وقال في المحرر والفروع: وعنه لا ينفذ في قَوَد وحَدّ، وقَذْف ولعان ونكاح; وقال في الرعاية: وليس له حبس في عقوبة، ولا ضرب دية خطإ على عاقلة من رضي بحكمه؛ وما قاله في الإنصاف أولى، وهو المعتمد، قطع به في التنقيح، وتبعه من بعده. قال في التنقيح: فهو كحاكم الإمام مطلقاً; قال في حاشيته: أي: سواء وجد حاكم أم لا. انتهى. فلهذا قال المحشي في إقناعه: حتى مع وجود قاض.
وقال في الاختيارات: إذا حكم أحد الخصمين خصمه جاز، لقصة ابن مسعود، وكذا إن حكما مفتياً في مسألة اجتهادية؛ وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين، أو حضورهما؟ أو يكفي وصف القضية له؟ الأشبه: أنه لا يفتقر، بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة، مطابقة
لقضيتهما فقد لزم؛ فإن أراد أحدهما الامتناع، فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع، لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع، فلا يحصل المقصود. انتهى. فقد ظهر مما قلناه لزوم ما حكم به. وأما اشتراط الأهلية، فكتب الأصحاب طافحة بها، لصحة حكمه ولزومه. وحكى شارح التنبيه من أئمة الشافعية عليها الاتفاق؛ وأما النص فيه بالإحسان، فذلك إلى الرحمن.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قوله في الإنصاف، بعد مسألة التحكيم: وكذا يجوز أن يتولى متقدمو الأسواق والمساجد، الوساطات والصلح عند الفورة والمخاصمة؟
فأجاب: الذي يظهر أن المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد: الذين يفوض إليهم ولي الأمر النظر على أهل الأسواق، بإلزامهم بالشرع، وإنصاف بعضهم من بعض، ونحو ذلك، وكذلك الذين يجعل لهم النظر على المساجد، بصيانتها وإصلاحها، والاحتساب على المصلين بها، والمؤذنين ونحو ذلك. فمن فوض إليه شيء من ذلك، جاز له - على ما ذكره ابن عقيل - تولي الوساطات; والذي يظهر أن المراد بالوساطات: التوسط بين المتنازعين; والصلح عند الفورة، لعل المراد بالفورة: أنه إذا حصل تنازع بين أهل السوق أو
المسجد، يجوز لهم التوسيط، والصلح بين المتنازعين فوراً حال التنازع، لأجل كف الشر في الحال.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: قال ابن القيم، رحمه الله: وقوله: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " 1، البينة في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة: اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، ولا حجة في الاصطلاح، ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص.
وقال أيضاً: لما ذكر أنه يقضي بالبينة التي تبين الحق، وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان، قال، رحمه الله: بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه، حكم بشهادته وحده؛ و"قد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد، لأبي قتادة بقتل المشرك، ودفع إليه سلبه بشهادته وحده، ولم يُحَلِّف أبا قتادة، فجعله بينة تامة" - إلى أن قال - ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه. انتهى قوله على حديثه، يعني حديث شهادة خزيمة بن ثابت وحده. فتبين مما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن البينة: ما أبان
1 الترمذي: الأحكام (1341) .
الحق، والدليل ما دل عليه، سواء كان بشهادة رجلين، أو رجل واحد مع معرفة صدقه، والله أعلم.
[صفة يمين الوارث]
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: عما إذا ادعى رجل على وارث بدين، ولا بينة، فما صفة يمين الوارث؟
فأجاب: إذا لم يكن مع المدعي بينة، وأراد أن يستحلفه الوارث، فإنه يحلف على نفي العلم; قال في المغني: والأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم لا غير. وصفة يمين المنكر: يحلف على البت والقطع، لأن الأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير.
وإذا تداعى اثنان ولا بينة معهما، وصارت اليمين على المنكِر، فإن حلف قضى له، وإن أبى أن يحلف فهل يقضي عليه بنكوله؟ أم ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا ترد، بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين، قضى عليه بالنكول، وهو قول أبي حنيفة. والرواية الأخرى: أن اليمين ترد على المدعي، فيقال له رد اليمين على المدعي، فإن ردها حلف المدعي، وحكم له بما ادعاه؛ اختاره أبو الخطاب، وقال: قد صوبه أحمد، وما هو ببعيد، يحلف ويستحق. واختار هذا القول ابن القيم في الطرق الحكمية، والموفق، وهو قول أهل
المدينة. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال شريح والشعبي، والنخعي وابن سيرين، ومالك في المال خاصة; وقال الشافعي: بل في جميع الدعاوى.
وقال الشيخ تقي الدين: مع علم مدع وحده بالمدعى به، لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ، كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه بتركته، وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعى به، دون المدعي، مثل أن يدعي الورثة والوصي على غريم الميت، فينكر، فلا يحلف المدعي. وأما إن كان المدعي يدعي العلم، والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان، يعني: المتقدمين: هل يقضي بالنكول، أم ترد؟
[رد اليمين على المدعي]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ترد اليمين على المدعي؟
فأجاب: وأما رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه، فبعض الفقهاء يرى ذلك، وبعضهم لا يراه، ولا يتبين لي الراجح من القولين.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: هل يؤخذ بقول من قال: ترد اليمين على المدعي، فنعم، إذا طلب ذلك المدعى عليه، كما رجحه ابن القيم في الإعلام.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمدن رحمهما الله:
ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، هل تلزمه يمين؟
فأجاب: نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمته اليمين.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: نعم يستحلف، ولا تنكح رجلاً غيره إلا بطلاقه، ولا يحسب من الطلقات الثلاث؛ فإذا طلقها فلها نكاح غيره.
[شروط الشاهد]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل ظاهر المسلم العدالة؟
فأجاب: الذي يترجح عندنا من أقوال العلماء: ظاهر المسلم العدالة، كما في حديث عمر:"والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرباً عليه شهادة زور، أو مجلود في حد"، فمن ادعى الجرح كلف البينة.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: ما صفة العدالة باطناً؟ وهل يعتبر اليوم في الشاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشروط؟
فأجاب: ليس مرادهم باطناً معرفة ما في القلوب، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله، لكن متى طالت صحبة الإنسان، أو كثرت معاملته، عرف من أحواله ما يستدل به على حسن باطنه، فهذا معنى العدالة في الباطن; ولهذا قالوا في التزكية: خبرة المزكي للشاهد خبرة باطنة، بصحبة ومعاملة
ونحوهما. قال في الشرح: ويحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه: أن الحاكم إذا علم أن المعدِّل لا خبرة له، لم يقبل شهادته بالتعديل، كما فعل عمر رضي الله عنه، ويحتمل أنهم أرادوا: أنه لا يجوز للمعدل الشهادة بالعدالة، إلا أن تكون له خبرة باطنة. فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل، فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى. قال الزركشي: لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة، ومعرفة بالجرح والتعديل، غير متهم بعصبية ولا غيرها; وقال: معنى الخبرة الباطنة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه:"جيئا بمن يعرفكما. فأتيا برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ قال: نعم; فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جاراً لهما، تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال: يا ابن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما". وأما اعتبار الصفات المذكورة في كتب الفقهاء في الشاهد، فلا يمكن اعتبارها في هذه الأزمنة، إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين الناس.
قال أبو العباس، رحمه الله: العدل في كل زمان ومكان
وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلاً على وجه آخر؛ وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائماً بأداء الواجبات، وترك المحرمات كما كان الصحابة، لتعطلت الشهادات كلها، أو غالبها.
وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر، أو بالمتهم، فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة، مثل الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل; وله أصول، منها: شهادة أهل الذمة في الوصي في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. انتهى.
ويشهد لكلام شيخ الإسلام: ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته؛ وقد قال الشيخ: الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة. فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل، وتنفيذ الحكم; والأمانة ترجع إلى خشية الله; قال: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان. ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وقال: على هذا يدل كلام أحمد وغيره: فيولى لعدمٍ أنفع
الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد; قال في الفروع: وهو كما قال، وإلا تعطلت الأحكام، واختل النظام. انتهى.
قال القرافي: ونص ابن أبي زيد: على أنا إذا لم نجد في جهة العدل، أقمنا أمثلهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره، لئلا تضيع المصالح; قال القرافي: وما أظن أحداً يخالفه في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان.
[متى ترد شهادة الشاهد]
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: متى ترد شهادة الشاهد؟ هل ترد بجرحه قبل تحمل الشهادة وقبل أدائها؟ أو ترد شهادته بعد التحمل وقبل الأداء؟
فأجاب: إنه متى وجد الجرح، سواء كان قبل التحمل أو بعده، إذا كان قبل الأداء ردت به شهادة الشاهد، إلا أن يجرح بجرح سابق قد تاب منه قبل تحمل الشهادة، فإنه لا يضره والحالة هذه، لأن التوبة ماحية لما قبلها.
وسئل: هل تقدم شهادة الجرح على شهود التعديل؟ أو بالعكس؟
فأجاب: قال في المقنع: وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، فالجرح أولى; قال في الإنصاف: هذا بلا نزاع. انتهى. ومراده في المذهب، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل، فوجب تقديمه، لأن التعديل يتضمن ترك الذنوب
والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدم على النفي؛ قاله في المغني، لكن قال في حاشية الإقناع: وإن قال الذي عدله: ما جرحاه به قد تاب منه، قدم التعديل، لأن بينته ناقلة، وكذا إذا عصى في بلد وانتقل عنه، فجرحه اثنان في بلده، وزكاه اثنان في البلد الذي انتقل إليه، قدم التزكية. انتهى. فاعلم ذلك.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يحل عرض أحد من المسلمين؟
فأجاب: الغيبة محرمة بالإجماع، وهي: ذكرك أخاك بما يكرهه إذا كان حاضراً، ويباح منها ستة أسباب:
الأول: الظلم، فيجوز للمظلوم أن يقول لمن قدر على إنصافه: فلان ظلمني، وفعل بي كذا وكذا، ونحو ذلك.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يفعل كذا، فازجره عما يعمل.
الثالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو فلان، بكذا ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، فمنها: جرح المجروحين من الرواة والشهود; ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرة أو معاملة ونحو ذلك، فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه، على وجه النصيحة; ومنها: إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة، فعليك
أن تبين للمشتري، وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه بيانه.
الخامس: أن يكون مجاهراً بالفسق أو ببدعة، كالمجاهر بشرب الخمر، وخيانة الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون بسبب آخر.
السادس: التعريف، فإذا كان إنسان معروفاً بلقب، كالأعرج والأعمى ونحوهما، جائز تعريفه بذلك بنية التعريف لا النقص.
فهذه الستة ذكرها العلماء مما يباح بها الغيبة، ودلائلها مشهورة في الأحاديث.
وسئل بعضهم: هل يجوز اغتياب الرجل إذا كان ظاهر عليه أنواع الفسق، كلبس الحرير والتلفظ بما لا يحل، أم لا؟
فأجاب: أجمع العلماء على تحريم الغيبة، لقول الله تعالى:{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [سورة الحجرات آية: 12] ، وفي الصحيحين في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، في حجة الوداع:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " 1، وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا; قال بعض الرواة:
1 البخاري: الحج (1741)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، وأحمد (5/37، 5/49)، والدارمي: المناسك (1916) .
تعني قصيرة. قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " 1، أي: غيرته ريحاً أو طعماً، لشدة نتنها.
وفي صحيح مسلم والسنن لأبي داود، والترمذي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " 2؛ وهذا هو حد الغيبة، وهو عام.
قال النووي: ولا يستثنى من ذلك، إلا ما دعا إليه غرض صحيح شرعي، لا يتوصل إليه إلا بذلك، وذلك ستة أسباب:
الأول: التظلم عند الحاكم أو السلطان، بأن يقول: فلان ظلمني، أو أخذ مالي ونحوه.
الثاني: الاستعانة بقادر على تغيير منكر، كقوله: فلان يفعل كذا فانهه، ونحوه. قلت: الأولى إبدال لفظ الاستعانة، بالإخبار أو نحوه تأدباً.
الثالث: الاستفتاء، كقول: فعل بي أبي، أو ابني، أو أخي، فهل ذلك له؟
الرابع: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو أخذ الأموال ظلماً; قلت: أو بالركون إلى الكفار، أو لبس الحرير، ونحو ذلك، فيجوز ذكر ما فيه، كأن تقول: يشرب الخمر، يلبس الحرير، يوالي الكفار; وإنما يجوز مثل ذلك حميّة لله.
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2502)، وأبو داود: الأدب (4875) ، وأحمد (6/189) .
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2589)، والترمذي: البر والصلة (1934)، وأبو داود: الأدب (4874) ، وأحمد (2/230، 2/384، 2/386، 2/458)، والدارمي: الرقاق (2714) .
قال ابن القيم، رحمه الله، في فوائد غزوة تبوك: ومنها: جواز الطعن على الرجل، بما يغلب على اجتهاد الطاعن، حميّة أو ذباً عن الله ورسوله؛ ومن هذا: طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة، في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم. انتهى. فظهر الجواب عن الإيراد، فإن ظهور أنواع الفسق على الرجل أمر دون ما تقدم ذكره، فإذا جاز الطعن على هؤلاء فذاك أولى.
السبب الخامس: التعريف، إذا كان لإنسان لقب لا يعرف إلا به، كالأعمى والأعرج، فيجوز ذكره تعريفاً، وأما تنقصه فحرام اتفاقاً.
السادس: تحذير المسلمين ونصيحتهم، كالذي في كتب الجرح والتعديل، فذلك واجب، وكما إذا استشارك مسلم في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، فإنه يجب أن تذكر ما يحصل به المقصود؛ فإن كفى التعريض لم يجز التصريح، وإلا جاز منه ما يحصل به الغرض؛ وكذا إذا رأيت متعلماً يتردد إلى مبتدع، وخفت عليه الضرر، فعليك نصيحته؛ وكذلك إذا كان لإنسان ولاية، لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً، أو يكون فاسقاً، أو مغفلاً، فيجب ذكر ذلك لمن له ولاية عامة، ليزيله. انتهى كلام النووي، بتلخيص وتصرف.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن حديث رواه
البيهقي: "ليس في أهل البدع غيبة"، هل يؤخذ منه جواز غيبة أهل البدع على الإطلاق؟ وما جنس البدع التي تبيح العرض؟ وحديث:"من ألقى جلباب الحياء"
…
إلخ؟
فأجاب: وأما الأثر المروي عن الحسن، رحمه الله، قوله:"ليس لأهل البدع غيبة"، فمعناه صحيح؛ نص العلماء على جواز غيبة أهل البدع، وأطلقوا، فيتناول كل مبتدع; وبعضهم: خص ذلك بالداعي إلى البدعة.
قال الشيخ تقي الدين، بعدما انجر كلامه في الغيبة، قال: لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين؛ فالأول: كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني، وأخذ مالي، ومنعني حقي - إلى أن قال - وكذلك بيان أهل العلم من غلط في أمر رآه في أمر الدين، من المسائل العلمية والعملية؛ فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة فالله يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعياً إلى بدعته، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. انتهى. فدل كلامه على جواز ذلك في جميع أهل البدع، بل استحبابه بالشرط الذي ذكره، وأن ذلك واجب في حق الداعية إلى بدعته.
وذكر النووي في رياض الصالحين، ستة أبواب تباح
فيها الغيبة، ذكرها عن العلماء، قال: ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة - إلى أن قال - الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه وبدعته
…
إلى آخر كلامه.
واستدل لذلك بأحاديث، منها: حديث عائشة، رضي الله عنها:" أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة " 1، قال: واحتج به البخاري في جواز غيبة أهل الريب والفساد، وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث، بعد كلام سبق: كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره، فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك، قاصداً نصيحته. والإمام أحمد، رحمه الله مع ورعه - قد تكلم في أناس بأعيانهم، وحذر منهم، ومنهم من ليس معروفاً بالبدعة، مثل كلامه في الحارث المحاسبي، وقال: لا يغرنك لينه وخشوعه، فإنه رجل سوء، لا يعرفه إلا من خبره; وكلامه، رحمه الله، في أهل البدع والتحذير منهم كثير. وأما ما روي:"من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له"، فالمراد به: المجاهر بالمعصية، فإنه يجوز ذكره بما يجاهر به، كما تقدم من كلام النووي، ونقله ذلك عن العلماء.
1 البخاري: الأدب (6054)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2591)، والترمذي: البر والصلة (1996)، وأبو داود: الأدب (4791، 4792) ، وأحمد (6/38، 6/79، 6/158، 6/173) .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: وأما اليمين مع بينة كاملة
…
إلخ؟
فنقول: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم؛ ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " 1، قال النووي: حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين. وأصله في الصحيحين: عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه " 2، وفيهما: عن ابن عمر، رضي الله عنهما:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه "3.
وقد استدل العلماء بقوله: " اليمين على المدعى عليه " 4 على أن المدعي لا يمين عليه، وإنما عليه البينة، وهو قول الأكثرين; قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: روي عن علي رضي الله عنه "أنه حلّف المدعي مع بينته: إن شهوده شهدوا بحق"، وفعله أيضاً شريح، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وابن أبي ليلى، وسوار العنبري، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عن النخعي أيضاً.
وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا، وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال أحمد: قد فعله علي،
1 البخاري: تفسير القرآن (4552)، ومسلم: الأقضية (1711)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وابن ماجة: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/363) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4552)، ومسلم: الأقضية (1711)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وابن ماجة: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/363) .
3 البخاري: الرهن (2514)، ومسلم: الأقضية (1711)، والترمذي: الأحكام (1342)، وأبو داود: الأقضية (3619) .
4 البخاري: الرهن (2514)، ومسلم: الأقضية (1711)، والترمذي: الأحكام (1342)، وأبو داود: الأقضية (3619) .
فقال: أيستقيم هذا؟! فقال: بل فعله علي; فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد، لكنه حملها على الدعوى على الغائب والصبي، وهذا لا يصح، لأن علياً إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: اليمين لتقوية الدعوى، إذا ضعفت باسترابة الشهود، وكاليمين مع الشاهد الواحد.
وكان بعض المتقدمين: يحلف الشهود إذا استرابهم أيضاً، ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاء. وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع:"إنها تستحلف"، وأخذ به الإمام. وقد دل القرآن على استحلاف الشهود، عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السفر، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} الآية [سورة المائدة آية: 106] . انتهى.
إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجه: أن البينة الكاملة العادلة، التي لا يستريب الحاكم في شهادتها، لا يحلف المدعي معها، لقوله صلى الله عليه وسلم:" شاهداك أو يمينه " 1، فدل على الاكتفاء بالشاهدين. وأما إذا استراب الحاكم الشهود وخصوصاً في هذه الأزمان، فهنا يتوجه القول بتحليف المدعي، كما فعله علي رضي الله عنه وغيره، ويتوجه أيضاً: تحليف الشهود مع الريبة.
1 البخاري: الرهن (2516) .
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن امرأة ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً، وشهد معها أبوها، والزوج مُنكِر؟
فأجاب: قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وفي حديث عمرو بن شعيب، إذا شهد الشاهد الواحد، وحلف الزوج أنه لم يطلقن لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضى عليه؛ وقد احتج الأئمة الأربعة، والفقهاء قاطبة، بصحيفة عمرو بن شعيب، ففي هذا الحديث: أنه يقضى بشاهد وما يقوم مقام الشاهد من النكول، ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهداً واحداً، وحلف الزوج أنه لم يطلق، فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد، وترجح جانبه بكون الأصل معه.
وأما إذا نكل الزوج، فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر، ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء، لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلاً ظاهراً جداً على صدق المرأة، فلم يقض بالنكول وحده ولا يمين المرأة، وإنما قضى بالشاهد المقوى بالنكول ويمين المرأة. انتهى ملخصاً. فأنت احكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمد بن سلطان: أن والدي الشيخ، رحمه الله، يقول: هذا الذي نفتي به إذا وقعت المسألة.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله: إذا أقامت
المرأة أن زوجها الغائب طلقها ثلاثاً، أو أن فلاناً الغائب زوج لها
…
إلخ؟
فأجاب: فهمنا من كلامهم فيما إذا شهدت بينة شرعية، بأن فلاناً طلق زوجته فلانة ثلاثاً، أو شهدت به، بسبب يفسخ به النكاح لتحريمها عليه، أن الحاكم يسمع تلك الشهادة، ويحكم بها مطلقاً، ولا يشترط لسماع البينة والحكم بها تقدم دعوى من الزوجة أو وليها، لأن شهادة الشهود به دعوى؛ وكذا حكم حقوق الله تعالى، تسمع الشهادة بها من غير تقدم دعوى، وكذا العتق؛ قال القاضي في التعليق: في حقوق الله شهادة الشهود بها دعوى، قيل لأحمد في بينة الزنى تحتاج إلى مدع؟ فذكر خبر أبي بكرة، وقال: لم يكن مدع.
ونص أحمد أيضاً: على قبول بينة العتق ولو أنكر العبد، وذكره في الوجيز والتبصرة، واقتصر عليه في الفروع; وقال في الإقناع: وتقبل بينة عتق، ولو أنكره - أي: العتق - عبد، قال في شرحه: لأنه حق لله، وكذا بينة بطلاق، قال: وتصح الشهادة به وبحق الله، كالعبادات والحدود والصدقة والكفارة، من غير تقدم دعوى بذلك، فشهادة الشهود به دعوى؛ وقال: وتقبل شهادة المدعي فيه، أي: في حق الله تعالى، لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً، وهكذا عبارة من اطلعنا على كلامه
من الأصحاب.
وصرحوا: بأنه إذا شهدت البينة شهادة صحيحة بحق الله تعالى، أو حق لآدمي غير معين، واتضح الحكم، حكم بها، وإن لم يسأله أحد الحكم؛ والطلاق متضمن الحقين، فَلِتَضَمُّنه حق الله، جاز سماع البينة به من غير تقدم دعوى، بل ومع إنكار الزوجة وقوع الطلاق، كما صرح به شارح الإقناع، ولتضمنه حق الآدمي، جاز الحكم به على الغائب، بعد ثبوت البينة الشرعية. وذكر الأصحاب في القضاء سماع الحاكم البينة، والحكم بها في حقوق الآدميين، ولم يستثنوا منها شيئاً، كما استثنوا في اليمين في الدعاوى; وقال في باب طريق الحكم وصفته: تصح الشهادة، ويحكم بها في حق الله تعالى من غير تقدم دعوى، وذكروا من ذلك الطلاق.
وأما إذا ادعت المرأة على رجل نكاحاً، لطلب نفقة أو مهر، وأقامت بينة بذلك، سُمِعت بينتها، وحُكم بها، وثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها، كالمهر والنفقة وغيرها؛ قاله الأصحاب وأطلقوا، فيكون ذلك من حقوق الآدميين التي يحكم بها على الغائب، فدل كلامهم على جواز الحكم بذلك، وإن كان المحكوم عليه غائباً، لأن هذا من حقوق الآدميين. وأما رجوع الشاهد بعد الحكم، فالأمر فيه ظاهر، وهو: أن الحكم لا ينقض برجوعه عند جميع
العلماء. وفيه من التفصيل: وإن بان فسق الشهود نقض الحكم على المشهور في المذهب، وعن أحمد رواية أخرى: لا ينقض.
وأما الحاكم، فإنه يرفع الخلاف حكمه، ولا ينقض من حكمه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع، وكذلك لو بانت البينة من فروع المشهود له وأصوله، والحاكم لا يرى الحكم بشهادتهم، فإنه ينقض حكمه بنفسه; وذكر بعض متأخري الأصحاب: أنه ينقض حكم المقلد بما يخالف مذهب إمامه. وقال بعضهم: ينقض إذا حكم بمرجوح في مذهبه. وقال بعضهم: لا ينقض ما لم يخالف نصاً أو إجماعاً، أو قياساً جلياً.
ومن أثناء جواب لأبي العباس، قال بعد كلام سبق: لأن المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد ومجتهد، فهو يعتقد صحة صلاته، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه. انتهى.
وسئل عن قولهم: فعل الحاكم حكم، كتزويجه يتيمة؟
فأجاب: الحاكم إذا فعل ذلك صار حكماً منه يرفع الخلاف، ولأن حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله، نحو ما إذا زوج صغيرة بنت
تسع بإذنها، صار حكماً منه بصحة هذا النكاح، فلا يجوز لمن لا يرى جواز تزويج الصغيرة فسخ هذا النكاح، ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها؛ فلا ينقض من حكم الحاكم إلا ما خالف نص الكتاب أو نص سنة، أو إجماعاً قطعياً، أو إذا حكم خلاف ما يعتقده.
وسئل الشيخ أيضاً: إذا ادعى شخص عند الحاكم بأنه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم، فشهد به شاهدان؟
فأجاب: المذهب أنه يقبل شهادتهما، ما لم يتيقن صواب نفسه، وهذا مذهب مالك; ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يقبل شهادتهما، ولا يرجع إلى قولهما، حتى يذكر أنه حكم به; وظاهر كلام الأصحاب: أنه لا بد من شاهدين، فلا يكفي الشاهد ويمين المدعي للحكم، وقد احتجوا لما ذكروه، بقصة ذي اليدين؛ واقتصارهم على الشاهدين دليل على أنه لا يكتفى بغيرهما، ولم يذكر في الفروع، ولا في الإنصاف خلافاً، فدل على اعتبار الشاهدين، لا سيما والخلاف في عدم قبول الشاهدين مشهور، والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشاهدين وعدمه، ولم يذكروا الشاهد واليمين، فدل على أنه لا خلاف في عدم قبول الشاهد مع اليمين.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن رجل ادعى على رجل دعاوى ولم يعترف الغريم بشيء، وخرج المدعي
على أن يقيم بينة، واعتقل المدعى عليه ولم يقم بينة بعد أربعة أيام أو خمسة، فهل يجوز تطاول المدة في البينة؟ أم تكون هذه البينة إلى مدة؟
فأجاب: لا يجوز مثل هذا الحبس كما ذكر، بل قد نص أئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز مثل هذا الحبس; وإنما تنازعوا: هل يطلب من المدعى عليه كفيل إلى ثلاثة أيام ونحوها، إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة؟ وتنازعوا فيما إذا أقام حجة شرعية ولها شروط، مثل أن يقيم بينة ولم يزكها، فيطلب حبس الخصم حتى يأتي بشرطها، على قولين في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما; فأما هذا الحبس، فلا يجوز باتفاق العلماء فيما أعلم، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن العمل بالخط في إثبات الوقف؟ وهل ينزع العقار ونحوه ممن هو في يده بخط قاض معروف، ويحكم به بمجرد الخط؟
فأجاب: الذي يظهر أن هذا مبني على جواز العمل بمجرد الخط في الحكم والشهادة. ومن المعلوم: أن الذي عليه أكثر متقدمي الأصحاب، أنه لا يجوز العمل بمجرد الخط، وقد علمتم ما شرطوه في كتاب القاضي إلى القاضي، وغير ذلك. والذي عليه عمل المتأخرين: جواز العمل بالخط، والكلام الذي نقلتموه مضمونه عدم جواز العمل بالخط، لأنه أخرجه عن كونه بينة، ولا شك أن هذا