الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الذكاة
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن ذبح الأعراب؟
فأجاب: لا تهجروا ذبح الأعراب في هذه الأزمنة، فمنهم أناس كقحطان، نرى أنهم أحسن من بعض الحضر، وباقي بادية نجد عليهم اسم الإسلام، ويؤذنون ويصلون جماعة في الغالب، ولا يبين لنا ما يوجب الحكم بتحريم ذبائحهم.
أحضر الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، جهابذة علماء نجد سنة 1338، الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وحسن بن حسين، وسعد بن عتيق، وعمر بن سليم، وعبد الله العنقري، وسليمان بن سحمان، ومحمد بن عبد اللطيف، وغيرهم، لما جرى التنازع والاختلاف من بعض الإخوان، بسبب من يدعي طلب العلم، في مسائل، منها: هل بين الحضر الأولين والمهاجرين الآخرين فرق؟ وهل في ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين ومعتقده معتقدهم وفي ذبيحة الحضر الأولين فرق؟ حلال أو حرام، أم لا؟
فأجابوا: كل هذه الأمور مخالفة للشرع، ولا أمرت
بها الشريعة، والذي يفعلها ينهى عنها ويزجر، فإن تاب وأقر بخطئه عفي عنه، وإن استمر على أمره وعاند، وجب عليه أدب ظاهر بين المسلمين، وأن جميع ما يأمر به أو ينهى عنه، أو يعادي أو يصادق، على غير ما حكم به الحاكم الشرعي، فالذي يفعله مخالف للشريعة، وطريقه غير طريق المسلمي؛، وهذا الذي ندين الله به، ونشهد الله عليه.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ذبائح الأعراب، من حكمنا بكفره منهم، فذبيحته حرام، ومن حكمنا بإسلامه، فذبيحته مباحة.
وسئل: عن الذي يرمي صيداً بسهم، ويذكر اسم الله عليه فيخطئه، ثم يرميه بآخر في الحال، وينسى الاسم، هل يحل إذا أصابه؟
فأجاب: لا بد من ذكر الله عليه عند الإرسال.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن حل ذبيحة المرأة؟
فأجاب: وأما ذبيحة المرأة، فلا بأس بها إذا كانت مسلمة، وذكرت اسم الله تعالى.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هل الذبح للجن منهي عنه؟
فأجاب: اعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه دون الحرام، مثل استعمالها في المحرمات، وقوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وقوله:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [سورة مريم آية: 92] . ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر.
وقوله: يكره، كقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 23-38] . وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم. إذا فهمت هذا، فهم صرحوا: أن الذبح للجن ردة تخرج عن الإسلام، وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهلّ به لغير الله. والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها. وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه.
وقال في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
[سورة المائدة آية: 5]، وقوله:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] : الآيتان لا اختلاف في حكمهما بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم؟ فيدخل حكمه في حكم الآية، إذا ذبح وسمى الله عليها. فلو ترك التسمية نسياناً حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمداً، فلا تحل ذبيحته.
وكذلك أهل الكتاب – أعني: اليهود والنصارى -، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 5] . وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها: بسم الله، لأن المانع من ذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه:
أحدها: أن ذبيحته من الخبائث.
الثانية: أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب.
الثالثة: أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها.
الرابعة: أن حكمه ضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فاقتلوه " 1، بخلاف أهل الكتاب.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن ذبيحة الكافر والمرتد، إذا ذبحت للحم وذكرا اسم الله عليه، فهل هناك نص بتحريمها غير الإجماع، ومفهوم قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية
1 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059، 4060، 4061، 4062، 4064، 4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجة: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217، 1/282، 1/322) .
[سورة المائدة آية: 5] ؟
فأجاب: الإجماع دليل شرعي بالاتفاق، ولا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة؛ وقد يخفى ذلك الدليل على بعض العلماء. فإن كان قد وقع الإجماع على تحريم ذبيحة الكافر والمشرك غير الكتابي، فحسبك به، ودلت الآية الكريمة على التحريم بمفهومها، كما قد عرفتم.
والجواب عن قوله: وذكرا اسم الله عليها، أن يقال: التسمية من الكافر الأصلي ومن المرتد، غير معتبرة، لبطلان أعمالهما، فوجودها كعدمها، كما أن التهليل إذا صدر منه حال استمراره على شركه غير معتبر، فيكون وجوده كعدمه؛ وإنما ينفع إذا قاله عالماً بمعناه، ملتزماً لمقتضاه، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] ؛ قال ابن جرير - كغيره -: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتابين من الكفار، قال الله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ، قال ابن عباس:"طعامهم: ذبائحهم"، وكذا قال جميع علماء التفسير. فتخصيص الإباحة بذبح أهل الكتاب، يدل على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار؛ وما زال العلماء في جميع الأمصار يستدلون بمفهوم الآية، على تحريم ذبائح الكفار سوى أهل
الكتاب.
وفي مسند الإمام أحمد، حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال فيه: " فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا "، وروى سعيد بن منصور في سننه، بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب"، وقال الوزير ابن هبيرة: وأجمعوا على أن ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، غير مباحة. انتهى.
ولما قال أبو ثور، رحمه الله، بإباحة ذبائح المجوس، مستدلاً بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 1، أنكر عليه الأئمة، وبالغوا في الإنكار عليه; قال الإمام أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يُعَرِّض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وما رأينا أحداً من العلماء تكلم في هذه المسألة، إلا ويذكر تحريم ذبائح ما عدا أهل الكتاب، ولا يذكر في ذلك مخالفاً، إلا مخالفة أبي ثور في المجوس، ومخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة.
قال الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، في الشرح الكبير: فأما ذكاة المجوس، فلا تحل في قول أهل العلم،
1 مالك: الزكاة (617) .
وشذ أبو ثور، فأباح صيده وذبيحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 1، ولأنهم يُقَرُّون بالجزية، فتباح ذبيحتهم وصيدهم، كاليهود والنصارى؛ وهذا قول يخالف الإجماع، فلا عبرة به. قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور.
وممن منع أكل ذبائحهم: ابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وجابر، وأبو بردة، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن بن محمد، وعطاء، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، ومالك، والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، وأحمد؛ ولا أعلم خلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، ولأن الله تعالى قال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5]، فمفهومها: تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا كتاب لهم، فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، ثم ذكر الحديث الذي أخرجه الإمام، وقد تقدم. قال: ولأن كفرهم مع أنهم غير أهل كتاب، يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم، بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب، وإنما أخذت منهم الجزية، لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم، فلما غلبت في التحريم لدمائهم، وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء
1 مالك: الزكاة (617) .
احتياطاً، للتحريم في الموضعين، ولأنه إجماع؛ فإنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، ولا في من بعدهم، إلا في رواية عن سعيد بن المسيب، روي عنه خلافها.
ثم قال: فصل: سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم، حكمهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم، قياساً عليهم، بل هم شر من المجوس، لأن المجوس لهم شبهة كتاب، بخلاف هؤلاء - إلى أن قال - ولا تباح ذبيحة المرتد، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب؛ وهذا قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال إسحاق: إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته; ولنا: أنه كافر لا يُقَرّ على دينه، فلم تحل ذبيحته كالوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، فإنه لا يقر بالجزية، ولا يُسترق، ولا يحل نكاح المرتدة. انتهى ملخصاً.
فدل كلامه على أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عبد الأوثان، والمرتد إلى دين أهل الكتاب; قال الزركشي في شرح الخرقي - لما ذكر قول الخرقي -: ولا يأكل من صيد المجوس إلا ما كان من حوت، فإنه لا ذكاة له. وحكم عبدة الأوثان ونحوهم، حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس، لوقوع الخلاف
فيه، وإن كان الخلاف شاذاً. انتهى.
فدل كلامه: أنه لا خلاف في تحريم ذبائح من عدا المجوس من الكفار، مع أن مخالفة أبي ثور في المجوس شذوذ، وخرق للإجماع، كما قال إبراهيم الحربي، فلا عبرة به. وكذلك مخالفة إسحاق في المرتد إلى دين أهل الكتاب، ولعله يحتج بأنه يدخل في عموم أهل الكتاب إذا تدين بدينهم، وقول الجمهور هو الصواب، لأنه لا يسترق، ولا يقر بالجزية، فدل ذلك على مخالفة حكمه لحكم أهل الكتاب؛ ومن حكمنا بكفره من أهل العصر فهو مرتد، حكمه حكم المرتدين، لقول العلماء، رحمهم الله: من فعل كذا، أو قال كذا فهو مرتد، فلم يجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي، ولا حكم أهل الكتاب بكونه يقر بالجزية، ويسترق، وتنكح المرتدة، بل قالوا: حكمه القتل، وتحريم نكاح المرتدة، فلم يجعلوا حكم المرتد من هذه الأمة كحكم أهل الكتاب، بل حكمه عند الجميع مخالف لحكم أهل الكتاب.
وقد حكي لنا عن بعض من ينتسب إلى العلم من المعاصرين، أنه قال: إذا كان الله قد أباح ذبائح اليهود والنصارى لكونهم أهل كتاب، فكفار هذه الأمة أولى، لأنهم أهل كتاب، بل كتابهم أشرف من الكتابين، وهذا قياس فاسد، لمخالفته الكتاب والإجماع، قال الله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة آية: 5] ، فدل مفهوم ذلك، على تحريم ذبائح من عدا أهل الكتاب. وقد أجمع العلماء: على أن المرتد من هذه الأمة، حكمه مخالف لحكم أهل الكتاب، فلا يقر بالجزية، ولا يسترق، ولا تنكح المرتدة، ولا تباح ذبيحته، إلا ما ذكروا من مخالفة إسحاق، في إباحة ذبيحة المرتد إلى دين أهل الكتاب خاصة; وحكم الصحابة ومن بعدهم من جميع العلماء، مخالف لحكمهم في أهل الكتاب، فمن قاس المرتد من هذه الأمة على أهل الكتاب، فقد خالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وصرح غير واحد: بتحريم ذبائح الزنادقة، والدروز، والتيامنة، ونحوهم، لأن هؤلاء كفار بلا خلاف؛ والزنديق هو المنافق ونحوه. فقد وضح الحق لمن أراد الله هدايته، ومن لم يرد الله هدايته، لم تزده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
[ذبيحة الوثني والمرتد]
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد، بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] ، فهو من أجهل الناس بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، وهو
كمن يستدل على لبس الحرير، بقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 32] ؛ والجهل بالتأويل وأسباب النزول، ضرره وصل كبار العمائم، فكيف الحال بالجفاة والعوام؟
واعلم: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [سورة المائدة آية: 5] فسر بحل الذبائح، وأنها هي الطعام، ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب، من الكفار والمشركين، واحتج بهذا أهل العلم؛ ومفاهيم كلام الله وكلام رسوله حجج شرعية. وفسروا المراد من قوله:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 118] بأن المراد به: ذبيحة المسلم والكتابي، إذا ذكر اسم الله عليه، أخذاً من مفهوم آية المائدة؛ وهذا هو المشهور المقرر، وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، لكن من أهمها، أن بعض المحققين ذكروا أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب، بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبح للأكل واللحم. وأما ما ذبحوه تقرباً إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه، والمقصود ما ذبح للحم. وذكروا تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي، لأنه لا يأتي بالتسمية، ويستحل الميتة؛ وهذا نظر منهم لأصل من علق الحكم بالمظنَّة، كمن علق الحدث بوجود النوم، لأنه مظنة. فقول
القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله، جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين. وقول السائل: هل التسمية "كلا إله إلا الله"؟ فليس مثلها من كل الوجوه، ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث.
وأجاب الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن: وأما الجلاء، وهو صيد الصَّلَب، فينبني على معرفة أحوالهم ودياناتهم؛ ومن عرف حكم المرتد تبين له حالهم، وأنهم في غاية من الضلال والكفر. وتحريم ذبيحة المرتد مسألة إجماع، حتى إن من الفقهاء من جعل التسمية من المسلم شرطاً؛ قال البغوي في شرح السنة: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة، يروى ذلك عن ابن سيرين والشعبي، وبه قال أبو ثور، وداود. واحتج من لم يرها شرطاً، بما في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها:" أن أناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوا. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر " 1، وساقه البخاري في اجتناب المتشابهات، وترجم له، فقال: باب ذبيحة الأعراب ونحوهم; قال الحافظ: وهو أصل في تحسين الظن بالمسلم. وعن أحمد: أن المسلم إذا نسي الاسم على السهم أبيح دون غيره، أي غير السهم، كالذبيحة، فكيف - والعياذ بالله - بهؤلاء الصلب
1 البخاري: البيوع (2057) والذبائح والصيد (5507) والتوحيد (7398)، والنسائي: الضحايا (4436)، وأبو داود: الضحايا (2829)، وابن ماجة: الذبائح (3174)، ومالك: الذبائح (1054)، والدارمي: الأضاحي (1976) .
المرتدين، الذين لا يصلون ولا يزكون، ولا يدينون بالشرع، ولا يؤمنون بالبعث، ولا يرون التسمية على الصيد، كما هو مشهور عندهم؟
وفي حديث عدي بن حاتم المتفق عليه، ما يبين أن الأصل المنع، إذا اشتبه صيد المرتد بصيد المسلم، ولفظه:" إذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها، فأمسكن وقتلن، فلا تأكل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس فيه إلا أثر سهمك فكل " 1، قال البغوي في شرح السنة: وفيه دليل على أنه إذا اشترك في الذبح من يحل ذبحه ومن لا يحل، كمسلم ومجوسي، أو مسلم ومرتد، أو أرسل مسلم ومجوسي، أو مرتد كلباً أو سهماً على صيد فأصابه وقتله، فإنه يكون حراماً، وإن أرسل كل واحد سهماً أو كلباً، فأصاباه معاً فحرام أيضاً. انتهى.
وأما ما جلب في أسواق المسلمين من الجلاء، إذا كان فيه من يصيد من المسلمين وغيرهم، يحتمل أن يكون الصائد له مسلماً، فمن قال: إن الأصل فيما دخل إلى أسواق المسلمين الإباحة، أجازه، ومن جعل الأصل استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، أبقى الصيد على أصله في التحريم، حتى ينقله ناقل.
قال ابن القيم في الإعلام: وقد دلنا الشارع على تعليق الحكم به - يعني بالوصف - في قوله في الصيد: " وإن
1 البخاري: الذبائح والصيد (5485) .
وجدته غرقاً فلا تأكله، فإنك لا تدري، الماء قتله أو سهمك " 1. وقال في الكلاب:" فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره " 2، لما كان الأصل في الذبائح التحريم، ونشك هل وجد الشرط المبيح أم لا، بقي الصيد على أصله. انتهى; إذا تبين هذا، فالأحوط: اجتناب ما يتطرق إليه الاحتمال الذي صورنا، حتى يتحقق أن الصائد مسلم، على ما قرره ابن القيم.
وأما مسألة ما ذبح في بلاد المشركين، فهي تبنى على استصحاب الأصل الذي قررناه في المسألة الأولى، فمتى كانت البلاد بلاد كفر، وأحكام الكفر جارية عليها، أو المسلم فيها قليل، فإن الأصل المنع من ذبائحها، إلا في دار كان الأغلب فيها أهل الإسلام، والولاية لهم. أما إذا عرف أن الذابح بعينه مسلم فلا كلام، أو أن الذابح يهودي كما في مصر وأشباهها، فكذلك حلال. ومن تأمل ما قررناه من القاعدة الكلية في المسألة الأولى، زال عنه الإشكال.
[شرط الذبيحة]
وأجاب الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: شرط الذبيحة: أن يكون الذابح عاقلاً مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، وعند إرسال الجارح والسهم في الصيد؛ وكل من حكم بكفره غير الكتابي، فلا تحل ذبيحته ولو ذكر اسم الله عليها، لأن التسمية عبادة،
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929)، والترمذي: الصيد (1469) .
2 البخاري: البيوع (2054)، ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929)، والترمذي: الصيد (1470)، والنسائي: الصيد والذبائح (4264) ، وأحمد (4/380)، والدارمي: الصيد (2002) .
وعبادة الكافر حابطة، فوجود التسمية كعدمها، سواء كان كفره بقول، أو فعل أو اعتقاد؛ وأكثر الأعراب في هذه الأزمنة، معهم من المكفرات ما يوجب كفرهم، ومن أوضح ذلك: إنكار البعث، أو الشك فيه.
وأما حديث: " إن الأعراب كانوا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ "، فأولئك الأعراب قد دخلوا في الإسلام، والتزموا أحكامه على عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل ما يوجب ردتهم كما نقل عن هؤلاء، فلا حجة فيه. وأما أعراب هذا الزمان، فقد خرج كثير منهم من الإسلام، ونبذوا أحكامه كما يعرف ذلك من عرفه من أحوالهم. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما أكل ذبائح البدو اليوم، فالذي ينبغي نصيحة من يفعل ذلك، وأما التعزير فلا أدري.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: وأما ذبائح الأعراب، فالأعراب في هذه الأزمان، بعضهم شامله اسم الإسلام، ومن عرف منهم بتحكيم الطاغوت، وإنكار البعث، أو الاستهزاء بالدين، أو عمل الكهانة أو السحر، فلا تحل ذبائحهم، ولا يجوز الأكل منها، لأنها في حكم ذبيحة المرتد.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عما إذا انتهب بعض
الأعراب من بعض، مثل غنم مذكاة، هل يصرح بتحريمها، وإذا خلص شاة غيره من عدوه، وهي مذكاة، هل يجوز أكلها؟
فأجاب: أما من خلص شاة مذكاة فهي لقطة، يجوز أكلها وتعريفها، فإذا كان الذابح هو الغاصب، جاز أكلها بإذن صاحبها؛ لكن الواقع اليوم، كالذين ينهبون غنم غيرهم ويذبحونها، ويدركها غيرهم مذبوحة، فالأولى اجتنابها وتركها.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن قوله في شرح الإقناع: إذا ذبح السارق المسلم، أو الكتابي المسروق مسمياً، حل لربه ونحوه أكله، ولم يكن ميتة كالمغصوب، وعن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن ذبيحة المرأة " أطعميه الأسارى " 1؟
فأجاب: الحديث لا يعارض النقل عن الإقناع كغيره، لكونه مقيداً بقوله: حل لربه ونحوه أكله; فمفاده: أنه لا يحل لغير ربه، وغير من أذن له ربه في الأكل منه، وإن كان حلالاً بالتذكية; وقوله: كالمغصوب; راجع لقوله: حل لربه ونحوه، وليس راجعاً لقوله: ولم يكن ميتة; فتنبه لتشبيهه بالمغصوب في الحل لا في الحرمة، ويقال أيضاً:" أطعميه الأسارى " 2 دليل على حله، إذ لو كان حراماً، لما جاز أن يأمرها أن تطعمه الأسرى.
1 أبو داود: البيوع (3332) .
2 أبو داود: البيوع (3332) .
وأجاب أيضاً: لا معارضة، إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكل منها لا يدل على أنها ميتة من وجوه; منها: أنها ليست ملكاً لهم، ولا لمن ذبحها، فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها، ولا من أذن له مالكها في الأكل منها. ويحتمل أنه ترك الأكل منها تنزهاً. ويدل على حلها بهذه الذكاة، قوله:" أطعميه الأسارى " 1، وهو لا يطعمهم ميتة. وقوله: كالمغصوب، راجع لقوله: حل، لا لقوله ميتة، شبهه بذبح الحيوان المغصوب في الحل، لا في الحرمة.
وسئل ابنه: الشيخ إسحاق، رحمهما الله: عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها؟
فأجاب: قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: الجواب: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها على هذه الفتوى من هذا الإمام، ومن له في الحديث أعظم إلمام، ولا دليل لمن منع من ذبيحة مغير على غنم بلد، ذبح منها شيئاً وعلقه ثم سقط، فجاء ربه فأذن فيه لأحد، على كلام الشيخ تقي الدين؛ وبرهانه: ما في حديث المرأة التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها " 2، فمفهوم النص: أن الإذن ابتداء مبيح، دون تحقق وجوده، فهو واضح في أن عدم الإذن، هو الذي حرمها، ومفاهيم النصوص نصوص، إذا لم تعارض.
1 أبو داود: البيوع (3332) .
2 أبو داود: البيوع (3332) ، وأحمد (5/293) .
ووجه آخر، وهو: أن المحرمات على قسمين: قسم محرم لحق الله، كالدم والميتة، ومحرم لحق آدمي وهو الظلم؛ فإذا زالت العلة زال الحكم، فلا يصير ممنوعاً لنفسه، بل لما قام به من حق الغير، فمتى أذن له أبيح، فاستفدنا من نفس هذا الحديث رجحان ما أفتى به تقي الدين، فيكون معنى الحديث مطابقاً للحديث الثاني: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "1. ويدل على أنها لم تستأذنه: قولها في رواية الدارقطني: وأنا من أعز الناس عليه، وعلي أن أرضيه بأفضل منها، فصار عدم استئذانها له ظاهر من نفس الحديث، بحيث أنها لم ترضه وسترضيه، وأنها لم تعطه ثمناً، فكيف يسوغ أكل مثل هذه، لمن امتنع من أكل الضب، وترك أشياء عديدة مباحة، كان اقتضاها منصبه الأسنى، والصحابة يفعلونها; ويدل على ذلك أيضاً: إذنه في أكلها لغيره، فإنه لو كان المانع أمر يرجع إلى نفس الشاة، لم يأذن فيه لأحد، ففي هذا ما يدل على وضوح الفرق بين المأذون وغيره، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: عمن ذبح شاة أو سرقها، فذبحها بغير إذن أهلها، أو أغار قوم على غنم أهل بلد فذبحوا منها شيئاً وذهبوا به، ثم لحقهم الطلب،
1 أحمد (5/72) .
فاستنقذوه من أيديهم، هل يحل أكل ذلك المذبوح، أو لا؟
فأجاب: الحمد لله، ينبغي أولاً: أن يعلم أن العلة في المذبوح، تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; إذا ثبت هذا، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، عمن غصب شاة فذبحها، ثم تراضى هو ومالكها، هل يجوز أكلها؟ فأجاب، رحمه الله: إذا تراضى هو وصاحبها، جاز أكلها. انتهى.
قلت: ويشهد لهذا: ما رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه " 1، وفي لفظ:" لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " 2، رواه أحمد والبيهقي والدارقطني، لمفهوم هذا الحديث: أنه إذا طابت نفسه حل ذلك له، وجاز له أكل ما أباحه، وأذن له في أكله، وأخذه، وإذا لم تطب نفسه به فهو حرام، لا يحل له أخذه، ولا أكله.
قال ابن القيم، رحمه الله تعالى - بعد كلام له -: ويمكن أن يقال في جواب هذا: أن قتل الآدمي حرام لحق الله وحق الآدمي، وهذا لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، وهذا لو أباحه حل؛ فالمحرم هناك: إنما هو تفويت المالية على المالك، لا إزهاق الروح; فتأمل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله: أن ما كان لحق الله ولحق آدمي، أنه لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح
1 أحمد (5/425) .
2 أحمد (5/72) .
المغصوب، فإنه حرام لمحض حق الآدمي، فإذا أباحه له حل ولم يحرم عليه؛ وأن العلة في ذلك هي تفويت المالية على المالك.
ثم قال: وقد اختلف العلماء في ذبح المغصوب، وقد نص أحمد على أنه ذكي، وفيه حديث رافع بن خديج، في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم فذبحت له شاة أختها بدون إذن أهلها، فقال:" أطعموها الأسارى " 1، وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له، دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، فيمن سرق شاة فذبحها، لا يحل أكلها يعني له، قلت لأبي: فإن ردها على صاحبها فلا تؤكل، فهذه الرواية قد يؤخذ منها: أنها حرام على الذابح مطلقاً، لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل، لم يخص الذابح بالتحريم. ثم قال ابن القيم، رحمه الله: هذا كلام شيخنا، يعني شيخ الإسلام ابن تيمية. قلت: فتبين من هذه الرواية، أن استدلال أحمد بحديث المرأة ظاهر في حلها لغير من ذبحت له، وشبهها بالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام، حرم على الحرام دون الحلال; وتبين من الرواية الثانية في ذبيحة السارق: أنها لا
1 أحمد (5/293) .
تحرم إلا على الذابح السارق لا غيره. وأما ما يستدل به المخالف، من أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن من ذبح غنماً، أو إبلاً بغير أمر أصحابها لا تؤكل، بما رواه في صحيحه عن رافع بن خديج، قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصبنا إبلاً وغنماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأمر بالقدور فأكفئت " 1 الحديث. ويستدلون بما رواه أبو داود، من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه عن رجل من الأنصار قال:"أصاب الناس مجاعة شديدة، فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة "2. انتهى. فيقال: إن العصمة والحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه واستنبطه، فإن الرأي والاستنباط يخطئ ويصيب، وليس ما رآه واستنبطه حجة على من لم يره؛ بل كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والذي رواه البخاري، رحمه الله، إنما هو في الغنائم المشتركة بين الناس، وهي إذ ذاك لم تقسم، وهم لم يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بقية الغانمين في ذبحها وأكلها، فأمر بإكفاء القدور زجراً لهم عن معاودة مثله، والإمام له تأديب رعيته.
1 البخاري: الجهاد والسير (3075)، والنسائي: الصيد والذبائح (4297)، وأبو داود: الضحايا (2821)، وابن ماجة: الأضاحي (3137) .
2 أبو داود: الجهاد (2705) .
وأيضاً، فإنه لم يجئ في الحديث إتلاف اللحم، قال النووي، رحمه الله: والمأمور به من إراقة القدور، إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يلقوه، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه، مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وهذا من مال الغانمين. وأيضاً، فالجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، فإن منهم من لم يطبخ، ومنهم المستحقون للخمس; فإن قيل: لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم، قلنا: ولم ينقل أنهم أحرقوه، أو أتلفوه; فيجب تأويله على وفق القواعد. انتهى.
وللعلماء في هذا المقام كلام، لكن المقصود: أن مالك الشاة المذبوحة بغير إذنه إذا أذن في أكلها جاز، ولا يرد عليه حديث رافع بن خديج، ولا الحديث الذي رواه أبو داود عن عاصم بن كليب، لأن ذلك في الغنائم المشتركة غير المقسومة؛ والشاة لا مشارك لمالكها ولا مقاسم، بل هي ملكه، وقد أباحها بطيبة من نفسه. وقد روى البخاري في صحيحه:" أن جارية لكعب بن مالك، كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كلوها " 1، قال ابن حجر: وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه، ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاووس وعكرمة، وإليه جنح البخاري. انتهى.
1 البخاري: الذبائح والصيد (5505)، وابن ماجة: الذبائح (3182) ، وأحمد (3/454)، ومالك: الذبائح (1057) .
فهذه شاة ذبحت بغير إذن مالكها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلوها". ومن هنا قلنا: إن الحجة فيما رواه البخاري، لا فيما رآه. وقد تقدم خلاف العلماء، مع أن هذا الحديث الأخير، الذي رواه البخاري في صحيحه، فيه جواز أكلها بغير إذن مالكها، فكيف إذا أذن وأباح أكلها. إذا تحققت هذا، فما أخذه من أغار على غنم أهل بلد، ثم لحقوه فاستنقذوه من أيديهم، إنما هو قياس مع فارق، فإن الغنائم مشتركة بين من ذبح ومن لم يذبح، وصاحب الغنم المأخوذة لا مشارك له فيها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها بحق، وهؤلاء بعدوان وظلم، والغنائم فيها خمس، والغنم المأخوذة ليس فيها خمس. إذا علمت ذلك، فهي: حلال لمالكيها، لا لآخذها، فإن أذن المالكون لمن استنقذها في أكلها، جاز ذلك، وإلا فلا، وكذلك الشاة المذبوحة بغير إذن أهلها، إلا أن أحمد قال في ذبيحة السارق: أنها لا تحل له، يعني للسارق دون غيره. هذا ما ظهر لي، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
تنبيه: اعلم وفقني الله وإياك، أن البخاري، رحمه الله، استدل على أن ما ذبح بغير إذن المالك، أو كان المال المشاع مشتركاً، لا يؤكل، بحديث رافع بن خديج المتقدم، واستدل أحمد بن حنبل على جواز أكله، بحديث رافع بن خديج، وبحديث المرأة؛ فكل من الإمامين استدل
على الجواز والمنع، بحسب ما فهمه من الحديث، ومجرد مفهوم أحد الإمامين، لا يكون حجة يجب المصير إليه، ولا يقول بهذا إلا مقلد متعصب.
والواجب على من له معرفة ونظر: أن يطلب دليلاً من خارج، وقد اجتهدنا حسب الإمكان والطاقة، فوجدنا ما رواه البخاري في صحيحه، الحديث المتقدم ذكره في قصة جارية كعب بن مالك، والحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما؛ فالأخذ بظاهر ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بمفهوم عالم فاضل، يجوز عليه الخطأ. بقي أن يقال في هذه المسألة: ما حال الذابح مع الظلم والعدوان؟ فالجواب أن الحكم على الظاهر: فإذا وقع في بلاد الإسلام، كان الظاهر أنه مسلم، إلا أن يعلم كفر الذابح بعينه، فلا تحل ذبيحته.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف: وقولك: رجل دخل بيت رجل
…
إلخ، ومشكل عليك حل ذبيحته، فالذابح غاصب، وإذا أباحها صاحب المال فلا بأس بأكلها، لأن الذابح مسلم، وأدبه وتعزيره على الآمر.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: المسألة ورد فيها حديث المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبحت الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها، فقصت عليه القصة، فقال:" أطعموها الأسارى " 1، قال شيخ الإسلام، رحمه الله:
1 أحمد (5/293) .
فهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله، يمنع منه المذبوح له دون غيره، كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لمحرم، حرم على المحرم دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه، قال: قيل له: إن رجلاً سرق شاة فذبحها، قال: لا يحل أكلها له، قلت: فإن ردها على صاحبها، قال: تؤكل إذًا. إذا فهمت هذا، فهي لا تحل للذابح، ولو أذن له المالك بعد الذبح، عقوبة له، ولا لمن ذبحت له، قياساً على صيد الحلال للمحرم، كما أشار إليه الشيخ تقي الدين. وأما من عدا ما ذكر، فهو باق في حقه على الإباحة للمالك، وغيره.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن الذي يرمي بالبندق أو الحربة
…
إلخ؟
فأجاب: يسمي الله عند الرمي، وهو حلال، وكذلك الذي يتردى في بئر أو شبهه، فذكاته أن يلحق ما يقتله، مثل حربة أو خنجر ويسمي.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رمى إنسان بعيراً، ولم يمكنه تذكيته، كما إذا شرد البعير أو سقط في بئر، ولم يمكنه نحره، فحكمه حكم الصيد إذا رماه إنسان: فإن أدركه حياً حياة مستقرة، فلا بد من ذبحه، فإن لم يكن فيه إلا مثل حياة المذبوح، فلا يحتاج إلى تذكية. وإن أصابه وغاب عنه، ثم وجده ميتاً، ولا أثر
به غير رميه، فإنه يباح. ويشترط التسمية عند رميه، قاصداً قتل المرمي. وهكذا حكم البعير الشارد، والمتردي في بئر ونحوهما.
وأجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: بلغنا أن ناساً جزموا بتحريم فريسة السبع التي افترسها وبقيت حية، إلى أن أدركتها الذكاة؛ وهذا جهل بأحكام القرآن ونصوص السنة، قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 3] .
فذكر سبحانه وبحمده المحرمات في هذه الآية، وذكر منها ما أكل السبع، يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب، والذئب، والضبع ونحوها، فذكره في جملة المحرمات، ثم استثنى سبحانه وتعالى، فقال:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3] ، نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة؛ فإن الذكاة عاملة فيه، لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفاً إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعاً إلا بدليل يجب التسليم له.
روى ابن عيينة وشريك وجرير، عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها، حتى انتشر قصبها، فأدركت ذكاتها فذكيتها، فقال:? "كل، وما انتشر من قصبها فلا تأكل"، قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على وصف ابن عباس، لأنه وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم؛ وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر هل يعيش مثلها، وكذلك المريضة. قال إسحاق: ومن خالف في هذا فقد خالف السنة، وجمهور الصحابة وعامة العلماء. قال الإمام القرطبي، رحمه الله: وإليه ذهب ابن حبيب، وذكره عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب، والأشهر من مذهب الشافعي. قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء، والذي في الموطإ: أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب، فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده، وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره. انتهى كلام القرطبي.
وأما كلام الفقهاء من الحنابلة، رحمهم الله، فقال في المغني: فصل: والموقوذة والمتردية، والنطيحة وأكيلة السبع، وما أصابها مرض فماتت به، محرمة إلا أن تدرك ذكاتها، لقوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . وفي حديث جارية
كعب، أنها أصيبت شاة من غنمها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"كلوها"، فإن كان لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح، لم يبح بالذكاة، وإن أدركها وفيها حياة مستقرة، بحيث يمكنه ذبحها حلت، لعموم الآية والخبر، سواء قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش، لعموم الآية والخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ولم يستفصل؛ وقد قال ابن عباس، في ذئب عدا على شاة فعقرها، فوقع قصبها بالأرض، فأدركها فذبحها بحجر، قال:"يلقى ما أصاب الأرض، ويؤكل سائرها".
وقال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة، حتى تبين فيها آثار الموت، إلا أن فيها الروح يعني فذبحت، قال: إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو - إن شاء الله - أن لا يكون بأكلها بأس، وروى ذلك بإسناده عن عبيد بن عمير، وطاووس، قال: وقالا: إذا تحركت، ولم يقولا: إذا سال الدم; قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت، فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها، أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها، ويضعف فيها الدم، قال: فلا بأس.
ثم ذكر رواية ابن أبي موسى في مذهب أحمد، ثم قال: الأول أصح، لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح، إلى حد علم أنه لا يعيش معه، فوصى وقبلت
وصاياه، ووجبت العبادات عليه. وفيما ذكرنا من عموم الآيات والخبر، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب، ما يدل لهذا، ويحمل ما نقل عن أحمد في شاة خرجت أمعاؤها، وبانت منها، ولم تتحرك إلا حركة المذبوح; فأما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها، فهي في حكم الحياة تباح بالذبح؛ وقد تقدم: أن عموم الآية والخبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ما فيه كفاية. انتهى.
وما ذكره في المنتهى وشرحه، من قوله: وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته ونحوها، مما لا يبقى معه حياة، فوجودها كعدمها، فلا يحل بذكاة؛ فهذا نص رواية ابن أبي موسى، وقد ردها في المغني كما تقدم، بعموم الآية والخبر; وأيضاً، معنى قوله: أبينت، ليس هو بمعنى ظهورها، بل معناه: أزيلت، كما تقرر عند أهل الأصول، كشارح المنهاج وغيره؛ ومن المعلوم: أنها إذا أزيلت حشوتها، أن حركتها كحركة المذبوح، مع أن عموم الآية والخبر، وعدم استفصال النبي صلى الله عليه وسلم فيه مقنع وكفاية.
وقال في المغني أيضاً: والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمناً، يكون الموت بالذبح أسرع منه، حلت بالذبح، وأنها إن كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة، أنها متى تحركت وسال دمها حلت; قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله: وما أصابه الموت، كأكيلة السبع ونحوها، فيه نزاع بين
العلماء: هل يشترط أن لا تبقى يومها بذلك السبب، أو أن تبقى معظم اليوم، أو أن تبقى فيها حياة بقدر حياة المذبوح، أو أزيد من حياته؟ فيه خلاف؛ والأظهر أنه لا يشترط شيء من ذلك، بل متى ذبح فخرج منه الدم الأحمر، الذي يخرج من المذكى المذبوح في العادة، ليس هو من دم الميت، فإنه يحل أكله، وإن لم يتحرك في أظهر قولي العلماء. انتهى كلامه.
فتبين بما ذكرناه: أن الرواية التي يستروح لها من يجزم بالتحريم، أنها مردودة في مذهب أحمد، عند كثير من الأصحاب؛ وبهذا كفاية إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم، عن الضب إذا كان في جحره، وبان منه بعضه، فجذبته فانقطع بعضه هل يحل الذي انقطع في يدي، إذا أخرجته في الحال وذبحته، أم لا؟
فأجاب: لا يحل ما انقطع منه، ولو أخرجه في الحال وذبحه، إلا أن يكون الذي انقطع متصل بالضب، وأما إذا انفصل عنه، فإنه لا يحل ولو كانت الحركة في حال ذبح الضب موجودة في الذي انقطع.
سئل الشيخ عبد الله العنقري: عن شق بطن الشاة الميتة، وإخراج ولدها لإنتاجه؟
فأجاب: الظاهر أنه إذا أمكن ذلك فلا بأس به.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قطع حلقوم الذبيحة؟
فأجاب: الذبيحة إذا ذبحت، وذكر اسم الله عليها، وقطع الحلقوم والودجين، فهي حلال وإن لم يبق في الرأس من الحلقوم شيء.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عما ذبح إلى غير القبلة عمداً أو سهواً.
فأجاب: استقبال القبلة عند الذبح ليس بشرط ولا واجب، وإنما استحبه بعضهم، ومن تركه فلا حرج عليه.
وقال، رحمه الله تعالى: وأما قول السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " 1، وأي شيء حقيقة البدعة؟ وهل يؤول الكلام أم لا؟ فإذا قلت: لا، فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة، ولبس المحارم وغيرها، بدعة لا تثبت من الرسول ولا ممن يعتبر بهم؟ فيقال: هذا السؤال دليل على جهل السائل بالرواية والدراية، وباللسان العربي؛ فكلام هذا الدرب من الناس يكفي من هداه الله، في بيان جهلهم وضلالهم.
أما جهله بالدراية، فمن وجوه: أحدها: قوله هل يؤول الكلام أم لا؟ والتأويل في عرف هؤلاء: صرف
1 النسائي: صلاة العيدين (1578) .
الكلام عن ظاهره، وعن المعنى الراجح إلى معناه المرجوح; ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول، ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير المراد، لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما ظنه الأغبياء الجهال، مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله; وكذلك قوله: أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة، ولبس المحارم، بدعة، وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات.
والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر؛ فما اقتضته العادة من أكل وشرب، ولبس ومركب ونحو ذلك، ليس الكلام فيه. والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه؛ وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب، وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه الدليل الشرعي. وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام.
[الكلام على حكم القهوة]
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: والكلام على القهوة، قد
سُبقنا إليه، وأفاضل أهل العلم، كل منهم أبدى ما عنده وما لديه، وحسبنا السير على منهاجهم، واقتفاء آثارهم، وذكر المنقور في مجموعه طرفاً من ذلك. وما ذكرت من أن مدار الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المنافع، فنعم هو ذاك، ولكن ينبغي أن يعلم: أن المفاسد ما عارضت الأمر والنهي الشرعيين، بالفعل أو بالوسيلة، والمنافع المطلوبة ما يحصل بها مقصود الشارع، من الأمر والنهي، بالفعل أو بالوسيلة؛ وبهذا تعلم فساد التعبير بقولك: رفع المفاسد، فإن هذا لا يرتفع، فالصواب: دفع المفاسد، لا رفع المفاسد.
وقولك: منها ما صرح به الكتاب والسنة، ومنها ما هو في ضمنه، تقسيم فاسد، بل الكتاب والسنة صرحا بذلك وأوضحاه، قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] ولم يخرج فرد من ذلك; ولو قلت: فقد صرح بذلك الكتاب والسنة، أو تضمناه لصلح التعبير.
وقولك: ومن البلاوي على أهل الوقت عامة، وعلى أهل نجد خاصة في دنياهم:"القهوة" مع ضعف معايشهم، فلا أدري: ما يراد بالبلوى هنا، أهي الابتلاء في الدين؟ أو هي الابتلاء بالنفقة فقط؟ فإن كان الأول، فلا يسلم بمجرد الدعوى; وإن كان الثاني، فالناس درجات
وطبقات في اليسر والعسر والمعيشة؛ وتوسع الأغنياء إنما يذم لوجوه، لا تخص بالقهوة أيضاً، بل يجري في غير ذلك من سائر المباحات.
وأما التعليل بأن فيها مضار للأبدان، فلا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، فإن الأبدان الدموية والبلغمية تنتفع بها بلا نزاع، والسوداوي والصفراوي، يمكنه التعديل بالتمر، الذي هو غالب غذاء أهل نجد؛ وقد قال داود في تذكرته: يعدلها كل حلو. وأما قولك: وإذا كان الخمر يزيل العقل عند شربه، فهي شاهدناها تخامر العقل عند فقدها، فهذا الكلام لا ينبغي أن يقال، لأن الخمر يزيل العقل لمخامرته، أي: تغطيته، وهي لا تزيل العقل ولا تخامره، بل ربما كان شاربها قوي الذهن، حاد الإدراك، جيد الحفظ، والموجود عند فقدها لا يسمى مخامرة، وإنما هو كسل وفتور لها لا بها؛ فافهم أيها الأخ وأعط القوس باريها.
وأما قولك: وإذا عرضت مضارها على العاقل منهم، شهد بها وعابها، فيقال: أي عاقل يراد بهذا؟ أما العامة، ومن لا عناية له بمعرفة الأحكام الشرعية والأصول الدينية، فأقوالهم لا تصلح أن تكون ميزاناً، وأن تستقل بحكم; وأما أهل العلم والدين، وأهل البصائر من ورثة سيد المرسلين، فعقولهم يرجع إليها مع اتفاقهم، وإن
اختلفوا، فالميزان هو الكتاب والسنة.
وقولك: وإذا وزنتها العقول السليمة، لا شك أنها لهو ولعب، فاللهو واللعب: ما لا يعود بمنفعة أصلاً، ويعود بمضرة راجحة على مصلحته; وإدخال القهوة في هذا التعريف، يحتاج إلى أصول ومقدمات، " لو يعطى الناس بدعواهم " 1 الحديث. وما ذكرت من التعاليل، قد يجري في كل مباح، كإضاعة المال، والاجتماع على القيل والقال، والحاجة إلى السؤال، وليس ذلك الوصف لازماً للقهوة; وكذلك كونها تلهي كثيراً من الناس عن الصلاة، وتضيع عليه الأوقات، فهذا قد يجري لأهل الشهوات، والمبايعات، والمزاورات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة المنافقون آية: 9] .
وأما كونها لا تغني من جوع، ولا تروي، فهذا الوصف يأتي على كثير مما تتعاطونه من المباحات، ولم تأت الشريعة بتحريم ما لا يغني من جوع، ولا يروي، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] . وأما كون مزرعها من بلاد الكفار، فمتى كان عندكم امتناع عما زرعه الكفار، ونسجه الكفار، وخرج من بلاد الكفار، وجمهور أموالكم، ومأكلكم من هذا الضرب؟ " ثكلتك أمك يا معاذ! " 2، " وويح عمار! ". قد كانت المدينة في عهد النبوة يجلب إليها من
1 البخاري: تفسير القرآن (4552)، ومسلم: الأقضية (1711)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وابن ماجة: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/363) .
2 الترمذي: الإيمان (2616)، وابن ماجة: الفتن (3973) ، وأحمد (5/231، 5/237) .
بلاد الكفار، أنواع المآكل والأدهان، والملابس التي نسجت وصبغت ببلاد الكفار، كما لا يخفى على من له أدنى نظر في الأخبار.
وأما ما زعمته من ضررها على أهل الجهاد، فمن الظرائف التي لا يستظرفها إلا فقيه النفس ذكي الطبع، وربما قيل بعكس القضية، لما فيها من تنشيف البلغم، وتجفيف المواد المكسلة الرديئة. وأما قولك: ويصرف فيها من بيت المال كيت وكيت، فمتى صار النظر - أصلحك الله - منصرفاً إلى توفير هذه الجهة، ووضعها في مواضعها الشرعية؟! والصرف في المباح أولى من الصرف في المحرم الصرف. وأما اختلاف أهل العلم عند خروجها - ولو قيل عند حدوثها لكان أليق باللغة الشرعية - فنعم هو ذاك، ولكن لا دليل فيه على المنع، وقد قيل.
وأما صرف الأموال العظيمة من أهل نجد، فهذا القول من جنس ما قبله، فإن مجاوزة الحد في كل مباح داخل في حقيقة السرف، والمحرم نفس السرف، ولو في المآكل الضرورية.
ولو صرف الأخ النجيب فكرته، ونظر إلى ما تعطل من أصول الدين ودعائم الملة، وما تلاعب به الجهال من
الأحكام الشرعية الدينية، وما دهم أهل نجد في هذه السنين، من قبض العلم وارتفاع الجهال، وترك الالتفات إلى تربية أهل الملة، بتعليم ما يحتاجونه من أصول دينهم، وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتفطن لذلك والاهتمام به، وصرف الهمة إلى تحصيله، وأن لا يطلب على الفضلة إن طلب، لكان هذا أولى وأجدر أن تقع المذاكرة فيه، والسؤال عنه; وأما أمر القهوة، فقد كفانا شأنها من سلف من أهل العلم والدين.