المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في حكم النذر] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٧

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌[فصل في حكم النذر]

سئل الشيخ حمد بن ناصر: إذا قال لامرأة: علي عهد الله أن أتزوجك، فلم يفعل، فهل عليه كفارة يمين؟

فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والمشهور في مذهب أحمد أن عليه كفارة يمين، وهو مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى أنه لا كفارة عليه.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا حلف لا يدخل بيت فلان

إلخ؟

فأجاب: أما من حلف أنه لا يدخل بيت فلان، أو ما يأكل من بيته، أو من طعامه، ثم فعل ذلك، فعليه كفارة يمين.

وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: إذا قال: طعامك أو شرابك علي حرام؟

فأجاب: تحريم ما أحل الله لا يحرم بنص القرآن، كما في سورة التحريم؛ واختلفوا هل عليه كفارة يمين، أو لا، وكثير من أهل العلم يرى أن عليه كفارة يمين.

ص: 515

[فصل في حكم النذر]

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ - في أثناء العقيدة -: ونرى النذر جائزاً، ويجب الوفاء به في غير المعصية.

وسئل أيضاً: هو والشيخ حسين: هل يجوز أن

ص: 515

يقول: مالي نذر لوجه الله على فلان حياً؟ أم يكون شركاً؟

فأجابا: النذر الذي يقصد به وجه الله، في عمل طاعة لله ورسوله، كالنذر على فقير معين، أو غيره، فإنه يجب الوفاء به، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270]، وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [سورة الإنسان آية: 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "1. ولا يكون هذا النذر شركاً، لأن النذر الذي يكون شركاً، النذر لغير الله، كالنذر لولي يعبد من دون الله، أو لقبة، أو لخدمتها وسدنتها، فهذا هو الذي يكون شركاً، وهو نذر معصية، لا يجوز نذره، ولا الوفاء به، كما تقدم في الحديث.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن الطعام المنذور لغير الله، هل هو حرام، أم حلال؟ وإن كان حراماً، فبأي سبب حرم؟

فأجاب: ما قصد به الميت تقرباً إليه، وتعظيماً له، من طعام أو غيره، فهو حرام، لأن ذلك شرك بالله، كما قال تعالى عن المشركين: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى

1 البخاري: الأيمان والنذور (6696، 6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806، 3807، 3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجة: الكفارات (2126) ، وأحمد (6/36، 6/41، 6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .

ص: 516

شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الأنعام آية: 136] .

فإذا خرج ذلك بالنذر فهو أعظم، فيكون نذر معصية، كما في الحديث الصحيح:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "1. ولأن النذر عبادة يجب الوفاء به، إذا نذر طاعة لله، كما قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [سورة الإنسان آية: 7] ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة آية: 270] .

ومن نذر للميت، فقد جعله شريكاً لله في عبادته، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31] .

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يجب الوفاء بنذر الطاعة؟

فأجاب: ونذر الطاعة يلزم الوفاء به، ويجبر عليه الممتنع. ونذر الإنسان فيما لا يملك لا ينعقد مطلقاً، ولا كفارة فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا نذر لابن آدم فيما لا يملك " 2؛ وهذا نحو: أن ينذر عتق عبد زيد، فلا ينعقد ولا يلزمه شيء، فلو قال: إن ملكت عبد زيد، فلله علي أن أعتقه، يقصد القربة، لزم عتقه إن ملكه؛ فإن كان نذره نذر لجاج أو غضب، فملكه، فهو يخير بين عتقه، وكفارة يمين.

وسئل أيضاً: إذا نذر إنسان شيئاً معيناً لشخص معين، نذر تبرر، فرده أو مات قبل قبوله، أو قبله وقبضه ثم رده؟

فأجاب: إذا رده أو مات قبل القبول والرد، فالذي

1 البخاري: الأيمان والنذور (6696، 6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806، 3807، 3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجة: الكفارات (2126) ، وأحمد (6/36، 6/41، 6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .

2 الترمذي: الطلاق (1181) .

ص: 517

يظهر بطلان هذا النذر، كما تبطل الصدقة بذلك، لأن الصدقة نوع من الهبة؛ صرح به الأصحاب، كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد، لقوله في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة داراً، وما أشبه ذلك، فإذا قبضها الموهوب له، صارت في ملكه. انتهى. وقد صرحوا باعتبار القبول للهبة، وأنها تبطل بالرد، وبموت الموهوب له قبل القبول؛ فإذا كان هذا حكم الهبة، فالصدقة نوع من الهبة.

وقد جعل الأصحاب حكم الصدقة المعينة حكم النذر، كما نقله في القواعد عنهم، ولفظه - بعد كلام سبق -: فإذا قال: هذه صدقة، تعينت وصارت في حكم المنذورة، صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ فيه خلاف بين الأصحاب. انتهى.

فقوله: هل ذلك إنشاء للنذر، أو إقرار به؟ صريح في أنه إذا تصدق بشيء معين، فقال: هذا صدقة، أنه نذر حقيقة. فإذا علمت ما ذكره علماؤنا، رحمهم الله تعالى، من أحكام الهبة، وقد صرحوا: بأن الصدقة نوع من الهبة، لها حكم الهبة، بل صرحوا باعتبار القبول للصدقة، ولم يخصوا بذلك نوعاً منها، وجعلوا حكم الصدقة المعينة، حكم المنذورة، ظهر لك حكم مسألة السؤال، إن شاء الله تعالى.

يوضحه: أن للأصحاب في اشتراط القبول للوقف

ص: 518

على معين وجهين: أحدهما: لا يشترط، لأنه أحد نوعي الوقف. والثاني: يشترط كالهبة والوصية. والأول أولى، والفرق بينه وبين الهبة والوصية: أن الوقف لا يختص المعين، بل يتعلق به حق من يأتي من البطون، فيكون الوقف على جميعهم، إلا أنه مرتب؛ قال الزركشي بعد حكاية الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا: إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل، اشترط وإلا فلا، قال: والظاهر أنهما على القول بالانتقال. انتهى.

فظهر بما ذكروه من التعليل: اعتبار القبول في مسألتنا، لا المنذور له، يملك النذر، ويتصرف فيه بالبيع وغيره، ولا يتعلق به حق لغيره، فإذا لم يقبل المنذور له، جاز للناذر التصرف فيه; يقوي ذلك أيضاً: ما ذكره جماعة من الأصحاب، وصرح به في الإقناع والمنتهى: أن الوقف يرجع إلى الواقف، إذا انقطعت الجهة الموقف عليها، والواقف حي، فمسألتنا أولى.

وأما إذا قبض المنذور له ثم رده، فعلى ما قررناه، حكمه حكم الصدقة المردودة بعد القبض؛ قال في الفروع: ومن سأل فأعطي فقبضه، فسخطه، لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء. انتهى. وذكر في الاختيارات ما معناه: أنهما إن تفاسخا عقد الهبة صح، والله أعلم.

ص: 519

وسئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل يجوز للإنسان إذا نذر إن شفي من مرضه، أو قضيت مصلحته أو حاجته أو غيرها، أن يعطي إنساناً أو جماعة مقداراً من النقود، أو الطعام أو اللباس أو غيره، فبعد إتمام مقصده لم يعط النذر مطلقاً، فهل يأثم، ويعذب أم لا؟

فأجاب: هذا نذر مطلق على شرط هو الشفاء من المرض، أو قضاء الحاجة أو غيرها، فإن كان الناذر قصد بإعطائه وجه الله، أو ثواب الآخرة، فهذا نذر تبرر؛ إذا وجد الشرط الذي علق عليه، لزمه الوفاء بما نذر من النقد أو الطعام أو اللباس، لمن عينه واحداً أو أكثر. وإن قصد الإكرام أو التودد، أو لم يقصد شيئاً، فهو من قبيل نذر المباح، فيخير بين الوفاء، وكفارة يمين. وحيث إن النذر لم يقيد بوقت معين، فالوفاء به واجب على الفور، بعد حصول شرطه، ولا يكون الناذر حانثاً إلا إذا تحقق اليأس من فعل المنذور، فتجب الكفارة حينئذ لدفع الإثم; وبالتكفير يكون غير آثم في نذره، فلا يعذب عليه.

والكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة وجوباً، إن لم يكن عذر يمنع من ذلك.

وسئل أيضاً: هل تجوز وتقبل من الإنسان التوبة إذا

ص: 520

تاب من جميع الذنوب، الصغيرة والكبيرة، كالقتل، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، والكذب، والغش، والظلمن والخيانة، وغيرها، ولا يعذب ولا يقاصص، ولا يعاقب في الدنيا، ولا في القبر، ولا في الآخرة، أم لا؟

فأجاب: إن التوبة من أهم قواعد الإسلام، وواجباته المتأكدة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على وجوبها، لكن لا يقدر العبد أن يتوب، حتى يتوب الله عليه.

والتوبة واجبة على الفور من كل ذنب، ولو من صغيرة، وإن كانت تكفر باجتناب الكبائر، لعموم الأدلة، ولا تجب بدون تحقق إثم، وظاهر كلام بعضهم صحة التوبة، من كل ما حصلت فيه المخالفة، أو أدنى غفلة وإن لم يأثم، وتصح من بعض الذنوب في الأصح، لا من ذنب أصر على مثله.

فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه، لا تتعلق بحق آدمي، فللتوبة منها ثلاثة شروط: أن يقلع من المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها أبداً؛ فإن فقد أحد الثلاثة، لم تصح توبته.

وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، فلها شروط أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. وحق الآدمي المحض لا يكاد يوجد في قول بعضهم، لأن كل حق

ص: 521

لآدمي يتعلق به حق الله تعالى، لأن تعاطي ما لا يشرع معصية، والإقدام على المعصية من حقوق الله، لأن الله حد حدوداً، يجب الوقوف عندها.

فإن كان حق الآدمي مما يجبر بالمثل، كالدماء، والأموال، فالبراءة تحصل منه ببذل ما وجب عليه لمستحقه، أو استحلاله بعد إعلامه به. وإن كان لا يجبر بالمثل، بل جزاؤه من غير جنسه، كالقدح فيه بقذف أو غيبة أو شتم، ضم إلى التوبة من القذف تكذيب نفسه، والإحسان إلى المقذوف، ومن اغتابه أو شتمه، بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون بإزاء إيذائه له، ولا يشترط إعلامه ولا استحلاله من ذلك؛ وقيل: إن علم به المظلوم استحله، وإلا دعا له واستغفر له ولم يعلمه.

وأما قبول التوبة، فقال الحافظ زين الدين بن رجب، رحمه الله: ظاهر النصوص يدل على أن من تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله تعالى توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً؛ وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع. ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب.

ص: 522

ثم قال: والصحيح قول الأكثرين - يعني القطع بقبول التوبة -. انتهى. فتقبل التوبة من كل ذنب لتائب منه من غير استثناء شيء من الذنوب، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ما لم يعاين التائب الملَك، وقيل: ما دام مكلفاً; وقيل ما لم يغرغر - أي تبلغ روحه حلقومه -.

وقبول التوبة فضل من الله تعالى غير واجب عليه عند أهل السنة؛ فلو عذب العبدَ على ذنبه لم يكن ظالماً له ولو قدر أنه تاب منه، ولكنه أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع العباد إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل به الجنة.

وإذا قبلت توبة العبد، غفر ذنبه الذي تاب منه؛ والمغفرة وقاية شر الذنوب مع سترها، ومن غفرت ذنوبه بالتوبة أو غيرها من مقضيات المغفرة، فهو غير آثم، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب، لا في القبر، ولا في الآخرة.

وأما في الدنيا، فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى، من حد سرقة أو زنى وشرب، أو تعزير، بعد ثبوتها، وما وجب لحق آدمي، من قصاص أو مال، أو حد قذف أو تعزير، كما لا تسقط بها الكفارات،

ص: 523

وسائر الواجبات التي أثم بسببها، من صلاة أو صيام، أو زكاة أو غيرها، بل لا بد من الإتيان بها، لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب تأخيرها فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر.

وإذا عوقب العبد على الذنب في الدنيا لم يعاقب عليه في الآخرة، لما روى الإمام أحمد وغيره واللفظ له، عن علي رضي الله عنه مرفوعاً:" من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به، فإن الله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده. ومن أذنب ذنباً في الدنيا، فستره الله عليه وعفا عنه، فإن الله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه "1.

وأما إذا لم يعاقب عليه في الدنيا، ولم يتب منه، ولم يكفر بشيء من المكفرات للذنوب، بل مات مصراً عليه، ولقي الله بالذنب الذي استوجب به العقوبة، ولم يكن شركاً، فأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.

ولما كان العبد لا بد أن يفعل ما قُدِّر عليه من الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" كتب الله على ابن آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة " 2، جعل الله له مخرجاً مما وقع فيه، يرفع أثر الذنب، ويزيل موجبه؛ وهذا من أعظم فوائد الشريعة ومقاصدها، فعقوبات الذنوب تزول بالتوبة النصوح، فهي أقوى الأسباب في إزالتها،

1 الترمذي: الإيمان (2626)، وابن ماجة: الحدود (2604) .

2 البخاري: الاستئذان (6243)، ومسلم: القدر (2657)، وأبو داود: النكاح (2152) ، وأحمد (2/276) .

ص: 524

وبالحسنات الماحية، كالكفارات والعقوبات، وبالمصائب المكفرة، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن، أو أذى في مال أو عرض أو جسد، أو غير ذلك.

وصرح العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، بأن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب جميعها، وقال: لا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة، أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب. انتهى.

ومما يزيل عقوبات الذنوب أيضاً: ما يحصل للعبد في البرزخ من الشدة، وما يحصل له في عرصات القيامة، ودعاء المؤمنين له، كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه، وغير ذلك.

وقد حصر بعض العلماء ما يسقط العقوبة على الذنب بنار جهنم، في نحو عشرة أسباب، ذكر أنها عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالذنوب أسباب مقتضية للعقوبة، والأمور المكفرة لها موانع، ولهذا تقع الموازنة بين الحسنات والسيئات في الآخرة، إعمالاً لمقتضى العقاب ومانعه، ويكون الحكم للغالب؛ فمن كفرت سيئاته بنفس العمل، كان ذلك من باب الموازنة، وهذا تنقص درجته عمن سلم من تلك الذنوب.

ومن كفرت سيئاتهم بالمصائب والحدود، وعقوبات الدنيا، سلمت لهم حسناتهم فلا تنقص درجاتهم؛ بل ترتفع

ص: 525

درجاتهم بالصبر على المصائب، فيكونون أرفع مما لو عوفوا، وأصحاب العافية يكونون أدنى.

وبهذا يتضح أن التائب لا تقع في حقه موازنة ولا مقاصة، لأن توبته النصوح تمحو سيئاته حتى كأنها لم تكن، وتبقى له حسناته موفرة، وإنما تقع الموازنة والمقاصة في حق من له حسنات وسيئات، فيوازن بين حسناته وسيئاته، كبائرها وصغائرها، ويقتص بعضها من بعض؛ فمن رجحت سيئاته على حسناته ولو بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف.

وذكر الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص، حتى تقابل جميع الذنوب، واستدل لذلك بحديث البطاقة وغيره.

وهكذا أيضاً، تقع الموازنة والمقاصة، بين حسنات العبد ومظالم العباد عنده، فمن كان له حسنات وعليه مظالم، فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة دخل بها الجنة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة، ضاعفها الله حتى يدخل الجنة، وإن كان شقياً، قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي له طالبون كثير، قال: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها

ص: 526

إلى سيئاته، ثم صكوا له صكاً إلى النار"، خرجه ابن أبي حاتم وغيره.

وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن نذر أن يذبح بدنة أو كبشاً أو غير ذلك، هل يلزمه ما عين أو يكفِّر

إلخ؟

فأجاب: بل يلزمه أن يذبح، ولا تجزئه الكفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من نذر أن يطيع الله فليطعه "1. وأما إذا نذر أن يذبح بعيراً أو كبشاً غير معين، فقال في المغني: إذا نذر هدياً مطلقاً، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية: فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني، فإن لم يجد الإبل فبقرة، فإن لم يجد فسبعاً من الغنم. فإن نوى بنذره بدنة من الإبل لم يجزئه غيرها مع وجودها; فإن عين المنذور بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه، صغيراً كان أو كبيرا، جليلاً كان أو حقيراً.

وسئل: هل يأكل من نذره، مثل الطعام أو اللحم؟ وكذا الكفارة؟ وما النذر الذي لا يؤكل منه؟

فأجاب: الذي ذكروا: أنه لا يأكل من كل واجب ولو بالنذر، إلا في دم المتعة والقِران. وأما قولك: إذا لم يعين بنذره مصرفاً، فالنذر المطلق يصرف في المساكين; فإذا ذبحه، فإن شاء قسمه بينهم، وإن شاء تركه لهم يقسمونه لأنفسهم. وعقد النذر من حيث هو، مكروه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل; لكن إذا فعل

1 البخاري: الأيمان والنذور (6696، 6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806، 3807، 3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجة: الكفارات (2126) ، وأحمد (6/36، 6/41، 6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .

ص: 527

والتزم النذر لزمه الوفاء به، لأن الله مدح الموفين بالنذر، وفي الحديث:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "1.

كفارة اليمين

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن كفارة اليمين؟

فأجاب: وأما كفارة اليمين، فهو إطعام عشرة مساكين، فإن كان ما يقدر على الإطعام، فيصوم ثلاثة أيام.

وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما كفارة اليمين، فيطعم عشرة مساكين، قدرها العالي لكل مسكين مد من البر، والمد وزن ثلاثين ريالاً، فإن كان شعيراً فمُدَّان وكذلك التمر.

1 البخاري: الأيمان والنذور (6696، 6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806، 3807، 3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجة: الكفارات (2126) ، وأحمد (6/36، 6/41، 6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .

ص: 528