الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الواحدة والعشرون
العرش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..
فإن أعظم مخلوقات الله، وأكبرها، وأثقلها؛ العرش.
والعرش كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، وقال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل:26].
وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون:116]، وقال تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج:14 - 15].
قال ابن كثير رحمه الله: «وهو رب العرش العظيم: أي هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السموات والأرضين
وما فيها وما بينهما تحت العرش مقهورين بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل»
(1)
.
(2)
.
وأما الكرسي، فقد قال تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255]، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، روى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ»
(3)
.
وهذا يدل على كمال عظمة الله، وسعة سلطانه، فإذا كان هذا حال الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما، وعظمة من فيهما، فكيف بالعرش الذي هو أعظم من الكرسي؟
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ
(1)
تفسير ابن كثير رحمه الله (2/ 405).
(2)
تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 313).
(3)
(2/ 582)، وصححه الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في تخريجه لأحاديث تفسير ابن كثير رحمه الله (1/ 571)، وأخرجه الذهبي في كتابه العلو ص 76، وصححه الألباني رحمه الله في مختصر العلو ص 45.أهـ. وهذا له حكم الرفع.
الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ»
(1)
.
وروى ابن خزيمة في التوحيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَغِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَبَيْنَ الْمَاءِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْكُرْسِيُّ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ»
(2)
.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون لها حكم الرفع؛ لأن ابن مسعود لم يعرف بالأخذ من الإسرائيليات»
(3)
.
وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل هذا الحديث:
«التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
(1)
صحيح البخاري برقم 6346، وصحيح مسلم برقم 2730.
(2)
(1/ 242)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 291) واللفظ له، والأثر قال عنه الذهبي في العلو: إسناده صحيح، ص 79.
(3)
القول المفيد شرح كتاب التوحيد (3/ 379).
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «ولهذا لما كانت السماء محيطة بالأرض، كانت عالية عليها، ولما كان الكرسي محيطًا بالسماوات كان عاليًا عليها، ولما كان العرش محيطًا بالكرسي كان عاليًا»
(2)
.
قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامُ
…
مَلَائِكَةُ الإِلَهِ مُسَوَّمِينَا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد علم المسلمون أن كرسيه - سُبْحَانَهُ - وسع السموات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته»
(3)
.
والعرش سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، قال تعالى:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة:17]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد
(1)
مسائل كتاب التوحيد ص 112.
(2)
الصواعق المرسلة (4/ 1308).
(3)
الفتوى الحمويه الكبرى، ص 526.
الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي، أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ»
(1)
.
وروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ»
(2)
. وفي رواية: «مَخْفِقَ الطَّيرِ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ»
(3)
.
والعرش خلقه الله قبل القلم، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»
(4)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «فثبت تقدم خلق العرش على القلم الذي كتب به المقادير من هذا العالم، كما ذهب إلى ذلك الجماهير -أي من أهل العلم- ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، ويؤيد هذا ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن
(1)
برقم 3398.
(2)
برقم 4727، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإسناده على شرط الصحيح، فتح الباري (8/ 665).
(3)
تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3370).
(4)
برقم 2653.
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ - وفي رواية: قَبْلَهُ
(1)
- وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»
(2)
.
والعرش من الأمور الغيبية التي نؤمن بها ولا نراها، والله تعالى مستوٍ على عرشه، ومعنى استوى: أي علا وارتفع، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه:5].
«ومسألة الاستواء على العرش ثابتة في الكتاب والسنة، فقد جاء ذكر الاستواء في القرآن الكريم في سبعة مواضع، ومجيء ذكر الاستواء في القرآن بهذا العدد إنما هو ليؤكد عظم هذا الأمر وأهميته، وأما السنة، فهي مليئة بالأحاديث والآثار التي تثبت الاستواء وتؤكده. وإن مذهب السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين أنهم يقولون: إن الله على عرشه بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل، فهوسبحانه مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، واستواؤه حقيقة لا مجاز كما يزعم الجهمية وأتباعهم الذين ينكرون العرش وأن يكون الله فوقه. وأما كيفية ذلك الاستواء فهي مجهولة لدينا، والسؤال عن كيفية ذلك الاستواء بدعة؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ- لم يطلعنا على كيفية ذاته، فكيف يكون لنا أن نعرف كيفية استوائه،
(1)
برقم 7418.
(2)
برقم 3191.
وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]
(1)
.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ
…
»
(2)
.
فالحديث بين أن العرش هو أعلى المخلوقات، وسقفها، فهو سقف للفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها.
والعرش يمتاز مع كبر حجمه وسعته بكونه أثقل المخلوقات، وزنته أثقل الأوزان، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:«لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ»
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان»
(4)
.
وقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه، فروى
(1)
العرش للذهبي (1/ 325).
(2)
برقم 7423.
(3)
برقم 2726.
(4)
الرسالة العرشية، ص 10.
البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه فرحًا واستبشارًا بقدوم روحه، فكيف بقدوم روح سيد الخلائق؟»
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
صحيح البخاري برقم 3803، وصحيح مسلم برقم 2466.
(2)
فوائد الفوائد ص 312.