المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة التاسعةنبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ١١

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولىوقفات مع حديث: لا حسد إلا في اثنتين

- ‌الكلمة الثانيةمن فضائل التمر

- ‌الكلمة الثالثةمن حكم الصيام

- ‌الكلمة الرابعةتأملات في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

- ‌الكلمة الخامسةنبي الله آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السادسةمسائل وفوائد من قصة آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السابعةنبي الله نوح عليه السلام

- ‌الكلمة التاسعةنبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة العاشرةقصة بعثة إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الحادية عشرةفوائد من قصة نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الثانية عشرةنبي الله موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الثالثة عشرةفوائد من قصة موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الرابعة عشرةنبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة الخامسة عشرةفوائد من قصة نبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة السادسة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (1)

- ‌الكلمة السابعة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (2)

- ‌الكلمة الثامنة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (1)

- ‌الكلمة التاسعة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (2)

- ‌الكلمة العشرونمقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم (2)

- ‌الكلمة الواحدة والعشرونالعرش

- ‌الكلمة الثانية والعشرونالفرح

- ‌الكلمة الثالثة والعشرونالحزن

- ‌الكلمة الرابعة والعشرونالعدل

- ‌الكلمة الخامسة والعشرونسيرة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

- ‌الكلمة السادسة والعشرونسيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه

- ‌الكلمة السابعة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (1)

- ‌الكلمة الثامنة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (2)

- ‌الكلمة التاسعة والعشرونبعض الأدوية النبوية التي فيها شفاء

- ‌الكلمة الثلاثونمقتطفات من سيرة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

- ‌الكلمة الواحدة والثلاثونالإحسان

- ‌الكلمة الثانية والثلاثونالشورى

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثونحديث الأبرص والأقرع والأعمى

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثونمن محاسن الدين الإسلامي: وجود بدائل لكل عمل صالح

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثونشرح حديث مالك بن التيهان

- ‌الكلمة السادسة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (1)

- ‌الكلمة السابعة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (2)

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (3)

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثونحلمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الأربعونفوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

- ‌الكلمة الثانية والأربعونغزوة مؤتة (1)

- ‌الكلمة الثالثة والأربعونغزوة مؤتة - دروس وعبر (2)

- ‌الكلمة الرابعة والأربعونغزوة حنين(1)(1)

- ‌قصة نبي من الأنبياء:

- ‌شجرة ذات أنواط

- ‌هزيمة المسلمين وفرارهم:

- ‌ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الخامسة والأربعونغزوة حنين (2)

- ‌متابعة الكفار:

- ‌شجاعة أم سليم

- ‌قصة صاحب الجمل الأحمر:

- ‌أبو قتادة رضي الله عنه وقتيله:

- ‌شدة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن خالد بن الوليد رضي الله عنه

- ‌مطاردة الكفار وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس:

- ‌جمع الغنائم:

- ‌شهداء المسلمين في غزوة حنين:

- ‌الكلمة السادسة والأربعونغزوة الطائف (1)

- ‌طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحصارها:

- ‌قصة المخنث:

- ‌رمي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق:

- ‌إسلام عبيد من الطائف:

- ‌رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورحيل المسلمين:

- ‌إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه

- ‌قسمة الغنائم بالجعرانة:

- ‌البدء بالمؤلفة قلوبهم(2)وهم سادات العرب:

- ‌الكلمة السابعة والأربعونغزوة الطائف (2)

- ‌«لا تُوطَأُ الحُبْلَى(3)حَتَّى تَضَعَ»:

- ‌شأن ذي الخويصرة التميمي:

- ‌عَتْبُ الأنصار وخطبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم:

- ‌نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌قدوم وفد هوازن:

- ‌إسلام مالك بن عوف النصري:

- ‌الكلمة الثامنة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (1)

- ‌الكلمة التاسعة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (2)

- ‌الكلمة الخمسونفوائد ومسائل فقهية من فتح الطائف

- ‌الكلمة الواحدة والخمسونالرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأوّلها

- ‌الرؤيا الأولى:

- ‌الرؤيا الثانية:

- ‌الرؤيا الثالثة:

- ‌الرؤيا الرابعة:

- ‌الرؤيا الخامسة:

- ‌الكلمة الثانية والخمسونالخيل

- ‌الكلمة الثالثة والخمسونالإبل

- ‌الكلمة الرابعة والخمسونالغنم

- ‌أولًا: فضلها:

- ‌ثانيًا: الأحكام الشرعية المتعلقة بها:

- ‌الكلمة الخامسة والخمسونقصة أصحاب الجنة

- ‌الكلمة السادسة والخمسونقصة أصحاب القرية

- ‌الكلمة السابعة والخمسونقصة أصحاب الكهف (1)

- ‌الكلمة الثامنة والخمسونفوائد من قصة أصحاب الكهف (2)

- ‌الكلمة التاسعة والخمسونقصة الرجلين: المؤمن والكافر

- ‌الكلمة الستونقصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت

- ‌الكلمة الواحدة والستونالفتور أسبابه وعلاجه

- ‌الخاتمة:

- ‌الكلمة الثانية والستونالمنهجية في طلب العلم

- ‌الفائدة السادسة:في المقصود ببركة العلم:

- ‌الكلمة الثالثة والستونتغسيل الميت وأحكامه

- ‌الكلمة الرابعة والستونتكفين الميت وأحكامه

- ‌يستحب في الكفن أمور:

- ‌الكلمة الخامسة والستونحمل الجنازة واتباعها، والمسائل المتعلقة بذلك

- ‌الكلمة السادسة والستوندفن الميت وأحكامه (1)

- ‌الكلمة السابعة والستوندفن الميت وأحكامه (2)

- ‌الكلمة الثامنة والستونمن بدع الجنائز

- ‌«غسل الميت:

- ‌الكفن والخروج بالجنازة:

- ‌الصلاة عليها:

- ‌الدفن وتوابعه:

- ‌الكلمة التاسعة والستونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (1)

- ‌وينقسم البيع إلى قسمين: حلال وحرام:

- ‌من القواعد في البيع:

- ‌الكلمة السبعونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (2)

- ‌أما موانع البركة فهي:

- ‌من صور البيوع المنهي عنها:

الفصل: ‌الكلمة التاسعةنبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

‌الكلمة التاسعة

نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

-

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..

«فلقد ذكر الله في كتابه العزيز قصة إبراهيم عليه السلام في مواضع عدة، لما فيها من الدروس والعبر. وإبراهيم بالسُريانية معناه: أب رحيم، واللهسبحانه وتعالى جعل إبراهيم الأب الثالث للعالم.

فإن أبانا الأول آدم عليه السلام، والأب الثاني نوح عليه السلام، وأهل الأرض كلهم من ذريته كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات:77]، وبهذا يتبين كذب المفترين من العجم الذين يزعمون أنهم لا يعرفون نوحًا عليه السلام، ولا ولده، ولا ينتسبون إليه، وينسبون ملوكهم من آدم إليهم، ولا يذكرون نوحًا عليه السلام في أنسابهم، وقد أكذبهم الله عز وجل في ذلك.

فالأب الثالث وعمود العالم، وإمام الحنفاء الذي اتخذه الله خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ذاك خليل الرحمن،

ص: 73

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام فقال:«قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلَامِ قَطٌّ»

(1)

.

ولم يأمر الله رسوله أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل:123]، وأمر أمته بذلك فقال تعالى:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى يقول: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»

(2)

، وتأمل هذه الألفاظ كيف جعل الفطرة للإسلام، فإنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله والملة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه صاحب الملة وهي التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له، ومحبته فوق كل محبة، والدين للنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

صحيح البخاري برقم 3352.

(2)

مسند الإمام أحمد (24/ 79) برقم 15363، وقال محققوه: هذا حديث صحيح وهذا إسناد حسن، وصححه النووي في كتابه: الأذكار من كلام سيد الأبرار ص 158 - 159 برقم 224.

ص: 74

وهو دينه الكامل، وشرعه التام الجامع لذلك كله.

وسماه الله - سبحانه - إمامًا، وأمة، وقانتًا، وحنيفًا، قال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة:124]، فأخبرسبحانه أنه جعله إمامًا للناس، وأن الظالم من ذريته لا ينال رتبة الإمامة، والظالم هو المشرك، وأخبر سبحانه أن عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به، قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} [النحل:120 - 121].

فالأمة هو: القدوة المعلم للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، الملازم لطاعته، والحنيف: المقبل على الله تعالى المعرض عما سواه.

والمقصود: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبونا الثالث، وهو إمام الحنفاء، وتسميه أهل الكتاب عمود العالم، وجميع أهل الملل متفقة على تعظيمه، وتوليه، ومحبته، وكان خير بنيه سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم يُجله، ويعظمه، ويبجله، ويحترمه.

ففي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ

ص: 75

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام»

(1)

.

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية] الأنبياء:104]، وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ»

(2)

.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه الخلق به، كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ صلى الله عليه وسلم»

(3)

. وفي لفظ آخر: «فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ»

(4)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يعوذ أولاد ابنته حسنًا وحسينًا - رضي الله عنه -ما - بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق صلى الله عليهم وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ:«إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»

(5)

.

وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أول الناسضيَّف الضيف، وأول الناس

(1)

برقم 2369.

(2)

صحيح البخاري برقم 6526، وصحيح مسلم برقم 2860.

(3)

صحيح مسلم برقم 167.

(4)

صحيح البخاري برقم 3355، وصحيح مسلم برقم 166.

(5)

برقم 3371.

ص: 76

اختتن

وأول الناس رأى الشيب، فقال:«يَا رَبِّ! مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّه تبارك وتعالى: وقارٌ يا إبراهيم، فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا»

(1)

.

وقد شهد الله سبحانه بأنه وفى ما أُمر به، فقال تعالى:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم:37]، قال ابن عباس: وفى جميع شرائع الإسلام، ووفى ما أُمر به من تبليغ الرسالة.

وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

} [البقرة:124]، فلما أتم ما أُمر به من الكلمات، جعله الله إمامًا للخلائق يأتمون به، وكان صلى الله عليه وسلم كما قيل: قلبه للرحمن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان.

ولما اتخذه ربه خليلًا، والخلة هي كمال المحبة، وهي مرتبة لا تقبل المشاركة والمزاحمة، وكان قد سأل ربه أن يهب له ولدًا صالحًا، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فامتحنه سبحانه بذبحه ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثارًا لمحبة خليله على محبته، نسخ الله تعالى ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أُمر به، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح

(1)

موطأ مالك ص 605 برقم 2882، وقال محققه: أثر صحيح إلى سعيد بن المسيب.

ص: 77

في نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في اتباعه إلى يوم القيامة.

وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين وأهل الباطل وكسر حججهم، وقد ذكر الله سبحانه مناظرته في القرآن مع إمام المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة، وأقربها إلى الفهم وحصول العلم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ

} [الأنعام:83].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران:173]، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}

(1)

، وقال ابن عباس:«كان آخر قول إبراهيم حين أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل»

(2)

.

وهو الذي بنى بيت الله، وأذن في الناس بحجه، فكل من حجه واعتمره حصل لإبراهيم من مزيد ثواب الله تعالى وإكرامه بعدد الحجاج والمعتمرين، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً

(1)

صحيح البخاري برقم 4563.

(2)

صحيح البخاري برقم 4564.

ص: 78

لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]. قال ابن عباس: يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرًا، {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى تحقيقًا للاقتداء به، وإحياء آثاره صلى الله عليه وسلم.

«ومناقب هذا الإمام الأعظم، والنبي الأكرم أجل من أن يحيط بها كتاب، وإن مد الله في العمر أفردنا كتابًا في ذلك يكون قطرة في بحر فضائله، أو أقل، جعلنا الله تعالى ممن ائتم به، ولا جعلنا ممن عدل عن ملته بمنه وكرمه»

(1)

.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

جلاء الأفهام لابن القيم رحمه الله ص 303 - 316 بتصرف واختصار.

ص: 79