المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة الثانية والأربعونغزوة مؤتة (1) - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ١١

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولىوقفات مع حديث: لا حسد إلا في اثنتين

- ‌الكلمة الثانيةمن فضائل التمر

- ‌الكلمة الثالثةمن حكم الصيام

- ‌الكلمة الرابعةتأملات في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

- ‌الكلمة الخامسةنبي الله آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السادسةمسائل وفوائد من قصة آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السابعةنبي الله نوح عليه السلام

- ‌الكلمة التاسعةنبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة العاشرةقصة بعثة إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الحادية عشرةفوائد من قصة نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الثانية عشرةنبي الله موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الثالثة عشرةفوائد من قصة موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الرابعة عشرةنبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة الخامسة عشرةفوائد من قصة نبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة السادسة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (1)

- ‌الكلمة السابعة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (2)

- ‌الكلمة الثامنة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (1)

- ‌الكلمة التاسعة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (2)

- ‌الكلمة العشرونمقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم (2)

- ‌الكلمة الواحدة والعشرونالعرش

- ‌الكلمة الثانية والعشرونالفرح

- ‌الكلمة الثالثة والعشرونالحزن

- ‌الكلمة الرابعة والعشرونالعدل

- ‌الكلمة الخامسة والعشرونسيرة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

- ‌الكلمة السادسة والعشرونسيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه

- ‌الكلمة السابعة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (1)

- ‌الكلمة الثامنة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (2)

- ‌الكلمة التاسعة والعشرونبعض الأدوية النبوية التي فيها شفاء

- ‌الكلمة الثلاثونمقتطفات من سيرة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

- ‌الكلمة الواحدة والثلاثونالإحسان

- ‌الكلمة الثانية والثلاثونالشورى

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثونحديث الأبرص والأقرع والأعمى

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثونمن محاسن الدين الإسلامي: وجود بدائل لكل عمل صالح

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثونشرح حديث مالك بن التيهان

- ‌الكلمة السادسة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (1)

- ‌الكلمة السابعة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (2)

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (3)

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثونحلمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الأربعونفوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

- ‌الكلمة الثانية والأربعونغزوة مؤتة (1)

- ‌الكلمة الثالثة والأربعونغزوة مؤتة - دروس وعبر (2)

- ‌الكلمة الرابعة والأربعونغزوة حنين(1)(1)

- ‌قصة نبي من الأنبياء:

- ‌شجرة ذات أنواط

- ‌هزيمة المسلمين وفرارهم:

- ‌ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الخامسة والأربعونغزوة حنين (2)

- ‌متابعة الكفار:

- ‌شجاعة أم سليم

- ‌قصة صاحب الجمل الأحمر:

- ‌أبو قتادة رضي الله عنه وقتيله:

- ‌شدة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن خالد بن الوليد رضي الله عنه

- ‌مطاردة الكفار وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس:

- ‌جمع الغنائم:

- ‌شهداء المسلمين في غزوة حنين:

- ‌الكلمة السادسة والأربعونغزوة الطائف (1)

- ‌طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحصارها:

- ‌قصة المخنث:

- ‌رمي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق:

- ‌إسلام عبيد من الطائف:

- ‌رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورحيل المسلمين:

- ‌إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه

- ‌قسمة الغنائم بالجعرانة:

- ‌البدء بالمؤلفة قلوبهم(2)وهم سادات العرب:

- ‌الكلمة السابعة والأربعونغزوة الطائف (2)

- ‌«لا تُوطَأُ الحُبْلَى(3)حَتَّى تَضَعَ»:

- ‌شأن ذي الخويصرة التميمي:

- ‌عَتْبُ الأنصار وخطبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم:

- ‌نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌قدوم وفد هوازن:

- ‌إسلام مالك بن عوف النصري:

- ‌الكلمة الثامنة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (1)

- ‌الكلمة التاسعة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (2)

- ‌الكلمة الخمسونفوائد ومسائل فقهية من فتح الطائف

- ‌الكلمة الواحدة والخمسونالرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأوّلها

- ‌الرؤيا الأولى:

- ‌الرؤيا الثانية:

- ‌الرؤيا الثالثة:

- ‌الرؤيا الرابعة:

- ‌الرؤيا الخامسة:

- ‌الكلمة الثانية والخمسونالخيل

- ‌الكلمة الثالثة والخمسونالإبل

- ‌الكلمة الرابعة والخمسونالغنم

- ‌أولًا: فضلها:

- ‌ثانيًا: الأحكام الشرعية المتعلقة بها:

- ‌الكلمة الخامسة والخمسونقصة أصحاب الجنة

- ‌الكلمة السادسة والخمسونقصة أصحاب القرية

- ‌الكلمة السابعة والخمسونقصة أصحاب الكهف (1)

- ‌الكلمة الثامنة والخمسونفوائد من قصة أصحاب الكهف (2)

- ‌الكلمة التاسعة والخمسونقصة الرجلين: المؤمن والكافر

- ‌الكلمة الستونقصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت

- ‌الكلمة الواحدة والستونالفتور أسبابه وعلاجه

- ‌الخاتمة:

- ‌الكلمة الثانية والستونالمنهجية في طلب العلم

- ‌الفائدة السادسة:في المقصود ببركة العلم:

- ‌الكلمة الثالثة والستونتغسيل الميت وأحكامه

- ‌الكلمة الرابعة والستونتكفين الميت وأحكامه

- ‌يستحب في الكفن أمور:

- ‌الكلمة الخامسة والستونحمل الجنازة واتباعها، والمسائل المتعلقة بذلك

- ‌الكلمة السادسة والستوندفن الميت وأحكامه (1)

- ‌الكلمة السابعة والستوندفن الميت وأحكامه (2)

- ‌الكلمة الثامنة والستونمن بدع الجنائز

- ‌«غسل الميت:

- ‌الكفن والخروج بالجنازة:

- ‌الصلاة عليها:

- ‌الدفن وتوابعه:

- ‌الكلمة التاسعة والستونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (1)

- ‌وينقسم البيع إلى قسمين: حلال وحرام:

- ‌من القواعد في البيع:

- ‌الكلمة السبعونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (2)

- ‌أما موانع البركة فهي:

- ‌من صور البيوع المنهي عنها:

الفصل: ‌الكلمة الثانية والأربعونغزوة مؤتة (1)

‌الكلمة الثانية والأربعون

غزوة مؤتة (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..

فمن الغزوات العظيمة التي خاضها المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم غزوة مؤتة، وقد حدثت هذه الغزوة

(1)

في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة

(2)

.

وسبب هذه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه بكتابه إلى ملك بُصرى، فعرض له وهو في الطريق شُرحبيل بن عمرو الغساني- وكان أميرًا على البلقاء

(3)

من أرض الشام من قبل قيصر - فقال له: أين تريد؟

فقال الحارث بن عمير رضي الله عنه: الشام، قال: فلعلك من رسل

(1)

قال الحافظ في الفتح (7/ 510)، مؤتة: بضم الميم وسكون الواو. أهـ، وهي الآن قرية عامرة بالسكان شرقي الأردن.

(2)

لم يختلف في ذلك أحد. وانظر فتح الباري (7/ 511).

(3)

البلقاء: بفتح الباء وسكون اللام، وهي مدينة معروفة بالشام، انظر شرح المواهب (3/ 339).

ص: 375

محمد؟ فقال: نعم، فأمر به، فأوثق رباطًا، ثم قدمه فضرب عنقه صبرًا

(1)

، ولم يُقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيره.

وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، فقد جرت العادة والعرف بعدم قتلهم أو التعرض لهم

(2)

، فكانت هذه الحادثة بمثابة إعلان حالة الحرب على المسلمين، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه الخبر، فعند ذلك ندب

(3)

رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لقتال الغساسنة، فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج، فكان قوام الجيش الذي خرج في هذه الغزوة ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب

(4)

.

وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجيش مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ، فقال جعفر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت أرغب

(5)

(1)

كل من قُتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا، انظر النهاية (3/ 8).

(2)

روى الإمام أحمد في مسنده برقم 15989، بسند قال فيه محققوه: صحيح بطرقه وشواهده عن نعيم بن مسعود الأشجعي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب، قال للرسولين:«فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«واللَّه لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما» .

(3)

يقال: ندبته فانتدب: أي بعثته ودعوته فأجاب. انظر النهاية (5/ 34).

(4)

انظر: سيرة ابن هشام (3/ 328)، فتح الباري (7/ 511).

(5)

هذه رواية ابن حبان في صحيحه برقم 7008. وفي رواية الإمام أحمد في مسنده برقم 22551: أرهب.

ص: 376

أن تستعمل علي زيدًا

(1)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«امْضِ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي فِي أَيِّ ذَلِكَ خَيْرٌ»

(2)

.

وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير رضي الله عنه، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجُرف

(3)

.

وصول جيش المسلمين إلى معان

(4)

:

تحرك جيش المسلمين من المدينة إلى عدوهم في الشام، وبينما هم في الطريق إذ سمع بمسيرهم عدوهم، فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف مقاتل، وقدَّم الطلائع أمامه، فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام

(1)

لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه في سرية إلا أمره، فقد روى الإمام أحمد في مسنده برقم 25898، وقال محققوه: إسناده حسن إن صح سماع البهي من عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمَّره عليهم.

(2)

أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده برقم 22551، وقال محققوه: صحيح لغيره.

(3)

الجُرف: بضم الجيم، موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (1/ 262)، وانظر التفاصيل في سيرة ابن هشام (4/ 21).

(4)

معان: بفتح الميم، مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. انظر: معجم البلدان (8/ 285).

ص: 377

بلغهم أن هرقل قد نزل مآب

(1)

من أرض البلقاء في مائة ألف من لخم، وجذام، والقين، وتنوخ، وبلي، فكان قوام

(2)

جيش الغساسنة والروم مائتي ألف مقاتل

(3)

.

ولم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم

(4)

، الذي فوجئوا به، فأقاموا في معان ليلتين يُفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، هل يكتبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بعدد عدوهم، فإما أن يمدهم بالرجال، أو يأمرهم بأمره فيمضوا إليه، ولم يكن هناك رأي بالانسحاب، فانظروا الشجاعة والجرأة

(5)

.

فعند ذلك قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وعارض هذا الرأي، وشجع الناس قائلًا: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم

(1)

مآب: مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. انظر: معجم البلدان (7/ 188).

(2)

قوام: قدر، انظر: لسان العرب (11/ 357).

(3)

انظر: سيرة ابن هشام (3/ 328)، البداية والنهاية (6/ 412).

(4)

العرمرم: هو الكثير من كل شيء. انظر: لسان العرب (9/ 172).

(5)

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/ 72): وقد كان للصحابة - رضي الله عنه -م - في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحُبُوش وأصناف السودان والقِبطِ، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، ف- رضي الله عنه -م وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب.

ص: 378

تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور، وإما شهادة.

فقال الناس: قد صدق والله ابن رواحة، واستقر الأمر على مقاتلة العدو

(1)

.

بدء القتال، وتناوب القادة:

وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف مقاتل يواجهون مائتي ألف مقاتل، فعلًا معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب

(2)

.

أخذ الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة نادرة، والمسلمون معه يقاتلون حتى قُتل طعنًا بالرماح، وخر شهيدًا رضي الله عنه.

ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وطفق

(3)

يقاتل قتالًا ليس له مثيل، حتى إذا ألحمه

(4)

القتال نزل عن فرسه

(1)

انظر سيرة ابن هشام (4/ 22)، البداية والنهاية (6/ 416).

(2)

انظر: الرحيق المختوم ص 389.

(3)

طفق: جعل. انظر: لسان العرب (8/ 174).

(4)

يقال: ألحم الرجل واستلحم: إذا نشب في الحرب فلم يجد له مخلصًا. انظر: النهاية (4/ 206).

ص: 379

الشقراء فعقرها

(1)

، فكان أول فرس يُعقر في الإسلام

(2)

، ثم أخذ يقاتل رضي الله عنه على رجليه، وهو يقول:

يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ واقْتِرَابُهَا

طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا

وَالرُّوْمُ رُوْمٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا

كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا

عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا

فقطعت يمينه رضي الله عنه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت شماله رضي الله عنه، فاحتضن الراية بعضديه حتى استشهد رضي الله عنه، فأثابه الله سبحانه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ولذلك سُمي بجعفر الطيار

(3)

.

روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «

كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ فِي الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ»

(4)

.

وفي رواية أخرى في صحيح البخاري عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره: «أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ قَتِيلٌ،

(1)

أصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. انظر: النهاية (3/ 245).

(2)

أخرج عقر جعفر رضي الله عنه فرسه، أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الدابة تعقر في الحرب برقم 2573، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (7/ 511).

(3)

انظر: سيرة ابن هشام (3/ 333).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة برقم 4261.

ص: 380

فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ، بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ -يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ»

(1)

.

قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث بيان فرط شجاعته وإقدامه رضي الله عنه

(2)

.

ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وتقدم بها، وهو على فرسه، فتردد رضي الله عنه بعض التردد من شدة أمر المعركة، ثم أخذ يقول:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنَّهْ

لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ

إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وشَدُّوا الرَّنَّهْ

(3)

مَا لِي أَرَاكَ تَكْرَهِينَ الجَنَّةْ

وقال أيضًا رضي الله عنه:

يَا نَفْسُ إلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي

هَذَا حِمَامُ

(4)

المَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ

إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيْتِ

ثم نزل، فأتاه ابن عمٍّ له بعرق

(5)

من لحم، فقال: شُدَّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة برقم 4260.

(2)

انظر: فتح الباري (7/ 512).

(3)

أجلب الناس: تجمعوا وتألبوا. انظر النهاية (1/ 282)؛ الرنة: الصيحة الشديدة، انظر: لسان العرب (5/ 334).

(4)

الحمام: بكسر الحاء، أي قضاء الموت وقدره، انظر: لسان العرب (3/ 339).

(5)

العرق: بفتح العين وسكون الراء: العظم إذا أُخذ عنه معظم اللحم، انظر: لسان العرب (9/ 162).

ص: 381

ثم انتهس

(1)

منه نهسة، ثم سمع الحطمة

(2)

في ناحية الناس، فألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه

(3)

.

روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ

(4)

.

الراية إلى سيف اللَّه المسلول:

فلما سقطت الراية باستشهاد عبد الله بن رواحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُكلف أحدًا بحملها بعده، تقدم ثابت بن أقرم رضي الله عنه، وحمل الراية، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله عنه.

وفي رواية أخرى أن المسلمين لما قُتل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه تفرقوا وانهزموا حتى لم ير اثنان جميعًا، فتقدم ثابت بن أقرم رضي الله عنه، فأخذ الراية، ثم سعى بها وأعطاها خالد ابن الوليد رضي الله عنه، فقال له خالد: لا آخذها منك، أنت أحق بها، لك سن، وقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: والله يا خالد ما أخذتها

(1)

النهس: هو أخذ اللحم بمقدم الأسنان، انظر: لسان العرب (14/ 306).

(2)

حطمة الناس: أي ازدحامهم، انظر: لسان العرب (3/ 227).

(3)

أخرجه مختصرًا ابن ماجه في سننه برقم 2793، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه برقم 2252.

(4)

ذرفت العين: إذا جرى دمعها. انظر: النهاية (2/ 159)، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة برقم 2798.

ص: 382

إلا لك، أنت أعلم بالقتال مني، فأخذ خالد بن الوليد رضي الله عنه الراية

(1)

.

فلما أخذ خالد رضي الله عنه الراية واجتمع المسلمون إليه، قاتل الكفار قتالًا شديدًا، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال:«لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ»

(2)

.

وفي لفظ: «لَقَدْ دُقَّ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ لِي يَمَانِيَةٌ»

(3)

.

قال الحافظ في الفتح: وهذا الحديث عن خالد رضي الله عنه يقتضي أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرًا

(4)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وهذا يقتضي أنهم أثخنوا

(5)

فيهم قتلًا، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم، وهذا وحده دليل مستقل، والله أعلم»

(6)

.

(1)

انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 446)، سيرة ابن هشام (4/ 27)، شرح المواهب (3/ 347).

(2)

صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة برقم 4265.

(3)

صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة برقم 4266.

(4)

انظر: فتح الباري (7/ 516).

(5)

الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه، والمراد به هاهنا: المبالغة في قتل الكفار، انظر: النهاية (1/ 208).

(6)

انظر: البداية والنهاية (6/ 435 - 436).

ص: 383

عبقرية خالد رضي الله عنه في القتال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبر أصحابه بالمدينة - وقد جاءه الوحي بذلك -: «

حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»

(1)

.

قال أبو قتادة رضي الله عنه: «فمن يومئذ سُمي خالد بن الوليد سيف الله»

(2)

.

وقد استطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يثبت أمام هذا الطوفان من العدو طول النهار، فلما أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فلما لقوا العدو في اليوم التالي أنكر عدوهم حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فلما حمل خالد رضي الله عنه عليهم هزمهم الله أسوأ هزيمة، وقتلوا منهم أعدادًا كبيرة، ثم انحاز خالد رضي الله عنه وانسحب بجيشه شيئًا فشيئًا، حتى انصرف إلى المدينة، ولم يُصب في جيشه أحد خلال هذا الانسحاب

(3)

.

وليس في الدنيا قائد يستطيع أن يُنقذ هذه القبضة من الرجال - بقية الثلاثة آلاف - من وسط هذا اللج

(4)

، إلا أن يأتي

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة برقم 4262.

(2)

أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده برقم 22551، وقال محققوه: صحيح لغيره.

(3)

انظر: سيرة ابن هشام (4/ 27)، الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 446)، البداية والنهاية (6/ 430).

(4)

اللُجُ: معظم الماء، حيث لا يدرك قعره، ولج البحر عرضه، ولج الليل شدة ظلمته وسواده. المعجم الوسيط ص 816.

ص: 384

بأعجوبة، وقد أتى بها خالد، واستطاع أن يخرج من لجة

(1)

البحر من غير أن يبتل، وأن ينسحب من وسط اللهب من غير أن يحترق، وأن يُسجل هذه المنقبة في تاريخ الحروب

(2)

(3)

.

قال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضي الله عنهم يرثي من استشهد:

كَفَى حُزْنًا أَنِّي رَجَعْتُ وَجَعْفَرُ

وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللهِ فِي رَمْسِ

(4)

أقَبُرِ

قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمَّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ

وَخُلِّفْتُ لِلْبَلْوَى مَعَ المُتَغَبِّرِ

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

لجة البحر: معظمه. انظر: النهاية (4/ 233).

(2)

انظر: كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، ص 47.

(3)

أحداث الغزوة مستفادة من كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون للشيخ موسى العازمي (3/ 583 - 598) مع حذف وإضافة.

(4)

رمس: الرمس خفي القبر. شرح غريب السيرة (3/ 69).

ص: 385