الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الواحدة والثلاثون
الإحسان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..
«فمن مقامات الدين العظيمة، ومن منازله الرفيعة منزلة الإحسان، ويختلف معنى الإحسان اصطلاحًا باختلاف السياق الذي يرد فيه، فإذا اقترن بالإيمان والإسلام كان المراد به الإشارة إلى المراقبة وحسن الطاعة، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما سأله جبريل: ما الإحسان؟ فقال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يَرَاكَ» . أما إذا ورد الإحسان مطلقًا، فإن المراد به فعل ما هو حسن»
(1)
.
قال الراغب: «الإحسان: فعل ما ينبغي فعله من المعروف، وهو ضربان: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان، والثاني: الإحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا، ومنه قول علي رضي الله عنه: «الناس أبناء ما
(1)
نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (2/ 67).
يحسنون: أي منسوبون إلى ما يعلمون ويعملونه من الأفعال الحسنة»
(1)
.
(2)
.
والإحسان شرط في قبول العمل، فإن العمل لا يُقبل إلا بشرطين: الإخلاص لله، وموافقته للسنة، وهو الإحسان الذي ذكره الله بقوله:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان:22].
والإحسان بمعناه العام يشتمل إحسان العبد في عبادة ربه، وتعامله مع الخلق، وأعماله، وأقواله ظاهرًا وباطنًا، قال
(1)
المفردات ص 118.
(2)
مدارج السالكين (2/ 479)، بتصرف.
تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك:2].
ففي العبادات؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عندما سأله ما الإحسان؟ قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»
(2)
. والشاهد في هذا الحديث قوله: «وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ» .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ»
(3)
.
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله تعالى بأن يرزقنا حسن العبادة، ففي الحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ
(1)
صحيح البخاري برقم 50، ومسلم برقم 9.
(2)
صحيح البخاري برقم 2550، وصحيح مسلم برقم 1664.
(3)
برقم 228.
فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(1)
. وكان من دعواته صلى الله عليه وسلم قوله: «
…
وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ»
(2)
.
ومن خصال الإحسان: الإحسان إلى الوالدين: ببرهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، والدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23].
(3)
.
ومنها: الإحسان إلى الأولاد، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: «مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ،
(1)
برقم 1522، وصححه النووي في كتابه الأذكار ص 145 برقم 190.
(2)
مسند الإمام أحمد (28/ 338) برقم 17114، وقال محققوه: حديث حسن بطرقه.
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 302).
كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ»
(1)
.
ومنها: الإحسان إلى الزوجات، روى الترمذي في سننه من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا
…
ثم قال في آخر الحديث: أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»
(2)
.
ومنها: كذلك الإحسان إلى الجار، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ»
(3)
.
قال ابن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه. ويحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية، والسلام، وطلاقة
(1)
صحيح البخاري برقم 5995، وصحيح مسلم برقم 2629.
(2)
سنن الترمذي برقم 1163، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأصله في صحيح مسلم من حديث جابر برقم 1218.
(3)
صحيح البخاري برقم 6019، وصحيح مسلم برقم 48، واللفظ له.
الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه .. إلى غير ذلك على اختلاف أنواعه: حسية كانت أو معنوية»
(1)
. أهـ
ومنها: الإحسان إلى اليتامى والمساكين، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة:83].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
…
وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ»، وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى
(2)
.
والإحسان إليهم يكون بالبر بهم، وكفالة عيشهم، وتفقد أحوالهم، وإيصال النفع إليهم قولًا وعملًا.
ومنها: الإحسان إلى الناس بالقول والعمل، قال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90]، وقال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].
قال ابن كثير رحمه الله: «يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إذا لم يفعلوا ذلك،
(1)
فتح الباري (10/ 442).
(2)
(36/ 474) برقم 22153، وقال محققوه: صحيح لغيره.
نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بينة، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي: فربما أصابه بها»
(1)
.
قال الشاعر:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ
…
فَطَاَلمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
ومنها: الإحسان عند مجادلة أهل الكتاب، قال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
قال الشوكاني رحمه الله: «أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمرسبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقًّا، وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا، وغرضه فاسدًا»
(2)
.
ومنها: الإحسان في المعاملة من بيع وشراء ونحو ذلك، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»
(3)
، وفي الحديث الآخر: «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ
(1)
تفسير ابن كثير رحمه الله (9/ 28).
(2)
فتح القدير (3/ 242).
(3)
برقم 2076.
قَضَاءً»
(1)
.
ومنها: الإحسان إلى الميت عند تكفينه، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ»
(2)
.
ومنها الإحسان إلى الحيوان، وذلك بحد الشفرة عند ذبحه، وأن لا يحد الشفرة أمامه، روى مسلم في صحيحه من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ»
(3)
. والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه.
فائدة:
ومن وصايا السلف الصالح: خمسٌ لهن أحسن من الدهم الموقفة
(4)
: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه، فعيب، ولا
(1)
صحيح البخاري برقم 2305، وصحيح مسلم برقم 1601 واللفظ له.
(2)
برقم 943.
(3)
برقم 1955.
(4)
الدهم الموقفة: أي من الخيل الدهم -وهو من الخيل ما بين الأشقر والأسود- التي أُوقفت وأُعدت للركوب.
تماري حليمًا ولا سفيهًا، فإن الحليم يقليك
(1)
، وإن السفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه عما تحب أن يعفيك منه، واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
يقليك: يبغضك.
(2)
البيهقي في شعب الإيمان (8/ 85).