المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة السادسة والخمسونقصة أصحاب القرية - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ١١

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولىوقفات مع حديث: لا حسد إلا في اثنتين

- ‌الكلمة الثانيةمن فضائل التمر

- ‌الكلمة الثالثةمن حكم الصيام

- ‌الكلمة الرابعةتأملات في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

- ‌الكلمة الخامسةنبي الله آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السادسةمسائل وفوائد من قصة آدم عليه السلام

- ‌الكلمة السابعةنبي الله نوح عليه السلام

- ‌الكلمة التاسعةنبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة العاشرةقصة بعثة إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الحادية عشرةفوائد من قصة نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

- ‌الكلمة الثانية عشرةنبي الله موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الثالثة عشرةفوائد من قصة موسى عليه السلام

- ‌الكلمة الرابعة عشرةنبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة الخامسة عشرةفوائد من قصة نبي الله عيسى عليه السلام

- ‌الكلمة السادسة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (1)

- ‌الكلمة السابعة عشرةفوائد من قصة نبي الله يوسف عليه السلام (2)

- ‌الكلمة الثامنة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (1)

- ‌الكلمة التاسعة عشرةمقتطفات من سيرة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين (2)

- ‌الكلمة العشرونمقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم (2)

- ‌الكلمة الواحدة والعشرونالعرش

- ‌الكلمة الثانية والعشرونالفرح

- ‌الكلمة الثالثة والعشرونالحزن

- ‌الكلمة الرابعة والعشرونالعدل

- ‌الكلمة الخامسة والعشرونسيرة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

- ‌الكلمة السادسة والعشرونسيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه

- ‌الكلمة السابعة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (1)

- ‌الكلمة الثامنة والعشرونشرح حديث: الشفاء في ثلاثة (2)

- ‌الكلمة التاسعة والعشرونبعض الأدوية النبوية التي فيها شفاء

- ‌الكلمة الثلاثونمقتطفات من سيرة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

- ‌الكلمة الواحدة والثلاثونالإحسان

- ‌الكلمة الثانية والثلاثونالشورى

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثونحديث الأبرص والأقرع والأعمى

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثونمن محاسن الدين الإسلامي: وجود بدائل لكل عمل صالح

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثونشرح حديث مالك بن التيهان

- ‌الكلمة السادسة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (1)

- ‌الكلمة السابعة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (2)

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثونشرح حديث: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» (3)

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثونحلمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الأربعونفوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

- ‌الكلمة الثانية والأربعونغزوة مؤتة (1)

- ‌الكلمة الثالثة والأربعونغزوة مؤتة - دروس وعبر (2)

- ‌الكلمة الرابعة والأربعونغزوة حنين(1)(1)

- ‌قصة نبي من الأنبياء:

- ‌شجرة ذات أنواط

- ‌هزيمة المسلمين وفرارهم:

- ‌ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الكلمة الخامسة والأربعونغزوة حنين (2)

- ‌متابعة الكفار:

- ‌شجاعة أم سليم

- ‌قصة صاحب الجمل الأحمر:

- ‌أبو قتادة رضي الله عنه وقتيله:

- ‌شدة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن خالد بن الوليد رضي الله عنه

- ‌مطاردة الكفار وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس:

- ‌جمع الغنائم:

- ‌شهداء المسلمين في غزوة حنين:

- ‌الكلمة السادسة والأربعونغزوة الطائف (1)

- ‌طريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحصارها:

- ‌قصة المخنث:

- ‌رمي الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق:

- ‌إسلام عبيد من الطائف:

- ‌رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورحيل المسلمين:

- ‌إسلام سراقة بن مالك الجعشمي رضي الله عنه

- ‌قسمة الغنائم بالجعرانة:

- ‌البدء بالمؤلفة قلوبهم(2)وهم سادات العرب:

- ‌الكلمة السابعة والأربعونغزوة الطائف (2)

- ‌«لا تُوطَأُ الحُبْلَى(3)حَتَّى تَضَعَ»:

- ‌شأن ذي الخويصرة التميمي:

- ‌عَتْبُ الأنصار وخطبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم:

- ‌نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌قدوم وفد هوازن:

- ‌إسلام مالك بن عوف النصري:

- ‌الكلمة الثامنة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (1)

- ‌الكلمة التاسعة والأربعونفوائد ومسائل فقهية من غزوة حنين (2)

- ‌الكلمة الخمسونفوائد ومسائل فقهية من فتح الطائف

- ‌الكلمة الواحدة والخمسونالرؤى التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأوّلها

- ‌الرؤيا الأولى:

- ‌الرؤيا الثانية:

- ‌الرؤيا الثالثة:

- ‌الرؤيا الرابعة:

- ‌الرؤيا الخامسة:

- ‌الكلمة الثانية والخمسونالخيل

- ‌الكلمة الثالثة والخمسونالإبل

- ‌الكلمة الرابعة والخمسونالغنم

- ‌أولًا: فضلها:

- ‌ثانيًا: الأحكام الشرعية المتعلقة بها:

- ‌الكلمة الخامسة والخمسونقصة أصحاب الجنة

- ‌الكلمة السادسة والخمسونقصة أصحاب القرية

- ‌الكلمة السابعة والخمسونقصة أصحاب الكهف (1)

- ‌الكلمة الثامنة والخمسونفوائد من قصة أصحاب الكهف (2)

- ‌الكلمة التاسعة والخمسونقصة الرجلين: المؤمن والكافر

- ‌الكلمة الستونقصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت

- ‌الكلمة الواحدة والستونالفتور أسبابه وعلاجه

- ‌الخاتمة:

- ‌الكلمة الثانية والستونالمنهجية في طلب العلم

- ‌الفائدة السادسة:في المقصود ببركة العلم:

- ‌الكلمة الثالثة والستونتغسيل الميت وأحكامه

- ‌الكلمة الرابعة والستونتكفين الميت وأحكامه

- ‌يستحب في الكفن أمور:

- ‌الكلمة الخامسة والستونحمل الجنازة واتباعها، والمسائل المتعلقة بذلك

- ‌الكلمة السادسة والستوندفن الميت وأحكامه (1)

- ‌الكلمة السابعة والستوندفن الميت وأحكامه (2)

- ‌الكلمة الثامنة والستونمن بدع الجنائز

- ‌«غسل الميت:

- ‌الكفن والخروج بالجنازة:

- ‌الصلاة عليها:

- ‌الدفن وتوابعه:

- ‌الكلمة التاسعة والستونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (1)

- ‌وينقسم البيع إلى قسمين: حلال وحرام:

- ‌من القواعد في البيع:

- ‌الكلمة السبعونالبيوع: قواعد وحكم وفوائد (2)

- ‌أما موانع البركة فهي:

- ‌من صور البيوع المنهي عنها:

الفصل: ‌الكلمة السادسة والخمسونقصة أصحاب القرية

‌الكلمة السادسة والخمسون

قصة أصحاب القرية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..

فمن القصص العظيمة التي قصها الله علينا في كتابه، قصة أصحاب القرية، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا

ص: 527

عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} [يس: 13 - 29]

(1)

.

«{إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} من الله تعالى؛ يأمرونهم بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناءً من الله بهم، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم، {فَقَالُوا} لهم:{إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} .

فأجابوهم بالجواب الذي ما زال مشهورًا عند من رد دعوة الرسل، فقالوا:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟! قالت الرسل لأممهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي أنكروا عموم الرسالة، ثم أنكروا أيضًا المخاطبين لهم، فقالوا:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} .

فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فلو كنا كاذبين؛ لأظهر الله خزينا ولبادرنا بالعقوبة.

{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي: البلاغ المبين الذي

(1)

(فعززنا): أيدنا، وقوينا، (تطيرنا بكم): تشاءمنا بكم، (طائركم معكم): شؤمكم، وأعمالكم من الشرك والشر معكم، ومردودة عليكم، (أإن ذكرتم): أإن وُعظتم تشاءمتم؟! يسعى: يُسرع في مشيه، فطرني: خلقني، خامدون: ميتون، هامدون، القرون: الأمم السابقة، لما: إلا، محضرون: نحضرهم للجزاء والحساب. بيان غريب القرآن.

ص: 528

يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا من آيات الاقتراح أو من سرعة العذاب؛ فليس إلينا، وإنما وظيفتنا التي هي البلاغ المبين قمنا بها وبيَّنَّاها لكم؛ فإن اهتديتم، فهو حظكم وتوفيقكم، وإن ضللتم، فليس لنا من الأمر شيء.

فقال أصحاب القرية لرسلهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب؛ أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر زادت على الشر الذي هم عليه واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه، ثم توعدوهم فقالوا:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي: لنقتلنكم رجمًا بالحجارة أشنع القتلات، {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

فقالت لهم رسلهم: {طَائِرُكُمْ} وهو ما معهم من الشرك والشر المقتضي لوقوع المكروه، والنقمة وارتفاع المحبوب والنعمة {ذُكِّرْتُمْ} أي: بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم قلتم لنا ما قلتم، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} متجاوزون للحد متجرهمون في قولكم، فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورًا واستكبارًا.

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} حرصًا على نصح قومه

ص: 529

حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به وعلم ما رد به قومه عليهم، فقال لهم:{يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} فأمرهم باتباعهم، ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة.

ثم ذكر تأييدًا لما شهد به ودعا إليه، فقال:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} أي: اتبعوا من نصحكم نصحًا يعود إليكم بالخير، وليس يريد منكم أموالكم ولا أجرًا على نصحه لكم وإرشاده؛ فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه، بقي أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة ولكنه ليس على الحق، فدفع هذا الاحتراز بقوله:{وَهُمْ مُهْتَدُونَ} لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا بما يشهد العقل الصحيح بقبحه.

فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل وإخلاص الدين لله وحده، فقال:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة؛ لأنه الذي فطرني وخلقني ورزقني وإليه مآل جميع الخلق فيجازيهم بأعمالهم؛ فالذي بيده الخلق والرزق والحكم بين العباد في الدنيا والآخرة هو الذي يستحق أن يُعبد ويُثنى عليه ويُمجد دون من لا يملك نفعًا ولا ضرًّا ولا عطاءً ولا منعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولهذا قال:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه؛ فلا تُغني شفاعتهم عني شيئًا {وَلَا

ص: 530

يُنْقِذُونِ} من الضرر الذي أراده الله بي {إِنِّي إِذًا} أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فجمع في هذا الكلام بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة والاهتداء، والإخبار بتعين عبادة الله وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها والأخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه جهرًا مع خوفه الشديد من قتلهم، فقال:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} .

فقتله قومه لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به {قِيلَ} له في الحال {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} قال مخبرًا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه وناصحًا لقومه بعد وفاته كما نصح لهم في حياته {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي بأي شيء غفر لي، فأزال عني أنواع العقوبات {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بأنواع المثوبات والمسرات؛ أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم؛ لم يقيموا على شركهم.

قال الله في عقوبة قومه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} أي: ما احتجنا أن نتكلف في عقوبتهم فننزل جندًا من السماء لإتلافهم {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} لعدم الحاجة إلى ذلك، وعظمة اقتدار الله تعالى، وشدة ضعف بني آدم، وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب الله يكفيهم.

ص: 531

{إِنْ كَانَتْ} أي: ما كانت عقوبتهم {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي: صوتًا واحدًا تكلم به بعض ملائكة الله {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم وانزعجوا لتلك الصيحة فأصبحوا خامدين، لا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار، ومقابلة أشرف الخلق بذلك الكلام القبيح وتجبرهم عليهم»

(1)

.

ومن فوائد الآيات الكريمات:

1 -

«جواز تعدد الرسل مع اتحاد المرسل إليه؛ لأن الله أرسل لهذه القرية اثنين ثم عززهما بثالث، وفي هذا تقوية فعلية.

2 -

إن الذين يكذبون الرسل ليس عندهم إلا المكابرة، وليس عندهم حجة عقلية أو نقلية؛ لقولهم:{مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} ، فإن الرسول لو كان ملكًا ولم يكن بشرًا لما أطاقوا التلقي عنه، ولا احتملوا ذلك، فكان من حكمة الله إرسال الرسل من البشر، ولو كانوا كذبة لأهلكهم الله.

3 -

أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ليس عليهم هداية الخلق، وإنما عليهم إبلاغ الرسالة لقولهم:{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وفي الحديث: «يَأْتِي النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ

(1)

تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله ص 927 - 929.

ص: 532

وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»

(1)

.

4 -

إن الله لا يدع الخلق بلا رسل لقوله تعالى: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} ، ولقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

5 -

أنهم تطيروا بالرسل: أي تشاءموا، وحقيقة الأمر أن الرسل عليهم السلام محل تفاؤل، وليس محلًّا للتشاؤم؛ لأن في اتباعهم الخير، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف:96].

6 -

بيان نصح هذا الرجل لقومه من وجهين: الأول: أنه جاء من مكان بعيد {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} . الوجه الثاني: أنه جاء يشتد {يَسْعَى} فيستفاد منه أنه ينبغي للإنسان انتهاز الفرص في إنذار قومه ومناصحتهم، وأن لا يتوانى، فيقول: غدًا أذهب إليهم، أو في آخر النهار، أو ما أشبه ذلك، فيبادر بالنصيحة والموعظة؛ لأن هذا الرجل جاء يسعى.

7 -

ومنها أيضًا: أنه ينبغي التلطف بالقول في دعوة الغير لقوله {يَاقَوْمِ} فإن هذا يستوجب اتباعه، وقبول نصحه؛

(1)

صحيح البخاري برقم 6541، وصحيح مسلم برقم 220.

ص: 533

لأن للإنسان حدبًا وشفقة على قومه»

(1)

.

8 -

ومن فوائد قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} أن من توفر فيه هذان الأمران كانت دعوته واجبة القبول، وهما: ألا يأخذ على دعوته أجرًا سوى ما يرجوه من ربه، وأن يكون من المهتدين، وذلك يشمل هدايته في دعوته وهدايته في نفسه، وفي ضمن هذا التنبيه للداعي إلى الله كما يدعو الناس بقوله أن يدعوهم بعمله.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة أنه يجب على من دعا إلى الله أن يكون على بصيرة وعلى علم؛ لأن هذا هو وصف الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم يدعون إلى الله على هدى منه، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وأما من يدعو على غير هدى فإنه قد يفسد أكثر مما يصلح؛ لأن الذي يدعو على غير علم ربما يجعل الشيء الحرام حلالًا، والحلال حرامًا وهو لا يدري، فيحصل بذلك فساد في الدين والعقيدة، قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد، وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لابد في

(1)

تفسير سورة يس للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص 61 - 77.

ص: 534

كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى أقصى حد يصل إليه السعي، ويكفي في هذا شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء»

(1)

. أهـ

10 -

«الحث على الحلم وكظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتَّشمُّر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام»

(2)

.

11 -

«أنه لما قُتل أدخله الله الجنة، فيه إثبات نعيم القبر لقوله:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} مع أن الساعة لم تقم بعد، ولم يدخل الناس الجنة، ويدل على ذلك آيات من القرآن لقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32]، فيستفاد من هذه الآية وغيرها أن الميت ينعم في قبره كأنه دخل الجنة؛ لأنه يفرش له من الجنة، ويفتح له باب من الجنة، فيرى مقعده فيها، ويأتيه من ريحها وطيبها كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، بل ثبت في مسند الإمام من حديث عبدالرحمن بن كعب عن

(1)

التفسير القيم ص 319.

(2)

تفسير القرطبي (17/ 433).

ص: 535

أبيه كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»

(1)

.

12 -

إخلاص العبادة لله تعالى لقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 22]، فكيف أشرك معه هذه الآلهة وهي لا تنفع ولا تضر.

13 -

أن القوم أحقر وأذل من أن نرسل إليهم ملائكة من السماء لهلاكهم، بل كان الأمر أيسر من ذلك، صيحة واحدة لم تتكرر فبادتهم عن بكرة أبيهم، وانتقم الله لرسله لتكذيبهم، ولقتلهم وليه، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

14 -

أن المؤمن دائمًا ناصحًا محبًّا للآخرين الخير، قال قتادة:«تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله» ، ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل له من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فنصح لقومه حيًّا وميتًا، ورضي عنه، فقد كان حريصًا على هداية قومه.

(1)

مسند الإمام أحمد (25/ 58)، وقال محققوه: إسناده صحيح ما فوق الإمام الشافعي على شرط الشيخين.

ص: 536

15 -

قوة شخصية هذا الرجل، وصدعه بالحق أمام قومه، حيث أعلن أمامهم أنه آمن بربهم الذي يستلزم أن يكونوا مخلصين له بالعبادة إذا كان ربًّا لهم، كأنه أقام الحجة عليهم، فإذا كان ربكم فوجب عليكم أن توحدوه ولا تتخذوا معه آلهة، زد على ذلك أنه تحداهم، فقال {فَاسْمَعُونِ} فإني لا أبالي بكم.

16 -

أن من أدخله الله الجنة، فقد أكرمه لقوله تعالى:{وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} وقال تعالى: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)} [المعارج:35] والإكرام هو التعظيم والتوقير والتبجيل، وهو من أعظم ما تتوق إليه نفوس ذوي الهمم»

(1)

.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

انظر: تفسير سورة يس للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص 53 - 105، وتفسير ابن كثير (11/ 356)، وتفسير القرطبي (17/ 429 - 434).

ص: 537