الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة السادسة:
في المقصود ببركة العلم:
قبل بيان المقصود بالبركة في العلم لابد أن نعرف البركة، فهي كما يقول العلماء: الخير الكثير الثابت، ويعيدون ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة، فإنها من البركة وهي مجمع الماء، والبركة التي هي مجمع الماء مكان واسع، ماؤه كثير ثابت، فالبركة هي الخيرات الكثيرة الثابتة من كل شيء: من المال ومن الولد ومن العلم؟ وكل شيء أعطاه الله عز وجل لك تسأل الله - سُبْحَانَهُ - البركة فيه؛ لأن الله عز وجل إذا لم يبارك لك فيما أعطاك حرمت خيرًا كثيرًا.
ما أكثر الناس الذين عندهم المال الكثير وهم في عداد الفقراء. لماذا؟ لأنهم لا ينتفعون بمالهم، تجد عندهم من الأموال ما لا يحصى، لكن يقصر على أهله في النفقة، وعلى نفسه ولا ينتفع بماله، والغالب أن من كانت هذه حاله وبخل بما يجب عليه، أن يسلط الله على أمواله آفات تذهبها، كثير من الناس عنده أولاد لكن أولاده لم ينفعوه، عندهم عقوق واستكبار على الأب، حتى أنه - أي الولد - يجلس إلى صديقه الساعات الطويلة يتحدث إليه ويأنس به ويفضي إليه أسراره، لكنه إذا جلس عند أبيه، فإذا هو كالطير المحبوس في القفص
والعياذ بالله - لا يأنس بأبيه، ولا يتحدث إليه، ولا يفضي إليه بشيء من أسراره، ويستثقل حتى رؤية والده: فهؤلاء لم يبارك لهم في أولادهم.
أما البركة في العلم، فتجد بعض الناس قد أعطاه الله علمًا كثيرًا لكنه بمنزلة الأمي، فلا يظهر أثر العلم عليه في عباداته، ولا في أخلاقه، ولا في سلوكه، ولا في معاملته مع الناس، بل قد يكسبه العلم استكبارًا على عباد الله وعلوًّا عليهم واحتقارًا لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، وأن الله لو شاء لكان مثل هؤلاء الجهال.
تجده قد أعطاه الله علمًا، ولكنه لم ينفع الناس بعلمه، لا بتدريس ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، لم يبارك الله له في العلم، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله العبد؛ لأن العلم إذا علمته غيرك، ونشرته بين الأمة، أجرت على ذلك، وإذا منَّ الله عليك بطلبة يذكرونك ما نسيت ويفتحون عليك ما جهلت، فهذا من نعمة الله عليك، فهذا من فوائد نشر العلم أنه يزيد إذا علمت العلم، كما قال القائل مقارنًا بين المال والعلم، يقول في العلم:
يَزِيدُ بِكَثْرَةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ
…
وَينْقُصُ أَن بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا
إذا شددت به كفًّا، وأمسكته نقص، أي تنساه، ولكن إذا
نشرته يزداد.
وينبغي للإنسان عند نشر العلم أن يكون حكيمًا في التعليم، بحيث يلقي على الطلبة المسائل التي تحتملها عقولهم، فلا يأتي إليهم بالمعضلات، بل يربيهم بالعلم شيئًا فشيئًا.
ولهذا قال بعضهم في تعريف العالم الرباني: العالم الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ونحن نعْلَمُ جميعًا أن البناء ليس يؤتى به جميعًا حتى يوضع على الأرض، فيصبح قصرًا مشيدًا، بل يبنى لبنة لبنة حتى يكتمل البناء، فينبغي للمعلم أن يراعي أذهان الطلبة بحيث يلقي إليهم ما يمكن لعقولهم أن تدركه، ولهذا يؤمر العلماء أن يحدثوا الناس بما يعرفون.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»
(1)
.
كذلك أيضًا ينبغي للمعلم أن يعتني بالأصول والقواعد؛ لأن الأصول والقواعد هي التي يبنى عليها العلم.
وقد قال العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول؛ أي لا يصل إلى الغاية إذا حرم الأصول، فينبغي أن يلقي على الطلبة
(1)
أخرجه مسلم في مقدمة كتابه.
القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرض حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
كتاب العلم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ص 237 - 252 باختصار.