الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الأربعون
فوائد من حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(1)
.
هذا الحديث اتفق العلماء على صحته، وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابه «الصحيح» وأقامه مقام الخطبة له، إشارة إلى أن كل عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا قال عبدالرحمن بن مهدي: «لو صنفت الأبواب لجعلت حديث عمر في كل باب» .
(1)
صحيح البخاري برقم 1، وصحيح مسلم برقم 1907 واللفظ له.
وعنه أنه قال: «من أراد أن يصنف كتابًا، فليبدأ بحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فروي عن الشافعي أنه قال:«هذا الحديث ثلث العلم» ، وعن الإمام أحمد قال:«أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وحديث عائشة رضي الله عنها:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا» ، وحديث النعمان بن بشير:«الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ».
قال ابن حجر رحمه الله: «وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله: ليس في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث»
(1)
.
وقد اشتمل هذا الحديث على فوائد كثيرة لدخوله في أكثر أبواب العلم، بل كلها، وأقتصر هنا على ثلاث قواعد يجتمع فيها كثير من الحكم والأحكام.
الأولى: دل الحديث على أن الأعمال وإن كانت صالحة وعلى السنة لا تقبل إلا بنية خالصة، وذلك أن يريد العامل بعمله وجه الله تعالى، وما لم يكن كذلك فهو مردود غير مقبول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا
(1)
فتح الباري (1/ 11).
لِامْرِئٍ مَا نَوَى» ومثل صلى الله عليه وسلم بمثال من الواقع يبين هذا الأمر العظيم، وهو أن المهاجرين صورتهم الظاهرة واحدة، ولكن لما اختلفت النيات كان من هاجر لله ولرسوله مقبول الهجرة، مأجور عليها، ومن هاجر لغير ذلك من أمور الدنيا فهجرته مردودة غير مقبولة، ولا مأجور عليها، وقس على ذلك جميع الأعمال الصالحة، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»
(2)
.
الثانية: أن من عمل عملًا صالحًا موافقًا للسنة إذا لم يخلص فيه نيته، فإنه يكون مشركًا، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه-:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(3)
.
ويبطل بذلك عمله - وإن كان ظاهره خيرًا- ولم يكن له
(1)
جزء من حديث رواه النسائي برقم 3140، قال النووي رحمه الله: إسناده جيد، الترغيب والترهيب (1/ 61).
(2)
جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 6493، وصحيح مسلم برقم 2651، واللفظ له.
(3)
صحيح مسلم برقم 2985.
منه إلا النصب والتعب، كما قال تعالى:{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)} [الغاشية:3 - 4].
الثالثة: بالنية تتميز العبادات بعضها عن بعض، فمن صلى الظهر بنية العصر لم يجزئه ذلك، وكذلك العكس، وإن كانت صورتهما في الفعل واحدة، ومن صام يومًا من أيام رمضان ولم ينوه منه لم يجزئه ذلك عن صوم الفرض على الراجح من أقوال أهل العلم.
وتتميز العبادات عن العادات ويختلف الحكم باختلافهما، فمن اغتسل ينوي بذلك التبرد لم يجزئه عن غسل الجنابة مثلًا، ومن أمسك عن المفطرات يومًا كاملًا ولم ينو بذلك التقرب إلى الله، وإنما كانت نيته التداوي ونحوه؛ لم يكن ذلك مسقطًا له عن فرض ولا مجزئًا عن مسنون.
فاحرص يا عبد الله على معرفة هذه القواعد والعمل بها تفوز بسعادة الدارين، وتسلم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكلمة الواحدة والأربعون
فوائد من حديث: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ»
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..
روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ»
(1)
.
«وهذا الحديث اشتمل على فوائد جمة، فمن ذلك:
أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، وحرام بيّن، ومشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:
الحلال البيّن: لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار واللباس وغيرها، فهذا
(1)
صحيح البخاري برقم 52، وصحيح مسلم برقم 1599، واللفظ له.
حلال بيّن ولا معارض له، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
الحرام البين: وهذا يلام كل إنسان على فعله، ومثاله: شرب الخمر، وأكل الميتة والخنزير وما أشبه ذلك، فهذا حكمه ظاهر معروف، قال تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].
وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس، فتجد الناس يختلفون فيها، فمنهم من يحرم، ومنهم من يحلل، ومنهم من يتوقف، ومنهم من يفصّل. ومثال المشتبه: شرب الدخان كان من المشتبه في أول ظهوره، لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس الناس حال هذا الدخان قطعًا بأنه حرام، ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة، ثم تحقق تحريمه والمنع منه.
2 -
أسباب الاشتباه أربعة:
أ- قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه؛ لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
ب- قلة الفهم: أي ضعف الفهم، وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم، فهذا تشتبه عليه الأمور.
ج- التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
د- سوء القصد: وهو أعظمها؛ بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله فقط بقطع النظر عن كونه صوابًا أو خطأً، فمن هذه نيته فإنه يُحرم الوصول إلى العلم، نسأل الله العافية؛ لأنه يقصد من العلم اتباع الهوى.
وهذا الاشتباه لا يكون على جميع الناس بدليلين: أحدهما من النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» ، يعني: وكثيرٌ يعلمهن، والثاني من المعنى، فلو كانت النصوص مشتبهة على جميع الناس، لم يكن القرآن بيانًا ولبقي شيء من الشريعة مجهولًا، وهذا متعذر وممتنع.
3 -
حكمة الله عز وجل في ذكر المشتبهات: حتى يتبين من كان حريصًا على طلب العلم ومن ليس بحريص.
4 -
أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه الناس كلهم: لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» .
5 -
الحث على اتقاء الشبهات: لكن هذا مشروط بما إذا قام الدليل على الشبهة، أما إذا لم يقم الدليل على وجود شبهة كان ذلك وسواسًا، لكن إذا وجد ما يوجب الاشتباه، فإن الإنسان مأمور بالورع وترك المشتبه.
مثال ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قومًا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ» ، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر
(1)
.
فهنا هل نتقي هذا اللحم لأنه يُخشى أنهم لم يذكروا اسم الله عليه؟
الجواب: لا نتقيه، لأنه ليس هناك ما يوجب الاتقاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ» ، فكان في هذا نوعًا من اللوم عليهم، كأنه عليه الصلاة والسلام يقول: ليس لكم شأن فيما يفعله غيركم، بل الشأن فيما تفعلونه أنتم، فسموا أنتم وكلوا.
ومن هذا ما لو قدّم إليك يهودي أو نصراني ذبيحة ذبحها، فلا تسأل: أذبحتها على طريقة الإسلام أو لا، لأن هذا السؤال لا وجه له، وهو من التعمق.
ومن ذلك أيضًا: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟ فهل يتقي هذا الثوب أو لا يتقيه؟
الجواب: ينظر إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال قوي طلب الاجتناب، وإذا لم
(1)
أخرجه البخاري، برقم 5507.
يكن احتمال فلا يلتفت إليها، ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله حين سُئل عن الرجل يشكل عليه أحدث أم لا وهو في الصلاة فقال:«لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»
(1)
.
فالقاعدة: أنه إذا وجد احتمال الاشتباه وقوي، قوي تركه، وإن ضعف، ضعف تركه، ومتى لم يوجد احتمال أصلًا فإن تركه من التعمق في الدين المنهي عنه.
أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» .
حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك بضرب الأمثال المحسوسة لتتبين بها المعاني المعقولة، وهذه هي طريقة القرآن الكريم، قال الله تعالى:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ العَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. فمن حسن التعليم أن المعلم يقرب الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» .
هل يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» إقراره للحمى؟
الجواب: أن هذا باب من الإخبار والوقوع، ولا يدل على
(1)
صحبح البخاري برقم 137، وصحيح مسلم برقم 361.
حكم شرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر الأشياء لوقوعها لا لبيان حكمها، ولهذا أمثلة أخرى: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»
(1)
، فلا يعني ذلك أن ركوبنا سنن من كان قبلنا جائز، بل هو إخبار عن الواقع.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الظعينة أي المرأة تسير من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله، فلا يعني هذا أنه يجوز لها أن تسافر بلا محرم، لكن هذا ضرب مثل.
إذن نقول: هذا الحديث لا يدل على جواز الحمى لأنه ضرب مثل لواقع، وأما حكم الحمى فيتبين بذكر نوعيه وهما:
الأول: حمى لمصالح المسلمين، فهذا جائز.
الثاني: حمى يختص به الحامي، فهذا حرام؛ لأنه ليس له أن يختص بما كان عامًّا.
مثال الأول: أن تُحمى هذه الأرض من أجل أن يُركز فيها أنابيب لإخراج الماء، فهذا جائز بلا شك، أو تُحمى أرض خصبة لدواب المسلمين، كدواب الزكاة والخيل للجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.
مثال الثاني: إذا حماه لنفسه أو لبهائمه.
(1)
صحبح البخاري برقم 6889، وصحيح مسلم برقم 2669.
أن حمى الله محارمه: يعني المحارم جعلها الله تعالى بمنزلة الحمى لا تُقرب، ولهذا قال العلماء: إذا قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، فالمراد بالحدود الحرمات، وإذا قال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، فالمراد بها الواجبات؛ لأن الله عز وجل جعل حدودًا محرمات لحفظ النفوس، وحدودًا واجبات لتزكية النفوس؛ لأن النفوس محتاجة إلى تزكية وحماية.
سد الذرائع: أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تغلق لئلا يحصل الوقوع في المحرم، وسد الذرائع دليل شرعي، جاءت به الشريعة، ومن ذلك قول الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. فنهى عن سب آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سب الله تعالى، مع أن سب آلهة المشركين سبٌّ بحق، وسب الله تعالى عدوٌ بغير علم.
أن من عادة الملوك أن يحموا: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى» ، وقد سبق حكم الحمى آنفًا.
تأكيد الجمل بأنواع المؤكدات إذا دعت الحاجة إلى هذا: فإذا قال قائل: إن التأكيد فيه تطويل، فتقول: التوكيد تطويل، ولكن إذا دعت الحاجة إليه صار من البلاغة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا
…
أَلَا».
أن المدار في الصلاح والفساد على القلب: إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه يجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح؛ لأن القلب عليه مدار الأعمال، والقلب هو الذي يُمتحن عليه الإنسان يوم القيامة، كما قال الله تعالى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)} [العاديات:9 - 10]، وقال تعالى:{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق:8 - 9].
فطهِّر قلبك من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء، وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة، فإن القلب هو الأصل.
في الحديث رد على العصاة: الذين إذا نهوا عن المعاصي قالوا: التقوى هاهنا، وضرب أحدهم على صدره، فاستدل بحق على باطل؛ لأن الذي قال:«التَّقْوَى هَاهُنَا»
(1)
هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه في الحديث: إذا اتقى ما هاهنا اتقت الجوارح، لكن هذا يقول: التقوى هاهنا يعني أنه سيعصي الله، والتقوى تكون في القلب.
والجواب: عن هذا التشبيه والتلبيس سهل جدًّا بأن نقول: لو
(1)
صحيح مسلم برقم 2564.
صلح ما هاهنا، صلح ما هناك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ».
أن تدبير أفعال الإنسان عائد إلى القلب: لقوله صلى الله عليه وسلم: «
…
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ».
وهل في هذا دليل على أن العقل في القلب؟
الجواب: نعم، فيه إشارة إلى أن العقل في القلب، وأن المدبر هو القلب، والقرآن شاهد بهذا، قال الله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج:46].
ولكن كيف تعلقه بالقلب؟
الجواب: هذا شيء لا يُعلم، إنما نحن نؤمن بأن العقل في القلب كما جاء في القرآن، لكننا لا نعلم كيف ارتباطه به»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
شرح الأربعين النووية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ص 136 - 142، وشرح بلوغ المرام للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (15/ 159)، بتصرف واختصار.