الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهذا قام المنهج القرآني على أربعة مراحل، قد تصلح كلها لنوع واحد من الناس وقد تصلح مرحلة واحدة منها لنوع وأخرى لنوع آخر.
وهذه المراحل هي:
أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام.
ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة.
ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج.
رابعا: بعث الوجدان الفطري بالترغيب أو بالترهيب.
تلك هي المراحل الأربع التي رسم بها القرآن الكريم المنهج لمعاندي الدعوة الإسلامية في عهدها المكي وبيانها كالآتي:
أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام
يكاد يتفق الكاتبون على أن عابدي الأصنام أقروا أنهم عبدوها كوسيلة تقربهم إلى الله.
يقول الشاطبي:
"قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتحاد الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق1.
1 الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى الغرناطي المتوفى سنة 190هـ، ج3 ص351.
ويقول فضيلة الشيخ الخضري:
"كانت العرب تعظم هذه التماثيل وهذه الأحجار لا لاعتقاد أنها آلهة إنما لتقربهم إلى الله سبحانه"1.
قال في شرح الشفاء:
"والعرب على جاهليتها -أي على حالتها التي كانت عليها قبل ظهور النبوة من الجهل بأمور الشريعة وأحوال الديانة- أكثرها يعترف بالصانع، بل جميعها كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ولذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد وهو أن يقولوا: لا إله إلا الله"2.
وإذن فليست الوثنية العربية إلحادا ولكنها طريق منحرف في التعبد.
يقول الله تعالى:
1 محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ج1 ص55، ط ثانية، راجع كذلك الله كتاب في نشأة العقيدة الإلهية ص159، راجع السيرة النبوية للدكتور أبو شهبة ص72، 73، ماذا خسر العالم للندوي ص53، راجع كتاب الله للعقاد ص31.
2 شرح علي القاري على الشفاء ج3 ص299.
3 الآية رقم 31 من سورة يونس.
ويقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2.
1 الآيات من رقم 84-89 من سورة "المؤمنون".
2 الآية رقم 61 من سورة العنكبوت.
3 الآية رقم 63 من سورة العنكبوت.
ويقول تعالى جده:
ويقول عز جلاله:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2.
ويقول تبارك وتعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 5.
هذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب فيما قبل الإسلام وتوحي بأن كان لها أصل من التوحيد ثم وقع فيها انحراف، ولا عجب فالعرب من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقد
1 الآية رقم 25 من سورة لقمان.
2 من الآية رقم 3 من سورة الزمر.
3 الآية رقم 38 من سورة الزمر.
4 الآية رقم 9 من سورة الزخرف.
5 الآية رقم 87 من سورة الزخرف.
كانوا فعلا يزعمون أنهم على دين إبراهيم وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس من النسب، ولم يكونوا يحفلون بديانة مسيحية أو يهودية، مما كان لها وجود ما في الجزيرة العربية إعزازا منهم بأنهم على دين إبراهيم، ولو أنهم كانوا غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقليتهم من التناقض فقد اندفعوا في تيار العبادة عاطفيا وجرتهم التقاليد والمعدات إلى هذا اللون من العبادة، ولكنهم إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السحاب ومحيي الأرض بعد موتها يقولون: الله، هو صانع كل هذا ولكنهم ينحرفون في الطريق إليه فيعبدون الأصنام والكواكب والملائكة ويجعلونها شركاء لله في العبادة وإن لم يجعلوها شركاء له في الخلق وذلك هو التناقض الذي شاء هذا المنهج أن يفضحه1، وحاول أن يطهر النفوس منه لأنه ضعف وانحراف عن السبيل السواء، قال ابن كثير في معناها:"يحتج على المشركين باعترافهم بوحداينته وربوبيته على وحدانية إلهيته"2.
يقول الدكتور سامي النشار وهو يصور تلك المرحلة: "ولكن كان وراء كل هذا غريزة باطنية في أولاد إسماعيل وتشوف نحو شيء من اللامحدود، فيما وراء الوجود.
وجاءتهم المسيحية من الشمال ومن الجنوب ومشيخة العرب من أولاد إسماعيل يهزون رءوسهم ولا يبدون حراكا.
1 راجع في ظلال القرآن ج21 ص16 ط ثالثة بيروت.
2 ابن كثير ج2 ص416.
وأسرعت اليهودية إليهم وهي تحمل التوراة المحرفة، فأنكرها ووقفوا ينظرون إليها بازدراء، بل ولوا ظهورهم لجماعة منهم أعلنوا أنهم الحنفاء على ملة إبراهيم مختتنين متخذين الوحدانية دينا لهم، ولكن مشيخة العرب نأوا في فردوسهم العجيب وفي لياليهم الصافية في قلب الصحراء عن كل هذا.
كان يكفيهم أن يعبدوا الأصنام زلفى إلى الله.
كانوا يتشوقون إلى صوت النبي الأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنفسهم من ولد إسماعيل يتلو عليهم آياته ويزكيهم"1، اهـ.
وإذن فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله ليست بدعا من الأمر فهي تطهير للفكرة التي آمنوا بها وإزالة للأوشاب والشوائب التي رانت عليها وتنزيه لله جل شأنه عما اخترعوه لأنفسهم من نظام تعبدي لا يتفق مع جلال الله وقدسيته.
فمعنا الآن قضيتان:
الأولى: نسبة العرب إلى سيدنا إبراهيم وتفاخرهم بهذا النسب.
الثانية: ادعاؤهم أنهم على دين إبراهيم2.
ومن هنا فإن القرآن في معالجته لهذه المرحلة من التفكير قد ركز على استخدام سيدنا إبراهيم عليه السلام موقف العداء من كل شيء يعبد سوى الله سبحانه وتعالى.
1 نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور علي سامي النشار ج1 ص1، 2، ط رابعة، عام 1969م.
2 في ظلال القرآن ج25 ص73.
وقد استفاض القرآن الكريم في إبراز جهاد سيدنا إبراهيم الذي يدعي العرب أنه جدهم وأنهم على دينه ليبين لهم أنهم مشوشو العقيدة مسرفون في الإيمان.
وقد قدم ذلك في ثلاث خطوات وهي:
1-
مناقشة سيدنا إبراهيم للتدين في صورة الكواكب.
2-
مناقشة التدين في صورة الأصنام والأوثان.
3-
إعلانه التبرؤ من كل دين يخالف التوحيد الذي جاء به من عند الله ثم جعلها كلمة عاقبة من بعده لجميع أبنائه.
وحسب ارتباطي في هذه المرحلة بالجو المكي فإننا سنعرض موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام من خلال الآيات والسور المكية التي يتضح فيها منهج سيدنا إبراهيم عليه السلام على نحو ما قعدناه سالفا، وتلك السور هي:
1-
الأنعام وترتيبها في النزول 55.
2-
مريم وترتيبها في النزول 44.
3-
الأنبياء وترتيبها في النزول 73.
4-
الشعراء وترتيبها في النزول 47.
5-
الصافات وترتيبها في النزول 56.
6-
الزخرف وترتيبها في النزول 63.
ففي سورة الأنعام مناقشة لعبدة الكواكب.
وفي مريم والأنبياء والصافات مناقشة لعبدة الأصنام والأوثان، وفي الشعراء والزخرف نهاية المطاف وحسم الموقف وتقرير الحقيقة.
الأولى: سيدنا إبراهيم وعباد الكواكب:
إنه نموذج لاهتداء الفطرة الإنسانية حين تقرأ في صفحة من صفحات الكون المفتوح، وتتعقل آيات الله الكونية بالعين اليقظة، وبالقلب الواعي وبالحس المبصر وبالوجدان المنير فإذا بالمشاهدة المكررة المألوفة تبدو جديدة كأنما لم يألفها الحس، تنطق الفطرة هنا على لسان جد الأنبياء الذي يدعي العرب وجيرانهم النسبة إليه في النسب والدين، تنطق بالتوحيد لله الأحد.
فها هو ذا وقد كشف الله لبصيرته أسرار الكون الكامنة وأظهر له الدلائل الموجبة للهدى والإيمان، يمثل الفطرة السليمة فأنكر الباطل وخلص إلى الحق.
1 الآيات رقم 75-79 من سورة الأنعام.
وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا، ولا كانت أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يعبدون الكواكب، ولكن الأسرار المكنونة في تلك الليلة قد أراها الله له فنطق الكوكب بما لم ينطق به من قبل فأوحى إلى خاطره أن يكشف عورة هذا الباطل لعل قومه يهتدون، فقال:
هذا ربي؛ فالكوكب في ارتفاعه وإشعاعات نوره أقرب -في عين الساذج- لأن يكون ربا، فلما أفل -وتلك صفة مرتبطة بالعدم- لم يعد ذلك الكوكب في مشاعر الحس إلها فقال: لا أحب الآفلين، إنه يغيب عن هذه الخلائق فمن ذا الذي يرعاها ويدبر أمرها إذا كان ذلك هو الرب وهو يغيب؟ لا، إنه ليس هو، فالرب لا يغيب، ذلك منطق الفطرة البدهي الذي استشعره في وجدانه الصادق سيدنا إبراهيم دون أن يثير قضية منطقية أو فرضا جدليا، إنما هو منطق الوجدان الصادق والفطرة السليمة في يسر ويقين قالها: لا أحب الآفلين، فالفطرة تعرف ربها وتحبه وتعرف أن ربها لا يغيب.
فلما رأى القمر، وهو نوع من التجربة يتكرر ينسكب نوره في الوجود وينفرد وحده في السماء بأنه مصدر النور للأرض في الظلام ولكن ظاهرة الأفول تلحقه فيعلنها إبراهيم عليه السلام لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.
لقد انتقلت مشاعره من كراهية الآفلين إلى طلب العون من ربه الذي لا يراه في القمر ولا في سابقه من الكوكب الآفل.
إنه في حاجة إلى عون من ربه الحق الذي يجده فطرته ويدركه بوجدانه ووعيه.
فلما رأى الشمس بازغة وهي أكبر من القمر قال: هذا ربي هذا أكبر، فلما لحقها عنصر العدم وأفلت تبرأ من كل كوكب وقال:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها حرارة وشعاعا يراها سيدنا إبراهيم بفطرته هذه المرة ويرقب تحركها فوجدها تغيب فيعلنها: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .
لقد تم الاتصال الطبيعي بين الفطرة الصادقة الخالصة، والإله الحق وغمر نور الحقيقة قلب سيدنا إبراهيم حتى فاض على العقل والوعي والمشاعر فوجد ربه في إدراكه ووعيه كما هو في فطرته، الذي فطر السماوات والأرض، ليس هو الكوكب اللامع، ولا القمر الساطع ولا الشمس الوهاجة إنما هو الله الذي خلق السماوات والأرض وعندئذ فقد حقت الفاصلة الكاملة بينه وبين قومه فتبرأ مما يعبدون وتوجه إلى الدين الحنيف الذي لا ينحرف أبدا إلى شرك فأعلنها في يقين جازم، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فلا تردد ولا حيرة فما أحسته المشاعر وأدركته الفطرة هو الذي ينجلي للعقل مطابقا للحقيقة التي استقرت في الضمير1.
يقول ابن كثير:
"والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، وبين في هذا المقام خطأهم وخلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة.
فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه "الزهرة" لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية.
ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، قال: يا قومي إن بريء مما تشركون، أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون
1 راجع في ظلال القرآن ج7 ص287-292، ط ثالثة بيروت.
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه"1.
وسيان كان سيدنا إبراهيم في هذا الموقف ناظرا أو مناظرا وهو الرأي الذي ارتضاه ابن كثير فإن الحجة على العرب قائمة لأن جدهم إبراهيم قد تبرأ من عبادة ما سوى الله الذي توجه إليه بكل أقطاره.
فلئن كان ناظرا فقد توجه بالفطرة السليمة من قبل الرسالة إلى الله الحق وذلك أكثر إلزاما للقوم وأفحم لهم بالطريق الأولى.
لأنهم ينتسبون إلى رجل رفض الكواكب والأصنام بفطرته التي فطره الله عليها قبل أن يكون رسولا.
ولئن كان مناظرا فقد أقحم قومه وحدد معالم عقيدته التي جعلها في عقبه دينا لأبنائه، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين، فهم ينتسبون إلى نبي التوحيد، فأية حجة بعد لمن ينتسب إلى هذا النبي الموحد؟ إن بالنسبة أو بالنسب ثم يدعي أن الكواكب أو ما يشابهها ملة له أو دين2.
1 تفسير ابن كثير ج2 ص151، راجع القرآن العظيم لفضيلة الشيخ محمد الصادق عرجون ص49.
2 من مراجع هذا البحث تفسير روح المعاني لشهاب الدين السيد محمود الآلوسي ج7 ص173، تفسير الطبري ج7 ص242، طبعة ثانية 1373هـ 1954م الحلبي.
الخطوة الثانية: سيدنا إبراهيم وعباد الأصنام
بهذا اللطف في الحديث والأدب الجم في الخطاب يتوجه سيدنا إبراهيم إلى أبيه الذي يحاول أن ينقذه من الضلالة ويهديه إلى الخير الذي هُدي إليه وعلمه الله إياه2.
وبألفاظ المحبة والنداء الرخي، يا أبت يسأل في حنان الابن البار لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟ فالأصل في عبادة الإنسان أن يتوجه بها إلى من هو أعلم وأقوى وأعظم من الإنسان، فكيف تتوجه بالعبادة إلى صنم أصم أبكم أخرس قعيد لا ينفع ولا يضر فهو في مرتبة أدنى من الحيوان.
1 الآيات من رقم 42-48 من سورة مريم.
2 راجع تفسير الآلوسي ج16، ص88.
ثم يعزز هذه الدعوة المؤدبة بأنه لا يقول هذا من عندياته إنما هو العلم الذي جاءه من عند الله فهداه، وهو وإن كان ابنا، ولكن المدد الإلهي وهبه من الفقه والمعونة والمدد ما جعله يفقه ويعرف الحق، فهو ينصح أقرب الناس إليه، ولا غضاضة في أن يتبع الوالد ولده، ما دام الولد قد جاءه من العلم ما لم يأت الوالد1.
وبهذا كشف سيدنا إبرهيم لأبيه عن حالتين:
الأولى: تفاهة الأصنام وحقارتها عقليا وواقعيا.
الثانية: المصدر الذي يتلقى منه الدعوة ويعتمد عليه في التبليغ، فينتقل إلى الغاية من الدعوة.
إن الطريق الذي يسير فيه والده هو طريق الشيطان وإبراهيم يريد أن يهديه طريق الرحمن.
ولكن اللطف اللطيف في هذه الدعوة لم يصل إلى قلب المشرك العاتي فجابهها بالاستكبار والتهديد {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} .
جهالة قاسية في مقابل قول مؤدب مهذب رقيق حليم ولكن الداعية لم يغضب ولم يرد أن يفقد بره مع أبيه فرد عليه: {سَلامٌ عَلَيْكَ} فلا مراء ولا جدل ولا أذى ولا رد مني على التهديد ولكن سأتوجه إلى ربي بالدعاء لعله يهديك2.
1 راجع عبارة الآلوسي ج16، ص89-91 روح المعاني.
2 راجع ظلال القرآن ج16، ص43-44 راجع تفسير الآلوسي ج16، ص88-91.
وبذلك تتحدد خطوات الداعية في التعامل مع الناس دائما، أن يقدم الدعوة بقلب صادق واثق، وأسلوب رفيع مهذب، وأن لا يجابه التحديات بعنف أو بمثيل لها، وأن يتخذ موقفا ذاتيا حازما، {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ليستمر على طريقته التي يدعو الناس إليها.
يقول ابن كثير حول هذا الموقف:
"واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام واذكر لهم ما كان من خبر إبرهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته وقد كان صديقا نبيا مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام.
فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} طريقا مستقيما1.
واستمر سيدنا إبراهيم وفيا يستغفر لأبيه فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه.
لقد تبرأ سيدنا إبراهيم من أبيه ومن قومه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2.
1 ابن كثير ج3، ص123، راجع الآلوسي ج16، ص89.
2 الآية رقم 74 من سورة الأنعام.
هكذا يقولها إبراهيم لأبيه وهو الموصوف في القرآن الكريم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سمح لين رضي الخلق ولكن، الأمر هنا أمر حزم وتمييز بين الحق والباطل فهي العقيدة التي تعلو وتسمو فوق روابط الأبوة والبنوة وفوق مشاعر السماحة واللين والحلم، وإبرهيم قد أراده الله أن يكون هو القدوة للمسلمين، لمن بعده جميعا يأتسون به ويأتسون بموقفه فأعلنها:{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
وتطوف بنا آيات سورة الأنبياء حول المعركة الصاخبة التي دارت بين سيدنا إبراهيم عليه السلام وقومه وهو يحاجهم بالحسنى والقول الواضح ليهديهم السبيل السواء يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
فهو واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه أبدا أن الله الحق هو رب الناس ورب السموات ورب الأرض، فالأمر من الوضوح والثبات والاستقرار في نفسه عليه السلام بلغ حد أنه يشهد على ذلك وهو واثق متأكد، فإن كل ما في الكون ينطق بوحدانية الخالق الأعظم المدبر، وأن كل ما في الكيان الإنساني ليهتف به: أحد أحد فرد صمد لا شريك له ولا ولد.
فقابل سيدنا إبراهيم شك التائهين في متاهات الشرك بيقين الصادقين المتثبتين من وحدانية الله الفرد الصمد وهو على ذلك من الشاهدين.
وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد فلا بد من موقف إيجابي تجاه هذا الباطل المتمرد فعزم على أن يكيد لهم، وهنا تجيء آيات سورة الصافات لتشرح الحالة النفسية لسيدنا إبراهيم التي جعلته يتخذ هذا الموقف الإيجابي من قومه ومن الأصنام:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} 1.
1 الآيات من رقم 88-93 من سورة الصافات.
كان للقوم عيد يخرجون فيه يومها إلى الحدائق والبساتين بعد أن يضعوا بواكير الثمار بين يدي أصنامهم لتباركها وبعد أن يتنزهوا يعودون إلى الأصنام ليأخذوا طعامهم المبارك1.
فلما كان ذلك اليوم وكان سيدنا إبراهيم قد يئس من استجابتهم للحق الأبلج وأيقن من انحراف فطرتهم وأن إصلاحها صار عسيرا اعتزم أمرا.
فلما دعوه يوم عيدهم إلى الخروج معهم، قلب نظره إلى السماء، وقال لهم: إني سقيم لا طاقة لي بالخروج معكم إلى المتنزهات، فالذي يخرج إليها إنما هو طالب اللذة والمتعة خالي القلب، وقلبي لم يكن في راحة من أمركم ولا يستروح مشاركة الراحة معكم.
{إِنِّي سَقِيمٌ} تصوير لمدى ما بذله معهم من الجهد ليخرجهم من الظلمات إلى النور فأبوا.
{إِنِّي سَقِيمٌ} إنه مخلص صادق في مواجهة قوم بلداء الحس كاذبي الوجدان.
وذهب سيدنا إبراهيم إلى الأصنام والثمار الجنية أمامهم طيبة شهية كما هي لم يأكلوا منها شيئا فقال لهم متهكما مستهزئا: {أَلا تَأْكُلُونَ} ؟
1 الوثنيون هنا في ماليزيا وخاصة الذين هم من أصل سيلاني ما زالوا ماكثين على هذه الضلالة بنفس هذا الأسلوب الجاهلي القديم الرجعي.
ويستمر سيدنا إبراهيم في تهكمه وهو ممتلئ بالغيظ: ما لكم لا تنطقون؟ ولم تجبه الآلهة الكاذبة فراغ عليهم ضربا وتكسيرا يشفي نفسه من السقم والهم والضيق1، لقد جعلهم سيدنا إبراهيم جذاذا إلا كبيرا لهم كما تتلوا علينا آيات سورة الأنبياء.
لقد تحولت الآلهة المعبودة في يوم العيد إلى قطع صغيرة من الحجارة والخشب وتحول المعبد المقدس إلى مخزن لأكوام من الحجارة والأخشاب المهشمة.
وترك سيدنا إبراهيم الصنم الأكبر دون تكسير لعلهم إليه يرجعون. يرجعون إلى الإله الأكبر يسألونه أحد سؤالين أو هما معا:
1-
هل أنت الذي ثرت على الآلهة الصغيرة؟
2-
فإن لم تكن أنت فلماذا وأنت الإله الأكبر لم تتحرك لتدافع عن قداسة الآلهة؟ إنك أيها الأكبر مذنب في كلتا الحالتين.
ومجرد الرجوع إلى الصنم الأكبر تبطل فكرة ألوهيتهم؛ لأن العابد يحاكم المعبود والأدنى يحاكم الأعلى وإذن فقد فسدت قضية التقديس المزعومة للأصنام.
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} .
لعلهم يراجعون القضية من أساسها بعد أن تهشمت الأصنام فيعودون إلى صوابهم ورشدهم ويدركون سخف وتهافت وتفاهة عبادتهم للأصنام2.
1 راجع الآلوسي ج17، ص57، 58.
2 في ظلال القرآن ج23، ص59، 60.
لقد هدى الله سيدنا إبراهيم إلى التوحيد وعلم جل شأنه أنه أهل لحمل الأمانة وتوصيل الرسالة ودلت على ذلك2 مقالته لأبيه وقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فسماها تماثيل ولم يصفها بما يدعون لها من وصف الألوهية.
واستنكر عكوفهم على عبادتها عكوفا وجدانيا قلبيا وهي سخرية بقلوبهم التي تتحرك بحب حجر قعيد أصم ولكنهم كانوا أغبياء لم يعللوا هذا العكوف وتلك المحبة بمنطلق موزون أو علة كريمة بل قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} .
1 الآيات من رقم 51-70 من سورة الأنبياء.
2 ابن كثير ج3، ص182.
وهو جواب ينطق بالبلادة وتحجر العقل وعمى القلب وقوقعة نفوسهم في قوالب ميتة من التقاليد، لقد حكموا على أنفسهم بالسجن ورفضوا حرية الإيمان وانطلاق العقل من عقال التقاليد والموروثات المتحجرة وإزاء هذا كان الرد الصارم، قال:{لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
إن عبادة الآباء لا تكسب هذه التماثيل قيمة، ولا تخلع عليها قداسة هي غير مستحقة لها في الأصل ولا في الفكر ولا في الواقع المشهود، والقيم أيها القوم لا تنبع من تقاليد الآباء الأقدمين وإنما تصدر عن تقويم طليق موزون يحترم العقل وتوافق عليه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكأنما أحس وجدانهم المتبلد بشيء من نور الحقيقة زعزع الفساد الذي انطوت عليه صدورهم فاتجهوا إلى سيدنا إبراهيم.
قالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} .
وهو سؤال ينبئ عن عدم اطمئنان وتعطل في الفكر وتبلد في الروح بسبب الوهم الذي تراكم على قلوبهم من تعظيم التقاليد فهم لا يدرون، أحق ما قاله إبراهيم أم لعب؟ وذلك هو التيه الذي يعيش فيه كل من لا يدين بالتوحيد الخالص الناصع ويقبله العقل المستقيم المستنير، ولقد كان إبراهيم كامل العقل والاستنارة فرد عليهم.
وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا كبيرا لهم، وكان ينبغي أن يرجعوا إلى الصنم الأكبر يسألوه، كيف تحطمت هذه الآلهة وأنت لا تزال هكذا؟ أأنت الذي فعلت؟ أم غيرك؟ ولماذا لم تدافع عن حماك وقدسيتك وأخواتك الصغار من الآلهة؟
كان ينبغي أن يسألوا "الكبير" هذا السؤال ويحاسبوه ويحاكموه لفعلته هذه، ولكن الخرافات التي آمنوا بها قد عطلت عقولهم عن التفكير، وسدت التقاليد عليهم منافذ الفكر كله، وأفسدت المواريث القديمة عن الآباء طريق التأويل والتدبر فإذا بهم يتوجهون بالسؤال إلى مجهول: من فعل هذه بآلهتنا؟ ولأن الكفر مصدر الظلم فقد حكموا عليه بأنه: {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
وكان المجتمع كله هكذا غبيا معطل الحس فاسد العقل أعمى البصيرة وتذكر من تذكر إيعاد سيدنا إبراهيم للأصنام فقالوا: {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} وهو أسلوب متساوق مع تفاهة متلفظيه فإبراهيم رفيع الشأن على المنزلة.
قالوا: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} .
لقد أرادوا التشهير به وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد، وهكذا كان المجتمع كله في جانب مع الأصنام المهشمة وكان إبراهيم وحده في جانب مع الله الحق.
وسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟
وهو سؤال الغبي العاجز المتعجل فهل الهشيم المتحطم ما زال يحمل اسم الآلهة؟ وهل يسأل بشر مثلهم أنه حطم آلهة عدة؟
وهل يسأل بشر مثلهم أنه تمكن من تحطيم هذه الآلهة في حضرة الإله الكبير؟ ويجيب سيدنا إبراهيم عليه السلام متهكما:
{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} .
وهي إجابة تتفق مع مستوى عقولهم لا كذب فيها ولا افتراء وإنما هي إجابة متهكم يوجههم إلى العبث في وصف أكوام الحجارة والخشب بآلهة، ويريد أن ينبههم إلى أن هذه التماثيل لا تدري من حطمها أهو أنا أم هو هذا الصنم الكبير الذي ما زال باقيا؟
وأنتم كذلك مثل هذه الأصنام لا تدرون هل أنا الذي حطمها أم كبيرهم، فإذا كان الإله هو مصدر المعرفة والحق فاسألوهم هم لا تسألوني أنا.
وكأنما ومضة نور قد سطعت في غياهب ظلمات قلوبهم فتدبروا جواب سيدنا إبراهيم.
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} ، لماذا تحكمون بالظلم على الفاعل قبل أن تتأكدوا منه ومن فعلته؟ ولماذا تظلمون إبراهيم؟ 1
ولكن الظلام الدامس يذيب هذه الومضة في غياهبه المتراكمة فينتكسون.
1 راجع الآلوسي ج17 ص61.
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ؟ وإذن فما معنى هذا يا قوم؟ هل تكون الأصنام آلهة؟ يضيق إبراهيم بهم ذرعا ويجيب في عنف:
تلك الأصنام ميتة يابسة صلبة خرساء لا تملك لكم شيئا من نفع ولا من ضرر وقد رأيتموها مهشمة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا. ولا تملك أن تقول عندكم كلمة من فعل هذا بها؟ فلماذا؟ تعبدونها من دون الله أليس لكم عقل تفكرون به؟
أف لكم إنها أنة الداعية وقد ضاق صدره، وبخع نفسه على قومه حسرات من أجل أن يهديهم إلى الصراط المستقيم1.
وتلزمهم الحجة ويعجزون عن الرد، فلا يملكون إلا الأسلوب الغوغائي.
قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فما أحقرها من آلهة تعجز عن دفع الضرر عن نفسها وينتصر لها المتحجرون قلبا الأغبياء عقلا من الضالين من بني البشر.
وتتجمع قوى الضلالة وتتحمس جماهير الكفر قالوا: {حَرِّقُوهُ} .
1 راجع الآلوسي ج17 ص62.
ولكن كلمة أخرى قد قيلت من الله العلي العظيم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 1.
وكانت: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} 2.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} 3.
وإذًا فيستقر في ذهن السامعين لهذه الدعوة حقيقتان:
الأولى: تهافت وتفاهة وعبث عقيدة الأصنام.
الثانية: أن السبب الكامل لا ينتج بنفسه مهما كان عظيما. فقد ألقي إبراهيم في النار وهي على عظمها لم تكن له إلا بردا وسلاما.
فليترقب المخاصمون في مكة إذن تكسيرا لأصنامهم كما تكسرت الأصنام قديما بيمين جدهم إبراهيم وليعلموا ضعف مكرهم تجاه الدعوة وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال4.
الخطوة الثالثة: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}
وإذن فقد تحدد الموقف:
{لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
1 راجع ظلال القرآن ج17 ص37 وما بعدها، ج22 ص59 وما بعدها.
2 الآية رقم 98 من سورة الصافات.
3 الآية رقم 70 من سورة الأنبياء.
4 من مراجع هذا البحث: التفكير الفلسفي في الإسلام لفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود ص78، 80. القرآن العظيم لفضيلة الشيخ محمد الصادق عرجون ص64، 65.
وهذه الشهادة تأخذ مجرى مستفيضا من سيدنا إبراهيم في توحيده لله تعالى وجعل هذا التوحيد من ورائه تركة لأبنائه من بعده.
يقول الله تعالى في سورة الشعراء:
إن كفار مكة يزعمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم وأنهم من زرعه والقرآن هنا يتلو عليهم نبأ جدهم الذي استنكر عبادة الأوثان من أبيه وقومه.
لقد خالف إبراهيم أباه وقومه في عبادتهم الأصنام وخالفهم في شركهم، وأنكر عليهم ما كانوا عليه من الضلال.
1 الآيات من رقم 69-82.
وناقشهم بالحسنى ليوقظ قلوبهم الغافلة ويستجيش أفئدتهم المتبلدة.
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} .
{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} .
فأقل ما يتوفر في الإله الذي يعبد أن يكون سميعا أو له سمع على أقل تقدير يكون على مستوى من الحياة مثل الذي يعبد، فهل تسمع أصنامكم؟
ويعترفون بأن أصنامهم صماء، ويتعللون بأنهم وجدوا آباءهم كذلك يعبدون.
يقول الآلوسي:
فكأنهم قالوا: لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم1.
فهم إذًا لا يملكون حجة وجوابهم مخجل، قالوا:{بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فهو الإشراك في كل زمن في مكة أو فيما قبلها لا يملكون جوابا حريا بالاحترام، ولا يخجلون من كشف عورة عقولهم وتعفنها بارتباطها بما فعل الأولون المنحرفون على غير هدى أو بصيرة.
وأمام هذا التحجر العقلي والخيبة النفسية التي لا يرجى إصلاحها لم يسع سيدنا إبراهيم إلا أن يعلن في حزم:
1 تفسير روح المعاني ج19 ص85.
فلا مجاملة في العقيدة ولا ضعف أمام المجتمع المنحرف.
وهكذا يعلم القرآن الإنسانية في هذا الفجر السحيق أن الآصرة الباقية المحترمة هي آصرة العقيدة وأن القيمة الأولى في موازين العلاقات الإنسانية هي قيمة الإيمان.
فأعلن إبراهيم استنكاره لما يفعله أبوه وقومه بل وما يفعله آباؤهم الأقدمون، أن كل شرك هو عدو لإبراهيم ويجاهر عليه السلام بهذه العداوة لآلهتهم وعقيدتهم هم وآباؤهم الأقدمون.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فقد كان في الآباء الأقدمين بعض آمن بالله فاستثنى لذلك احتياطا حتى لا ينسحب الحكم على كل ما عبد الأولون المؤمنون الموحدون، ثم هو تحديد للربوبية التي تعهد أنها خاصة برب العالمين {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} ، ويأخذ سيدنا إبراهيم في وصف هذا الرب الذي يدبر الأمر كله وهو موئل كل حجة وإليه المرجع والمصير في كل شيء.
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} ، هو أعلم بي وبتكويني ومشاعري وحالي ومآلي فهو إذن الذي يهبني الهداية إلى الدين القويم وإلى المنهاج الذي ينبغي أن أسير عليه ليس الآباء الأقدمون هم الذين يهبوننا طريقة التدين أو الصراط السواء.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} ، فهو الكفيل الحاني الرءوف الودود البر الرحيم يهب وسائل الحياة كلها.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ، إذا لحقني مرض فإنما الشفاء من عنده هو وذلك نموذج لإعلان مفهوم الاعتقاد، فقد نسب إلى الله
تعالى كل شيء هو في مقام الأنعام والأفضال. "يطعمني، ويسقيني، ويشفيني".
وتأدب مع ربه فنسب المرض إلى نفسه. {وَإِذَا مَرِضْتُ} ذلك هو أمر إبراهيم جد العرب الذي يفتخرون بالنسب إليه ويدعون زورا أنهم على ملته.
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} ، فالله الحق هو الذي يملك الموت والحياة وهذا أصل من أصول العقيدة وهو الإيمان بالبعث.
كذلك عرف إبراهيم ربه حق المعرفة وما كان يطمع إلا في:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} .
إنه الشعور بالربوبية وإدراك جلالتها وسلطانها وأية خطيئة لإبراهيم؟
ولكنه لا يبرئ نفسه لأنه في مقام دون مقام الربوبية وإن كان نبيا معصوما.
إنه للأدب والحياء الذي تحلى به إبراهيم وهو شعور التقوى وشعور التحرج وشعور التقدير لنعمة الله تعالى وإدراك أن عمل العبد ضئيل جدا إذا قوبل بإنعام الله وإفضاله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} .
وهكذا يجمع سيدنا إبراهيم عناصر العقيدة الصحيحة:
توحيد الله رب العالمين.
الإقرار بتصريفه لشئون البشر.
البعث والحساب بعد الموت1.
فضل الله وتقصير العبد مهما كان أوابا.
وتلك هي محط النزاع بين المكيين ورسول الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال ابن كثير في تفسيرها:
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل وعبادة الله وحده لا شريك له والتبرؤ من الشرك وأهله2، وجعلها سيدنا إبراهيم كلمة باقية في عقبه.
1 راجع في ظلال القرآن ج19 ص91-93.
2 ابن كثير ج3 ص337 راجع روح المعاني للآلوسي ج19 ص84، 85.
3 الآيات من رقم 26-28 من سورة الزخرف.
تقول قريش: المعاندة للتوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنها من ذرية إبراهيم وفي خطبة أبي طالب: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد1.
فهذه النسبة حق.
وتدعي قريش أنها على ملة إبراهيم وهذا ما ليس بحق فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة لا لبس فيها ولا غموض، ومن أجلها هجر أباه وقومه، وأعلن عدوانه لكل شرك، ووصى بنيه من بعده أن يقولوا: لا إله إلا الله صافية بريئة من شبه الشرك.
وإذن فدعوة التوحيد التي ينكرها المجتمع المكي هي دعوة أبيهم إبراهيم2.
فلئن كانوا مستمسكين بما كان يعبده آباؤهم فها هو ذا أبوهم إبراهيم الذي يفتخرون بالنسب إليه نبي موحد خالص في التوحيد وقد جعل التوحيد من بعده تركة لأبنائه.
يقول الآلوسي:
"والكلام تمهيد لما أهْلُ مكة فيه من العناد والحسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلم الذين هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام3،
1 المواهب اللدنية ج1 ص201 ط أولى عام 1325هـ.
2 راجع في ظلال القرآن ج25 ص73، 74، تفسير ابن كثير ج4 ص126.
3 راجع روح المعاني ج25 ص70.