المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

3-

النماذج التاريخية التي قدمها القرآن الكريم في هذا الفجر؛ لتبين للناس أن هذه المعالم طبيعية مستمرة في حقل العمل للدعوة.

وحول هذه الدوائر الثلاث نستعين بالله جل شأنه في توضيح هذه المجابهة التي صارت فعلا مضادا لحركة التبليغ.

ص: 363

‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

1-

رفض الدعوة مباشرة دون نظر:

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف:"يا صباحاه! "، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا عليه فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم"، قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 1، والنص واضح في ثلاث حقائق:

1-

أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل لهم القول وجمعهم بأسلوب علمي متفق مع قواعد المنهج للدعوة، وقد استنطقهم ثقتهم فيه.

2-

أنهم اعترفوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق في حاضره وماضيه.

1 فتح الباري ج1 ص368، 369، راجع دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص430-432.

ص: 363

3-

أنهم لووا رءوسهم لما دعاهم إلى دين الله دون نظر.

فلماذا رفضوها دون نظر؟

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} 1.

ما أكثر الآيات الدالة على وحدانية الله جل شأنه المعرِّفة لجلال قدرته؟ إنها مبثوثة في تضاعيف الكون معروضة للأبصار والبصائر في السموات وفي الأرض وفي النفس ذاتها {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ولكنهم لا يرونها ولا يسمعونها ولا يحسون بها.

أما لماذا قالها أبو لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم؟

لقد قالها ليشعر بأنه انتقم لنفسه من محمد صلى الله عليه وسلم فقد قيل: إن أبا طالب لاحى أبا لهب، فقعد أبو لهب على صدر أبي طالب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بضبعي أبي لهب، فضرب به الأرض، فقال له أبو لهب: كلانا عمك، فلم فعلت بي هذا؟ والله لا يحبك قلبي أبدا2.

وهو وإن كان منطقا صبيانيا غير أنه مقبول في وسط قوم يتناحرون على الشرف والكرامة، ولهم مفاهيم خاصة لمعنى الشرف والكرامة.

1 الآية رقم 105 من سورة يوسف.

2 فتح الباري ج10 ص368.

ص: 364

لقد خبأها أبو لهب في صدره زمنا طويلا حتى جاءت لحظة التحويل العظيم من الجاهلية بكل مفاهيمها إلى الإسلام بنورانيته الجليلة، فلم يجد أبو لهب في صدره غير الغل القديم، فنافس الدعوة وطمس قلبه وأعمى عينيه، فكانت هذه واحدة من أسباب المجابهة والكفر معا.

2-

إغراء أبي طالب:

استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، ومضى يظهر دين الله، ويدعو إليه على بصيرة حتى شرى الأمر، فاحمرت وجنتا المجابهين للدعوة وفكروا في التماس طريق للصد عنها، وكان في مقدمة محاولاتهم إغراء أبي طالب، فسعوا عنده ثلاث مرات:

1-

في الأولى قالوا له:

يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، ولكن أبا طالب ردهم ردا رقيقا وانصرفوا وما لإغرائهم عنده أدنى أثر، لقد ضاع جهاد أبطال المجتمع هباء في هذه المرة التي تصدى للعمل فيها مشيخة العرب:

عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.

وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

وأبو البحتري: العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.

ص: 365

والأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصى بن كلاب.

ثم أبو جهل، عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب1.

لقد خابت جولتهم الأولى وردهم الله على لسان أبي طالب بوجوه صفر.

2-

وفي المرة الثانية وقد أخذت الدعوة الإسلامية طريقها إلى القلوب والعقول، فآمن الذين هداهم الله وكتب لهم النجاة واستحقوا العقبى، ورأت قريش في تزايد المسلمين خطرا عليها، واندثارا لدينها الباطل فتجمعوا في مظاهرة متبرمة وقالوا لأبي طالب:"إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين"2.

وكانت المظاهرة حادة فقالوا كلمتهم، ثم انقلبوا راجعين دون أن يسمعوا من أبي طالب جوابا فعظم على الرجل فراق أهله وعداوتهم، وتلك حالة شعورية في نفس كل فرد عندما يجابه من كبار قومه، وهو فيهم ذو شرف ومنزلة، ولكنه في نفس الوقت يعز عليه كثيرا ولا تطيب نفسه أبدا أن يسلم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد الرجل أن يهدئ من ثقل الجاذبية عليه فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:

1 راجع السيرة لابن هشام، ج1 ص265.

2 السيرة لابن هشام ج1 ص265.

ص: 366

يابن أخي: إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

وذلك منطلق لين تبدو منه ضعضعة أبي طالب فظن الرسول صلى الله عليه وسلم أن عمه قد ضعف عن نصرته، والقيام معه، وأنه قد بدا له فيه بداء.

فحدد الرسول صلى الله عليه وسلم موقفه ليكون قانونا سرمديا لكل داعية يواجه جاذبية المجتمع الثقيلة:

"والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته".

إنها لقاعدة توزن بالحياة كلها إن تكأكأ المجتمع على الداعية، فهو يساوي في ثقله ثقل الثقيل ريشة على كتف بعير أورق هو سيد حمر لنعم، فإذا أبو طالب وقد لمسته شرارة من هذا النور المتوهج يعدل عن لينه ويقول: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا1.

وبهذا يتحدد الموقف من الجانبين: من جانب الكفرة، رفض مطلق للرسالة واقتراح حرب عائلية حتى يتقرر لمن يكون النصر.

ومن جانب النبي صلى الله عليه وسلم تصميم على الاستمرار في الدعوة وتصميم عمه على ألا يسلمه لشيء أبدا.

1 السيرة لابن هشام ج1 ص266، الحلبية ج1 ص323، راجع تاريخ الطبري ج2 ص323-327، الكامل في التاريخ ج2 ص64، الوفا ج1 ص191.

ص: 367

3-

لقد خابت مساعي مشيخة العرب، وأحسوا بالندامة لعجزهم عن فعل شيء مع أبي طالب، فمشوا مرة ثالثة ومعهم بديل، معهم "عمارة بن الوليد بن المغيرة" وقالوا له:"هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله فإنما هو رجل برجل".

هكذا قالوها في حمق "سلم ابن أخيك نقتله، وخذ ابننا عندك يحيا في كنفك واتخذه ولدا".

منطلق أعمى واقتراح أناني فاسد لم يطقه أبو طالب الذي لا يقل تحمسا للدفاع عن ابن أخيه من حبهم لولدهم عمارة، فقال لهم:

"والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا"1.

ولو أنهم أعطوه عمارة بن الوليد ليقتله أبو طالب نظير قتلهم ابن أخيه لكان حقا ما يقولون: "فإنما هو رجل برجل" فأي شيء يسر أبا طالب إن قتل ابن أخيه وعاش ولدهم في خيرات أبي طالب؟

"وإنه لمن الغريب حقا أن يقول المطعم بن عدي بعد مقالة أبي طالب: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا".

1 السيرة لابن هشام ج1 ص267، تاريخ الطبري ج2 ص327، الكامل في التاريخ ج2 ص64، 65، الطبقات لابن سعد ج1 ص202، راجع السيرة لابن كثير ج1 ص473-575.

ص: 368

فقال أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك.

أي إنصاف هذا يا مطعم؟ ولد يغذى وولد يقتل؟ وأي شيء كان يكرهه أبو طالب؟

ولو كان يكره محمدا صلى الله عليه وسلم ما طالت معه محاولاتكم في شأن ابن أخيه. إنها الأنانيات العمياء والعواصف الخبيثة التي يمتطيها إبليس فتزين السوء للمعتدين.

ومن هذه السفارات الثلاث تظهر حقيقة تاريخية في هذا الصبح المبكر للدعوة؛ إنها ليست دعوة عنصرية ولا قومية ولا إقليمية ولا محلية، فقد جحدها بادئ بدء أبناء قصي وعبد مناف، وهاجرت الدعوة ديارهم ووكل الله بها قوما ليسوا بها بكافرين، فكانت يثرب هي طابة المنورة التي ترعرع فيها لدين الله مجتمع إسلامي كبير.

3-

مساومة النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد فشلت جهود مشيخة العرب مع أبي طالب وما زال الإسلام ينمو ووجهاء من القوم يدخلون في دين الله، فلقد أسلم حمزة بن عبد المطلب إثر معركة مع أبي جهل، انتصر فيها حمزة لابن أخيه1، فغيرت قريش أسلوب المواجهة بالمواعدة إلى المواجهة بالمساومة مع النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وقد تعددت مرات هذه المساومة.

1 راجع ابن هشام ج1 ص291، 292، الكامل في التاريخ ج2 ص83، دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص459، راجع المواهب ج1 ص256.

ص: 369

فأرسلوا عتبة بن ربيعة، وكنيته "أبو الوليد"، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فيعطوها له ويكف عنهم،

وقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؛ يابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه".

لقد كان عتبة بهذا العرض يتحدث باسم مشيخة العرب، فقد فوضوه في حسم الأمر والاتفاق مع محمد صلى الله عليه وسلم على أي أمر يحب.

يقول ابن هشام:

"اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبو البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب،

ص: 370

وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف أول من اجتمع منهم قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب نبرئك منه أو نعذر فيك"1.

هذا النص يؤكد أن سفارة عتبة بن ربيعة كانت سفارة عن مشيخة القوم على أن النص المروي عن عتبة آنفا في صدره عبارة تفيد هذه الوكالة.

1 السيرة لابن هشام ج1 ص295، راجع الإسلام والعقل ص122 الحلبية ج1 ص340 المواهب ج1 ص257.

ص: 371

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال:

حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا قال يوما، وهو جالس في نادى قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش؟ ألا أقوم إلى محمد فأكمله وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟

وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-يزيدون ويكثرون فقالوا: بلى يا أبا الوليد1.

وإذن فسفارة عتبة سفارة مفوضة من وجهاء القوم وكبارهم.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعتبة بعد أن فرغ: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟ " ، ثم يتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة فصلت، ويستمع إليها عتبة بإصغاء تام، ثم يعود لقومه ناصحا لكنه غير أمين على وجدانه، فلم يفلح.

4-

أذى النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد فشلت قريش وضاقت ذرعا بهذا الفشل، وأشعة الإسلام في كل يوم تمتد إلى قلب أو تدخل بيتا، والمسلمون يتزايدون صلابة وصبرا، ومستويات سفاراتهم كلها قد انتكست وفشلت مساعيهم، فعبروا عن خيبتهم بسلوك صبياني.

1 السيرة لابن هشام ج1 ص293، الحلبية ج1 ص338، المواهب ج1 ص25.

ص: 372

فأبو لهب يرى في تطليق ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم من ولديه عتبة -وقد أسلم فيما بعد يوم الفتح- وعتيبة، بردا يشفي غليله ويهدئ من ثورته1، وكان يتتبع النبي صلى الله عليه وسلم ليكذبه2.

وركانة بن عبد يزيد بن هشام، كان شديد العداوة للدعوة3 أراح شقوته بمصارعة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يابن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب، فإن صرعتني علمت أنك صادق، ولم يكن يصرعه أحد فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فلما غلب دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فتقاعس وتعلل4 وطلب معجزة، ثم تنطع واستمر كافرا.

وعقبة بن أبي معيط بن عمر بن أمية بن عبد شمس يستريح في مناوأته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يلقي سلا جزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى تأتي فاطمة الزهراء البتول فتلقيه عن أبيها5.

1 الحلبية ج1 ص327.

2 تاريخ الجنس البشري ج2 ص66، تاريخ الطبري ج2 ص349، الكامل في التاريخ ج2 ص94، السيرة لابن هشام ج1 ص423، راجع المحبر ص53.

3 راجع الروض الأنف ج3 ص389، الشفاء ج1 ص382.

4 الكامل في التاريخ ج2 ص76، الخصائص الكبرى ج1 ص322، السيرة لابن كثير ج2 ص82.

5 الوفاء ج1 ص190، فتح الباري ج8 ص166، مسلم ج3 ص1418.

ص: 373

وفي الحلبية أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان، ومرة وضع ثوبا على عنقه وخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- وأخذ بمنكبيه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ 1

ويستمر عقبة بن أبي معيط في أفعاله الصبيانية فيبصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم استجابة لرغبة صديقه اللدود أبي بن خلف لما بلغه أن عقبة نطق بشهادة التوحيد إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة كان أعدها عقبة إثر عودته من سفر ودعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ورفض الرسول أن يأكل منها حتى يسلم، فلما بلغ ذلك أبي بن خلف، قال له: وجهي من وجهك حرام إن لم تأته فتتفل في وجهه ففعل عقبة فأنزل الله تعالى فيه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} 2.

قال في الحلبية: قال الضحاك: لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار، فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت3.

وكانت أم جميل "أروى بنت حرب بن أمية" زوجة أبي جهل وهي سيدة من كبار بيوتات قريش أخت أبي سفيان بن حرب من

1 الحلبية ج1 ص330، فتح الباري ج8 ص168، السيرة لابن كثير ج1 ص470، المواهب ج1 ص251.

2 ابن هشام ج1 ص361، أسباب النزول للواحدي ص347.

3 الحلبية ج1 ص353، 354.

ص: 374

أماجد سلالة حرب بن أمية، كانت تتولى بنفسها جمع القاذورات من الطريق لتلقيها على باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم كتعبير عن انفعالاتها السيئة نحو المبعوث رحمة للعالمين1.

ويأتي دور سيد الجهلاء والجاهليين، المغيرة بن هشام المخزومي المعروف في التاريخ بكنيته المشهورة "أبو جهل" لقد كان سفسطائيا في منطقه وسلوكه.

قال أبو جهل يوما لقريش: يا معشر قريش! إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضحت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وقبلته إلى الشام فكان إذا صلى، صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود.

وجعل الكعبة بينه وبين الشام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل

1 فتح الباري ج10 ص369، راجع من أفعالها ما رواه صاحب الحلبية ج1 ص325، رواية الحلبية ج1 ص325.

ص: 375

فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما ممتقعا لونه مرعوبا، قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟

قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني1.

لقد كانت بطولة أبي جهل بطولة خيالية، وكان تشدقه بالتوعد تشدقا سفسطائيا، ولم تكن مرة واحدة ينتكس فيها على عقبيه بل كانت مرارا، يرويها صاحب الحلبية وابن كثير في السيرة منها:

أن الأراشي، كان رجلا من رجال خثعم، باع لأبي جهل أجمالا فمطله فدلته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمونه من شدة عداوة أبي جهل للدعوة وصاحبها، عليه أفضل الصلاة والسلام، فلما ذكر الأراشي حاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام معه لينصفه من أبي جهل، فلما ضرب باب أبي جهل، خرج وهو ممتقع الوجه حتى لكأنه النقع، وهي الصفرة مع كدرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أعط هذا حقه، فقال أبو جهل: نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له. فدفعه إليه.

1 السيرة لابن هشام ج1 ص298، 299، الخصائص الكبرى ج1 ص315 الحلبية ج1 ص324.

ص: 376

فلما سأله قومه: ويلك ما رأينا مثل ما صنعت؟ قال: ويحكم! والله ما هو إلا ضرب على بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط، لو أبيت أو تأخرت لأكلني1.

لقد كان في كل مرة تحيط به الزبانية، وكان ينتكس ويخيب، ولكنه ما زال سادرا في غيه.

لقد كان يقول:

والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة2.

وكان إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه.

هكذا اجتمعت الأصهار والأنساب والرجال والنساء من وجهاء القوم في مكة على مجابهة الدعوة والداعية بعديد من الأذى وصنوف من المساومات.

5-

فتنة الأتباع:

لقد كانت المجابهة مخططا متوجها نحو الداعية ودعوته وأتباعه، فقد حرصت قريش بعد فشلها في التوصل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حل يرضي شهوة كفرها على أن تواصل المواجهة ضد الأتباع.

1 و2 الحلبية ج1 ص352، 353، السيرة لابن كثير ج1 ص469، 470، الخصائص الكبرى ج1 ص317، راجع مواقف أبي جهل تجاه النبي "ص" في الخصائص الكبرى ج1 ص315، 317، وفي الحلبية ج1 ص352، 358، 359، الوفاء ج1 ص189، 190 السيرة لابن هشام ج1 ص311.

ص: 377

يقول ابن هشام:

ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، سيما من استضعفوا منهم يفتنوهم عن دينهم1.

ومن نماذج ذلك:

1-

بلال بن رباح:

كان مملوكا لأمية بن خلف، ولكنه كان صادق الإسلام، طاهر القلب، قوي العقيدة، متين الإيمان، وكان أمية كافرا عنيدا أسود القلب غليظ المشاعر دفعته غلظته إلى تعذيب رجل رقيق الحال يملكه كما يملك أي متاع، فكان يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره حتى يرجع عن إسلامه، ويقسم أمية: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى2.

يقول ابن هشام:

وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة

1 السيرة لابن هشام ج1 ص317، الحلبية ج1 ص334، السيرة لابن كثير ج1 ص492، المواهب ج1 ص266، راجع الرسالة المحمدية ص100، 101.

2 السيرة لابن كثير ج1 ص492، راجع الحلبية ج1 ص334.

ص: 378

العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى1.

قال في المواهب:

وإن بلالا هانت نفسه عليه -في الله عز وجل فلم يبال بتعذيبهم وصبر على أذاهم وهان على قومه -أي مواليه- فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد، وزاد مجاهد في قصة بلال، وجعلوا في عنقه حبلا ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل في عنقه ليرجع إلى الكفر، والله يعيذه وحسبه بهذا منقبة2.

قال صلى الله عليه وسلم لبلال: سمعت دف نعليك في الجنة3.

كان بلال -رضي الله تعالى عنه- يعرف أن ذلك التعذيب ظاهرة طبيعية في حياة الدعوة فنسي جلده الذي يعذب، وسقاه الله شرابا طهورا فارتفعت أحاسيسه فوق سياط الجلادين، وكلما استشاط غيظهم كانت الكلمات الحلوة النورانية تجوب الفضاء، وتتجاوب معها أجواء البيت العتيق:"أحد أحد" فكانت على أسماع الكافرين سياطا أشد لذعا وأقوى إيلاما وأعنف مواجهة.

ويأتي دور الأخوة الإسلامية، ذلكم الرباط المقدس الذي صنعته

1 السيرة لابن هشام ج1 ص318.

2 شرح المواهب ج1 ص267، الدر ص44.

3 فتح الباري ج8 ص100.

ص: 379

عقيدة التوحيد فيساوم أبو بكر رضي الله عنه أمية بن خلف ويُعتق بلال وينجو1، وبه تزيد جماعة المسلمين، ويكثر سوادها وتبقى إلى الأبد قصة بلال وأمية هي قصة المواجهة بين أتباع الحق وهمزات الشياطين.

2-

عمار بن ياسر:

كانت أسرة عمار بن ياسر، كلها تعذب:

سمية أم عمار، وياسر بن عامر، أبو عمار، وعبد الله أخو عمار.

كانوا جميعا في "زنازن" التعذيب القرشي.

يقول في المواهب:

مات ياسر في العذاب.

وأعطيت سمية لأبي جهل، فطعنها طعنة في موضع يعافه الرجل الأبي فقتلها.

ورمي عبد الله فسقط.

وأما عمار فقد فرج الله عنه بعد طول تعذيبه وقد كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، رؤي في ظهره أثر كالمخيط، فسئل فقال: هذا ما كانت تعذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار2.

1 الحلبية ج1 ص335.

2 المواهب ج1 ص266، راجع السيرة لابن كثير ج1 ص495، السيرة لابن هشام ج1 ص320.

ص: 380

وتفنى الأسرة كلها فداء لدين الله، وتتأبى أسرة عمار بن ياسر على كبرياء قريش، وتقدم للدعوة نموذجا حيا في مكافحة شهوة الكفر، فتستعذب العذاب في سبيل الله، وتنجو من راحة الجسد في كنف الشيطان وتفوز بهذا الوعد الكريم.

عن أم هانئ قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. اللهم لا تعذب من آل ياسر أحدا بالنار"1.

وفتح آل ياسر بشهادة سمية بابا للنصر لا يعرفه إلا الأوفياء المخلصون في الجهاد لتكون كلمة الله وحدها هي العليا، فكانت سمية أول شهيد في الإسلام.

3-

خباب بن الأرت:

خباب بن الأرت من بني تميم أو من خزاعة سبي في الجاهلية، فاشترته امرأة تسمى أم أنمار وكان حدادا يصنع السيوف، صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم فعذبته أم أنمار مشتركة بتعذيبه في الموجة العامة التي شنتها قريش على ضعفاء المسلمين من التعذيب والإرهاب، وقد تناقلت كتب السيرة والحديث شكوى خباب بن الأرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يلاقيه وأصحابه من التنكيل، ففي البخاري: عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال:

1 المواهب ج1 ص266، الطبقات الكبرى ج2 ص136، 137، الحلبية ج1 ص337، السيرة لابن هشام ج1 ص320، دلائل النبوة ج2 ص56.

ص: 381

شكونا إلى رسول الله -صلى عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعلجون"1.

4-

زنيرة الرومية:

أمة رقيقة الحال ضعيفة الحول معدومة الكنف آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم عذبها أبو جهل عذابا مريرا حتى إنه لكان يتعجب من صبرها وصبر أخواتها. يقول في المواهب:

وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون إلى هؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ 2

لقد عذبوها وهم أحرار ليستعبدوا قلبها، فرفضت أن تبيع عبوديتها لله إرضاء للأسياد الأحرار، وظلوا يعذبونها حتى عميت، فقالوا: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: والله ما هو كذلك وما يدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري، فرد الله عليها بصرها صبيحة تلك الليلة، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.

1 البخاري ج7 ص431، 432، دلائل النبوة ج2 ص57، الحلبية ج1 ص336، 337، السيرة لابن كثير ج1 ص496-498.

2 الحلبية ج1 ص336، المواهب ج1 ص269-275.

ص: 382

فإلى متى سيظل سحر محمد له جاذبية يتشوق الناس إليها؟

وإلى متى سيظل سحر محمد يؤثر على النفوس والقلوب والعقول؟

وإلى متى سيظل سحر محمد حتى يبني لله دولة الحق الأمين؟

هكذا واجهت قريش الدعوة الإسلامية مواجهة سافرة عنيفة استخدمت فيها أسلحة الحرب الدعائية.

والضغط الاجتماعي.

والأذى البدني والأدبي.

ولكن ذلك كله كان واحدا من معالم الطريق عرفها السابقون الأولون فتحملوها وتذوقوا آلامها احتسابا، فقننوا بذلك طريق الدعوة وطوبى لمن صبر وبشرى لمن احتمل.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 1.

6-

الحصار الاقتصادي:

فشلت قريش في اكتساب نصر ضد الدعوة الإسلامية. وأضيف إلى فشلها هذا اتساع العمل الإسلامي، وخروجه من النطاق العربي إلى النطاق العالمي حيث هاجر المسلمون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي بروح طيبة، ورد سعاية قريش حافية القدمين، فاستقرت جماعة المهاجرين من السابقين في الإسلام في ظل ملك لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق2 واستقرت عند النجاشي حقيقة الإسلام، فمكن للمسلمين

1 سورة فصلت الآية 35.

2 الحلبية ج1 ص360، راجع المواهب ج1 ص278.

ص: 383

من إقامة سعيدة طيبة هادئة، فأرهقت كرامة قريش بهذا الاستقرار وزادها رهقا أن دخل حمزة بن عبد المطلب في الإسلام.

يقول الطبري:

فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وأن حمزة سيمنعه1.

وغاظهم كثيرا خيبة عمرو بن العاص وصاحبه عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي في عدم التمكن من العودة بقافلة النور من المهاجرين، وزادهم حنقا إسلام عمر بن الخطاب. يقول الطبري:

فوجهوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي مع هدايا كثيرة، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قِبَله وبأرضه من المسلمين إليهم، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم وكان رجلا جلدا جليدا منيعا، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة بن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم قوة، وجعل الإسلام يفشو في القبائل وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم، اجتمعت قريش، فأتمرت بينها أن يكتبوا كتابا2.

هكذا تبدو ظاهرة الفشل وقد زلزلت عقل قريش، وتخبطوا في أساليب الانتقام من الدعوة والداعية، فتعاهدوا على أن يقيموا حصارا

1 تاريخ الطبري ج2 ص334.

2 تاريخ الطبري ج2 ص335.

ص: 384

اقتصاديا يشمل جماعة المسلمين وأقرباءهم، يقول ابن الأثير في الكامل:

ولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد، وإن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر، وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وآمنهم عنده ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه على:

ألا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب.

ولا ينكحوا إليهم.

ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئا.

فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا لذلك الأمر على أنفسهم فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا1.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فالمضايقات الاقتصادية والتحفظ في السجون والضغط الاجتماعي على البيوت المؤمنة هو نفس الأسلوب القديم الذي استعملته المواجهة القرشية ضد الدعوة والداعية.

إن شاب قريش وفتاها عمر بن الخطاب قد أعلن إسلامه بطريقة مجاهرة تتحدى جاذبية قريش ومجابهتها، فقد تظاهر المسلمون في

1 الكامل في التاريخ ج2 ص87، راجع السيرة لابن هشام ج1 ص750، الحلبية ج1 ص374، دلائل النبوة ج2 ص87.

ص: 385

موكب تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتنزل عليه السكينة، وتحرسه جنود الله، ويتصدره النبي الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم ويأخذ الموكب اتجاهه نحو الكعبة، وعمر في المقدمة يكبر: الله أكبر الله أكبر، فتنخلع قلوب الكفرة وتموت شهامتهم من رعدة الخوف التي ألمت بهم، وبهذا يكتسب الإسلام "آديولوجية" جديدة، وتتخذ الدعوة لها وضعا خاصا فيه نشوة وعافية وراحة، وتبدو الصورة بعد هذا الموكب الكريم:

1-

انتشار الإسلام وسط الأمة العربية اتخذ طريقه رغم أنف قريش.

2-

وانتشاره خارج الوسط العربي إلى حدود الحبشة تحت رعاية ملك كريم مؤمن مسلم رد سفراءهم بالخيبة والندم والحسرة.

3-

صناديد المجابهة وكبراء العمل العدائي للدعوة بدءوا يدخلون في دين الله عن طواعية وحب وتعقل.

4-

احتضان النجاشي لبعض رجالات قريش ونسائها من طغيان قريش نفسها إذا قيس بالخلقية العربية فيه مرارة عار على قريش وخزي لهم.

ولكنهم بدلا من أن يتعقلوا المسائل ويوازنوا الأمور خسارة وربحا ويحصوا ما أراقوه من عرق وتفكير وجلد وحبس وطرد وسب ولعن وحرمان دون فائدة ما، والدعوة لا تزال تعيش وتنمو وتتحرك وتتمدد حتى خرجت من البطون العربية السمراء إلى بطون من الحبشة رحبوا

ص: 386

بها وآنسوها وهدهدوا على مصابها بالأمن والطمأنينة بدل كل هذا ركبت قريش رأسها، واتخذت طريقا مخبولا لا يقدره فكر دبلوماسي واع، ولا يقدم عليه عقل سياسي حصيف، فقررت الحصار الاقتصادي والاجتماعي على الدعوة والداعية والأتباع ومن لاذ بهم من غير المسلمين.

فما زادت قريش بهذا الخبل تقدما ولا أحرزت نصرا بل انتكست على أعقابها كما تنتكس في كل مرة وكما ينتكس المجابهون للدعوة دائما في كل عصر ومكان، فقد مشى هشام بن عمرو بن الحارث العامري إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وأمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا زهير! أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يبايعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟

أما إني أحلف بالله لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال: ويحك يا هشام؟ فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال: وجدت رجلا؟ قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا ثالثا فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد مناف فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟

أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال:

ص: 387

زهير بن أبي أمية قال: أبغنا رابعا. فذهب إلى ابن البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك، قال: أبغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعو إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم فاتعدوا له "خطم الحجون" الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها1.

وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان "باسمك اللهم"2.

وهكذا عندما يسلم الداعية أمره لله، ويبلغ رسالات ربه، ويخشاه، ولا يخشى أحدا إلا الله تأتي أسباب النصر، وينقسم المجابهون على أنفسهم، وينصر الله دعوته بمثل هذا الرجل الفاجر، ويبقى للداعية أنه احتسب جهاده لوجه الله الكريم.

7-

مهاترات بطلب المعجزات:

لم تكن دعوة الإسلام دعوة لقوم أو لجنس، كذلك لم تكن دعوة جيل أو زمن محدد معلوم.

1 تاريخ الطبري ج2 ص341، 342.

2 الكامل في التاريخ ج2 ص89، راجع حول هذا دلائل النبوة ج2 ص80-84، السيرة لابن هشام ج1 ص300-377، الحلبية ج1 ص374-383، السيرة لابن كثير ج2 ص44، راجع المواهب ج1 ص290.

ص: 388

وهي كذلك لم تعتمد في عملها على القهر، والتسلط على العقل أو المشاعر.

إنها دعوة عامة للبشر وهي دين الله الخاتم للناس جميعا، ثم هي دعوة قائمة على الحجة الواضحة والبيان النير، لقد كانت دعوة بالدليل الذي يحترم العقل وقدمت له وسائل المعرفة واضحة جلية متعددة الألوان مثاني تلون البراهين؛ ليستجيب العقل والقلب والوجدان والإحساس حتى يكرم الإنسان ذاته بالإيمان بالله، ويقدر قدر نفسه بعيدا عن الشركة العامة مع الحيوانات إن لم يكرم نفسه بالإيمان بربه الذي خلقه وعدله، وأكرمه، في أحسن صورة ما شاء الله ركبه، ثم جعل له عينين ولسانا وشفتين وهداه النجدين، وبعث في مشاعره إحساسا فطريا بالحنين إلى الإيمان بالله الأحد الفرد الصمد.

ومع أن القوم لا يختلفون في هذا مع الدعوة والداعية، وأنهم دائما يفتخرون بالنسب إلى "إبراهيم" عليه السلام، ولكنهم جابهوا الدعوة بعنف متغيظ محموم، فلما فشلت المجابهة بألوانها المتعددة واستعلت الجماعة الإسلامية بإيمانها فوق كل ضغوط العمل العدائي من كفار قريش لم يسع قريش إلا أن يسلكوا سبيل المهاترات فاتجهوا إلى أسلوب منحرف على المنهج الإنساني الكريم، لقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل على هواهم، ويعمل في الأرض لهم معجزات، لقد طلبوا آيات مادية، وزعموا أنها إن جاءتهم يؤمنون.

ص: 389

يقول ابن هشام:

قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول1.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقوله:

"ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم".

فيعودون لمثل ما قالوا، قالوا:

فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم2.

1 السيرة لابن هشام ج1 ص296.

2 السيرة لابن هشام ج1 ص297.

ص: 390

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ما أنا فاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

ولكنهم يستمرون في المهاترات فيقولون: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل".

قالوا: يا محمد أفما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك، فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له:"الرحمن"، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، أو تهلكنا1.

عندئد لا مجال للرد عليهم ولا الاستماع منهم.

يقول ابن هشام:

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم2.

1 و2 السيرة لابن هشام ج1 ص298، 298، راجع السيرة لابن كثير ج1 ص478-481.

ص: 391

ولكن بقية من هذا الفكر الرجعي الجاهلي ما زالت تريد أن تلاحق الرسول صلى الله عليه وسلم تطيل في المماحكة والمراء والمهاترة.

لقد قام مع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة وهو ابن عمة النبي -صلى الله على وسلم- أمه عاتكه بنت عبد المطلب، وكان المفروض أن يقول عبد الله هذا كلاما لينا يسري به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم القرابة القريبة وصلة الرحم، ولكنه كان واحدا من الرجعيين لقد كان منكرا رجعيا ممتازا فقال: يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك1.

وإذن فلم يطلب عبد الله بن أبي أمية معجزة؟ إن كان الأمر هو الإصرار على المماحكة والمجابهة وإغلاق العقل وقفل البصيرة وكراهية الحق؟

1 السيرة لابن هشام ج1 ص298، راجع في هذا الموضوع، السيرة الحلبية ج1 ص344-364، راجع هذا البحث في تفسير الطبري ج15 ص164-166.

ص: 392

لقد كشفت هذه المقالة عن دوافع طلب المعجزة، وفضحت المخطط الفكري الرجعي تجاه الدعوة الإسلامية:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون} 1.

ولم تكن مقالة عبد الله بن أمية مقالة يتيمة لقد كانت رأس فتنة يتحدث بها الرجعيون لقد قالها زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث. وأبي بن خلف، والعاص بن وائل، قالوا: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس، ويرى معك2، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:

{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 3.

ويسجل القرآن هذه المرحلة من العمل العدائي الذي واجه به الرجعيون دعوة الإسلام يقول الله تعالى:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ

1 سورة الأنعام الآية 33.

2 السيرة لابن هشام ج1 ص395، راجع حول طلب المعجزات، تفسير ابن كثير ج3 ص62-64 تفسير الطبري ج15 ص159-166.

3 الآيتان 8، 9 من سورة الأنعام.

ص: 393

وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 1.

لقد قصروا إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآني فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج، لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال، والتنويع فيها؛ لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر وشتى الأجيال والأطوار، فأبى أكثر الناس إلا كفورا، وعلقوا إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم على تعللات مادية: يفجر لهم من الأرض ينبوعا

إلخ.

فتبدو طفولة الإدراك والتصور الرجعي الجاهلي في هذا التعنت الساذج، وتبدو معالم تخبطاتهم ومماحكاتهم في تسويتهم بين بيت من زخرف وعروج إلى السماء، أو بين تفجير ينبوع من الأرض ومجيء الله جل شأنه وتعالى جده ومعه الملائكة قبيلا2 إن الذي يجمع في تصوره بين هذه المقترحات كلها إنما هو رجل مختل العقل فاقدا لعنصر الاتزان والتعقل في تفكيره.

يقول السهيلي:

وذكر ما سأله قومه من الآيات وإزالة الجبال عنهم، وإنزال الملائكة عليه وغير ذلك جهلا منهم بحكمة الله تعالى في امتحانه

1 سورة الإسراء الآيات من 89-93.

2 في ظلال القرآن ج15 ص97.

ص: 394

الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل، وأن يكون إيمانهم عن نظر وفكر في الأدلة، فيقع الثواب على حسب ذلك، ولو كشف الغطاء وحصل لهم العلم الضروري بطلت الحكمة التي من أجلها يكون الثواب والعقاب، إذ لا يؤجر الإنسان على ما ليس من كسبه كما لا يؤجر على ما خلق فيه من لون وشعر ونحو ذلك، وإنما أعطاهم من الدليل ما يقتضي النظر فيه العلم الكسبي، وذلك لا يحصل إلا بفعل من أفعال القلب، وهو النظر والدليل وفي وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول، وإلا فقد كان قادرا سبحانه أن يأمرهم بكلام يسمعونه ويغنيهم عن إرسال الرسل إليهم، ولكنه سبحانه قسم الأمر بين الدارين، فجعل الأمر يعلم في الدنيا بنظر واستدلال وتفكر واعتبار؛ لأنها دار تعبد واختيار، وجعل الأمر يعلم في الآخرة بمعاونة واضطرار1.

يقول صاحب الحلبية:

وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى، فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا، وإذا ضلت العقول عن طريق الحق مع علم منها بتلك الطرق، فأي قول يقوله العظماء2.

وقد جاءت هذه الآيات في سورة الإسراء بعد قوله تعالى:

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} .

1 الروض الأنف ج3 ص152.

2 الحلبية ج1 ص347.

ص: 395

قال الواحدي:

سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون، فقيل له:

إن شئت أن تستأتي بهم لعلنا نجتبي منهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم؟ قال: لا، بل أستأتي بهم، فأنزل الله عز وجل:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} 1.

قال السهيلي:

إن التكذيب بالآيات نحو ما سألوه من إزالة الجبال عنهم، وإنزاله الملائكة يوجب في حكم الله ألا يلبث الكافرين بها، وأن يعاجلهم بالنقمة كما فعل بقوم صالح وبآل فرعون، فلو أعطيت قريش ما سألوا من الآيات وجاءهم بما اقترحوا ثم كذبوا لم يلبثوا، ولكن الله أكرم محمدا في الأمة التي أرسله إليهم، إذ سبق في عمله أن يكذب به من يكذب ويصدق به من يصدق وابتعثه رحمة للعالمين، بر وفاجر، أما البر، فرحمته إياهم في الدنيا والآخرة وأما الفاجر، فإنهم أمنوا من الخسف والغرق وإرسال حسبان عليهم من السماء2.

لهذا فإن الدعوة الإسلامية لم تعتمد على إعجاز مادي؛ لأنها خالدة إلى يوم القيامة، وعامة لكل جيل من البشر في أي مكان على وجه البسيطة.

1 أسباب النزول ص277، 278، تفسير الطبري ج15 ص157، 108، راجع تفسير المعاني ج15 ص103، 104.

2 الروض الأنف ج3 ص152، 153.

ص: 396

والمعجزات المادية تأتي لرسالات محدودة وقوم مخاطبون بإصلاح أنفسهم من نبي خاص لهم فإذا لم ينصاعوا حقت عليهم الإبادة كمثل الذين خلوا من قبل.

على أن الخوارق ليست مما يغني النبي في دعوة المكابر المفتون، فإنه يزعم أنها ضرب من السحر1.

ولقد انصدع قلب أبو جهل رعبا لما طرق النبي صلى الله عليه وسلم بابه وأمره أن يسدد الدين الذي عليه للأراشي. وأطاع وخضع ودفع الدين، ولكنهم فسروا هذا الانصياع بالسحر.

ومرة أخرى يتوعد أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء حجر عليه ويمضي ليفعل فإذا هو راجع يلبس ثوب الخوف وخفي الهلع، فلما سئل وأجاب عما رآه قالوا لقد سحرك.

وعقبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة لما سمعا القرآن ورقت أفئدتهما وهشوا وبشوا للكتاب العزيز، قالوا لهما: لقد سحركما.

وقد ضرب القرآن الكريم أمثلة للذين كانوا يشاهدون الآيات ثم لم يؤمنوا بها، لقد ضرب المثل بقوم ثمود الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا وكانت آية واضحة لكنهم ظلموا بها وأوردوها مورد الهلكة فأخذهم الله أخذة رابية، وأهلكوا بالطاغية.

هذه التجارب اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بخوارق مادية؛ لأنها رسالة الإنسان على وجه الأرض، إنها رسالة

1 حقائق الإسلام وأباطيل خصومة ص58.

ص: 397

الأجيال المتعاقبة جميعا، وهي رسالة الرشد البشري تخاطب في الإنسان مداركه وعقله ووجدانه جيلا إثر جيل، إنها رسالة تحترم الإنسان وتميزه ببشريته عن كل ما خلق الله من ذي روح ونفس رطبة.

وآية هذا الخطاب هي معجزة القرآن ذاته وهو كتاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أبدا، إنه يرسم منهجا كاملا للحياة، ويخاطب الفكر والقلب ويلبي الفطرة القوية، ثم يبقى مفتوحا للأجيال المتعاقبة كلها تقرؤه وتتدبره وتؤمن به وتطبقه إلى يوم القيامة لتحظى في الدارين بالسعادة ورضوان الله1.

أما الخوارق التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لم تتخذ إطار المعجزة التي تقوم برهانا على صدق الرسالة والنبوة، وفي مقدمتها انشقاق القمر.

فهو على الرغم من أنه حدث وقع تاريخيا وثبت بالسنة على نحو ما رواه البخاري: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فقال: "اشهدوا"، وذهبت فرقة نحو الجبل. وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: انشق القمر بمكة. وتابعه محمد بن مسلم عن ابن نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله2.

1 في ظلال القرآن ج15 ص49.

2 فتح الباري ج8 ص183، راجع اللؤلؤ والمرجان ج3 ص280، باب انشقاق القمر مسلم ج4 ص2158.

ص: 398

وهو حادث واجه به القرآن الكريم جماعة المشركين في حينه، ولم يُرو عنهم تكذيب لوقوعه، فهو قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب، حتى ولو على سبيل المراء الذي كانوا يتذرعون به، غير أنه روي عنهم أنهم قالوا: سحرنا، ولكنهم أنفسهم اختبروا الأمر فعرفوا أنه ليس سحرا، قال في الحلبية:

فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا أهل الآفاق، وفي لفظ: انظروا ما يأتيكم به السفار، حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا؟ فأخبروا أهل الآفاق، وفي لفظ: فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه، فأخبروهم أنهم رأوه منشقا، فعند ذلك قالوا: هذا سحر، فأنزل الله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 1.

لكن كون هذا لانشقاق تم كاستجابة لطلب المشركين في مكة فذاك قدر لا يصح التسليم به؛ لأن النصوص القرآنية الصريحة تمنعه، {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} ، فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الاستجابة لهم بالخوارق المادية لما كان من تكذيب السابقين الأولين بها.

1 الحلبية ج1 ص343.

ص: 399

وفي كل مناسبة طلب المشركين آية من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرد بالرفض.

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ} 1.

تلك هي المطالب:

فأما الجواب فهو: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} .

فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين خارقة قول متجاف مع النص القرآني والموقف النبوي الذي وضحته آيات سورة الإسراء {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} .

ويقوي هذا الفهم موقف الإمام ابن حجر من طرق الحديث التي تذكر أن انشقاق القمر كان عقب سؤال المشركين، قال ابن حجر:"ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس"2.

1 الآيات من رقم 90-93 من سورة الإسراء.

2 فتح الباري ج8 ص177.

ص: 400

وعلى ذلك فقوله في روايته: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية من المراسيل كما قال ابن حجر لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس وهو أيضا ممن لم يشاهدها لكن روايته ليس فيها الصدر الذي جاء في رواية أنس1.

وعلى هذا فطلب المعجزات لم يلب من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه اتجاه يبعد الرسالة الخاتمة من أساسياتها وينئيها عن وظيفتها ويبعد العقل والقلب عن آيات الله القائمة في النفس والآفاق وفي التاريخ والكون.

أما ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إكراما من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لا دليلا لا ثبات رسالته ونبوته.

يقول: المسلم الفرنسي اتين دينه

إن معجزة الأنبياء الذين سبقوا محمدا كانت في الواقع معجزات وقتية وبالتالي معرضة للنسيان السريع بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآيات القرآنية "المعجزة الخالدة" ذلك أن تأثيرها دائم ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة كتاب الله، وفي هذه المعجزة نجد التعليل الشافي للانتشار الهائل الذي أحرزه الإسلام ذلك الانتشار الذي لا يدرك سببه الأوربيون؛ لأنهم يجهلون القرآن، أو لأنهم لا يعرفونه إلا من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة فضلا عن أنها غير دقيقة.

1 اللؤلو والمرجان ج3 ص280.

ص: 401

أن الجاذبية الساحرة التي يمتاز بها هذا الكتاب الفريد بين أمهات الكتب العالمية لا تحتاج منا نحن المسلمين إلى تعليل ذلك أننا نؤمن بأنه كلام الله أنزله على رسوله1.

ومن ثم فإن هذا الرجل الفرنسي العظيم يقول عن انشقاق القمر:

أننا لا نستطيع تصديق تلك المعجزة المزعزعة؛ لأنها تتنافى صراحة مع الكثير من آيات القرآن يقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} .

وما أقل تأثير المعجزات فيما مضى من التاريخ، لقد عبد بنو إسرائيل العجل بعد أن أنقذهم موسى بمعجزته من لجة البحر، ومن طغيان فرعون، وما كان أهل مكة المشركون ليتأثروا بالمعجزة أكثر من غيرهم من بني البشر فإن الطبيعة الإنسانية واحدة. اهـ2.

غير إنني لا أملك أمام الكثرة الكثيرة من الأحاديث الصحيحة إلا أن أقول: إنه ليس في الوسع تكذيب حادثة انشقاق القمر لكنها وقعت لا على أنها دليل في مواجهة مطالب المشركين لإثبات الرسالة، بل هي وقعت كما تقع خوارق كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو سلمنا بأن حادثة انشقاق القمر كانت استجابة لمطلب المشركين لبقي سؤال عسير الجواب، لماذا لم يستجب القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لباقي مطالب القوم فيا ربما كانوا يسلمون؟

1 محمد رسول الله. اتين دينه ص138.

2 المرجع السالف ص135.

ص: 402

وهذا هو ما نفته الآيات البينات: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} .

ولم ترسل الآيات لتحمل الناس على الإيمان وإنما ترسل كما قال الله جل شأنه: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} .

على أن القوم كانوا لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنه ليس رسولا، فلقد كانوا يقولون إذا مر عليهم: إن غلام بني هاشم هذا ليكلم من السماء، فكانوا على ذلك حتى عاب آلهتهم التي كانوا يعبدون، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا، فغضبوا لذلك وعادوه1.

فالقوم ليسوا في حاجة إلى معجزة مادية وخارقة تخسف بهم الأرض حتى يصدقوا ويؤمنوا، فإنهم ليعرفونه نبيا رسولا كما يعرفون أنفسهم وأولادهم، ولكنهم مهاترون مكابرون، وصدق الله العلي العظيم:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2.

1 الدرر ص 38، السيرة لابن هشام ج1 ص364، تاريخ الطبري ج2 ص322، الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص199، المواهب ج1 ص248.

2 الآية رقم 33 من سورة الأنعام.

ص: 403