المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

وقد ناقشهم القرآن الكريم في هذه المسألة من عدة جوانب.

الجانب الأول:

جانب تقاليدهم هم وعاداتهم فهل هم يستبشرون خيرا إذا بشر أحدهم بالأنثى؟

لقد وضح القرآن الكريم بل فضح أساريرهم الحزينة إذا بشر أحدهم بالأنثى يقول الله تعالى:

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1.

1 الآيات من رقم 57-59 من سورة النحل.

ص: 452

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} 1.

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 2.

{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 3.

وهنا يسألهم القرآن الكريم:

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 4.

هكذا يحاصر القرآن الكريم أسطورتهم في كل مساربها ويحاجهم بمنطقهم وبمنطق البيئة التي يمسكون بتراثها وثقافتها الجاهلية.

1 الآية رقم 40 من سورة الإسراء.

2 الآيتان 16، 17 من سورة الزخرف.

3 الآية رقم 19 من سورة الزخرف.

4 الآيات من رقم 149-159 من سورة الصافات.

ص: 453

إنهم يعدون ولادة الأنثى محنة ويرونها مخلوقا له درجة دون درجة الذكر، ثم هم يدعون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، فمن أين جاءتهم هذه الأسطورة، وهم مع الرتبة الدون؛ لأنهم وهم خلق محتاج إلى بارئه الأجل الأعظم، لا يقبلون الأنثى لهم ذرية وامتدادا لحياتهم فهل اختار الله البنات وترك لهم البنين؟ استفتهم عن هذا الزعم السقيم المتهافت.

ويسترسل القرآن في تفنيد أسطورتهم حتى الخاتمة:

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ، وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} 1.

فينفي قدرتهم على أن يضلوا من عباد الله إلا من هو محسوب من أهل الجحيم، وإنهم عاجزون عن فتنة قلب مؤمن محسوب من الطائعين.

ولكل مقامه لا يتعداه.

فالملائكة عباد من خلق الله لهم وظائف في طاعة الرحمن، يصفون للصلاة، ويسبحون بحمد ربهم، ويقف كل منهم على درجته لا يتجاوزها، والله هو الله الملك القدوس ذو الجلال والإكرام2.

1 الآيات من رقم 161-195 من سورة الصافات.

2 في ظلال القرآن ج23 ص71-72.

ص: 454

ومثال آخر في حياتهم المعيشية، وهو مثل واضح حاسم لا مجال للجدل فيه:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

وهو مثل شامل لكل ما كانوا يتخذونه شريكا من دون الله جنا أو ملائكة أو أصناما أو أشجارا.

إنهم -في العادة الغالبة- لا يرتضون أن يشركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال، ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء أفليس من العجب أن يجعلوا لله شركاء من عبيده، وهو الخالق الرازق وحده؟

إنهم يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في أموالهم التي هي منحة الله ورزقه الذي ساقه إليهم، أفليس من الضحك أن يأنفوا ذلك لأنفسهم ثم يشركون مع الله واحدا من خلقه؟ وتعبيرات القرآن الكريم دقيقة إنها تخطو بهم رويدا رويدا في ضرب هذا المثل:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، فهو مثل قريب لا يحتاج إلى رحلة أو جهد في تدبره {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} ؟

فهم لا يرضون أن يشاركهم العبيد في شيء من الرزق فضلا عن المساواة بينهم في ملكيته.

1 الآية رقم 28 من سورة الروم.

ص: 455

إنهم لا يرضون ذلك لأنفسهم وإذن فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 1.

الجانب الثاني: السلطان الإلهي.

{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} 2.

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} 3.

"لو" مجرد فرض جدلي تفيد امتناع وقوع اللهو؛ لأن الله جل ثناؤه لم يرده أزلا، ولن يكون أبدا هناك لهو لأن الفعل منفي منذ الأزل

1 الآيتان 43، 44 من سورة الإسراء.

2 الآية رقم 17 من سورة الأنبياء.

3 الآيات من رقم 19-24 من سورة الأنبياء.

ص: 456

وهذا تقرير لحقيقة أساسية هي أن اختراع البشر شركاء من دون الله، ونسبتهم ذلك إلى الله تجرؤ لا يملكه العباد؛ لأن الله خلق الكون كله حسب علمه وإرادته، ولم تتوجه إرادة الله إلى مثل هذا اللهو، فلو كانت إرادة الله توجهت للهو ما احتاج الأمر إلى اقتراح لهو من العباد ينسبونه إلى ذاته المقدسة، وذلك استنكار لما وقع منهم، وتهكم بآلهتهم أن لها قدرة على شيء من نشر، إذ من أوليات صفات الإله أن ينشر الأموات من الأرض، فإن الخالقية صفة الله وحده ومن مظاهر الخالقية أن يبعث ما في القبور، وإذن فما قالوه:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .

انحراف عن الطريق السواء وتبجح لا يملكون له سندا.

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

لقد استقرت شهادة التوحيد؛ استقرت في الدليل واستقرت في الاعتراف واستقرت في صدور الذين آمنوا بها.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2.

1 الآية رقم 9 من سورة الشورى.

2 الآية رقم 19 من سورة الأنعام.

ص: 457

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3.

2-

تصحيح التدين:

ومن هذه الثمرة الأساسية "لتوحيد الله جل شأنه" تبدو ظاهرة "التدين الصحيح" كثمرة ملحقة بالثمرة الأولى، فإن القوم لم يكفروا بالله فهم يعتقدون أنه الخالق والرازق والنافع والضار ولكنهم اتخذوا طريقا منحرفا في العبادة أسرفوا في العقيدة حتى وسع إيمانهم مخترعات آبائهم وأجدادهم، فكانت الدعوة في هذا العهد المكي تحاول أن تردهم إلى طريق الله السواء4.

{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 5.

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} 6.

1 الآيتان 102، 103 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 32 من سورة يونس.

3 سورة الإخلاص.

4 راجع الإسلام والعقل ص97، 98.

5 من الآية رقم 3 من سورة الزمر.

6 الآيات من رقم 11-14 من سورة الزمر.

ص: 458

{لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الدين الخالص، القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها بل يقوم عليها الوجود كله، ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الحاسم الجازم:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .

والقلب الذي يوحد الله هو الذي يدين لله وحده لا يحني هامته لأحد سواه ولا يطلب شيئا من غيره، ولا يعتمد على أحد من خلقه فالله وحده هو الولي الحميد، وهو وحده القوي المتين وهو وحده القاهر فوق عباده، والعباد كلهم مهازيل ضعاف لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، وإذن فلا حاجة ألبتة إلى أن يحني الإنسان هامته لواحد من المخلوقات المحتاجة بالطبع إلى الله الصمد، فهو وحده المانح والمانع، وهو وحده الغني. والناس جميعا هم الفقراء إلى الله.

والقلب الذي يوحد الله يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله، ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد الذي لا تصلح حياة البشر إلا باتباعه، ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة كلها.

والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعته يد الله في هذا الكون من أشياء، ويحيا في الكون بقلب يحس بيد الله في كل ما حوله فيعيش في أنس الله ورعايته، ويشعر بالتحرج أن يشرك بالله شيئا يعلمه أو لا يعلمه.

ص: 459

وتبدو كذلك آثار التوحيد في التصورات كما تبدو في السلوك، فلا تبدو عقيدة التوحيد كلمة تقال باللسان بل تصير حالا للمرء في تفكيره وسلوكه وقلبه وعقله وجميع أنماط تصرفاته1.

وقد أعلنها القرآن كذلك فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} وقيمة هذا الإعلان كبيرة جدا؛ لأنها تحوي أصلا لمفهوم التدين وهو الخضوع الكامل والاستسلام التام لجناب الله الأعظم.

إن قيمة هذا الإعلان في تجريد العقيدة من كل شائبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو المصطفى من عند الله هو في هذا المقام عبد لله وفي مقام العبادة يقف العبيد كلهم حسب مراتبهم الأمثل فالأمثل، وترتفع ذات الله سبحانه وتعالى متفردة فوق الجميع، وعندئذ تتميز العبودية عن الألوهية فلا يختلطان ولا يشتبهان، وتتجرد صفة الله الأحد الصمد بلا شريك ولا شبيه ولا ند، وحين يقف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مقام العبودية لله وحده، وهو من هو في تاريخه الطويل الحافل بالقمم الشريفة من الأخلاق، تتلاشى مخترعات الذين أشركوا وتنمحي دعوى شفاعة الأصنام والملائكة ويبقى مفهوم التدين خالصا {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} ، ليس فيه خلط ولا تشابه، فقد وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا

1 راجع الإسلام والإيمان ص219-221 في ظلال القرآن ج24 ص10 راجع الإسلام والعقل ص100، راجع المصطلحات الأربعة في القرآن ص115.

ص: 460

وما أنا من المشركين {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1.

إنه التجرد الكامل لله بكل خالجة في القلب ونبضة في العرق وطرفة من العين وبكل حركة في الحياة.

إنها تسبيحة التوحيد المطلق والعبودية الكاملة تجمع الصلاة والاعتكاف والحياة والممات وتخلصها لله وحده رب العالمين، فهو المهيمن المتصرف المربي الحاكم إنها تسبيحة في إسلام كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية إلا يعبدها لله وحده، ولا يحتجز دونه شيئا في الواقع ولا في الضمير {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} ، فسمع صلى الله عليه وسلم وأطاع حق السمع والطاعة حتى تفطرت قدماه، وعبد بذلك الطريق المستقيم، فبانت علامات التدين الصحيح2 وهي مع تلك الهداية نيرة في قوله تعالى:

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 3.

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

1 الآيتان 162، 163 من سورة الأنعام.

2 راجع ظلال القرآن ج8 ص100.

3 الآية رقم 3 من سورة الأعراف.

ص: 461

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1.

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 2.

3-

مفهوم الدين وعناصره:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 3.

إن التوحيد منهج والشرك منهج آخر مقابل ولا لقاء بين المنهجين ألبتة.

التوحيد منهج يتجه بالإنسان مع الوجود كله إلى الله وحده لا شريك له، ويحدد الجهة والمصدر الذي يتلقى منه الإنسان عقيدته وشريعته وأخلاقه وموازين آدابه وقيمه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود.

هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله وحده لا شريك له، ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس غير ملتبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.

1 الآية رقم 22 من سورة لقمان.

2 الآية رقم 5 من سورة الزمر.

3 سورة الكافرون.

ص: 462

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 1.

فالآية تستنكر أن يبتغي غير الله حكما في شأن من الشئون على الإطلاق، وتقرر أن الحاكمية لله وحده وتنفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه البشر طلبا لحكم منه في أمر من أمور الحياة، والقرآن كثيرا ما يؤكد هذا المبدأ ويكرره في كل مناسبة.

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.

{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.

وإذن فالدين هو منهج الله للبشر هو وحي الله إلى أنبيائه ليسلك العباد طريقهم إلى الله5.

1 الآية رقم 114 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 40 من سورة يوسف.

3 الآية رقم 70 من سورة القصص.

4 الآية رقم 88 من سيرة القصص.

5 راجع المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي ص125، راجع هذا الدين ص4، المستقبل لهذا الدين ص5، 6، 18، 19.

ص: 463

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ} .

وإذا كان الدين هو وحي الله، فإن القرآن الكريم قد حرص على أن يبرز هذا الدين الذي حمله، موكب الأنبياء على التعاقب.

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 2.

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 3.

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 4.

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 5.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 6.

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} 7.

1 الآية رقم 56 من سورة الذاريات.

2 الآية رقم 92 من سورة الأنعام.

3 الآية رقم 2 من سورة الأعراف.

4 من الآية رقم 2 من سورة النحل.

5 الآية رقم 64 من سورة النحل.

6 أول سورة الكهف.

7 الآية رقم 27 من سورة الكهف.

ص: 464

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.

في هذه الآيات المكية يحدد القرآن مجموعة العناصر التي يكتمل بها الدين الذي يرتضيه الله لعباده.

العنصر الأول: الموحي أو المصدر وهو الله سبحانه وتعالى.

العنصر الثاني: الموحى به وهو الشريعة المرسلة من قبل الله جل شأنه.

العنصر الثالث: الموحى إليه وهو الرسول النبي الذي اصطفاه الله ليبلغ رسالته إلى الناس.

العنصر الرابع: الوحي أو حامل الوحي وهو الملك الذي وكله الله تعالى بالسفارة إلى رسوله المصطفى.

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} .

ينزل: فاعله هو الله جل شأنه.

الملائكة: الموحى معه.

بالروح: الموحى به.

1 الآية رقم 65 من سورة الزمر.

2 الآية رقم 66 من سورة غافر.

ص: 465

على من يشاء من عباده: الرسول المصطفى.

أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون:

ذلك هو الهدف والغاية التي من أجلها خلق الله الجن والأنس على السواء.

4-

وحدة الدين:

وعلى هذا فإن ثمرة الدعوة الإسلامية في مكة تعلن منذ الفجر الصادق أن كل دين لا يجتمع فيه هذه العناصر فهو دين باطل:

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} 1.

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 2.

وعلى هذا فكل ما حمله الأنبياء عن ربهم هو دين واحد، يتجه إلى غاية واحدة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 4.

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} 5.

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا

1 من الآية رقم 114 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 64 من سورة الزمر.

3 الآية رقم 25 من سورة الأنبياء.

4 الآية رقم 92 من سورة الأنبياء.

5 الآية رقم 52 من سورة المؤمنون.

ص: 466

فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 1.

فالآية تقرير لوحدة الوحي، وحدة مصدره، فالموحي هو الله العزيز الحكيم والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان.

والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمن وهذه الحقيقة تبدو قوية في العهد المكي لتشد أواصر الصلة بين اتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ وتمتد جذورها في شعاب الزمن، وتتصل كلها بالله في البدء والنهاية فليتقوا جميعا، وفي مسلم:"الأنبياء إخوة من عَلات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد"2.

وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فإن الغاية العظمى هي:

{أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فليقفوا جميعا تحت هذه الراية صفا واحدا، هذه الراية التي رفعها موكب الأنبياء على التوالي:

نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم حتى انتهت إلى سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.

1 الآية رقم 13 من سورة الشورى.

2 مسلم ج4 ص1837 راجع ظلال القرآن ج25 ص7، 11 ج8 ص113.

ص: 467

وقد أعلن هذه الوحدة من قبل سيدنا يوسف عليه السلام.

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 1.

كما أعلنها بعد رجل من آل فرعون يكتم إيمانه:

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 2.

إنه دين واحد تقرره الدعوة الإسلامية منذ فجرها الصادق في مكة المكرمة، وتعلن أنها هي الخاتمة لهذا الدين، وأنها التاج الأسمى والشرف الأكمل للبشرية أجمعين.

{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.

5-

عالمية الدين:

والدين الذي يدعو إليه سيدنا محمد بن عبد الله منذ أن نزل عليه {اقْرَأْ} هو دين الله للناس كافة وللجن كافة.

يقول الله تعالى:

{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 4.

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 5.

1 الآية رقم 38 من سورة يوسف.

2 الآية رقم 38 من سورة فاطر.

3 من الآية رقم 30 من سورة الروم.

4 الآية رقم 90 من سورة الأنعام.

5 من الآية رقم 158 من سورة الأعراف.

ص: 468

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} 1.

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 2.

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 3.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 4.

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 5.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 6.

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 7.

{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 8.

{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 9.

1 الآية رقم 108 من سورة يونس.

2 الآية رقم 104 من سورة يوسف.

3 الآية رقم 1 من سورة إبراهيم.

4 الآية رقم 107 من سورة الأنبياء.

5 أول سورة الفرقان.

6 الآية رقم 28 من سورة سبأ.

7 الآية رقم 87 من سورة ص.

8 الآية رقم 52 من سورة القلم.

9 الآيتان 26، 27 من التكوير.

ص: 469

وقد شهدت الجن بأنها على هذا الدين استجابة لداعي الله.

يقول الله تعالى:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1.

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} 2.

6-

تصحيح فكرة أن لله ولدا:

وفي هذا العمر المتقدم للدعوة في كنف البيت العتيق بمكة ظهرت فكرة نفي الولد، سواء كان القائل بهذه الفكرة أهل الكتاب أو بعض العرب الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله.

والقرآن الكريم في هذه المرحلة المكية يصور الدعوى ثم يرد عليها.

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3.

1 الآيات من رقم 29-31 من سورة الأحقاف.

2 راجع حول هذا كتاب: هذا الدين ص84، 85 والآيات من أول سورة الجن.

3 الآية رقم 68 من سورة يونس.

ص: 470

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} 1.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 2.

{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 3.

ومع أن هذه الآيات تصور الدعوى، وترد عليها، إلا أن القرآن الكريم كذلك خصص الآيات؛ لنفي هذه الأسطورة التي صنعها المشركون، وهذه الآيات ترد هذه الدعوى من جانبين:

جانب السلطان الإلهي.

ثم إقرار الجن الذين جعل لهم المشركون بالرحمن نسبا.

أما فيما يتعلق بالجانب الأول، فيقول الله تعالى:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4.

1 الآيات من رقم 88-94 من سورة مريم.

2 الآية رقم 26 من سورة الأنبياء.

3 الآيتان 151، 152 من سورة الصافات.

4 الآية رقم 101 من سورة الأنعام.

ص: 471

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 1.

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.

{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 3.

{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 4.

إن الذي يبدع هذا الوجود من العدم ما تكون حاجته إلى ولد؟ والولد إنما هو امتداد للفانين وهو عون للضعفاء، وقاعدة التكاثر أن يكون للكائن صاحبة من جنسه، فكيف يكون لله ولد وليست له صاحبة، فقد تفرد جل جلاله بالألوهية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.

على أن الفرض الجدلي الذي يقبله العقل العادي أن الله لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفاه هو جل شأنه من بين خلقه فإرادته مطلقة،

1 الآية رقم 111 من سورة الإسراء.

2 الآيتان 91، 92 من سورة المؤمنون.

3 الآية رقم 2 من سورة الفرقان.

4 الآية رقم 4 من سورة الزمر.

5 الآية رقم 11 من سورة الشورى.

ص: 472

والأمر لا يحتاج إلى قرار من البشر أو اقتراح منهم، ولكن مشيئة الله لم تتجه نحو هذا الاصطفاء لأنه الواحد القهار {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} ، فهو صاحب السلطان المطلق فأين حاجته إلى خلف؟

وأما الجانب الثاني:

فالجن تنفي ما ادعاه البشر وتبرأ من أساطير الناس.

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1.

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} 2.

لقد أقرت الجن بالوحدانية وكذبت الأسطورة التي تزعم أن الملائكة بنات الله جاءته من صهر من الجن.

لقد نزهت الجن وسبحت بحمد الله، فردت ترهات البشر المنحرف، وقد كان للجن أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لكنها استنكرت هذا التحريف البشرى، فأعلنتها قذيفة ضخمة تحطم ذلك الزعم الذي حاكه المشركون.

1 الآيتان 158، 159 من سورة الصافات.

2 الآيات من رقم 1-3 من سورة الجن.

ص: 473

7-

عيسى بن مريم:

وفي خضم نفي أسطورة الولد يصحح القرآن التصور عند أهل الكتاب فيما يتعلق بعيسى1. يقول الله تعالى:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2.

لقد نطق عيسى ابن مريم بنفسه وبحالته: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} ، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، فلم يبق من بعده مجال للأساطير والأوهام، وبتلك التنقية تبدو عالمية الدعوة الإسلامية في مكة بالموضوع، إنها ليست عقيدة لجنس خاص، ولا دعوة لطائفة من الناس، ولكنها إنهاء لسلطة الأساطير البشرية وإحلال للإيمان الإسلامي في الصدور والسلوك، فهي نقلة من عالم الحيوان الذي يعيش فيه البشر إلى عالم الإنسانية الذي يقدس فيه الناس ربهم، وقد حمل هذه العقيدة جعفر بن أبي طالب والذين هاجروا معه إلى الحبشة، فصادفت موقعا ملائما حيث كانت العقيدة عند النجاشي كذلك، فكان ذلك اللقاء دليلا واضحا على عالمية الدعوة بالموضوع، وهو الهدف الرئيسي لها "لا إله إلا الله" كمنهج للعقل والقلب والسلوك والوجدان.

1 راجع مناقشة قريش للرسول صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام في سيرة ابن هشام ج1 ص359، 360.

2 الآيات من رقم 34-36 من سورة عيسى.

ص: 474

وبذلك فقد قررت النصوص القرآنية منذ ذلك الفجر أنه لا أديان متعددة ولا مقارنة بين أديان، وأن الدين واحد هو نظام الله الموحي به إلى عباده عن طريق سفرائه المرسلين المصطفين الأخيار، وأن الدعوة الإسلامية شاملة للجنس البشري كله في كل صقع وحين، وقد حافظت نصوص القرآن الكريم على ذلك الهدف في العهد المدني فيما بعد، إذ كانت تنادي الناس جميعا وتهتف بهم:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 1.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 2.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.

ودلالة هذا أن الهدف الأساسي للدعوة هو أن يشهد الناس جميعا "أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" فلا يبقى لسان بشر على وجه الأرض، إلا وقد رطب بها، وصعد صوته يدوي بجلالها، ولا يشغل المسلمون أنفسهم بعوارض الحياة الدنيا، ويقبعون في زاوية من الأرض، ويتركون الأساطير تحيا والإشراك يفشو وبناة الأصنام تعيش في سلام.

1 من الآية رقم 1 من سورة النساء.

2 الآية رقم 1 من سورة الحج.

3 الآية رقم 13 من سورة الحجرات.

ص: 475

إن "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي وظيفة الدعاة اليوم لا سيما هنا في جنوب شرقي آسيا، ماليزيا، سنغافورا، تايلاند، والهند الصينية، حيث توجد الأصنام في الشوارع وعلى قارعة الطريق وفي قلاعها هي وفي بيوتها هي وفي منازل الناس الذين ما زالوا يجهلون الطريق السواء إلى الله الواحد الصمد العزيز الجبار المتكبر سبحان الله وتعالى عما يشركون.

ب- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

في صميم أفئدة القوم إقرار بأن محمدا رسول الله.

{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1.

ولكن القوم أثاروا ضجة كان من البواعث عليها الحسد، وعبادة التقاليد.

وقد تصدى القرآن الكريم لهذه الضجة ليستخلص منهم مكنون صدورهم، وإخراج ما أسروه، وأنهم يعتقدون أن محمدا رسول الله.

والضجة التي أثاروها يمكن تركيزها في ثلاث نقاط:

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 2.

{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} 3.

{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 4.

1 من الآية رقم 33 من سورة الأنعام.

2 من الآية رقم 91 من سورة الأنعام.

3 من الآية رقم 8 من سورة ص.

4 الآية رقم 25 من سورة المدثر.

ص: 476

ويتولى القرآن الكريم الإجابة على ضجيجهم وتمتلئ السور المكية بحشد جليل من الآيات التي تفند هذه المزاعم الصغيرة في دوافعها وغاياتها.

أما فيما يتعلق بالضجة الأولى:

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فإن القرآن الكريم يردها من زاويتين:

1-

زاوية اعترافهم بأهل الكتاب.

2-

وزاوية الأساس الدافع لهذه الضجة.

1-

أما الزاوية الأولى فيقول الله تعالى:

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 1.

لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يزعمون أن الله لم يرسل رسولا من البشر، ولم ينزل كتابا يوحى به إلى البشر بينما كان إلى جوار هؤلاء المشركين أهل الكتاب من اليهود الذين يتعاملون معهم

1 الآيتان 91، 92 من سورة الأنعام.

ص: 477

في التجارة ويلتقون معهم في الأسواق، ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب، فلم يقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء؟ ذلك منطق العناد واللجاج.

وتمضي آيات أخرى من السور المكية تقرر أن الأنبياء بشر أوحي إليهم من عند الله.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.

{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 2.

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} 3.

2-

وأما زاوية الأساس الذي دفعهم ليختلفوا هذا الزعم، فهي السنة المشئومة التي وجدوا عليها آباءهم، فقد كانت تلك التعلة هي الداء الدفين الذي جعل الناس من قبل يردون دين الله.

1 الآية رقم 43 من سورة النحل.

2 الآية رقم 2 من سورة الإسراء.

3 الآيات من رقم 7-9 من سورة الأنبياء.

ص: 478

يقول الله تعالى:

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 1.

وبهذه اللغة كفر قوم نوح وقالوا له:

{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 2.

{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} 3.

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} 4.

ويرد القرآن هذه المقالة على لسان الرسل.

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5.

1 الآية رقم 27 من سورة هود.

2 من الآية رقم 24 من سورة المؤمنون.

3 الآية رقم 33 من سورة المؤمنون.

4 الآية رقم 10 من سورة إبراهيم.

5 الآية رقم 11 من سورة إبراهيم.

ص: 479

ويقرر القرآن أن هذه التعلة واحدة من أسباب الكفر:

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 1.

{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} 2.

والذين في الأرض بشر، وليسوا ملائكة، ولقد كفر أصحاب القرية في سورة يس لهذا المنطق.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} 2.

فارتدت الضجة واستقرت النبوة اصطفاء من الله لمن شاء من عباده المكرمين.

{أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} .

ذلك دافع الحسد فـ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} ، وتلك إرادة الله لا مدخل لواحد من الخلق فيها ألبتة، ويجيب القرآن في بساطة وسهولة:

1 الآيتان 94، 95 من سورة الإسراء.

2 الآيتان 14، 15 من سورة يس.

ص: 480

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} 1.

إنه الحسد وضيق الصدر دون داع، وبغض الخير دون مبرر، وقد ظهر ذلك في اقتراحهم.

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 2.

فرد عليهم القرآن الكريم مستنكرا هذا الاقتراح فهو خروج على الأدب مع جناب الله عز وجل يقول الله تعالى:

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3.

إنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمعيشتهم منحة من الله، ومراتبهم الاجتماعية تكريم لهم من عند الله لغاية تدبر بها شئون الحياة فدولاب الحياة لا يدور إلا بهذا التفاوت في الرزق وفي المراتب الاجتماعية.

ومحمد صلى الله عليه وسلم من ذؤابة قريش ثم سن ذؤابة بني هاشم وهم في العلية الرفيعة من العرب، وكانت ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام فيما قبل البعثة على الأمثل الرفيع جدا من مكارم الأخلاق

1 الآيات من رقم 8-11 من سورة ص.

2 الآية رقم 31 من سورة الزخرف.

3 الآية رقم 32 من سورة الزخرف.

ص: 481

نعم لم يكن زعيما لقبيلة ولا رئيسا لعشيرة، وتلك هي موازين القوم التي دفعتهم ليعترضوا أو ليقترحوا:{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} .

وهم أنفسهم يشهدون بذلك قال عتبة بن ربيعة: يابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب1.

وقالها أبو سفيان لهرقل: هو من أوسطنا نسبا2.

فأي دافع لهم إذن على هذا الاقتراح؟ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل، وهم يعلمون أنه كذلك أهل لها، فلماذا يقترحون؟ إنه الحسد الذي حاك في الصدور.

ولم يترك القرآن القضية تمر دون أن يثبت النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتبقى في التاريخ والذمة أن القوم كفروا حسدا وتعنتا ولجاجا.

فردهم إلى حاله وحثهم على دراسة أسراره أنه منذ المولد حتى المبعث وهو معروف السريرة، مكشوف الخطوات في شرف سامق، وعزة أبية، وكما محترم، وما كان يقول هذا القول من قبل، أفإذا جاءهم بالهدى، قالوا:{أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} .

1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص293.

2 فتح الباري ج1 ص38.

ص: 482

يقول الله تعالى:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1.

لقد لبث فيهم من قبل ذلك أربعين عاما ما حدثهم عن نبوة أو رسالة ولا كان يتلو من كتاب.

يقول الله تعالى:

{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} 2.

إن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يشهد حاله ويشهد له تاريخه فهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وقضى في هذا المستوى أربعين عاما، فإذا ما طلع بين عشية وضحاها فكلم الناس بالوحي وحمل إليهم قانون ربهم إليهم ليعبدوا الله على بصيرة، أفي مثل هذا يقول قائل: إنه ليس بنبي؟

1 راجع القرطبي ط الشعب ص160، 182، والآيتان 15، 16 من سورة تونس.

2 الآيتان 48، 49 من سورة العنكبوت.

ص: 483

إننا إذا وقفنا قليلا عند هاتين الآيتين، فإننا نجد أن الآية الأولى تنفي وقوع الارتياب من عاقل على فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب ذلك؛ لأن معاني القرآن الكريم ومفاهيم الدعوة آيات بينات في صدور أهل العلم1، وقد جعل الله لها من قبل علامات وبشائر، وهي فيما تدعو إليه إنما تتفق مع مطالب الفطرة وتتلاءم مع العقل السليم. يقول أكثم بن صيفي:

إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا2.

وقد استدل هرقل على صدق الدعوة بحال الداعية يقول:

فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله3 وكذلك النجاشي قالها مؤمنا:

إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة4.

وقالتها السيدة خديجة راضية مرضية.

وقالها أبو سفيان رغم أنفه5.

ولهذا يركز القرآن الكريم على أن استيعاب حال الداعية كدليل على صدق النبوة يقول الله تعالى:

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ،

1 الإسلام والعقل ص132.

2 التفكير الفلسفي في الإسلام ص30.

3 فتح الباري ج1 ص39.

4 فقه السيرة ص120 في هذا النص، تعبيرات شتى، راجع الكامل في التاريخ ج2 ص81، السيرة لابن هشام ج1 ص337.

5 راجع مقدمة ابن خلدون ج1 ص348.

ص: 484

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} 1.

ليست هناك شبهة من هذه الشبهات قائمة على أصل محترم، إنما هي كراهيتهم للحق؛ لأن الرسالة ستسلبهم قيمهم الاجتماعية الباطلة وتلغي أهواءهم المغرورة، والحق لا يمكن أن يدور مع هواهم، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.

ثم يتصدى القرآن بعد أن أثبت النبوة عن طريق حال الداعية، فيجابه أسئلتهم التي يشاغبون بها ويصدون عن دين الله ببريقها يقول الله تعالى:

{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 2.

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} 3.

فرد عليهم في صرامة:

{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 4.

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ

1 الآيات من رقم 68-70 من سورة "المؤمنون".

2 الآيتان 8، 9 من سورة الأنعام.

3 الآية رقم 90 من سورة الإسراء.

4 من الآية رقم 94 من سورة الإسراء.

ص: 485

لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 1.

فيرد عليهم:

{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا، بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} 2.

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} 3.

وقالوا:

{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} .

ويجب القرآن الكريم:

{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} 4.

1 الآيتان 7، 8 من سورة الفرقان.

2 الآيتان 10، 11 من سورة الفرقان.

3 في ظلال القرآن ج17 ص13 ج18 ص18، 19، 20، والآية رقم 20 من سورة الفرقان.

4 الآيتان 21، 22 من سورة الفرقان.

ص: 486

ولا يترك القرآن الجانب التاريخي كدليل على إثبات النبوة يقول الله تعالى:

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1.

هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدا ميقات موسى مع ربه؟ حتى يعلم نبأه المفصل كما ورد في سورة الأعراف، وأن بينه وبين هذا الحادث لقرون وأجيال متطاولة.

هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما في أهل مدين يتلقى عنهم أخبارهم؟ هل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء لسيدنا موسى2.

إنه الوحي وإنها الرحمة التي شاءها الله جل شأنه لعباده لمن شاء منهم أن يستقيم.

يقول ابن خلدون:

النفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني.

1 الآيات من 44-46 من سورة القصص.

2 في ظلال القرآن ج20 ص22، 73، راجع النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله ص30، 31، الإسلام والعقل ص130، 133، راجع التفكير الفلسفي في الإسلام ص55، 59.

ص: 487

وصنف متوجه بالحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعدادات لذلك

إلخ.

وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيها وروحانيها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم1.

وهذا ما اصطلحت عليه سالفا بالبشرية السوية الخاصة بالأنبياء وذلك ما أثبته القرآن الكريم واستدلت بأحواله العقول الكريمة الفياضة بالنور والسناء الوضيء، ولقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو قلادة هذا العقد النبوي، وكان هو وحده صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين2.

إن هذا إلا قول البشر:

النبوة والقرآن نعمتان اختص الله جل شأنه بهما حبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكلاهما مستند إلى الآخر في الإثبات والتقرير فإذا ما ثبتت النبوة فقد ثبت أن القرآن من عند الله، فلا نبوة بغير قرآن ولا قرآن لغيره نبوة.

وقد استفاض القرآن الكريم في إثبات النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الاستفاضة كافية في إثبات

1 مقدمة ابن خلدون ج1 ص357، 358.

2 راجع بشائر النبوة الخاتمة.

ص: 488

أن القرآن من عند الله غير أن لجاج القوم وعنادهم كان قد ملأ الدنيا بالصخب والضجيج مما ادعوه بهتانا، وما نشروه بين القبائل في المواسم والأعياد فأخذ القرآن الكريم يواجه هذه الجحافل الظلماء ليكشف عن الحق.

وللقرآن منهجه الخاص في معالجة الأمور والقضايا:

- فهو يصور أولا ما يدعيه المعارضون.

- ثم يصور موقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقف كاف في الرد على المعاندين.

- ثم يقيم البيان على أن القرآن وحي من عند الله جل شأنه بطريقين:

الأول: طريق النص، أنه من عند الله، وأن لا مدخلية للرسول فيه.

الثاني: وطريق التحدي وبهذا يقرر حقيقة القرآن.

ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمر على ما هو عليه من الحق واتباع ما يوحى إليه من عند ربه، ويؤكد الذين أوتوا العلم من قبله أنه الحق من ربهم.

أ- أما فيما يتعلق بالنقطة الأولى، فقد جمع القرآن الكريم دعاوى القوم وصورها فقال الله تعالى:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ

ص: 489

نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} 3.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 4.

{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 5.

{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 6.

وهي كلها آمال جوفاء وصخب أطفال لا يدركون مستوى مسئولية الخطاب والتعقل7 ويكفي في هذه المواجهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وحيا من عند الله. يقول فضيلة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز:

1 الآية رقم 15 من سورة يونس.

2 الآيتان 4، 5 من سورة الفرقان.

3 من الآية رقم 31 من سورة سبأ.

4 الآية رقم 26 من سورة فصلت.

5 الآية رقم 31 من سورة الزخرف.

6 الآية رقم 25 من سورة المدثر.

7 راجع التصوير الفني لمدلولا هذه الآيات كما شرح في تفسيرها في ظلال القرآن ج29 ص190.

ص: 490

والحق أن هذه القضية لو وجدت قاضيا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس الدعاوي فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع الإقرار الذي يؤخذ به صاحبه.

ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، إذ أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة؟ نقول: أي مصلحة في أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها، فيزداد بها رفعة شأنه، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدا يعارضه ويزعمها لنفسه.

الذي نعرفه أن كثيرا من الأدباء يسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله، وغلت قيمته، وأمنت تهمته حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى، ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينته من تلك الأثواب المستعارة.

أما إن أحدا ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد1.

1 راجع النبأ العظيم ص14، 15، لقد قدم المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز حول هذا الموضوع دراسة أكاديمية ممتازة دافع فيها عن القرآن الكريم فجزاه الله خيرا، غير أن هذا المنهج مع امتيازه وجودته إسلاميا وعلميا، فإنه يغاير من ناحية الطريقة لا من ناحية الهدف، ولا من ناحية الموضوع الأسلوب الذي انتهجه في إبراز ثمار العهد المكي في جوها القرآني وحده.

ص: 491

ب- وأما فيما يتعلق بالنقطة الثانية:

فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن وحي من عند الله.

يقول الله تعالى:

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1.

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} 2.

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 5.

1 من الآية رقم 19 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 50 من سورة الأنعام.

3 الآية رقم 203 من سورة الأعراف.

4 الآية رقم 15 من سورة يونس.

5 الآية رقم 110 من سورة الكهف.

ص: 492

{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.

{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 2.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} 3.

{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 4.

ج- وأما فيما يتعلق بالنقطة الثالثة:

فمع هذا الإقرار الكافي في صد غارات الصخب التي يشنها الأعداء فإن الله جل جلاله يتصدى للمعركة مع الكافرين على حد المنطق القرآني {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، فيقرر القرآن الكريم أن الله أوحى القرآن من عنده إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بطريقين:

الطريق الأول:

أ- طريق النص أنه من عند الله.

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 5.

1 الآية رقم 108 من سورة الأنبياء.

2 الآية رقم 70 من سورة ص.

3 الآية رقم 6 من سورة فصلت.

4 الآية رقم 9 من سورة الأحقاف.

5 الآية رقم 49 من سورة هود.

ص: 493

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 1.

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 2.

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} 3.

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 4.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} 5.

{طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} 6.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 7.

1 الآيتان 2، 3 من سورة يوسف.

2 الآية رقم 87 من سورة الحجر.

3 الآية رقم 82 من سورة الإسراء.

5 الآية رقم 106 من سورة الإسراء.

5 أول سورة الكهف.

6 أول سورة طه.

7 الآيتان 113، 114 من سورة طه.

ص: 494

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 1.

{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2.

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ، وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} 3.

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 4.

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 5.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} 6.

1 أول سورة الفرقان.

2 الآية رقم 6 من سورة الفرقان.

3 الآيات من رقم 192-199 من سورة الشعراء.

4 الآية رقم 6 من سورة النمل.

5 الآية رقم 85 من سورة القصص.

6 الآية رقم 47 من سورة العنكبوت.

ص: 495

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 1.

{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 2.

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} 3.

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 4.

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 5.

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 6.

{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 7.

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ

1 الآيتان 2، 3 من سورة السجدة.

2 الآية رقم 6 من سورة سبأ.

3 الآية رقم 31 من سورة فاطر.

4 الآية رقم 69 من سورة يونس.

5 أول سورة الزمر.

6 الآية رقم 2 من سورة فاطر.

7 الآيتان 2، 3 من سورة فصلت.

ص: 496

آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 1.

{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2.

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} 3.

{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 4.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} 5.

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم} 6.

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} 7.

{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 8.

1 الآيتان 43، 44 من سورة فصلت.

2 الآية رقم 3 من سورة الشورى.

3 الآية رقم 7 من سورة الشورى.

4 الآية رقم 3 من سورة الزخرف.

5 الآية رقم 3 من سورة الدخان.

6 الآية رقم 2 من كل من سورة الجاثية والأحقاف.

7 الآيات من رقم 3-5 من سورة النجم.

8 أول سورة الرحمن.

ص: 497

{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.

{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 3.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 4.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} 5.

هذه الآيات الجمعة التي حشدها القرآن الكريم هي نصوص تثبت أن الله جل شأنه هو الذي أوحى القرآن الكريم إلى عبده ونبيه الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي كافية في مواجهة ما يثيره الحاقدون.

1 الآيات من رقم 77-85 من سورة الواقعة.

2 الآيات من رقم 40-43 من سورة الحاقة.

3 الآيات من رقم 16-19 من سورة الواقعة.

4 الآيتان 23، 24 من سورة الإنسان.

5 أول القدر.

ص: 498

ب- طريق إثبات أن لا مدخلية للنبي صلى الله عليه وسلم في شيء من القرآن الكريم بالنص القرآني.

يقول الله تعالى:

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} 1.

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2.

الطريق الثاني: التحدي.

ادعى القوم أن القرآن الكريم حديث مفترى، وصور القرآن الكريم هذه المقالة، ورد عليها بما يفحم أصحاب اللجاج، والعنت بقول الله تعالى:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} 3.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 4.

1 الآية رقم 86 من سورة القصص.

2 الآيات من رقم 44-47 من سورة الحاقة.

3 الآية رقم 35 من سورة هود.

4 الآية رقم 2 من سورة السجدة.

ص: 499

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 2.

{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} 3.

في هذه الآيات وأمثالها في القرآن الكريم رد عام للدعوى المهرجة التي افتعلها القوم ظلما وعلوا، وما دام الأمر كذلك وأنهم رددوا هذه الدعوى التي لا يمكن إقامة دليل عليها، فقد تصدى الله جل جلاله لهم وتحداهم وبلغ رسوله الكريم الأمين الصادق المصدوق أن يأتوا بمثله.

قال الله تعالى:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5.

1 الآية رقم 24 من سورة الشورى.

2 الآية رقم 8 من سورة الأحقاف.

3 الآية رقم 33 من سورة الطور.

4 الآية رقم 38 من سورة يونس.

5 الآية رقم 13 من سورة هود.

ص: 500

{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 1.

وعلى حسب وجود هذه الآيات في سورها2 فقد تحداهم الله أولا أن يأتوا بسورة مثل سورة من القرآن، وسمح لهم أن يستعينوا بمن يشاءوا واستطاعوا إن كانوا صداقين في ادعائهم الافتراء.

ثم تحداهم بعشر سور مفتريات ليصححوا زعمهم أن القرآن مفترى، وأباح لهم الاستعانة بمن شاءوا وقدروا معه على خلق عشر سور مفتريات.

والذي يلاحظ هنا أن التحدي الأول ليس فيه قيد الافتراء، فوقع التحدي بسورة واحدة، للدلالة على أنه غير مقدور للبشر الإتيان بشيء مثله.

والتحدي الثاني فيه قيد المفتريات، فوقع التحدي بعقد كامل؛ لأنه لو كان مفترى كما يزعمون لكان أمره سهلا مقدورا، إذ ما يفعله واحد بنفسه يمكن أن يفعله الزاعمون به إنه لأمر جد يسير إذ استعانوا بمن يشاءونه من البشر.

فترقى القرآن من التحدي بسورة واحدة إلى عشر ملاحظ فيها هذا القيد، فكأنه تنازل مع الزاعمين من التحدي بالقرآن صافيا

1 الآية رقم 34 من سورة فاطر.

2 حول ترتيب هذه الآيات جاء حديث طويل في تفسير المنار ج12 من ص32-41 كذلك كتب الدكتور محمد أحمد الغمراوي عدة مقالات في مجلة الأزهر خاصة عدد ربيع الأول سنة 1339هـ من ص182-189 وعدد ربيع الآخر سنة 1389هـ من ص247-254 وفي ظلال القرآن ج12 ص39 تعليق على ترتيب الآيات الخاصة بالتحدي، ولكني فضلت إيراد الآيات في جوها القرآني مصورا للعهد المكي بعيدا عن مناقشات العلماء.

ص: 501

ربانيا إلى زعمهم هم فلئن كان حقا كما يزعمون هو قرآن مفترى فما أيسر أن يجاء بمثله، ويجيء بمثله كثير لا قليل، فلما عجزوا بان وتأكد أنه ليس مفترى، ولهذا يأتي التحدي الأخير كاملا كليا جامعا {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ، مثله مطلقا في الصفاء والنقاء كما جاء به الوحي وعجزوا عنه في التحدي، أو مثله على حسب زعمهم في ادعاء الافتراء كما جاء في التحدي الثاني، وعجزوا عنه أيضا، فثبت بذلك التحدي أن القرآن وحي من عند الله. إنه تنزيل من حكيم حميد، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.

وإذن فليوضح القرآن الكريم حقيقة الأمر يقول الله تعالى عقب هذه، الآيات على التوالي:

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 1.

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} 3.

1 رجع تفسير القرطبي ص3183، 3184 والآية رقم 39 من سورة يونس.

2 الآية رقم 14 من سورة هود.

3 الآيات من رقم 35-37 من سورة الطور.

ص: 502

فأظهرت آيات سورة الطور علة نكرانهم لربانية القرآن، أنهم لا يوقنون ولا يؤمنون، ذلك لأنهم لا ينكرون الخالقية لله ولا يجحدون أن السموات والأرض وهم أنفسهم من خلق الله جل شأنه. ولكن من أغلق قلبه عن الإيمان حبب لنفسه إنكار الحق ولو كان الحق أشد نصاعة من وهج الشمس في رابعة النهار.

وإذن فكل ما يدعيه القوم بعد ذلك:

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} 1.

{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} 2.

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة} 3.

{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 4.

{لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 5.

{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 6.

{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} 7.

1 الآية رقم 60 من سورة الحجر.

2 من الآية رقم 103 من سورة النحل.

3 من الآية رقم 70 من سورة المؤمنون.

4 الآية رقم 5 من سورة الفرقان.

5 من الآية رقم 32 من سورة الفرقان.

6 الآية رقم 31 من سورة الزخرف.

7 من الآية رقم 11 من سورة الأحقاف.

ص: 503

{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 1.

{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} 2.

كل ذلك وأمثاله من دعاوى القوم إن هو إلا إفك وحسد من عند أنفسهم.

{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3.

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4.

وخاتمة المطاف:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 5.

والنقطة الأخيرة:

د- اتبع ما يوحى إليك من ربك:

والجو القرآني نفسه شاهد صدق على أن القرآن من عند الله وأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم تلقاه عن ربه وأمر باتباع ما أوحي إليه.

1 الآية رقم 30 من سورة الطور.

2 من الآية رقم 5 من سورة القلم.

3 من الآية رقم 111 من سورة يوسف.

4 الآية رقم 37 من سورة يونس.

5 الآية رقم 88 من سورة الإسراء.

ص: 504

يقول الله تعالى:

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1.

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 2.

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} 4.

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} 5.

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} 6.

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} 7.

1 الآية رقم 106 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 109 من سورة يونس.

3 الآية رقم 123 من سورة النحل.

4 الآيات من رقم 73-75 من سورة الإسراء.

5 الآية رقم 27 من سورة الكهف.

6 الآية رقم 97 من سورة مريم.

7 الآية رقم 45 من سورة العنكبوت.

ص: 505

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 2.

هذه الحقيقة لا ينكرها الذين أوتوا العلم يقول الله تعالى:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 3.

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 4.

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} 5.

{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} 6.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} 7.

1 الآية رقم 43 من سورة الزخرف.

2 أول سورة الجن.

3 الآية رقم 25 من سورة الأنعام.

4 من الآية رقم 114 من سورة الأنعام.

5 الآية رقم 107 من سورة الإسراء.

6 الآية رقم 197 من سورة الشعراء.

7 الآيتان 52، 53 من سورة القصص.

ص: 506

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} 1.

{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} 2.

وبهذا ثبت أن القرآن وحي من عند الله وبهذا أيضا ثبت أن محمدًا رسول الله حقا وصدقا.

يقول ابن خلدون: في الغالب تقع الخوارق مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي، ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه، والقرآن هو نفسه الوحي، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه لا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا يوحى إلي، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".

يشير إلى أن المعجزات متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة. ا. هـ3.

وأنا أشهد أن محمدًا حقا وصدقا رسول الله، وأن القرآن كتاب الله أوحي إليه ليكون للعالمين مبشرا ونذيرا.

1 الآية رقم 47 من سورة العنكبوت.

2 الآية رقم 49 من سورة العنكبوت.

3 مقدمة ابن خلدون ج1 ص351.

ص: 507

جـ- كذلك الخروج:

من ثمرات العمل الإسلامي في مرحلة تبليغ الدعوة الإسلامية في العهد إثبات عقيدة البعث، وعلى سنة المنهج القرآني نستضيء بما أنزل الله تعالى من أدلة قرآنية واجه بها النبي صلى الله عليه وسلم مزاعم القوم، والموضوع في صورته الكلية يأخذ أربعة جوانب:

الجانب الأول: تصوير لمقالات المشركين حول فهمهم لعقيدة البعث.

الجانب الثاني: الرد على المعاندين في جو السلطان الإلهي.

الجانب الثالث: الرد على المعاندين في جو حكمة البعث لإقامة العدل.

الجانب الرابع: الرد على المعاندين في جو المشاهدة لإحياء الأرض وإمكانيات العقل في قبوله وإدراكه لعقيدة البعث.

في الجانب الأول: يقدم القرآن الكريم تصويرا لدعاوى القوم ومن نماذج هذه الآيات قول تعالى:

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} 1.

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} 2.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} 3.

1 الآية رقم 49 من سورة الإسراء.

2 من الآية رقم 98 من سورة الإسراء.

3 الآية رقم 67 من سورة النمل.

ص: 508

{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 1.

{إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} 2.

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3.

{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} 4.

{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 5.

{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى} 6.

تلك مجموعة آراء القوم تصورها هذه النماذج من آيات القرآن الكريم.

وفي الجانب الثاني: يرد الله عليهم:

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} 7.

1 الآية رقم 16 من سورة الصافات.

2 الآية رقم 35 من سورة الدخان.

3 الآية رقم 24 من سورة الجاثية.

4 الآية رقم 3 من سورة ق.

5 الآية رقم 47 من سورة الواقعة.

6 الآية رقم 36 من سورة القيامة.

7 الآيات من رقم 50-52 من سورة الإسراء.

ص: 509

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} 1.

{

كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2.

{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 3.

{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 4.

{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} 5.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6.

1 الآية رقم 99 من سورة الإسراء.

2 من الآية رقم 104 من سورة الأنبياء.

3 الآية رقم 28 من سورة لقمان.

4 الآيات من رقم 18-21 من سورة الصافات.

5 الآيات من رقم 37-40 من سورة الأحقاف.

6 الآية رقم 33 من سورة الأحقاف.

ص: 510

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 1.

إن المسألة سهلة بسيطة إذا قيست بمقاييس السلطان الإلهي.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 2.

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 3.

وفي الجانب الثالث: يبرز القرآن الكريم الغاية من البعث إنها إقامة العدل في دار الجزاء حيث توفي كل نفس ما كسبت.

{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} 4.

وحول هذه الحكمة تأتي نماذج من آيات الله البينات يقول الله تعالى:

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .

1 الآيتان 15، 16 من سورة ق.

2 الآيتان 16، 17 من سورة فاطر.

3 الآية رقم 82 من سورة يس.

4 الآيات من رقم 6-11 من القارعة.

5 الآية رقم 4 من سورة يونس.

ص: 511

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} 1.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} 2.

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 3.

وفي الجانب الرابع يعرض القرآن الكريم دليلين:

دليلا من المشاهدة.

ودليلا من العقل.

أما دليل المشاهدة ففي قوله تعالى:

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.

1 الآيتان 38، 39 من سورة النحل.

2 الآيات من رقم 3-5 من سورة سبأ.

3 الآية رقم 31 من سورة النجم.

4 الآية رقم 39 من سورة فصلت.

ص: 512

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 1.

فيجرهم القرآن الكريم إلى ملاحظة هذه العملية الدائمة المتكررة فيما حولهم من الأرض، فكذلك الخروج من القبور على هذه الوتيرة السهلة، فهم في ملكوت الله شيء من الأشياء التي ينزل عليها الماء فتحيا به، ويجف عنها فتموت تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.

وأما دليل العقل والفكر ففي آيات سورة يس:

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وأعرج في استخلاص عقلياتها مما جاء في كتاب أستاذنا الإمام الدكتور عبد الحليم محمود:

1-

وجود الشيء من جديد بعد كونه وتحلله السابقين ممكن بدليل

1 الآيات من رقم 7-11 من سورة ق.

ص: 513

مشاهدة وجوده بالفعل مرة، لا سيما أن جمع المتفرق أسهل من إيجاده وإبداعه عن عدم، وإن كان لا يوجد بالنسبة لله شيء هو أسهل وشيء أصعب، هذا الدليل موجود في قوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة} .

2-

ظهور الشيء من نقيضه كظهور النار من الشجر الأخضر ممكن وواقع تحت الحس وإذن يمكن أن تدب الحياة في الجسد المتحلل الهامد مرة أخرى وذلك على أساس المبدأ الأكبر، وهو أن الشيء يمكن أن يوجد من العدم المطلق بفعل المبدع الخالق، وهذا الدليل العقلي موجود في قوله تعالى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .

3-

خلق الإنسان أو أحياؤه بعد الموت أيسر من خلق العالم الأكبر بعد أن لم يكن وهذا الدليل موجود في قوله تعالى:

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} .

4-

الخلق والفعل مطلقا مهما عظم المخلوق لا يحتاج من جانب الله المبدع لا إلى مادة ولا إلى زمان خلافا للفعل البشري الذي لا يتم إلا في زمان ويحتاج إلى مادة تكون موضوع الفعل وهذا الدليل موجود في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1.

1 التفكير الفلسفي في الإسلام مع تصرف ص73، 74.

ص: 514

والقرآن نفسه يشير إلى هذه الأدلة.

ففيما يتعلق بالدليل الأول يقول الله تعالى:

{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 1.

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه} 2.

أما فيما يتعلق بالدليل الثاني يقول الله تعالى:

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} 3.

وفيما يتعلق بالدليل الثالث، يقول الله تعالى:

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4.

وفيما يتعلق بالدليل الرابع يقول الله تعالى:

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّل} 5.

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 6.

1 من الآية رقم 51 من سورة الإسراء.

2 من الآية رقم 104 من سورة الأنبياء.

3 الآيات من رقم 70-73 من سورة الواقعة.

4 الآية رقم 57 من سورة غافر.

5 من الآية رقم 15 من سورة ق.

6 الآية رقم 40 من سورة النحل.

ص: 515

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.

وبذلك يثبت البعث ويستقر عقيدة راسخة في نفوس الصادقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ولكن القرآن الكريم لا يترك المسألة تمر دون أن يفضح بواعث هذا الإنكار إنهم ينكرون البعث مع وجود أدلة يشاهدونها بالعين، وينتفعون بها، ويمكن لعقلهم إذا شفى من دائه أن يتعلقها، ولكن العلة إنهم ألفوا ثقافة ودأبوا على تقاليد ربطوا عقولهم وأعناقهم في حبالها فحقت عليهم لعنة الله، إنهم يقولون مقالة السالفين من الكافرين من قوم نوح:

{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 2.

بمثل هذا المنطق الأعمى قال كفار مكة:

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} 3.

1 الآية رقم 27 من سورة الروم.

2 الآيات من رقم 35-37 من سورة المؤمنون.

3 الآيتان 32، 83 من سورة المؤمنون.

ص: 516

فليس هناك باعث على الجحود والكفر وإنكار البعث إلا تلك المقالة القديمة التي رددها السالفون من المشركين وهم على آثارهم يهرعون أما يوم البعث فهو حق لا ريب فيه:

{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} 2.

{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 3.

ولله عاقبة الأمور.

1 الآيتان 16، 17 من سورة غافر.

2 الآيات من رقم 68-70 من سورة الزمر.

3 الآيات من رقم 6-8 من سورة الزلزلة.

ص: 517