المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} 1.

ولكنها أثقال على نفس الكفرة ناءت بحملها، فتثاقلوا إلى أرض الهوى ووكر الشيطان فكفروا بأنعم الله، وصدوا عن سبيله، فخطوا بذلك معالم الطريق التي تبدوا دائما كظاهرة في العمل لنشر دعوة الله.

1 الآيات من رقم 63-71 من سورة الفرقان.

ص: 426

‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى بالجماعة الإسلامية الأولى أن قدم لها زادا روحيا تتبلغ به حتى يأتيها نصره وفرجه، فقدم القرآن الكريم في العهد المكي للدعوة الإسلامية مجموعة من الزاد الروحاني تتزود به جماعة السابقين الأولين على مجابهة عدوها ويحدد به القرآن الكريم طبيعة الطريق ومعالمه، وأنها هكذا شاقة وصعبة وهي هكذا قد خاضها الذين سبقوا من الأمم ويخوضها في مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال وسمية وعمار وزنيرة وخباب، وسيخوضها من بعدهم كل من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويتمسك بالوفاء لهذه التعاليم فإن القضية من أولها هي اختيار الله ورسوله على قيم الحياة

ص: 426

الدنيا، وقد كانت العادة التي قضى الله بها أن يكون الذين في جانبه قلة {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 1.

وستبقى للدعوة هذه الميزة ليبلو الله الذين آمنوا ويمحصهم ويمحق الكافرين.

والنماذج التي اخترتها كقواعد تبرز معالم الطريق هي نماذج في مواجهة:

- التسلط البشرى على عباد الله المستضعفين.

- موازين المال والثراء في مواجهة تعللات الكفرة من قريش.

- الإيمان دون سؤال أو طلب دليل.

- أبعاد المعركة بين الداعية وخصومه.

1-

في مواجهة السلطة:

جاءت سورة القصص المكية التي نزلت، والمسلمون مستضعفون والمشركون هم أصحاب الجاه والتسلط لنضع الحد الحقيقي لميزان القوى وميزان القيم.

لقد نزلت سورة القصص لتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله وحده، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان بالله وحده، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته جميع القوى التي على ظهر هذه الأرض، ومن كانت له قيمة الإيمان كان الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس ينفعه شيء ألبتة.

1 من الآية رقم 13 من سورة سبأ.

ص: 427

ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصتين:

واحدة في البدء هي: قصة موسى وفرعون.

وواحدة في الختام هي: قصة قارون مع قومه.

والقصة الأولى تعرض قوة الحكم والسلطان، قوة الطاغية الديكتاتور المتجبر مع كمال يقظته وحذره وفي مواجهتها، في مواجهة هذه القوة الطاغية الطفل الصغير "موسى"، وهو رضيع لا حول له ولا قوة ولا ملجأ له ولا وقاية، وقد علا فرعون في الأرض واتخذ أهلها شيعا وقال لهم:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، وخافوه وصدقوه، ولكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته وجنوده لا تغني عنه شيئا فلم يتمكن من موسى وهو طفل، لقد رعته عناية الله ووقته قدرته جل جلاله وهو طفل مجرد من كل حيلة، وفرعون عات جبار، لكن موسى كان في حراسة القوة الحقيقية ترعاه العناية الربانية، وتدفع عنه السوء وتعمي عنه العيون وتتحدى به فرعون وجنوده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره وتدخل به عليه عرينه بل تقتحم به عليه قلب امرأته، وفرعون مكتوف اليدين إزاءه مكفوف الأذى عنه.

والقصة الثانية تعرض قيمة المال ومعها قيمة العلم، المال الذي يستخف القوم، وقد خرج عليهم قارون في زينته، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء.

والعلم الذي يعتز به قارون، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال، ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم

ص: 428

خزائنه ولا تستخفهم زينته، بل يتطلعون إلى ثواب الله، ويعلمون أنه خير وأبقى، ثم تتدخل يد الله فتخسف بقارون وبداره الأرض لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه، وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا واضحا كما تدخلت في أمر فرعون، فألقته في اليم هو وجنوده، فكان من المغرقين.

وإذن فإلى أين يتجه كفار مكة بثرائهم وأموالهم؟

ومن يحميهم أن تخطفهم الناس من حول البيت العتيق؟

لقد ساق الله لقريش ومن يسير على دربها هذا النموذج ليبين الله أين يكون الأمن وأين تكون المخافة؟ ويعلم الله البشر أن الأمن إنما هو في جوار الله، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس.

وإن الخوف إنما هو في البعد عن جوار الله، ولو تظاهرت أسباب الأمن التي تعارف عليها الناس وجاءت قصة قارون في سورة القصص تقرر وتؤكد هذه الحقبة في صورة الغرور بالمال والعلم الزائف1، فبقي ذلك نموذجا دائما لعلامات الطريق.

2-

في مواجهة الثراء والمادة:

وها هو ذا صاحب الجنتين في سورة الكهف المكية تمتلئ نفسه بهما زهوا، فينفض كالديك ويختال كالطاووس ويتعالى على صاحبه الفقير {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} 2.

1 راجع في ظلال القرآن ج2 ص35-37.

2 الآيات من رقم 34 من سورة الكهف.

ص: 429

ويخطوان معا إلى الجنتين وملء نفسه البطر وملء جنبيه الغرور وملء قلبه العتو، لقد نسي الله، ونسي شكره على نعمه، وظن أن هاتين الجنتين لن تبيدا أبدا، وأنكر قيام الساعة، وافترض أنها ستجيء، فساعتها سيجد هنالك الرعاية والإيثار، أليس هو من أصحاب الجنان في الدنيا فلا بد وأن يكون جنابه في الآخرة ملحوظا.

ودخل جنته -هكذا- وهو ظالم لنفسه فقال: ما أظن أن تبيد هذه أبدأ وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا.

غرور يخامر عقول ذوي الجاه والسلطان والثراء، إن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان محفوظ ملحوظ، إنه جهل وأحلام أطفال، وعقول عصافير.

فأما صاحبه الفقير الذي لا مال له ولا نفر ولا جنة عنده ولا ثمر، فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى، معتز بعقيدته وإيمانه، معتز بالله الذي تعنو له الجباه، فهو يجيب صاحبه المتبطر المغرور منكرا عليه كبره وبطره يذكره بمنشئه المهين من ماء وطين، ويوجهه إلى الأدب الواجب في حق المنعم جل جلاله، وينذره عاقبه البطر والكبر، ويرجو عند ربه ما هو خير من جنته وثمارها.

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} .

ص: 430

{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} 1.

وهكذا يبرز النص انتفاضة عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تبالي بالمال والنفر، ولا تداري الغني والبطر، ولا تتلعثم في الحق، ولا تجامل فيه الأصحاب، ولا تجهل في التعبير عن عزتها وإيمانها بربها.

وهكذا يرتسم في طريق الدعوة أن المؤمن لا بد وأن يستشعر أمام الجاه والمال، أنه عزيز وأن ما عند الله خير وأبقى، خير من الحياة بقضها وقضيضها، وأن فضل الله عظيم، وأن نقمة الله جبارة، وأنها وشيكة أن تصيب المتبطرين {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} 2.

الثمر كله مدمر والجنة خاوية محطمة وصاحبها يقلب كفيه ندما وحزنا وأسفا، إنه نادم على إشراكه بالله، وهو الآن يعترف

1 الآيات من رقم 37-41 من سورة الكهف.

2 الآية رقم 42 من سورة الكهف.

ص: 431

بربوبيته ووحدانيته فهل كان في هذا النموذج ردع لريحانة قريش وصاحبه الوليد بن المغيرة صاحب بساتين الطائف وعروة بن مسعود الثقفي، وقد اختالا بحدائقهما وما لهما؟

هل في ذلك ردع لكل ريحانة من أساطين الجاه والثروة؟

والمبطرين نعمة الله من القوارين الكثيرين في العصر الحديث؟

وهكذا كانت تتغذى قلوب المسلمين الأوائل: بلال وصهيب وعمار وخباب، فاحتقرت موازين أبي جهل والوليد وأبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وارتفعوا بإيمانهم فوق قيم الأرض التي ارتبطوا فيها.

وكان جاه الله أعظم من جاههم.

وصبر الضعفاء أقوى من تجبر الأقوياء.

فانفردوا بحلاوة الإيمان ونصر الله القريب1.

3-

في مواجهة المهاترات:

نوع فريد من البشر إذا سمع الحق اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب وكانت له استجابة لا يتلوى فيها:

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ،

1 راجع في ظلال القرآن ج15 ص94، 95.

ص: 432

أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} 1.

إنها استجابة فطرية سليمة مستقيمة فيها الصدق والبساطة والحرارة، وفيها استقامة الفهم، واستقامة الإدراك، ثم فيها التلبية الروحية متينة الوعي واضحة الصراط.

إنه رجل من أقصى المدينة يسمع دعوة الله، فيأتي مسرعا مجيبا ملبيا ولم يطق عليها سكوتا، ولم يقبع في داره وهو يرى الضلال والجحود، ولكنه يسعى بالحق الذي استقر في وعيه وفي ضميره وتحرك في شعوره يسعى به إلى قومه الذين يكذبون ويجحدون، لقد جاء يسعى من أقصى المدينة ليؤدي واجبه ليوجه قومه إلى الحق أو يقاوم اعتداءهم الذي سيصبونه على المرسلين.

إنها استجابة دون مهاترات بطلب دليل أو خارق مادي.

وهي استجابة سعى بها الرجل صاحب الفطرة السليمة.

وإذن فما بال قريش وقد سعى إليها محمد صلى الله عليه وسلم وعرض هو نفسه عليها قبيلة قبيلة وفردا فردا، وهو من هو نسبا وخلقا ووفاء وعهدا وأدبا وأمانة وحلما، وهو منهم، يعرفون عن حياته كل شيء، وهي كلها سنام في ذروة الطهارة والعفاف والكمال الفريد.

بذلك تغذت أرواح الأوائل من المسلمين، فكان لها سلوى من سطوة جبار عنيد مناع للخير معتد أثيم.

1 الآيات من رقم 20-23 من سورة يونس.

ص: 433

4-

أبعاد المعركة:

كانت موجة الإرهاب، والتعذيب التي نشرتها قريش، وإشاعتها فائقة حدود الأخلاق والقدرة العظيمة، ولقد استشهدت فيها أم ياسر وأبوه، وعدد آخر هاجر إلى الحبشة، واستمرت معركة العقيدة ثلاثة عشر عاما، إذا حسبت بمقاييس الزمن في نظر الإنسان العجول كانت فطرة طويلة، وكانت لا تبشر ولا يرتجي من ورائها نصر، وهنا تبدو أبعاد المعركة كواحدة من المعالم في الطريق.

إن رسالة الإسلام هي رسالة السلطان الإلهي الذي ينبغي أن يستقر في الأرض ليعبد الناس ربهم على هدى وبصيرة وما على الداعية إلا أن يبلغ دعوة الله بمنهجها وقواعدها وغاياتها، أما أبعاد المعركة بينه وبين أعداء الدعوة فهي أبعاد بعيدة حتما سيكون له فيها النصر إن شاء الله.

وسورة البروج تأتي في الدور المكي لتقدم للفكر الإسلامي أبعاد المعركة.

إن الرواية تنتهي أحداثها في أيام قصار تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله، وما استحقه فاعلوها من نقمته وغضبه فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد فوراءه حساب الله، "ذلك الفوز الكبير" بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه وهي الخاتمة الحقيقية للموقف، فلم يكن ما وقع منه إلا طرفا من أطرافه لا يتم به تمام، وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب على حادث أصحاب البروج؛ لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة وفي قلوب فئة مؤمنة تتعرض فيما بعد للفتنة والتعذيب على مدى القرون.

ص: 434

ويكون من معاني النصر التي يتشرف بها الداعية أنه استعلى على الفتنة وانتصر لعقيدته على الحياة الطاغية وانتصر على أوهام الجسم وجاذبية الأرض، فقد كان في مكة المؤمنين في سورة البروج أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم والخسف بعقيدتهم، ولكن كم كانوا هم يخسرون أنفسهم في الدنيا وفي الآخرة.

وكم كانت البشرية كلها تخسر عندما يقتل معنى زهادة الحياة بلا عقيدة وبشاعتها بلا حرية وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟ إنه لمعنى كريم جدا ومعنى كبير جدا أن ينهزم الطغاة أمام أرواح الشهداء وإنه لربح كبير جدا ألا تحرق النار عقيدتهم وإن وجدوا مسها في أجسادهم لتنتصر العقيدة ولو حرق الجسد.

وهذا المعنى الجليل نفسه نصر مؤزر للشهداء، وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب كريم، ولأعدائهم الطغاة حساب عقيم.

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} 1.

1 الآيتان 10، 11 من سورة البروج.

ص: 435

إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه والفصل فيما كان بين المؤمنين والظالمين آت، وهو مقرر مؤكد وواقع في يوم الدين.

وهكذا عرفت الجماعة الأولى في مكة المكرمة، وتعرف كل جماعة بعدها تتحمل نفس الشرف الذي تحملته الجماعة الأولى أن مجال المعركة ليس هو الأرض فما هي إلا جزء بسيط وفي الآخرة خير لمن اتقى وآثر لقاءه ربه، وعندئذ فلا خوف ولا فزع ومرحبا بالموت في سبيل الله {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} 1.

ب- العالمية:

من معالم الطريق للدعوة في هذه المرحلة أنها بدأت عالمية، وأن عالميتها كانت بالنص وبالتطبيق.

النص:

مضى فيما نقلته من النصوص أن صاحب الحلبية نقل نصا وهو يشرح مرحلة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال فيه:

قال علي: ثم جمعتهم له صلى الله عليه وسلم فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا ثم قال لهم: "يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة"2.

1 من الآية رقم 185 من سورة البقرة.

2 الحلبية ج1 ص322.

ص: 436

ومعنى هذا أن عالمية الدعوة بالنص كانت مذكورة مبلغة والنبي صلى الله عليه وسلم ما زال في مكة، وفي سنواتها الأولى، فكانت عالميتها مقرونة بحياتها منذ أن بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.

التطبيق:

في الدراسات السالفة وقفنا جميعا على خبر وفد نجران:

لقد قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم قوم من النصارى وبلدهم بين مكة، واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة وكانت منزلا للنصارى، فلما بلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين إلى الحبشة وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به، وعرفوا منه ما هو موصوف في كتابهم1.

إن إيمان هؤلاء النصارى يوضح إدراكهم لوحدة الدين في مفهومه، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت عامة لجميع الناس وأن كل ملة قبله قد بطلت بدعوته، ووفودهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمرة من ثمرات الهجرة إلى الحبشة مما يقوي

1 الحلبية ج1 ص383.

ص: 437

الرأي أن الهجرة إلى الحبشة كانت أسلوبا من أساليب تبليغ الدعوة في مرحلة عالميتها، وأن دخول النجاشي نفسه في الإسلام علامة من علامات أن عالمية الدعوة مصاحبة لبدئها لا تنفصل عنه أبدا.

قال النجاشي:

يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل.

النجاشي حبشي الجنسية نصراني التدين ليست بينه وبين العرب صلة جامعة ولا نسب في الديار، فلماذا يؤمن؟

إنه أدرك أن كل ما على الأرض من دين، وكل ما عليها من جنس بشرى لا بد وأن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتلك واجب البشر أجمعين.

ص: 438