المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

بدأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكوين الجماعة الإسلامية بمكة لتكون النواة والأساس والركيزة للمجتمع الإسلامي في المستقبل، وحين بدأ الرسول الأمين الخاتم عليه الصلاة والسلام تربية هذه الجماعة كان يعلم أن مدى رسالته وهدفها هو القضاء على الجاهلية في كل اتجاهاتها وفي كل أمكنتها وأزمنتها، ومن ثم فقد أعد هذه الجماعة على مفهوم عالمية هذا الدين، لقد رباهم بالقرآن الكريم على وحدة الدين ووحدة الرسالة ووحدة المؤمنين في كل زمان ومكان.

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 1.

وكانت التربية على هذه الوحدة من العمق والاستجابة بحيث كانت الجماعة الإسلامية تحس بالحب لجميع أهل الكتاب.

{غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 2.

1 الآية رقم 12 من سورة الشورى.

2 الآيات من رقم 2-5 من سورة الروم.

ص: 559

وبهذه العالمية قضى الرسول صلى الله عليه وسلم على العصبية الجاهلية في نفوس المؤمنين وجعل آصرة العلاقة ورباط الود "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مهما اختلفت اللغات والأوطان والجنسيات.

وهذه التربية على مفهوم العالمية للجماعة الإسلامية هي الأساس الأصيل الذي تقوم عليه دعامة المجتمع الإسلامي في المستقبل، حيث بعث محمد صلى الله عليه وسلم للأبيض والأسود والأحمر والأصفر والناس كافة، لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليحيي كرامة الإنسان.

ولقد كانت التربية على عالمية مفهوم الدعوة أساسها أن المجتمع لا يقوم على قاعدة واحدة وهي قاعدة العبودية لله وحده في كل أموره وشئونه.

وهذه العبودية تتمثل في التصور الاعتقادي وفي الشعائر التعبدية وفي التشريع والقانون.

وقد قرر الوحي الأمين أن التصور الاعتقادي:

{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.

{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 2.

1 من الآية رقم 108 من سورة الأنبياء.

2 الآيتان 51، 52 من سورة النحل.

ص: 560

وليس عبد الله ألبتة من لم يجعل حياته كلها لله وحده:

{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1.

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2.

ولا تصح العبودية مطلقا ما دام الفرد يتلقى القوانين التي تنظم حياته من غير القرآن الكريم.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 3.

هذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي ولكن المجتمع الإسلامي لا يقوم على هذه القاعدة في يوم وليلة أو بصيحة وحماسة، بل لا بد من نواة وجماعة من الناس تنشأ ولو صغيرة، تنشأ محققة هذه القاعدة فتقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله.

إنها لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور، ولا تدين بالعبودية لغير الله في العبادة والشعائر، ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع، ثم تأخذ في تنظيم حياتها عمليا على أساس هذه العبودية الخالصة لوجه الله، فتنقي قلبها من الاعتقاد الزائف، وتنقي

1 الآيتان 162، 163 من سورة الأنعام.

2 الآية رقم 3 من سورة الأعراف.

3 من الآية رقم 21 من سورة الشورى.

ص: 561

شعائرها من التوجه لغير جناب الله الأجل، وتنفي شرائعها من الخضوع لما سوى الله عندئذ تكون النواة قد صلحت ليبني بها المجتمع الإسلامي. ولهذا كانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مركزة حول بناء هذه الجماعة، فآخى بين أفرادها منذ العمل المكي على المواساة وإقامة الحق والعبودية لله الأحد1.

وقد أرسى القرآن الكريم قواعد هذه العبودية فعمق في شعور الرعيل الأول أن كل شيء في الوجود مرتبط بمشيئة الله وتحت سلطانه وتصرفه وقدرته.

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

وإن الله وحده هو الذي يهب الرزق والعمر والولد.

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3.

{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} 4.

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 5.

1 المحبر ص70.

2 الآية رقم 82 من سورة يس.

3 الآية رقم 12 من سورة الشورى.

4 الآيتان 49، 50 من سورة الشورى.

5 من الآية رقم 34 من سورة الأعراف و61 من سورة النحل.

ص: 562

وقد بسط الله لهذه الجماعة في الفهم والذكاء ونورانية القلب والمشاعر مما جعلهم يفهمون حقيقة الدنيا حتى ولو كانت في أوج عظمتها وكبريائها، فإنها متاع الغرور، وهي ظل زائل، وعرض تافه قصير العمر خفيف الوزن معدوم المعنى.

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1.

فبات في ضمير الجماعة، وفي عقلها أن هذه الحياة الدنيا لا أمن فيها، ولا اطمئنان إليها ولا ثبات ولا استقرار على وجهها، ولا يملك الناس من أمرها شيئا.

هذه هي الحياة الدنيا وفي الصفحة الباقية الخالدة:

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.

فيا لبعد الشقة بين دار تطمس في لحظة مثل طرفة عين ودار للسلام باقية خالدة يهدي إليها الله من يشاء من عباده المخلصين.

وبهذا فقد نقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيرة ومشاعر وعقلية نواة المجتمع الإسلامي من كل غرض دنيوي، لقد طهرهم من

1 الآية رقم 24 من سورة يونس.

2 الآية رقم 25 من سورة يونس.

ص: 563

فكرة التبعية لغير الله وأكد أن آجالهم وأرزاقهم وأولادهم نعمة من منح الله جل شأنه وأن دار السلام الخالدة تستقبل المخلصين، وأن الدنيا عمر هباء وزينتها زخرف براق والمغرور بها فارغ الحجر وصفر اليدين من زاد ينجيه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومها لله الواحد القهار.

وكان على هذه الجماعة التي تعد لتكون مصدر ترعرع المجتمع الإسلامي في المستقبل كان عليها أن تقدم الدليل على هذه العبودية المجردة لله وأنها بدعوتها إلى دار السلام لا تكره ولا تحب إلا في الله فألزمها القرآن الكريم بالعفو عن ظلم الذين لا يرجون أيام الله.

يقول الله تعالى:

{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 1.

فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله تسامح المغفرة والعفو وتسامح القوى والاستعلاء وتسامح الارتفاع والترفع عن مهاترات الماجنين المشركين.

والواقع أن القرآن الكريم هنا يلفت نظر الجماعة الإسلامية إلى أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين ضعاف العقل والبصيرة، ولهذا فهم يستحقون العطف أحيانا لأنهم حرموا من رحيق النبع الفياض

1 الآيتان 14، 15 من سورة الجاثية.

ص: 564

الذي يزخر بالنداوة والرحمة والأنس والقوة والعزة والثراء، نبع الإيمان بالله والطمأنينة إليه، والتوكل عليه، والاحتماء بركنه الشديد، واللجوء إلى مدد في ساعات الضيق والكربة، ومن جانب آخر فهو توجيه إلى الجماعة الإسلامية لتترك الأمر كله لله يتولى القضاء والفصل فيه، وبذلك يهون تحمل المساءات والنزوات الحمقاء من المطموسين عن النبع الإيماني السلسبيل المؤنس.

وتمضي الجماعة الإسلامية في غير ما ضيق ولا ثقل، وهي تحمل المشعل الهادي وتسير تدعو إلى الله على بصيرة، وهي تستعذب هذه الرحلة في سبيل الله، وقد جاءتها النداءات الربانية تملؤها يقينا وثباتا.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1.

فتدرك الجماعة الإسلامية أن النهوض بواجب الدعوة إلى الله في مواجهة الجاهلية التي تعتز بقوميتها وثقافتها وعنصريتها واستكبارها على الحق أمر شاق، ولكن شأنه عند الله عظيم، فما أحسنها من كلمة وما أعظمها من رسالة.

{مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

1 الآيات رقم 33-35 من سورة فصلت.

ص: 565

فكلمة الدعوة هي أحسن كلمة تقال على وجه الأرض، وتصعد إلى الله في مقدمة الكلم الطيب، ولكن شرط ذلك العمل الصالح الذي يصدق الكلمة، ويكون لها دليلا، ثم استسلاما تتوارى مع الذات، والأماني حتى تصبح الدعوة وحدها خالصة لله ليس للداعية فيها شيء غير التبليغ، ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض أو بسوء الأدب أو بالإنكار، فهو إنما يتقدم بالحسنة ويضيء الطريق ويحنوا على المحجوبين المطموسين، ويعطف عليهم، ويود لهم رحيقا سلسبيلا يروي ظمأ قلوبهم، ويجلو صدأ نفوسهم، ويرجعهم إلى الله، فهو إذن في المقام الرفيع فلا تستوي حسنته إذن بسيئات العميان، ولذا فقد علم القرآن هذه الجماعة ألا ترد على سيئات القوم إلا بحسنات الأبرار.

وهذه الجماعة الأولى التي تعهدها القرآن الكريم والرسول العظيم بهذه التربية كانت سمات وخصائص قيادية تدربت عليها وتعلمتها حتى إذا انتقلت إلى طور آخر من أطوار الجهاد في تبليغ الدعوة لم تحتج إلى تنظيم، فقد كانت مرحلة مكة مرحلة الإعداد والتربية، وكان من مقدمات هذه الخصائص قوله تعالى:

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ،

ص: 566

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 1.

لقد كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة تنقذ الناس من الجاهلية العمياء التي كانت تخوضها لا سيما بعد أن تفرق الذين أوتوا الكتاب واختلفوا لا عن جهل بما أنزل الله إليهم بل عن معرفة ويقين، ولكنهما اختلفوا بغيا بينهم وحسدا فضلوا وأضلوا، فاحتاجت البشرية إلى قيادة جديدة راشدة، تأخذ بيدها إلى العروة الوثقى إلى الصراط المستقيم، وتقود ركب الحياة إلى طريق السعادة ورضوان الله ورحمته، وكانت الجماعة الإسلامية في مكة هي القافلة التي أعدت وربيت وجهزت لتحمل هذا الشرف، وجاءت هذه الآيات المكية في سورة الشورى تصور خصائص هذه الجماعة التي ولاها الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الإصلاح، ومع أن هذه الآيات مكية نزلت قبل قيام الدولة لكننا نجد أن مميزات الجماعة هنا لتحمل خصائص المجتمع الذي ستبنيه هي، ستبنيه بما لديها من أخلاق ومعرفة وسلوك وتطبيق أبرزت به العبودية الخالصة لله وأعلنت به سمات المجتمع الذي سيولد في المستقبل إن شاء الله.

نجد في هذه الآيات المكية {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مما يوحي أن وضع الشورى في حياة الجماعة الإسلامية أعمق من مجرد كونها فكرة سياسية، فالشورى طابع أساسي للجماعة الإسلامية كلها،

1 الآيات من رقم 36-40 من سورة الشورى.

ص: 567

يقوم عليها أمر المسلمين، ولا ينبغي لمسلم، ولا لجماعة مسلمة أن تخرج على هذا المبدأ.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد نزل على مشورة الشباب المتحمس يوم مناقشة خطة الدفاع عن المدينة، ولما لبس لأمة الحرب، وأحس الشباب أنهم مارسوا أسلوبا قاسيا في مناقشة الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنرد الأمر إليه، فلما خرج إليهم متقلدا سيفه ندم الطالبون لخروجه على ما صنعوا وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، فقال عليه الصلاة والسلام:"ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه"1.

يقول الآلوسي عن علي كرم الله وجهه قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا بعدك فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال:"اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد" 2، ومن ثم كانت الجماعة الإسلامية في مكة تحمل من خصائصها الذاتية مبدأ الشورى كطابع أصيل للجماعة فوق أنه نظام سياسي للدولة فيما بعد.

ونجد في هذه الآيات المكية {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} .

1 محمد رسول الله، لرضا ص192 الكامل في التاريخ ج2 ص150 الدرر ص154.

2 روح المعاني ج25 ص46.

ص: 568

وقد كانوا في مكة مأمورين بالصبر في مواجهة الأذى وكف الله أيديهم عن الظالمين تخليصا لعقيدتهم من الاتهام بالفوضى، وفرصة للمعاندين أن يثوبوا إلى رشدهم فما يتحمل هؤلاء العذاب وهم قادرون على رد العدوان بمثله إلا لأنهم لا يبتغون من وراء عقيدتهم شياء إلا تحقيق العبودية لله وحده، ولكن الآية هنا في مكة تبرز صفة الجماعة الإسلامية بأنهم إذا بغى عليهم ينتصرون، وفيه يلمح المسلم اليقظ أن انتصار المسلمين في مكة على بغي الكافرين قد بدأ بالصبر وتحمل الأذى وأن طبيعة الدعوة الإسلامية دائما أن ترد الاعتداء ولا تعتدي أبدأ حتى في العهد المدني ما كان القتال وهو صورة من صور الجهاد إلا ردا على اعتداء الكافرين، وتثبت القاعدة {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} وقاعدة الجهاد في المدينة "ولا تعتدو إن الله لا يحب المعتدين".

والجهاد بصورتيه الماضيتين: في مكة والمدينة أساسه تحقيق العبودية لله من جميع البشر ليس وراء ذلك طمع في مال أو شرف أو جاه أو سمعة..

وتقع هاتان الصفتان وسط صفات أساسية حقوقوها نأصبحوا في حظيرة العبودية لله واعترفوا بسلطانه الجليل فأطاعوه طاعة عمياء مطلقة، وأعطوه من أنفسهم المقادة واستسلموا لحكمه وجعلوا أهواءهم

1 من الآية رقم: 190 من سورة البقرة.

ص: 569

فيما يريده منهم حتى أصبحوا له عبيدا لا يملكون مالا ولا نفسا ولا تصرفا ما إلا برضاه، فهم لا يحاربون ولا يصالحون إلا لله وبإذنه، ولا يرضون ولا يسخطون، ولا يعطون ولا يمنعون إلا من أجله وفي سبيله ولا يصلون ولا يقطعون شيئا إلا إذا وافق أمره، هذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآيات المكية، وتجعله صفة أساسية للجماعة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم واختارها الله جل شأنه لقيادة البشر.

فهم: على ربهم يتوكلون.

فتوكلهم في كل ضرب من ضروب الحياة مقصور على ربهم الذي اختارهم ورباهم ورضي عنهم ورضوا عنه، فهم مستيقنون أن لا أحد في الوجود يفعل فعلا ما إلا بمشيئته ولا يمكن أن يقع شيء ما في ملكه إلا إذا أراده.

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} 2.

وهذا الشعور ملازم لمعنى لا إله إلا الله ثم هو ضروري لكل أحد يتصدى العمل في الدعوة الإسلامية عليه أن يقف رافع الرأس لا يحنيها إلا الركوع أو سجود لله، وهو مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدًا سوى الله.

1 الآية رقم 30 من سورة الإنسان.

2 الآية رقم 29 من سورة التكوير.

ص: 570

وهم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} إنهم أطهار القلب نظفاء السلوك، وذلك أثر طبيعي للإيمان، وضرورة أساسية من ضروريات القيادة الراشدة، وقد حققت الجماعة الأولى هذه الصفات، فارتفعت بالإيمان المرهف فوق كل بريق الحياة حتى بلغت مستواها القيادي وحققت معنى العبودية لله واكتمل لها الإيمان الصافي والتوكل الثابت واجتناب الفواحش، وحققت المغفرة عند الغضب والاستجابة لله، وإقامة الصلاة والشورى والإنفاق والانتصار، والعفو والإصلاح والصبر.

ومما رزقناهم ينفقون، فالجهاد في كل مرحلة يحتاج إلى بذل وإنفاق ولا بد منه تطهيرا للقلب من الشح، وتنظيفا له من هواية عده وجمعه واستعلاء على حبه وتملكه، وتوكلا على الله وثقة فيما عنده {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} .

وهذه صفة لازمة للجماعة التى ستتولى القيادة الراشدة لتحقيق العبودية.

إن البذل في سبيل الدعوة له مهمتان:

1-

إقامة التكافل الاجتماعي بين أفراد الدعوة.

2-

تمرين النفس على التخلص من شهوة المال والتوكل على الله والثقة فيما عنده حتى تطهر النفس من كل علائق الدنيا التي تشوب الجهاد أو تعوقه أو تضعف العزم عليه.

وهكذا نؤسس الجماعة الإسلامية الأولى التي نيط بها الجهاد المقدس لبناء المجتمع، الإسلامي في المدينة المنورة.

ص: 571

لقد تحلت بكل صفات القيادة الراشدة حتى إذا ما تحركت فيما بعد لتحقيق العبودية لله ما كان يمكن أن يتوجه إليها اتهام من عاقل.

فهي جماعة حققت في ذاتها الخضوع الأمثل للسلطان الإلهي.

وهي الجماعة التي طهرها الله من كل ذنب وإثم ونقاها من كل سوء وعيب.

وهي الجماعة التي غفرت سيئات المعتدين.

وهي الجماعة التي أقامت الصلاة لذكر الله وحده.

وهي الجماعة التي تدربت على الشورى في كل أمر يحز بها، فهي بعيدة عن الغوغائية والثورية والتهريجية.

وهي الجماعة التي إذا طهرت قلبها من الشح وحب المال وأنفقت ما عندها ابتغاء مرضات الله.

وهي الجماعة التي إذا أصابها البغي انتصرت بالصبر على جحافل أذى المشركين؛ لأنها وحدها التي تعرف كرامة الإنسانية.

وهي الجماعة التي غضت بصرها عن سيئات المحجوبين عن نور الحقيقة لأنها تحقق العبودية لله.

إنها أخلصت حياتها كلها لله، وطهرت قلبها من كل وسوسة تحجبه عن نور الحق، وارتفعت بإيمانها فوق مغريات المشركين، واستجابت لله في نفسها ومالها وكل شئون حياتها، وصبرت على أذى

ص: 572

المعتدين حسبة لله، وقد كانت تستطيع أن تقاوم، وأن ترد الكيل بالكيل والصاع بالصاع، ولكنها خضعت لسلطان ربها، فهي لم تؤذن بعد بالقتال كأسلوب للجهاد، لقد جاهدت مجاهدة شاقة وجابهت قسوة الاعتداء باليقين الثابت، وحققت لا إله إلا الله منهجا سلوكيا. فأبرزت خصائص هذه الدعوة كما شاهدها الله فيهم فأعلنوا بسلوك عملي

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} 1.

ولكن المجتمع الجاهلي كان لا يريدها، وآثر ما كان يعبده آباؤه، فصارت المحاولة عسيرة لإيجاد مجتمع إسلامي من عناصر هؤلاء القوم، فلم يبقى إلا نقلة مجتمع خصب تؤدي فيه الجماعة الإسلامية دورها في قيادة رشيدة؛ لتحقيق العبودية لله على وجه الأرض كلها، ومن هنا انتظر المسلمون الأوائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم بالهجرة إلى وطن2 جديد؛ ليستعدوا للموقف الفاصل.

قطعت الدعوة الإسلامية في مكة عقدا كاملا جاهدت فيه جهادا قاسيا لتعلم الناس وظيفتهم التي خلقوا لها، وأكدت الدعوة في هذه الحقبة أنها تريد أن يحقق الناس عبوديتهم لله وحده.

عبودية العقيدة والتوحيد.

1 الآية رقم 9 من سورة الإسراء.

2 من مراجع هذا البحث الجهاد في الإسلام ص52، 78 في ظلال القرآن ج25 ص39-50.

ص: 573

عبودية التحليل والتحريم.

عبودية التقاليد والعادات.

عبودية القلب والجوارح.

اعترافا منهم بالجميل للخالق الأعظم الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وتكريما لذواتهم وارتقاء بكرامتهم.

وأعلنت الدعوة طول هذا العقد من الزمن أنها بالناس كافة، إنها ربانية، إنها قانون الله لكل من على الأرض إلى يوم القيامة، ورفضت الدعوة أن تنضوي تحت لواء قبلي عنصري قومي، ومع أن القوم كانوا على معرفة بحقيقتها وصدقها وربانيتها، إلا أنهم جابهوها حسدا وعلوا وظلما وعتوا وبغيا واستعلاء وما تركوا نوعا ما من أساليب الاضطهاد والتنكيل والتعويق إلا مارسوه.

لقد مارسوا التعذيب البدني والأدبي.

ومارسوا الحصار الاقتصادي.

وما ازداد الداعية منهم قربا إلا فروا منه فرارا، ولم يشأ الله جل شأنه أن يشرع الجهاد بالسيف في هذه الآونة، والله أعلم حيث يشرع، ولا يملك عالم أن يجزم بما أراده الله من حكمة في عدم تشريع القتال للجماعة الإسلامية في مكة ما دام القرآن الكريم لم يكشف لنا عن أسرار تلك الحكمة.

ص: 574

والاحتمال الذي يمكن أن يدرك مع الاستغفار من الخوض في ذكر هذه الاحتمالات أنه:

1-

يا ربما كانت الجماعة الإسلامية في هذه الفترة لو شرع لها القتال لانسابت في غرائزها الأولى، فقامت حرب جاهلية مثل حرب داحس والغبراء.

ومهمة الدعوة في هذا العهد المكي تربية قيادة تصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حتى يخلص المسلم من دوافع ذاته، ويتجرد من شخصه، فلا تعود ذاته ولا دوافع نفسه هي محور الحياة في نظره، فإن محور الحياة الجديدة هو العقيدة فلا يندفع ولا يتهيج إلا إذا مست العقيدة، أما هو فلا يتأثر بشيء كما كانت طبيعته من قبل، ويؤثر هذا في تكوين الجماعة فيما بعد حيث يتمرن كل فرد على ضبط أعصابه واحترام انتسابه للجماعة، فلا يتحرك إلا بعد إذن من القيادة التي يجب أن يرجع إليها في كل أمر من شئون حياته.

2-

وربما كان ذلك؛ لأن حرية التحرك للداعية وتبليغ الدعوة ما زالت مباحة والرسول صلى الله عليه وسلم تحميه سيوف بني هاشم، وتجواله وتحركه إلى الطائف ومواسم الحج ومقابلة الأفراد ما زال طليقا وتشريع الحرب في هذه الآونة يثير فوضى تشوه الدعوة وأهدافها.

3-

وربما كان للبيت العتيق من الحرمة ما لا يجوز معه تشريع قتال تستباح فيه حرمة الكعبة، وتدور رحى الحرب في كنفها شهورا

ص: 575

وسنوات وقد حبس الله عنها الفيل من قبل، وما أحلت لنبي من قبل اللهم إلا ساعة من نهار يوم فتحها.

4-

ويا ربما كانت قلة المسلمين يوم ذلك لا تسعف السياسة العسكرية اللهم إلا إذا عاد المسلمون من الحبشة، وانضم عدد المسلمين في البطحاء، فينكمش المسلمون في رقعة، ويا ربما انتهت الجماعة الإسلامية يومها، فلم يقم على الأرض للإسلام فيما بعد دولة.

هذه الاحتمالات التي لا يمكن أن يقطع بها عالم مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله، ومقاصد شرعه هي في نظري -والله أعلم- من الأسباب التي جعلت الجماعة الإسلامية في مكة تكف يدها عن القتال، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة وتصبر على ما يقدم لها من الأذى ولا تستعجل1.

والدعوة الإسلامية في هذا العهد المكي كانت قد نجحت في إعداد قيادات انتشرت في رحاب الأرض تنتظر يوم اللقاء.

لقد كان النجاشي في الحبشة وعنده كتيبة من كتائب الله يؤمنون بالإسلام، وهي قاعدة أمنية آمنة مستقرة.

وكان الطفيل بن عمرو الدوسي وأهله وذووه دعاة لدين الله في شرقي الجزيرة على شاطئ خليج عمان.

وكان أبو ذر الغفاري في غفار "كنانة" مسلما داعيا متحمسا مجاهدا مجاهرا يقدر على قطع طريق تجارة قريش لو شاء.

1 راجع في ظلال القرآن ج9 ص176، 178، الجهاد في الإسلام ص74.

ص: 576

وكان ضماد من أزد شنوءة يعلن في قومه مبايعته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك عمر بن عبسة في عبس بالشمال.

وكان الناس في نجران قد أسلموا وقالوها صريحة: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

إذن هناك صفحتان متقابلتان متضادتان:

صفحة الوجود الإسلامي في مكة حيث أفسد الناس صدورهم.

وصفحة الكواكب المضيئة المنتشرة في ربوع البلاد1 تنتظر يوم اللقاء بالقيادات الراشدة.

وإذن فلا بد من قاعدة ومهجر.

كان الحال في مكة قد بلغ غايته في القسوة والانحراف لقد مات أبو طالب وهو سند كبير للدعوة، وماتت السيدة خديجة رضي الله عنها وهي الأنس للداعية، والممول للعمل الإسلامي، وأول الناس على الإطلاق تصديقا وإيمانا وإسلاما، وكان لموتهما عند المشركين فرحة، فقد غاب عمودان أساسيان من أعمدة التحرك الإسلامي، فزاد القوم في التنكيل بالداعية وأصحابه، وكان حادث الطائف في قسوته وصفاقته وعمهه، فأصبحت حياة الدعوة في مكة كشجرة طيبة في أرض جدباء، وإذن فلا بد من نقلة بعيدة عن هذا الجو، لا بد من جو خالص من

1 في دوس وبني عبد القيس شرقا، وفي الحبشة غربا، وفي أزد ونجران جنوبا، وفي الأوس والخزرج شمالا، وفي الوسط غفار وأسلم. راجع الخريطة المرفقة.

ص: 577

الخضوع للإبليسية لا بد من جو صافي هادئ، أناسه أبرياء من أمراض أهل مكة عسى أن تقدم الدعوة به دليلا عمليا على اتساقها وانسجامها مع طبيعة البشر كأصل أصيل؛ لسعادة الناس في الدنيا والآخرة.

ولهذا جاءت آيات مكية ترشح لهذه النقلة إذ يأذن الله لرسوله الكريم يقول الله تعالى:

1-

{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} 1.

يعني المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة2.

قال الآلوسي: والمراد بهم على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد بن حميد عن سعد بن المسيب، أهل المدينة من الأنصار3 وفي الطبري عن ابن عباس:

{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} يعني أهل مكة، يقول: إن يكفروا بالقرآن {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني أهل المدينة والأنصار4.

2-

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 5.

قال ابن كثير: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة

1 من الآية رقم 89 من سورة الأنعام.

2 تفسير ابن كثير ج2 ص150.

3 تفسير الطبري ج7 ص216.

4 تفسير الطبري ج7 ص264.

5 الآية رقم 56 من سورة العنكبوت.

ص: 578

حيث يمكن إقامة الدين بأن يوحدوا الله، ويعبدوه كما أمرهم وعبارات الآية الكريمة تمسح هاجس الأسى عن نفوس المسلمين، ففي مفارقة الوطن وحشة1. ومن هنا تمس ألفاظ الآية الكريمة قلوب الجماعة الإسلامية بهذا النداء الحبيب {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، ثم تمليها مرة أخرى بهذا الأمل المشرق {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} وما دامت كلها أرض الله، فإن أحب بقعة منها إلى نفس المؤمن هي البقعة التي يجد فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه2.

3-

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3.

قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان.

قال الطبري: يقول الله تعالى جل ذكره: وأرض الله فسيحة واسعة فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام، ثم روي عن مجاهد قوله: فهاجروا واعتزلوا الأوثان4.

فبات في ذهن الجماعة الإسلامية أنها بعد اكتمال فترتها التدريبية في مكة سوف تنقل إلى أرض واسعة فسيحة تحقق فيها العبودية

1 تفسير ابن كثير ج3 ص419.

2 في ظلال القرآن ج21 ص41.

3 الآية رقم 10 من سورة الزمر.

4 تفسير الطبري ج23 ص203.

ص: 579

الكاملة لله رب العالمين، وإذن فليتجهز القوم إلى نقله سيؤذن لهم بها إن شاء الله.

وقد اتخذت مرحلة التجهيز إلى هذه النقلة خطوتين رئيستين:

الخطوة الأولى: ربانية أعدها الله وجهزها لتصفية الجماعة الإسلامية حتى تتحمل بصدق وإخلاص القيادة الراشدة لبناء المجتمع الإسلامي في المدينة وهي الإسراء والمعراج.

الخطوة الثانية: نبوية من تحرك الداعية نفسه، وهي لقاء العقبة مع نواة المجتمع الإسلامي من أهل المدينة الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل يحبون من هاجر إليهم من رحاب البيت العتيق، ثم لا يجدون في صدروهم حاجة نحو ضيافة كتيبة الله التي صبرت على جهاد مرير زهاء ثلاثة عشر عاما، ويؤثرون على أنفسهم في المال والأرض والأهل، إرضاء وحسبة وحبا في الله العلي العظيم.

والذي أود أن أذكره بسرعة هنا أن العنصرية التي كانت تشكل الجو الاجتماعي في مكة من ثلاث مجموعات:

1-

مجموعة بني هاشم وأحلافهم.

2-

ومجموعة بني عبد شمس وأحلافهم.

3-

ومجموعة بني مخزوم وأحلافهم1.

1 دراسات في العصر الجاهلي ص100.

ص: 580

وقد اندحرت كلها واستطاعت حركة الجهاد الإسلامي بالثبات والصبر على تبليغ مبادئ الدعوة. أن تلغي هذه المجموعات وأن تستعلي عليه بعالمية الدعوة الإسلامية وسمو رسالتها1، فكان من كل مجموعة قيادة ورعيل مسلم مؤمن موحد بالله يحمل مشعل الإسلام وينتظر لحظة الانضمام إلى الكتائب التي تحشد أجنادها وتستعد للموقف الفاصل يوم يهزم الجمع ويولون الدبر.

1 راجع أسماء من هاجروا من بني مخزوم وغيرهم في رواية ابن هشام ج1 ص468 وما بعدها، راجع هذا الدين ص78-80.

ص: 581