الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب
":
قال ابن هشام:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم الله ما بعثه به"1.
وينقل ابن إسحاق عن ربيعة بن عباد ما سمعه في صغره قال:
إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: "يا بني فلان! إني رسول الله إليكم، فأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به"، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفائكم من الجن من بني مالك بن أفيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب2
1 السيرة لابن هشام ج1 ص422، راجع لابن كثير ج2 ص158.
2 السيرة لابن هشام ج1 ص423، الطبري ج2 ص348، السيرة لابن كثير ج2 ص155، 156.
قال في الخصائص:
وأخرج الواقدي، وأبو نعيم عن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فدعانا فما استجبنا له ولا خير لنا، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي، فقال لنا: أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رجالنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ، فأبى القوم وانصرفوا، فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فدك، فإن بها يهود نسائلهم عن هذا الرجل، فمالوا إلى اليهود، فأخرجوا سفرا لهم، فوضعوه، ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزئ بالكسرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالبسط في عينيه حمرة مشرب اللون، فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه، فإنا نحسده ولا نتبعه، ولنا منه في مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه أو قتله، فقال ميسرة: يا قوم إن هذا الأمر بين، فأسلم في حجة الوداع1.
قال في المواهب:
وكان صلى الله عليه وسلم -يطوف على الناس في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا"، وأبو لهب يقول: يا أيها الناس هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم"2.
1 الخصائص ج1 ص454، 455.
2 المواهب ج1 ص250.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأل جهدا في توصيل دعوة الله إلى العرب.
فقد أتى كلبا في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم:"يا بني عبد الله إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم" ، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وأتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم كذلك إلى الله، وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم1.
كذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على بني عامر فدعاهم إلى الله عز وجل، ولكنهم أرادوا أن يتخذوا الدعوة فيما بعد ملكا عضودا لهم، فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن هشام: فقال رجل منهم يقال له "بيحرة بن فراس" والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش؛ لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت
إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال:"الأمر إلى الله حيث يشاء"، قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان أمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه2.
1 السيرة لابن هشام ج1 ص242، راجع الوفا ج1 ص215، تاريخ الطبري ج2 ص349، الحلبية ج2 ص3، 4 السيرة لابن كثير ج2 ص157، 159.
2 السيرة لابن هشام ج1 ص424، 425، تاريخ الطبري ج2 ص350.
ومرة أخرى يتضح أن هدف الدعوة دائما كان غاية في النقاء من أعراض الدنيا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائما يؤكده ولا يساوم فيه أبدا، وقال ابن سعد في الطبقات:
فدعا الناس إلى الإسلام يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول:"يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة"، وأبو لهب وراءه يقول: إن تطيعوه فإني صابر، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح رد ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله، ويقول:
"اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا".
فكان من سمي لنا من القبائل الذين آتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم، وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وقرارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نضر، وبنو المكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد1.
1 الطبقات الكبرى ج1 ص216، 217، راجع ابن هشام ج1 ص424، 425، الكامل في التاريخ ج2 ص93، 94، شرح المواهب ج309، دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص157، 163.
وفي سبيل تبليغ الرسالة طاف الرسول عليه الصلاة والسلام بعيدا يدعو الناس في ديارهم، لقد ذهب إلى الطائف، وعمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة:
عبد ياليل بن عمرو بن عمير.
ومسعود بن عمرو بن عمير.
وحبيب بن عمرو بن عمير.
لقد جلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، كلمهم بما جاءهم به من الحق والهدى وطلب نصرته على الإسلام، فتفلسفوا عليه لقد ركبوا عقولهم وامتطوا أهواءهم.
قال له متشدقهم: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟
وقال فيلسوفهم: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام.
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
لقد رفضوا نصرة النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منهم مبدأ عاديا هو مبدأ خلقي يلتزمه الفرد العادي لقد طلب منهم أن يكتموا أمره. ولكنهم لم يفعلوا وأفشوه وتمادوا في الضلالة، وأغروا به عبيدهم وسفهاءهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وهما فيه1.
1 مع تصرف ابن هشام ج1 ص419، 420، دلائل البيهقي ج2 ص159، الكامل في التاريخ ج2 ص91 راجع المواهب ج1 ص297، 298، تاريخ الطبري ج2 ص344، 345.
وفي لحظة الكرب تبدو طبيعة الداعية أن أمره كله لله وأمره كله خير فهو يفعل ما يؤمر به وينفذ ما جاءه، أما أن يستجيب الناس فتلك مشيئة الله. وتبدو طبيعة الداعية وقد ارتبطت بالجو الرباني يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه الخاشع بكلماته الرخية التي ترطب الفؤاد، وتحل فيه السكينة، وتذهب عن القلب همومه:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين! أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى عدو بعيد يتجهمني، أم إلى صديق قريب ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"1.
وتظهر كذلك طبيعة الداعية وصفاء نفسه وارتفاعها فوق الآلام، وعفوها عن كل زلات المحجوبين عن رحمة الله.
لقد استجاب الله لدعاء نبيه الكريم، وجاء ملك الجبال ليدمرها على ثقيف، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحنو عليهم ويرأف بهم، فيقول في عفو كريم:
"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له"،
1 المواهب ج1 ص354، 355، الكامل في التاريخ ج2 ص91، 92، الوفا ج1 ص213.
قال في شرح المواهب:
وهذا من مزيد شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه1.
ولم تكن جهودا ضائعة ولا دعوة فارغة بل كانت واجبات تؤدى وثمارها مطوية مكنونة في علم الله، فقد استجاب في هذه الحملات رجال من أهل طيبة استروحوا لنسائهم الإيمان في صدورهم، فحملوها إلى قومهم في يثرب طيبة وكان في مقدمة هذه البشائر:
سويد بن الصامت: أخو بني عمرو بن عوف من الأوس قدم مكة حاجا أو معتمرا فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما الذي معك؟ ". فقال: مجلة لقمان يعني حكمة لقمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعرضها علي"، فعرضها عليه، فقال:"إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله عز وجل عليّ هو هدى ونور". فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف، فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج، وكان رجال من قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو مسلم2.
1 المواهب ج1 ص298، راجع الدرر ص68، تاريخ الطبري ج2 ص345 الحلبية ج1 ص395، 396.
2 الدلائل البيهقي ج2 ص161، 162، الدرر ص70، راجع السيرة لابن كثير ج2 ص173، 174.
قال صاحب الحلبية:
وفي كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه، فشعروا بإيمانه فقتلته الخزرج بغتة1.
وإياس بن معاذ وهو فتى من فتيان بني عبد الأشهل قدم مكة مع أبي الحيسر أنس بن رافع الذي جاء يلتمس من قريش حلفا على قومهم من الخزرج عندما تصدى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعادته ليبلغهم الإسلام ويدعوهم إلى الإيمان، قال إياس وهو غلام حدث: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له، فغضب عليه شيخ الوفد أبو الحيسر، فأخذ حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجهه2.
قال في الحلبية: فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله وتكبره حتى موت3.
قال البيهقي: قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده، ويسبحه، حتى مات وكانوا لا يشكون أنه قد مات مسلما.
كان قد استشعر من الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله ما سمع4.
1 الحلبية ج2 ص7.
2 راجع السيرة لابن كثير ج2 ص175، الكامل في التاريخ ج2 ص95 تاريخ الطبري ج2 ص353.
3 الحلبية ج2 ص7.
4 الدلائل للبيهقي ج2 ص163، راجع السيرة لابن هشام ج1 ص428.
وهكذا تنتقل الدعوة وئيدة حسب طبيعتها لتقرر مبدأ عاما "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم".
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 1.
وتستمر ثمرات هذا الكفاح المضني، والجهد الشاق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدعوة في هذه المرحلة، فتنتقل الثمرات من إنتاجها الفردي إلى إنتاج جماعي لكأنما شاء الله لها في عهدها المكي أن تبدأ فردية، وتنتقل إلى الجماعة جهرية وشاء لها كذلك أن تكون ثمارها هكذا واحدة، ثم جماعة قد اختارهم الله واختصهم دون ذلك القوم الذين دعوا فلم يستجيبوا.
يقول ابن هشام:
فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم-وإنجاز وعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج، قال:"أمن موالي يهود؟ " قالوا: نعم، قال:"أفلا تجلسون أكلمكم؟ " قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب
1 التغابن.
وعلم وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا1.
وهذا النص يوضح عدة حقائق سبق عرضها في هذ الدراسة ومنها:
أهمية مرحلة التمهيد بالدعوة فقد كان حديث اليهود وتوعدهم لهذا البطن من الخزرج جعلهم يتبادلون الشورى فيما بينهم ليسبقوا اليهود ويفسدوا عليهم خطتهم فآمنوا وصدقوا.
1 ابن هشام ج1 ص428، 429، تاريخ الطبري ج2 ص354، الوفا ج1 ص217، المواهب ج1 ص311، 312.