الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: المجابهة الثقافية
إذا كانت الدعوة الإسلامية في العصر الحديث تعان من الغزو الفكري بأنواعه المتعددة، فقد كانت الدعوة منذ عهدها المكي مستهدفة لمثل هذا اللون من المجابهة.
إذا جابه الغزو الفكر الشيوعي الكذاب، والصليبي الحقود، واليهودي الماكر الخبيث دعوا لله الخاتمة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذه المواجهة استمرار لأسلوب طبيعي في معاندي لا فرق بين قديم فيه أو حديث.
فلقد أعلنت قريش مجابهة ثقافية ضد الدعوة الإسلامية، وكان لها جانبان كلاهما أخطر من الآخر في محاولة هدم الدعوة.
وهذان الجانبان هما: الجانب السلبي.
والجانب الإيجابي.
أما الجانب السلبي: فقد اتفقت كلمة قريش على اللغو في القرآن الكريم، ولقد حكى الله تعالى عنهم هذا الموقف، إذ يقول الله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] .
يقول ابن هشام في تصوير هذا الموقف:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله، قالوا وهم يهزءون به: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، لا نفقه ما تقول، وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك، فاعمل بما أنت عليه، إننا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئا، فأنزل
الله تعالى في ذلك: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} 1.
وقد تخطوا في سياستهم السلبية هذه دعوة أنفسهم باللغو في القرآن الكريم، وتجاوزوا بها أفراد مكة إلى أفراد المجتمع الخارجي، فعندما حضر الطفيل بن عمرو الدوسي مكة نصحه أصحاب الثورة الثقافية المخاصمون للدعوة الإسلامية بألا يستمع إلى القرآن الكريم حتى ملأ صماخ أذنيه بالقطن كي لا يسمع القرآن إذا حضر إلى الكعبة، وكان ذلك الفعل من الطفيل نتيجة الإلحاح الفكري الغازي المواجه للدعوة الإسلامية من كفار قريش، ولقد فعل الرجل ذلك حرصا منه على عدم سماع شيء من القرآن، غير أن الطبيعة الخيرة لا تملك أمام فطرتها إلا أن تتلألأ مهما حجب لألاءَها ثيابٌ بالية من نسيج الفكر الجاهلي العاري التائه.
يقول الطفيل بن عمرو الدوسي مصورا حالته:
فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا -قطنا- فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة. قال: فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي: وَا ثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا كذا وكذا للذي قالوا.
1 السيرة لابن هشام ج1 ص276 ط مكتبة الكليات الأزهرية.
والله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال:"اللهم اجعل له آية"1.
وأما الجانب الإيجابي فهو: أن النضر بن الحارث كان يحاول أن يلهي شباب العرب بأنواع من الأدب والشعر والحكايات والقصص كي لا ينتبهوا إلى رواء التلاوة وجاذبية الأسرار في آيات الذكر الحكيم، فهو عمل توجيهي ثقافي إيجابي، فقد كان ينقل قصص فارس وأدبها وحكاياتها ليغري الفكر العربي بهذا اللون من المتع الأدبية حتى لا يجد في فكره ومشاعره مكانا باقيا ليشعر بلذة القرآن الكريم تلك اللذة التي وصفها كبيرهم عتبة بن ربيعة بقوله:
لقد سمعت قولا فلا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم2.
ووصفها الارستقراطي المدلل الوليد بن المغيرة:
والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة.
1 السيرة لابن هشام ج1 ص22-23 ط مكتبة الكليات الأزهرية بمصر.
2 السيرة لابن هشام ج1 ص262.
ومع أن الأريبين: عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة يصدران حديثهما من القرآن الكريم بالقسم إلا أن طبيعتهما كانت سبخة، فما زالوا على الكفر حتى طهرت سيوف المسلمين وجه الأرض منهم يوم بدر.
كانت قريش تدرك مقدار جاذبية القرآن الكريم للنفس الإنسانية الصافية، فأرادوا أن يعكروها، وأن يشوشوا على الفطرة بشعر فارس وأدبها، فكان النضر بن الحارث يسافر إلى بعيد في بلاد فارس ليجلب أدبا خليعا وشعرا رخيصا؛ ليفسد به فطرة الشباب حتى لا يستمعوا إلى حلاوة القرآن الكريم، وحسن إعجازه.
يقول ابن هشام:
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكر الله فيه وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم إليّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ 1
ولقد وضع القرآن الكريم صورة هذه المواجهة في شكل قرار لتتعلم القيادات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية أن هذه المجابهة الثقافية واحدة من ضمن المجابهات العديدة التي يجب أن يتنبه لها المسلمون في كل زمان ومكان.
يقول الله تعالى:
1 السيرة لابن هشام ج1 ص265.
وهكذا منذ العهد المكي تبدو المجابهة الثقافية علامة من علامات الحذر التي ينبغي أن يفطن لها المسلمون، وأن يأخذوا حذرهم منها ومن أساليب تنفيذها، ومن وسائل التنفيذ، ومن أصحاب الكلمات المعسولة من قيادات المجابهة الثقافية التي تتخذ أسلوب العلم تارة، وأسلوب الانقلاب الثوري تارة أخرى، وأسلوب التقدم الحضاري في صيغ متجددة للإغراء والتضليل والتعمية، وقد يكون للضحك على أصحاب اللحى في كثير من الأحايين.
إن الحركة الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى تخطيط بقدر ما تحتاج إلى تبعية لفرقة من الفرق الإسلامية القديمة أو الحديثة.
إنها ليست في حاجة إلى أن تتبع مذهبا لواحد من قادة الدعوة في قرن من القرون سواء كان ذلك القائد في القرون السحيقة أو في القرن المنصرم.
إنما الحركة الإسلامية في حاجة إلى:
أ- إدراك أساليب الأعداء المعاصرين وهم:
- العلمانيون.
- الشيوعيون.
- الصليبيون.
- اليهود.
ب- وضع خطة تشمل مجال:
- التربية.
- والاقتصاد.
- ورياسة العمل العلمي بالجامعات.
- والنقابات المهنية والصناعية.
- والتجارية.
جـ- تحقيق مبادئ الإسلام من القرآن الكريم والسنة الإسلامية كحقيقة حضارية.
د- الابتعاد عن مجالات الاختلاف والجدل والتفرقة.
هـ- محاولة محاصرة التيارات المعاصرة وإفساد مفعول أساليبها.
وتحقيق ذلك سهل إذا:
أ- خلصت النية لله.
ب- لم تتخذ الدعوة وسيلة للإثراء وجمع المال، وطريقا للمناصب والشهرة والجاه.