الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد حدد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة من قواعد منهج العمل مع الجماعة، وهي اتحاد السلوك مع المبادئ التي يدعو إليها، ولهذا استحق هذا المنهج صبرا طويلا على مشقة التبليغ وعداوة المكابرين.
ثامنا: الصبر وتحمل المشاق
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 1.
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} .
1 الآية رقم 109 من سورة يونس.
2 الآية رقم 49 من سورة هود.
3 الآية رقم 127 من سورة النحل.
4 من الآية رقم 28 من سورة الكهف.
5 من الآية رقم 65 من سورة مريم.
6 الآية رقم 130 من سورة طه.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} 1.
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 2.
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 5.
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 7.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 8.
1 الآية رقم 60 من سورة الروم.
2 الآية رقم 17 من سورة ص.
3 الآية رقم 55 من سورة غافر.
4 الآية رقم 77 من سورة غافر.
5 من الآية رقم 35 من سورة الأحقاف.
6 الآية رقم 39 من سورة ق.
7 الآية رقم 48 من سورة الطور.
8 الآية رقم 48 من سورة القلم.
9 الآية رقم 5 من سورة المعارج.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} 1.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر} 2.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 3.
من أساسيات العمل مع الجماعة أن تبرز الأهداف التي يُدعى إليها في جو طبيعي، بعد أن يتحلى بها الدعاة سلوكا عمليا.
وقد التزمت القيادة في ظلال العمل المكي بالسلوك المطابق للمبادئ الإسلامية، تنقية للدعوة في صورتها العملية من أدنى شائبة تحسب عليها، ذلك بأن الفرد المسلم هو مرآة الإسلام.
ولهذا فإن الدعوة الإسلامية في عهدها المكي قد تجنبت صداما مسلحا حتى تعطي فرصة كاملة لإبراز معالم الدعوة وحقيقة الإسلام، ولذلك التزمت بالصبر الإيجابي الذي يزاول العمل في إخلاص مع التحمل لشدائد الأمور.
ولو سمح القرآن الكريم للجماعة الإسلامية بالدفاع عن النفس في هذه المرحلة، لما أمكن للدعوة أن تُري للناس على طول الحياة أنها دعوة لخير الإنسانية، ولكانت مشادات في محيط الأسرة بين الولد ووالده والعبد وسيده والمرأة وزوجها، ولصح للكافرين يومها أن يقولوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه.
1 الآية رقم 10 من سورة المزمل.
2 الآية رقم 7 من سورة المدثر.
3 الآية رقم 24 من سورة الإنسان.
وليس ذلك هو الهدف ولا هو المنهج كذلك، ولذلك أكد القرآن في هذا العهد المكي ضرورة التحلي بالصبر كمنهج، وهو صبر إيجابي يزاول أعمال الدعوة مع التحمل لأذى الكافرين.
ماذا يكون يا ترى لو وقعت المعارك في كل بيت؟ أيكون هذا هو الإسلام؟ أيكون ذلك هو الهدف الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم؟
لقد قيلت دون حرب أو مقتلة أو معركة: إن محمدا يفرق بين المرء وزوجه.
لقد قيلت مع الأمر بالكف عن القتال، لقد قيلت مع الأمر بالتزام الصبر فماذا يقال يا ترى لو أن القرآن الكريم أذن بالقتال في هذا العهد؟ هنا تبرز حكمة التذرع بالصبر كواحدة من أساسيات العمل مع الجماعة وهذا هو الداء الذي تعانيه الدعوة الإسلامية في العصر الحديث.
إنه لا بد من مرحلة طويلة يبرز فيها بالسلوك العملي، أن دعوة الإسلام دعوة لخير الإنسان ولكرامته وعزته واحترامه، ولن تبرز هذه المعالم، إلا إذا صفى الدعاة أنفسهم من كل شبهة تعوق هذه المعالم عن الظهور، ولهذا يتكرر الأمر بالصبر في السور المكية على النحو الذي ذكرنا له نماذج، ليعلم المشتغلون بالدعوة الإسلامية أن من منهج العمل مع الجماعة لتبليغ الدعوة "الصبر الطويل" الذي يمكن الغير من التعرف على امتيازات الإسلام.
وقد جعل الله ابتلاء الدعاة في كل عصر تدريبا تربويا ليخلصهم إلى طاعته وينقيهم من كل شبهة ويمحصهم من كل آفة.
توجد هذه المظاهرة كقانون إلهي.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} .
وهي اختيار واختيار يصفي الله به العاملين والمبلغين رسالاته، ولقد كان من معالم هذا الطريق.
أن سيدنا نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى توحيد الله جل شأنه وهو عمر يتيم في حياة الدعوة، لم يتكرر بعد -والله أعلم- ولكن قومه وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
وسيدنا إبراهيم عليه السلام لبث عمرا مديدا لم يحدده القرآن الكريم، وكانت نتيجة جهاده، فآمن له لوط فقط، وترك قومه وتبرأ منهم وقال:{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} .
وسيدنا موسى عليه السلام ترهق حياته أعصاب المتتبع لها، فهو يولد في جو يشيع فيه فرعون الرعب والإرهاب والذعر، وتقوم حكومته بإعدام أطفال بني إسرائيل ويولد موسى في هذا الجو القاسي
الرهيب ويرمي في البحر في تابوت من الخشب ويلقيه اليم إلى ساحل فرعون العاتي القاسي المتجبر الذي أصدر أوامر الإعدام على الأطفال الرضع، وإذن فكيف ينجو موسى؟
ويلقي الله العلي العظيم في قلب آسيا رقة ورأفة بموسى فتقول لهم: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} ، وهي إشارة بعيدة إنها هي المتحدثة هي القائلة:{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فالمنفعة لها لصنفها لمؤمنات مثلها.
ويعاف موسى الأثداء كلها، وكانت أخته تقصه ثم تدخل القصر وتقول لهم:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} .
ويعود موسى إلى أمه كما وعد الله جل شأنه.
كيف كانت أخت موسى تقصه؟
وكيف استطاعت أن تصل إلى مستوى المشورة والتناصح للقصر الفرعوني؟
وكيف لا يشك في موسى وقد عاد إلى بيت من بيوت بني إسرائيل؟
ذلك كله أمر الله وجلاله وقدرته يقدمها القرآن في العصر المكي نموذجا لمضايق العمل الإسلامي، وكيف ينقيها الله من عتو الجاهلين.
ثم يشب موسى ويدعو إلى الإصلاح، وتضطره الظروف إلى الهجرة وفي الطريق لا تتركه الأحداث هادئا فيرى على ماء مدين
امرأتين تذودان والناس في شح لم يرحموا ضعفهما ولا قلة حيلتهما، وهو رجل عابر سبيل فتأخذه الشفقة والرحمة امتثالا لمبادئه العليا فيسقى لهما ويبرز هنا كذلك سؤال: كيف استطاع موسى أن يمنع الناس عن الماء وهم جمع في بلادهم وهو رجل غريب؟ وكيف انصاع الناس له؟ ذلك أمر الله وقدره، يلحظ فيه الداعية كيف ييسر الله للمخلصين كل سبيل يسهل إلى الخير ويحقق النفع للناس.
وفي مدين يمكث عشر حجج يرجع بعدها مع أهله فتأتيه الرسالة بطريق الخطاب المباشر دون قدرة على الرؤية ويتحمل قولا ثقيلا:
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} .
ويبدأ موسى بتنفيذ أمر ربه وتكون طريقة الخلاص من فرعون جد شاقة فيؤمر من عند ربه: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} .
وحتى بعد الخلاص أثناء السير قال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} من شدة الهلع والخوف.
حتى إذا ما نجو قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} .
فتمر دعوة موسى عليه السلام في تسلسل من الصعوبات والامتحانات والابتلاءات ذلك لأن طبيعة الدعوة دائما تحتاج إلى صبر في عرضها وصبر على مجابهة خصومها، ولهذا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنصر بالدعاء على كفار مكة أن يبيدهم الله بهلاك من عنده نظير ما فعلوه في جماعة المسلمين، ففي البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بيان وإسماعيل قالا: سمعنا قيسا
يقول: سمعت خبابًا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك دينه، ويوضع المنشار على ما مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله"، زاد بيان:"والذئب على غنمه"1.
وفي رواية زاد: "ولكنكم تستعجلون"2.
لقد كانت المدرسة النبوية تربي القيادة على أمثل مستوى يجردها من كل هوى وشائبة لتخلص الطوايا والنفوس لله رب العالمين، وكانت هذه التربية تتمشى مع التوجيه القرآني:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} .
فكانت توجيه القلوب والحواس إلى رضوان الله وإلى الصبر والتحمل حتى يأذن الله بما يشاء لهذه الطليعة الأولى في حياتها الدنيا وفي حياتها الأخرى على السواء.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى عمارا وأمه وأباه رضي الله عنهم يعذبون أشد العذاب في مكة فما كان يزيد على أن يقول لهم: "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".
1 البخاري فتح الباري ج8 ص165، 166، المواهب اللدنية ج1 ص266، دلائل البيهقي.
2 السيرة لابن كثير ج1 ص496، الفتح الرباني ج20 ص222، راجع فتح الباري ج7 ص431، 432.
وفي رواية: "صبرا آل ياسر! اللهم اغفر لآل ياسر"1.
إن العمل للدعوة الإسلامية يرتبط بمنهج الصبر وقانون التحمل للمشاق ذلك بأن الصبر جهاد والجهاد فريضة والصبر واحد من ألوان هذا الجهاد.
إن جهاد النفس على وساوس الشيطان نوع من الجهاد.
والجهاد بالصبر على المكاره في مواجهة أعداء الإسلام نوع من الجهاد والتغلب على شهوة الحياة الدنيا العاتية نوع من الجهاد.
والدعوة الإسلامية في دور العرض تحتاج إلى نوع خاص من الجهاد هو جهاد الصبر لتمحص المسلم وتجرده من كل شهوة وهوى، وتتأكد من صلاحيته للعمل الإسلامي، بعيدا عن كل لون ثقافي يتأثر به، مثل:
الثأر، والعصبية للجنس والوطن، أو حب الدنيا وإيثار الراحة.
إن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد لقوم معينين وسط ظروف معينة، هي ظروف المجتمع العربي الجاهلي الذي يؤثر في حياته مواريث الآباء والأجداد، فكان من أهداف هذه التربية تدريب الذات العربية على الصبر واحتمال الشدائد التي لا يصبر عليها بالعادة من الضيم على شخصيته أو من يلوذون به حتى يخلص جسده وعقله وقلبه ووجدانه وفكره لله رب العالمين، وحتى يتجرد من ذاته وذات من
1 الحلبية ج1 ص337.
يلوذون به فلا تكون الذات هي المحور لحياته، ولا هي الدافع لتحركه في وجوده.
وكانت كذلك تربية على ضبط الأعصاب حتى لا يندفع الرجل العربي وراء حماسته لأي مؤثر يشعل حميته، وحتى لا يهتاج لأول مهيج وذلك حتى يتم الاعتدال في طبيعته وحركته.
وكانت كذلك تربية على أن يتبع أسلوب حياة جديدة تحت قيادة جديدة يرجع إليها في كل شيء، ويأخذ عنها جميع أمور حياته ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به مهما يكن الأمر مخالفا لمألوفه وعادته ومواريثه، وقد كان ذلك هو حجر الأساس في إعداد شخصية الرجل العربي لإنشاء نواة المجتمع الإسلامي الذي يخضع لقيادة موجهة من الوحي بعيدا عن السلطان البشري الضال المزيف.
إن إعداد النفوس وتربيتها بناء صعب يحتاج إلى زمن طويل وصبر طويل لكي يعطي فرصة واسعة لمن وضع نفسه في موضع الخصومة ليتفكروا ويتأملوا ويبحثوا أسباب ردهم للدلائل والبراهين التي طال شرحها وطال عرضها، ويبحثوا كذلك أسباب تخلق المسلمين بالصبر مع القدرة على اتخاذ موقف دفاعي كما حدث من عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي بدل عنفه على المسلمين قوة لهم، وغير ظلمه إياهم عدلا لمبادئهم ودعوتهم بعد أن استروحت نفسيته عبير الدعوة واستنشقت رئتاه نسيم الإيمان، فتذوق حلاوة الإسلام، فانقاد في قوة عارمة وعاد من تجبره ليكون للمسلمين عونا ومعينا ومساعدا ونصيرا، وتلك واحدة من آثار منهج الصبر، وشاء الله أن يكون ذلك دائما هو
طابع العمل في الدعوة لما يعلمه جل شأنه من أن بعض المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ويعذبونهم ويؤذونهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الله، ومن قادة الدعوة المخلصين.
هذه الخلقية التي تحتاجها الدعوة في مرحلة العرض تحتاج كذلك إلى إيمان بالتفويض المطلق إلى الله جل شأنه في تسيير مجريات النصر وأسبابه للدعوة الإسلامية، فإن النصر معناه ووقته وسببه والذين سيشهدون ملابساته أمور موكولة إلى الله وحده، فإنها مقادير عليا تخضع للسلطان الإلهي فحسب {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وما على الدعاة إلا أن يخلصوا للعمل لوجه الله حسب منهاج الدعوة وإن يؤدوا واجبهم ثم يذهبوا وواجبهم هنا هو أن يختاروا الله ورسوله والقرآن الكريم، غاية وزعيما ودستورا، وأن يؤثروا العقيدة على كل متاع الحياة في أوج عظمتها وأن يستعلوا بالإيمان على المفتنة في أشد قسوتها وأن يصدقوا الله في العمل والنية ثم بعد ذلك ليفعل الله بهم وبأعداء دينهم ما يشاء.
وإذن فإنه لمن الخطأ الكبير في عصرنا الحديث أن نسأل متى نصر الله؟
إن نصر الله لا بد آت إنه وعده الكريم ولن يخلف الله وعده أبدا ولكن مفهوم النصر ليس هو التسلط ولا الحكم وليس هو المال والجاه، وليس موطنه الحياة في الأرض فقط.
إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها وليس هو الحياة الدنيا وحدها وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال، بل
إن الملأ الأعلى يشاركه في أحداث الأرض ويشهد عليها، ويزنها بميزان خاص غير ميزان الأرض في نوع من أجيالها بل في أجيالها جميعا، والملأ الأعلى يضم مع الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس، وما من شك أن ثناء الملائكة والملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأعظم وأجل وأنفس وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم وموازينهم على الإطلاق، وبعد ذلك هناك الآخرة وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض إن طوعا وإن كرها، ثم هو لا ينفصل عنه لا في الحقيقة الواقعة ولا في الحس المؤمن فيما يتعلق بهذه الحقيقة، فالمعركة إذن لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجئ بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها في الأرض في وقت ما أوفى الأوقات كلها غير دقيق، بل وغير صحيح لأنه حكم على الشطر الصغير الأدنى والشطر الزهيد الطائش وصدق الله العظيم:
1 الآية رقم 7 من سورة غافر.
2 الآيتان 42، 43 من سورة إبراهيم.
نعم لم تعد الحياة الدنيا هي الخاتمة للمطاف ولا هي موعد الفصل في الخلاف، كما أن الحياة وكل ما يتعلق بها من لذائذ وآلام ومتاع وحرمان لم تعد هي القيمة العليا في الميزان.
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 3.
ومرة أخرى نعود إلى مفهوم النصر لنراه قضاء مقضيا ووعدا نافذا من الله تعالى:
بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مطرودا مكذبا، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب وفيهم من يلقى في الأخدود وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد وضيق في الرزق فيسألون: فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟
1 الآية رقم 32 من سورة الأنعام.
2 الآية رقم 64 من سورة العنكبوت.
3 الآيتان 16، 17 من سورة الأعلى.
4 الآية رقم 51 من سورة غافر.
ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ويفعل بها الأفاعيل، ولكن الناس يخطئون إذ يقيسون الأمور بميزان ظاهري محدد ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمن وحيز محدود من المكان. وهذه مقاييس بشرية صغيرة.
فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة في الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك وانتصارها مرتبط بانتصار أصحابها إذ ليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيه ويختفوا هم ويبرز هو.
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينه معهودة قريبة الرؤية والمنال لأعينهم، ولكن النصر له صور شتى، وقد يلتبس بعضها بصورة الهزيمة عند النظرة القصيرة أو السطحية.
فسيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار هو من غير شك في منطق الإيمان أنه كان على قمة النصر عندما ألقاه الكفار في النار كما أنه انتصر مرة أخرى عند ما قيل للنار: كوني بردا وسلاما على إبراهيم.
هذه صورة والأولى صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد أما في الحقيقة فهما قريب من قريب وكلاهما نصر من عند الله.
والحسين رضي الله عنه وهو يستشهد، كان في تلك الصورة مفجعة عظيمة من جانب، ولكنها كانت من جانب آخر نصرا عظيما له.
في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأما في الحقيقة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا، فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو القلوب له وتجيش بالغيرة والفداء من أجله كالحسين بن علي رضي الله عنه يستوي في ذلك المتشيعون وغيرهم من كثير من المسلمين.
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر إيمانه ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها الحسين باستشهاده.
وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الجليلة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه فتبقى دائما حافزا محركا للأبناء والأحفاد، بل ربما كانت محركا لخطا التاريخ كله على مدى الأجيال، وذلك نصر كبير بحمد الله.
إننا اليوم في حاجة كبيرة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور والقيم لمعنى النصر قبل أن نسأل: متى نصر الله؟ وأين وعد الله؟
إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثانية. لقد
انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا النصر يرتبط بمضي إقامة العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فإن هذه العقيدة لا يتم تمامها إلا إذا هيمنت على حياة الجماعة البشرية في كل تصرفاتها من قلب الفرد الواحد، حتى الدولة القائمة على الحكم بإذن الله، وقد شاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة عليه أفضل الصلاة والسلام في حياته؛ ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ويتركها من بعده حقيقة مقرة في واقع تاريخي ملموس مشهود، ومن هنا اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية؛ لأن الله أراد هذا ورتبه؛ ذلك لأن وعد الله قائم برسله والذين آمنوا معهم فلا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق عليها هذا الوعد.
وثمة اعتبار آخر أن كثيرا ما يتجاوز الناس في إدراك حقيقة الإيمان، وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله، وأن هناك أشكالا من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتوجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضائه وحده، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه، فلا خيرة له إلا ما اختاره الله له:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ربُّ العَالمينَ} 1.
ويلتقي هذا كله بالثقة والطمأنينة والرضا والقبول، وحين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة فلم يجد في نفسه محلا لسؤال يقدمه بين يدي الله العلي العظيم، ولن يجد من نفسه جرأة يقترح على الله صورة
1 الآية رقم 29 من سورة التكوير.
معينة من صور النصر أو صور الخير التي تريدها نفسه، بل إنه ليكل كل شيء إلى جناب الله صاحب الملك والتصرف، ويلتزم ويتلقى كل ما يمليه عليه أنه خير، وذلك وحده نصر على الهوى والذات والشيطان، وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه1، وأساس ذلك النصر الداخلي هو الصبر الطويل واحتمال الشدائد حسبة لوجه الله الكريم، ويضرب القرآن الكريم في العهد المكي لهذه المعاني مثلا أصحاب الأخدود في سورة البروج.
لقد استحق أصحاب الأخدود هذا الغضب من الله في حالة السلطان الذي كانوا يملكونه، وهذه صورة ظاهرة لمفهوم نصر الكافرين، ولكنها صورة الهزيمة المنكرة.
وكانت صورة المؤمنين الظاهرة صورة هزيمة، ولكنها في الحقيقة واحدة من صور النصر، فوزن الحادثة وما استحقته من نقمة وغضب لم ينته بعد، فوراءه حساب الله الكبير المتعال.
وتبقى في التاريخ روعة الإيمان المستعلي على الفتنة المنتصر بالعقيدة على الطغيان.
1 راجع في ظلال القرآن ج24 ص79-81.
2 الآيات من رقم 4-8 من سورة البروج.
ويبقى تجرد المؤمنين من لذائذ الحياة نصرا فوق الشهوة ويبقى استعلاؤهم فوق الآلام نصرا على قوة المعتدين.
ومن هنا فإن بلاء الدعوة في العصر الحديث هو تكرار هذا السؤال: متى نصر الله؟
إن قيم الجهاد لا ترتبط بثمن يقبض أو رجاء ينتظر، إن قيم الجهاد هي فقط لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
وإنه من الخطأ أن يفهم الدعاة أن معنى النصر هو تحقيق مطالب الحياة بالحكم أو بالجاه أو بالمال، إنه من الخطأ أن يجعل الدعاء موازين النصر موازين الأرض المحدودة السطحية الفانية، بل إن المعنى الذي يجب أن يفهم عن النصر هو المعنى الذي تقدمه سورة "أصحاب الأخدود" الذين انتصرت أرواحهم على الخوف والألم، وانتصرت أجسادهم على جاذبية الحياة ونعمها.
وانتصرت قلوبهم على الفتنة الطاغية، فكانوا شرفا للجنس البشرى كله. ذلك ما تحتاجه الدعوة والداعية في العصر الحديث، وذلك ما طبقته طلائع التبشير هنا في منطقة جنوب شرقي آسيا، إذ يعيش الواحد منهم أربعين عاما في قرية صغيرة في الغابات يعيش معهم بخلق طيب ويقدم لهم المساعدات ويدعوهم في رفق ويستقطبهم حوله حتى يحبوه، ثم يجعلهم بعد ذلك مسيحيين.
ولقد شاهدت في يناير سنة 1971 أثناء السيول التي اجتاحت عاصمة ماليزيا "كوالا لمبور" رجال الكنيسة من المبشرين وهم
يخوضون لجج الفيضانات، ويحملون الغذاء والكساء والدواء للمصابين، وعلماء الإسلام في بيوتهم يتختمون بالذهب ويجلسون في هدوء آمنين، فلما انتهى البلاء واستوت على الجودي لهج الناس المسلمون بالثناء على المبشرين، وثاروا ساخطين على علماء الإسلام، فهل يملك رجل الكنيسة منهج عمل مع الجماعة مثل ما يملك العالم الإسلامي؟
إن الفارق الوحيد هو الإعداد والتربية وذلك هو داء الداعية الإسلامي وواجب معاهد الإسلام في العصر الحديث.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"1.
وقد تكفل الله لهذا المؤمن أن سيجعل له منزلة ورضوانا ومحبة.
1 مسلم كتاب الزهد والرقائق ج4 ص2295، راجع السراج المنير ج2 ص430 الفتح الكبير ج2 ص222.