الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: وحدانية الصفات:
{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2.
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 6.
1 الآية رقم 59 من سورة الأنعام.
2 الآية رقم 103 من سورة الأنعام.
3 الآية رقم 40 من سورة النحل.
4 الآيات من رقم 5-8 من سورة طه.
5 الآية رقم 68 من سورة القصص.
6 من الآية رقم 88 من سورة القصص.
7 الآية رقم 3 من سورة غافر.
العلم:
الذي يتتبع آثار علم الله في إرجاء الكون الفسيح ينطلق خياله من وراء هذا النص القصير مرتادا آفاق المعلوم والمجهول متخطيا عالم الغيب وعالم الشهود وراء هذا الكون المشهود، وأنه في هذا التتبع ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وهو يرتاد أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل، ومفاتحها كلها عند الله لا يعلمها إلا هو ويجول وهو يرتاد بعقله وفؤاده وخواطره في مجاهل البر وغيابات البحر المكشوفة كلها لعلم الله الواسع المحيط بكل أبعادها وخفاياها وأسرارها، ويتتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض فلا يكاد يحصيها عدا، ولا يعرف زمن سقوطها وعلاته، وعين الله على كل ورقة تسقط هنا وهناك ويلحظ المتجول كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض أنها لا تغيب عن عين الله طرفة عين، ويرقب كل رطب ويابس في عرض هذا الكون وفي طوله يجده لا يستطيع أن يند عنه شيء عن علم الله المحيط.
1 الآيتان 19، 20 من سورة غافر.
2 الآيتان 36، 37 من سورة الجاثية.
إنها جولة تدير الرءوس وتذهل العقول، جولة في آماد من الزمن وفي آفاق من المكان، وفي أغوار من المناظر المنظورة والمحجوبة، المعلومة والمجهولة، إنها جولة بعيدة مترامية موغلة ترسم دقائق هذا الكون في جمل قصيرة يعيا عنها الفكر البشري، ذلك أنه إذا أراد أن يتحدث عن مثل هذا العلم الشامل المحيط فإنه لا يستطيع أن يصور هذا الارتياد في مجموع هذه الآفاق فإن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود مرتبطة بقدرته البسيطة ومعارفه القليلة القلة فإنه ينتزع تصوراته من اهتماماته وهو عادة لا يهتم بإحصاء الورق الساقط من الشجر في كل أنحاء العالم وجهات الأرض، فتأتي الإشارة هنا إلى أن علم الله شامل ومحيط ومحص لكل شيء حتى الورقة التي تسقط من غصنها
…
إلخ.
إن هذا المشهد والمشاهد التي بعده. الحب المخبوء في أغوار الأرض والرطب واليابس في أرجاء البسيطة لا تلحظه البشرية ولا تلم به ولكن هذا المشهد بكلياته وجزئياته منكشف تماما بجملته وأسراره لعلم الله وحده فهو جل جلاله المشرف على كل شيء المحيط بكل شيء.
الحافظ على كل شيء الذي تتعلق مشيئته وقدرته بكل شيء الصغير مثل الكبير والحقير مثل الجليل، والمخبوء مثل الظاهر والبعيد مثل القريب، والمزاولون لهذا الإحساس من بني البشر يدركون جيدا أن مثل هذا المشهد لا يخطر على القلب البشري فتدرك أن مصدر هذا الكتاب من عند علام الغيوب الذي وسع علمه كل شيء1.
1 راجع في ظلال القرآن ج7 ص246، 250 راجع الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن أبو جعفر محمد بن جرير الطبري م310 ط ثانية 1373هـ، ج7 ص110، 212، 213.
والعين الخائنة تجتهد دائما في إخفاء خيانتها ولكنها لا تخفى على الله، والسر المستور تخفيه الصدور ولكنه مكشوف لعلم الله، حتى السر الذي لا تدركه العقول مما سيخفيه المرء مستقبلا ولايدركه في يومه مكشوف لعلم الله إنه يعلم السر وأخفى.
إن الله له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، لله ما في الوجود كله، وإذن، فيعلم السر وأخفى، جزء من هذا الذي له ويملكه في السموات وفي الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، وبين المستور في كل هذا والمستور في الصدر انسجام يتسق في الفكر يصور مفهوم العلم لله جل شأنه أنه لا يدع شاردة ولا واردة إلا أحصاها1.
قال ابن كثير: "أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض والحب والبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج منها من ذلك عدده وكيفيته وصفاته أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء"4.
1 في ظلال القرآن ج16 ص64، 65.
2 الآية رقم 2 من سورة سبأ.
3 من الآية رقم 3 من سورة سبأ.
4 ابن كثير ج3 ص525.
فكم من شيء في اللحظة الواحدة يلج في الأرض ويخرج منها وكم من شيء في اللحظة الواحدة ينزل من السماء ويعرج فيها؟
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إنه وصف أعلى من مستوى تفكير البشر فأنى لهم أن يتحدثوا عن شمول العلم وإحاطته ودقته بمثل ما صورته هذه الآيات وأنها لتدل بألفاظها وأبعادها البعيدة في آفاق الكون والنفس إن الذي يصف نفسه ويصف علمه بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر على بال1 واحد في كل شيء فهل ما يعبدون من دون الله لهم شيء من هذا؟ كلا، إنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} .
لا تدركه الأبصار:
لم يوهب الإنسان قدرة على إدراك ذات الله ذلك لأن الحادث الفاني بتركيبه يعجز عن أن يرى الأزلي الأبدي. ووظيفة الإنسان على الأرض هي عمارتها باسم الله، وتلك الوظيفة قد أعين عليها الإنسان ووهب مستلزماتها، ورؤية الله لا تدخل في هذه المستلزمات، ويستمر هذا الدليل في كل عصر باقيا قويا مقنعا، ففي العصر الحديث يكثر الحديث عن الذرة وعن الكهرباء والبرتون والنيوترون ولكن واحدا منهم لم ير ذرة ولا كهربا
…
إلخ. فالجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات ليراها المتحدثون جميعا لم يوجد بعد ومع هذا فهي مسلمة لهم مع أن الذرة حادثة والكهرب حادث وهي قوانين مودعة في الكون كل ما يفعله الإنسان أن يكتشفها فقط ومع وجودها فهم
1 ظلال القرآن ج22 ص60.
لا يرونها ويثقون في وجودها عن طريق آثارها. فالله لا تدركه الأبصار وتدركه البصيرة في آثاره ونعمائه ومخلوقاته: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} 1.
كن فيكون:
كل أمر يريده جل شأنه لا يحتاج في إيجاده إلى زمن ولا مكان ولا مادة إنه يوجد في لمح البصر أو أقرب، إن كل أمر يريده الله تعالى عظم عظمة السموات والأرض أو صغر صغر التلفظ بالنون والفاء مدغمتين على طريقة تجويد آيات القرآن الكريم.
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.
فهل لما يشركونه بالله في العبادة له شيء من هذا؟
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 4.
1 الآية رقم 104 من سورة الأنعام.
2 الآية رقم 82 من سورة يس.
3 الآية رقم 56 من سورة الإسراء.
4 الآية رقم 17 من سورة النحل.
يخلق ما يشاء ويختار:
إن الله جل شأنه يخلق ما يشاء وليس في الكون كله من يملك أو يقدر أن يقترح على الله شيئا، ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا، ولا أن يعدل أو يبدل فيه شيئا.
إنه وحده جل شأنه يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لم يريد من الوظائف والتكاليف والمقامات وليس لأحد الخيرة لا في شأن نفسه ولا في شأن غيره ومرد الأمر كله إلى الله.
{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1.
فهل ما يشركه المشركون مع جلال الله في العبادة له شيء من هذا؟
{فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ} .
هذا الكون على اتساعه وانفراج ما بين أبعاده ما نعلم منه وما لا نعلمه ما نراه وما لا نراه، كل هذا الكون كله، كله، كله، هالك زائل ذاهب؛ المال والجاه والسلطان، والقوة والحياة والمتاع، الأرض
1 الآية رقم 23 من سورة الأنبياء.
2 من الآية رقم 194 من سورة الأعراف.
3 الآيتان 196، 197 من سورة الأعراف.
ومن عليها والسموات ومن فيها وما بينهما مما لا يعلمه إلا الله هالك زائل ويدخل في ذلك ما يعبدونه من دون الله.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 1.
ويبقى وجه ربك وله الحكم يقضي بما يشاء ويحكم كما يشاء، ولا يشركه في حكمه أحد ولا يرد قضاءه أحد ولا يقف لأمره أمر.
غافر الذنب:
يعرف الله عباده بصفاته ذات الأثر الموجود في حياتهم ووجودهم. وتلمس آيات القرآن الكريم مشاعر القوم وقلوبهم فيثير الرجاء فيهم أو الخوف والخشية، ويشعرون بأنهم في قبضة رب عزيز لا يغلب ويصرف الأمور بإرادته هو. ولا معقب لحكمه وهو رب عليم يدبر الأمر على خبرة وعلم محيط. محيط بأرجاء الكون كله.
وهو مع هذا غافر الذنب وقابل التوب بر رحيم يعفو عن كثير ويفتح باب التوبة بلا حجاب.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} 3.
1 الآيتان 26، 27 من سورة الرحمن.
2 الآية رقم 44 من سورة فاطر.
3 من الآية رقم 44 من سورة فاطر.
ومع عفوه وبره وحلمه فهو شديد العقاب يدمر المتكبرين ويعاقب المارقين الذين لا يعودون ولا يستغفرون. إنه ذو الطول يعطي بغير حساب.
فهل لما يشركون من هذه الصفات شيء؟
إنهم لا يعرفون عن آلهتهم وصفا مضبوطا ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها فيعيشون معها في قلق، فهم لا يدرون موضع سخطها ولا موضع رضاها. إن كل ما يقدمونه من الضحايا والذبائح والرقى والتمائم يدفع إليه وهم وتخمين لعلها ترضى!
وجاء الإسلام واضحا ناصعا يصل الناس بخالقهم الواحد يعرفهم صفاته ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه، وكيف يرجون منه الرحمة ويخشون عذابه ويسألونه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة1.
وله الكبرياء في السموات والأرض:
إنه صوت التحميد والتمجيد ينطلق معلنا ربوبية الله وحده في هذا الوجود سمائه وأرضه، إنسه وجنه، طيره ووحشه، علويه وسفليه، نباته وجماده وسائر ما فيه ومن فيه فكلهم في رعاية رب
1 في ظلال القرآن ج24 ص54-55.
2 الآية رقم 43 من سورة الأنبياء.