الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة: تربية قيادات تعمل معه.
القاعدة الخامسة: عرض الدعوة عرضا واضحا.
القاعدة السادسة: إحداث استقطاب كامل حول الدعوة.
القاعدة السابعة: السلوك المطابق للدعوة.
القاعدة الثامنة: الصبر والتحمل حتى تظهر حقيقة الهدف من الدعوة.
أولا: ثقة الداعية
الحديث عن ثقة الداعية هنا، يشتمل على عنصرين:
العنصر الأول: ثقة الداعية في نفسه.
العنصر الثاني: ثقة المجتمع في الداعية.
أما فيما يتعلق بثقة الداعية في نفسه، فقد عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أصدق تعبير:
"والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته"1.
إن الجو الذي قيلت فيه هذه الجملة المنهجية جو الكثرة العاتية التي تهجم بكلكلها على النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لا تساوي في وزنها الاجتماعي ثقل المجتمع
1 سيرة ابن هشام ج1 ص266. الكامل في التاريخ ج2 ص64 الحلبية ج1 ص323.
الميكأكئ عليه بالخيل والرجال والرأي والحفيظة لما أمكن أن يضع هذا المعيار الخالد الذي يصور المستوى السامق في عزة النفس والثقة بالله وبالإسلام وبما يدعو إليه مما ينبغي أن يتسلح به الداعية.
لقد كانت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه كداعية أسلم وجهه لله وهو محسن تفوق قدرة البشر حتى ولو تقدموا علميا أو تكنولوجيا واستطاعوا أن يخلعوا قرص الشمس من فلكها وينتزعوا القمر من هالته وحاولوا أن يقنعوه فيما بعد لو صح لهم أن يضعوا هذه الشمس المخلوعة من فلكها في يمينه، وهذا القمر المنتزع من هالته في يسراه، ما قبل وما وثق وما رضي ولاستمر على دعوته لأنها أحق مما وصلوا إليه لو كانوا يقدرون.
والرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يحدد مستوى الثقة بالنفس للداعية الإسلامي الذي يضطلع بأعباء العمل للدعوة الإسلامية، وفي نفس الوقت يشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا المستوى من الثقة بالنفس خاصا بالداعية الإسلامي، لأنه مستند في ثقته بالنفس إلى الإيمان بالله العلي الكبير {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1.
لقد كانت ثقة الأنبياء ولم تكن ثقة الزعماء. إن ثقة الأنبياء رحمة وحنان وثقة الزعماء قسوة وطغيان.
1 من الآية رقم 8 من سورة "المنافقون".
ولله در المناجي:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:
{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، ولو دعوت علينا لهلكنا من عند آخرنا فقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، وقلت: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون1.
إنها ثقة الذي نعتته السماء:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} 2.
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} 4.
وأما ثقة المجتمع بالداعية فقد أجمع الناس طرافي مكة المكرمة على أن يفردوه وحده بلقب الأمين، وعادة المجتمع الجاهلي فارغة من الألقاب خالية من تقاليد النياشين، لقد كانت الفروسية وأمارة الشعر تنتزع انتزاعا من ساحات الوغى وأسواق القريض ومعارض الفكر.
1 الشفاء شرح علي القاري ج1 ص250.
2 الآية رقم 4 من سورة القلم.
3 من الآية رقم 128 من سورة التوبة.
4 الآية رقم 107 من سورة الأنبياء.
ولكن الأمانة لم يكن لها سوق ولا معرض ولا ساحة.
غير أن ثقة المجتمع في أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ألزمت المجتمع أن يحمي هذه الشخصية الفريدة فيه فأجمعوا على أن يلقبوه "بالأمين".
يقول ابن هشام:
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين1 وعبارة زاد المعاد تضفي على أبعاد هذه الأمانة أنوارا تبرز قسماتها.
وأما الأمين: فهو أحق العالمين بهذا الاسم فهو أمين الله على وحيه ودينه وهو أمين من في السماء وأمين من في الأرض ولهذا كانوا يسمونه قبل النبوة بالأمين2.
ولم يكن اسما أو لقبا خاليا من وضعه على محك الأحداث والتجارب فقد اختبرت قريش نفسها في مقدار ما تكنه لهذا الاسم من التقدير والثقة، فلما استحكم الخلاف بينهم عندما تم بناء الكعبة، ووصل الأمر إلى قاب قوسين أو أدنى من الحرب الضروس التي تهلك النسل والحرث وتخرب الديار وتدمر البلاد، ارتضوا أول داخل عليهم ليكون حكما بينهم.
1 سيرة ابن هشام ج1 ص198.
2 زاد المعاد ج1 ص23، راجع الشفاء، شرح نسيم الرياض ج1 ص179.
إنهم ما كانوا يفكرون في شخصية الداخل بقدر ما حملهم النزاع على أن ينتهوا من هذا النزاع الذي شحن الجو بدخان الحرب، ولو كان غير محمد صلى الله عليه وسلم، لاندلعت الفتنة من جديد، وربما قامت الحرب، ولكنها كلمة قالوها وشاء الله أن تكون عليهم حجة إلى يوم القيامة فلما دخل محمد صلى الله عليه وسلم قالوا:
هذا الأمين، رضينا، هذا محمد1
هذا الأمين، قد رضينا بما قضى بيننا2
هذا الأمين، قد رضينا به3
هذا الأمين، رضينا، هذا محمد4
هذا الأمين، رضينا، هذا محمد5
هذا الأمين، وقد رضينا بما قضى بيننا6
هذا الأمين، قد رضينا به فحكموه7
1 ابن هشام ج1 ص197.
2 الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص124.
3 الكامل في التاريخ لابن كثير ج2 ص45.
4 السيرة لابن كثير ج1 ص280.
5 الحلبية ج1 ص172.
6 دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص334.
7 أخبار مكة للأزرقي تحقيق الأستاذ رشدي الصالح ج1 ص164 مطابع دار الثقة بمكة المكرمة ط ثانية 1385.
لقد ابتدءوا بالإشارة إليه باللقب الذي منحوه إياه ثم أعقبوه باسمه الشريف الكريم ثم ارتضوا أي شيء يحكم به بينهم، فقد عرفوه عادلا منصفا لا يداري ولا يماري فأسلموا له القيادة والقيادة، فقالوا: أتاكم الأمين فقاموا له فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم، وأشهدوا التاريخ على أنفسهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم1 قبل البعثة هو الأمين عليهم في مدلهمات الأمور.
ويسجل الشعر العربي هذه الحادثة بانفعالاتها وتوجساتها والخوف من سوء عاقبتها فيقول هبيرة بن أبي وهب المخزومي:
تشاجرت الأحياء في فصل خطة
…
جرت بينهم بالنحس من بعد أسعد
تلاقوا بها بالبغض بعد مودة
…
وأوقد نارا بينهم شر موقد
فلما رأينا الأمر قد جد جده
…
ولم يبق شيء غير سل المهند
رضينا وقلنا العدل أول طالع
…
يجيء من البطحاء من غير موعد
ففاجأنا هذا الأمين محمد
…
فقلنا رضينا بالأمين محمد2
1 من حديث رواه أحمد والحاكم وصححه، راجع الفتح الرباني ج20 ص200.
2 راجع السيرة النبوية لابن هشام تحقيق شلبي، السقا الإبياري ج1 ص197 حاشيته.
وبيت القصيد في هذا الرضا.
أولا: أن أبا أمية بن المغيرة هو الذي اقترح التحكيم لأول داخل، وهو يومئذ أسن قريش كلها.
وقبول رجل مثل هذا له وزنه الاجتماعي والتاريخي.
ثانيا: أن المتخاصمين لم يشذ منهم واحد في قبول التحكيم.
ثالثا: أنهم لم يناقشوا الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديد طرف الثوب لكل وكيل قبيلة.
رابعا: أنه هو وحده الذي رفع الحجر من الثوب أو من ثوبه ووضعه بيده المباركة الشريفة الطاهرة.
صحيح وقع نزاع من رجل شاء أن يعاون الرسول صلى الله عليه وسلم بحجر يشد به الركن عندما نحاه العباس وقدم هو الحجر، ولكنه نزاع بعد الرضا بالتحكيم وتنفيذه وهو نزاع لم يثر شبهة ما حول إجماع الناس على قبولهم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هو نزاع من رجل إبليسي، أو هو إبليس تشبه برجل كما ذهب إلى ذلك ابن1 سعد في الطبقات والأرزقي2 في أخبار مكة.
لقد كانت صيحة أخرس وفعلة شيطان وكانت خرقاء جوفاء لم تحمل في أعقابها أثرا، واستقرت الثقة الكاملة من المجتمع في محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الأمين قد رضينا به.
1 راجع الطبقات الكبرى ج1 ص146.
2 أخبار مكة للأرزقي ج1 ص164.
ويضع الناس أنفسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في بدء الدعوة- على محك الثقة تجاهه لما ناداهم:
"يا بني فهر! يا بني عدي! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا1.
لقد أراد أن يتفق معهم على شرط يكون عليهم حجة قبل أن يبلغهم رسالة الله وقد علموا أنه نبي مرسل وأنه ليكلم من السماء فوضع فرضا من الفروض، لو أنه أخبرهم خبرا خطيرا يهدد مستقبل حياتهم أكانوا مصدقين؟ فأجابوه: نعم، وأجابوها مع دليل يقويها ويؤكدها أجابوه بتاريخه المعروف المشهور الواضح الثابت المستقر عندهم "ماجربنا عليك إلا صدقا".
وتستمر هذه الثقة حتى مع وجود النزاع الحاد والخصومة المستحكمة التي بدءوا بها واستمرءوها.
لقد قال لهم النضر بن الحارث يوما، وهو من أشد المتحمسين لعداء الدعوة وله دور إيجابي في معاندة آيات الوحي الصادق، قال لهم: قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر2
…
إلخ.
1 فتح الباري، ج10 ص119 باب: وأنذر عشيرتك الأقربين. راجع القرآن والنبي، لفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود ص183 وما بعدها، ط. دار الكتب الحديثة.
2 ابن هشام ج1 ص220-300.
ولقد قالها أبو سفيان لهرقل، حين سأله:
هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال له: لا.
قال: فهل يغدر؟
فقال له: لا1.
لقد وقفوا منه موقف الخصم الفاجر، وقلبوا له جميع الاتهامات إلا الكذب والغدر، لقد شهدوا له بالأمانة والصدق، وتأكدوا من سموا أخلاقه، وحتى مع نذالتهم هم في خصومتهم معه كانوا يتركون ودائعهم عنده بعد أن آذوا أصحابه، وحبسوه ثلاثة أعوام في شعب بني هاشم وأرادوا قتله، وكانت مع كل هذه المواقف المتغطرسة في لجاجة الباطل من جانبهم كانوا يتأكدون أنه الأمين الصادق وكانت ودائعهم عنده، وخلف عليا رضي الله عنه في فراشه ليلة الهجرة ليرد ودائعهم إليهم.
يقول ابن هشام:
"أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني، أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم"2.
1 راجع فتح الباري ج1 ص38.
2 ابن هشام ج1 ص485 راجع الرسالة المحمدية للعلامة السيد سليمان الندوي ص72.
وما تنتهي ثقتهم فيه أبدا حتى مع الحروب التي أثاروها على الدعوة بعد الهجرة فما زالوا في قرارة أنفسهم يعتقدون أنه صادق وأنه أمين وأنه على الحق ففي الشفاء للقاضي عياض..
أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا غيري وغيرك، فقال له: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط1.
فيقسم ويؤكد ويثبت الصدق بطريقين: الإيجاب والسلب معا ثم يؤكد ذلك بالتأكيد الأخير "قط".
لقد كانت ثقة المجتمع في الداعية مبنية على وضوح في سلوكه ومعرفة تامة بأخلاقه ومعاملة مستمرة تظهر في كل يوم جليل خلقه، ونفيس صدقه، وعظيم وفاته، ورفيع محبته للناس جميعا.
ولقد كانت ثقة الداعية بنفسه قائمة على ثقته بربه، وثقته بالحق الذي يدعو إليه وثقته بنصر الله.
وتلك هي التي تعوز جميع قادة العمل الاجتماعي في العصر الحديث، وتلك التي امتازت بها نظم العمل مع الجماعة في منهج الدعوة الإسلامية منذ ذلك الفجر البعيد2.
1 الشفاء شرح علي القاري ج1 ص181 الدرر ص92.
2 راجع اكتساب ثقة الأهالي في كتاب مبادئ تنمية وتنظيم المجتمع دكتور عبد المنعم شوقي ص91 مع ملاحظة أنه ليس في قصدي ربط مقارنة بين عمل البشر ووحي السماء.