الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي تجري به السموات والأرض. إن الله هو الفعال لما يريد، وهم خلق من خلقه يتصرف فيهم وفق ما يريد تصرفه وتدبيره وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت.
وله المثل الأعلى في السموات والأرض فهو سبحانه المنفرد بالتدبير والتصرف في الملك، ومنفرد بصفاته الحسنى لا يشاركه فيها أحد وليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم القاهر المدبر بالحكمة والتقدير الرحيم1.
1 راجع في ظلال القرآن ج21 ص34-40.
رابعا: بعث الوجدان الفطري
وبعد هذه الاستفاضة الواسعة الفسيحة في أرجاء الكون وأعماق النفس وإبراز صفات الله بشتى أنواع الأدلة المحسوسة بالعين والمشاهدة بالبصيرة، والمدركة بالمشاعر:
أدلة الخلق.
وأدلة الترابط والقصد.
وأدلة العناية والتدبير.
التي توصل العقل السليم إلى الإيمان بوحدانية الخالق وكمال صفاته الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد واستحقاقه وحده جل شأنه العبادة من البشر، بعد هذه الاستفاضة يعرج القرآن الكريم بالقوم بمعاندي الدعوة على نوع خاص من الأدلة هي بعث المشاعر والعواطف.
يهدهد على عواطفهم تارة بكل ملطف ومنبه يمس شغاف قلوبهم باليد الرحيمة الرفيقة الودودة المنعمة لعلهم يستيقظون.
فلما لم يستجيبوا لنداء المودة والإحسان يجذبهم من نواصيهم جذبا مروعا ويشهدهم عاقبة المكذبين من قبل ويصور لهم الضنك والضيق يوم المحشر وأهوال يوم القيامة تلك اللحظات التي لا يملكون فيها شيئا ولو أنفقوا ما في الأرض جميا ما تقبل منهم ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
وكثيرا ما تتغير النفوس بالقسر وقليلا ما تلين بالمعروف فزاوج القرآن بينهما؛ فالعبد يقرع بالعصى والحر تكفيه المقالة. ولقد كانت غاية القرآن الكريم في هذه المحاولة هي اطلاع المعاندين على الحق من كل زاوية وبكل وسيلة حتى لا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكفى بالله حسيبا وكفى بالله شهيدا.
والقرآن في هذه الجولة من التدليل على وحدانية الله وصفاته الحسنى يقدم لنا نموذجين:
الأول: إقناع الوجدان بالترغيب أو بالترهيب.
الثاني: إقناع الوجدان بالتجارب التاريخية للسالفين من الأمم الكافرة.
النموذج الأول: من آلاء الله؟
قال تعالى:
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.
كان التدين الجاهلي قد عمد إلى بعض الزروع والأنعام فعزلها وقصرها على الآلهة وادعوا أن الله الخالق هو الذي حرم ذلك. فتأتي الآيات هنا لتصحيح فكرتين.
الأولى: أن خالق هذه الجنات بنوعيها هو الله وحده:
الجنات المعروشات التي ذللها الله للإنسان فنظمها وعرشها وتعهدها بالعرائس والحوائط.
والغابات البريات التي نمت بقدرة الله دون تدخل من الإنسان وهي تحمل من الخيرات والجمال والفن ما لا تقدر عليه رعاية البشر في جناتهم المعروشات، وتلك واحدة من عالمية الدعوة.
1 الآيات من رقم 141-144 من سورة الأنعام.
إذ تصف نوعا خاصا من الغابات لم يعهده العرب ولم يروه وهو هنا في جنوب شرقي آسيا في أندونيسيا والهند الصينية والفلبين وماليزيا آيات بينات على قدرة الصانع وجلال سلطانه.
والقرآن يسوق هذه الجنات بنوعيها لإقامة الدليل على وحدانية الله الذي خلق وأظهر تلك الجنات دون شريك له بأي وجه من الوجوه1 وهو دليل يحسه الفرد بمشاعره ووجدانه ويشعر به في نعم الله وهي تحيط به بما هيأه له من الذكاء والقدرة على العمل وبما سخره له من الشجر والأرض والماء والسحاب ليصنع له {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} .
وما أحاطه به من جنات برية يعجز بقدرته البشرية عن غرسها وسقيها ورعايتها وسبحان الله العظيم فالذي يلاحظ الناس هنا في جنوب شرقي آسيا وهي في ظلال الغابات التي يتساقط عليهم من ثمراتها، عليهم مسحة الكسل والركون إلى الدعة فالمطر ينزله الله من السماء والأرض تنبت ثمارا أشجارها بإذن الله ولا مدخلية للفرد هنا بجهد عظيم أو عادي يذكر.
في حين أن أهل الجنات المعروشات قد حباهم الله من القوة والمناخ ما يسعفهم على التحرك والعمل والزرع والسقي والرعاية فقد علم الله أنهم لن يحصلوا على ثمار جنة معروشة إلا بكد وعرق وجهد فذلل لهم الجو بالمناخ ووهبهم القوة على العمل والسعي.
1 راجع روح المعاني ج8 ص37 تفسير الطبري ج8 ص50 ط ثانية.
إن المنهج القرآني هنا يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ليتخذ منه برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالتسلط والتصرف والحاكمية والعبادة لجلاله وحده فإن الخالق الرازق الكافل هو وحده الحقيق بأن تكون له الربوبية والسلطان والعبادة.
الثانية: أن سلطة التشريع خاصة بالله وحده.
وهنا يحشد السياق في هذه الآيات مشاهد الزرع والثمار.
والأنعام وما فيها من نعم الله ليرد على عنجهية الجاهليين الذين يدعون أن الله حرم هذا وتلك هي الفكرة الثانية التي يريد القرآن أن يصححها في مجال العقيدة فيبرهن على أن الحاكمية والتحليل والتحريم ليس خاضعا لهوى الكهنة والسدنة والرؤساء، وإنما هو خاضع لسلطان الله جل شأنه على لسان نبيه الخاتم.
وهنا يكشف السياق عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه فيستخرج مكامن الأوهام الجاهلية فيلقي ضوءا على ما أودعه الله في الأنعام من آلاء ونعم ليخجل الجاهليون من عقليتهم لو كانوا منصفين1.
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ
…
} الآيات.
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل نعمة الله إليكم وقد خلقها على سننه الكونية ليبقى لكم من نسلها نعم وأفضال ربانية تعيشون بها، من خلقها ومن حرثها؟
1 راجع في ظلال القرآن ج8 ص72، 73.
والجو الصحراوي حيث ينعدم التحرك الاقتصادي يلقي ظلالا واسعة على فهم هذه النعم حيث يجري الواحد منهم خلف ناقته باحثا لها عن مرعى فيدرك معنى السؤال نبئوني بعلم؟
هذه الشئون لا يكفي فيها الظن ولا التخمين فمن أين جاءكم هذا التحريم؟
هل شهدتم وصية من الله لكم خاصة بهذا التحريم؟ فيرتد الوجدان الصادق والعقل المدرك إلى صواب في العقيدة والعبادة؟
لقد ردهم القرآن بهذه الآيات إلى المصدر الحقيقي للحرث والأنعام التي يتنعمون بها ليعبدوه جل شأنه وذلك لصلاح حالهم ودينهم فالله غني عن العباد عبدوا أو جحدوا.
ومع هذا البيان يبدو عرض نعم الله على عباده أخاذا بالنفوس مسيطرا على الوجدان تنفعل له الأسارير رغبا أو رهبا.
ومع هذا الحنان والرفق تأتي حملة السياط التي تلدغ الوجدان بإيقاعاتها ورنينها وأدواتها الهائلة؛ السموات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار؟
يقول الله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ،
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
هنا لا تعرض قضية التوحيد عرضا فلسفيا ميتا فيزيقيا جافا ميتا إنما نعرضها الآيات في المجال الحركي المؤثر الموحي بالواقعية المشاهدة في الكون ولمسات الفطرة وبديهيات الإدراك مع جمال العرض واتساق النظم البديع.
كل هذه الأكوان: السموات والأرض والماء الذي ينزله الله من السماء والثمرات التي ينبتها الله والفلك التي سخرها الله في البحر وسخر البحر ليحملها وسخر الأنهار تأكلون منها لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها.
والشمس والقمر والليل والنهار وكل نعم الله التي لا تحصى كل هذا سخر للإنسان؟ فكل هذا الكون الهائل سخر لهذا المخلوق الصغير.
وبعد ذلك أيجعلون لله أندادا؟
الخلقية العربية التي تعرف احترام الجميل وذكر المعروف تنكر هذه الآلاء التي منحها الله بلا حساب؟ وتقابلها بالجحود والنكران؟
الإنسان كمخلوق الله يعجز عن إدارة شئون حياته ما لم تدركه رحمة الله وفضله ويحس هذا في كيانه وظروف معيشته أيقابل نعم الله بالكفر والإشراك؟
1 الآيات من رقم: 32- 34 من سورة إبراهيم.
هنا يستيقظ عقل خاص فيتطلع إلى الكون حوله فيراه مسخرا له:
إما بقدرته المباشرة حيث ذلل الله لها الأرض، أو بالنواميس التي أودعها الله في الكون وتكفلت بسد حاجات البشر ثم يتدبر فيراه في رحمة الله مغموسا.
لا يستطيع الخروج منها إلا إلى الموت وهنا يرتجف فؤاده ويخشع ويسجد لله شاكرا مسلما حنيفا إن كان من العاقلين1.
وهكذا يقلب القرآن قلوب البشر بين رغبة ورهبة كأنما يهدهد تارة ويؤخر أخرى ليستثير فيهم آصرة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ليؤمنوا بالله وحده ويعظموه فيردهم إلى مثل صغير من حياتهم تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم وهو مثل يقع في كل لحظة من ليل أو نهار.
كل عالم وباحث ومفكر وفيلسوف وأديب وطبيب وصانع ماهر يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا صغيرا أو كبيرا أو أدنى من ذلك، فما اكتسبه من خبرات أو علم أو فن بعد ذلك، فإنما هو هبة من نعم الله التي ينعم بها على البشر بالقدر الذي أراده لهم وخلقهم له، وركب فيهم من المدارك والقدرات والذكاء، وجعل لهم بهذا القدر كفاية
1 راجع في ظلال القرآن ج13 ص166، 169.
الحياة على هذه الأرض لعلهم يدركون قيمة هذه النعمة فيعبدون الله وحده ولا يشركون به أحدًا.
فينبههم القرآن الكريم بلطفه اللطيف وكأنه يربت على عقولهم وعواطفهم، بل كأنه يفتح لهم جفون أعينهم ويمسك بأيديهم إلى الدلائل فيقول لهم في استفهام شامل لكل المعاني:
وهو مشهد مكرر مألوف، ولكن القرآن هنا ينبههم إلى عجيبة من آثار القدرة الآلهية التي لا يتدبرونها.
فمن الذي يمسك الطير في جو السماء؟
إنها النواميس الإلهية التي أودعها الله فطرة الطير وفطرة الكون، إنها نعمة الله التي وهبها للطير أن يطير وللجو أن يناسب طيرانه.
فالقلب المدرك لهذه العجيبة المكررة يوميا يراها في كل يوم آية على وحدانية الخالق المتصرف في هذا الملكوت المنعم على خلائقه كلها بجليل النعم.
1 الآية رقم 105 من سورة يوسف.
2 الآية رقم 79 من سورة النحل.
وهنا يهتز القلب وتقشعر جلود الذين يخشون ربهم.
ويتسلل القرآن إلى المشاعر الإنسانية في كل مستوياتها فينقل الوجدان إلى إدراك أسرار الخلق وآثار نعم الله ومظاهر آلائه على الناس في البيوت، وسيان أصحاب الصحراء القاحلة أو أصحاب الغابات المتكاثفة فإنهم يحسون بقيمة البيوت حيث هي المأوى من الحر والبرد والمطر والرياح فتخطوا الآيات إلى النفوس من باب البيت والسكن لتريهم أي آيات الله ينكرون؟
الطمأنينة في البيوت نعمة يعرفها الآن المشردون من أوطانهم في الشرق الإسلامي خاصة، اللاجئون من أبناء فلسطين الحبيبة وأبناء باكستان الشرقية كما يعرف هذه النعمة المشردون في فتنام وكمبوجا، والعربي القديم يدركها والرجل المعاصر في الغابات اليوم يدركها، والمسافرون عندما تحل بهم آلام السفر يدركونها كذلك هي نعمة يحس بها الإنسان في أي عصر وفي أي مكان، ولكن مفهوم الحاجة إلى السكن
1 الآيتان: 80، 81 من سورة النحل.
الذي يستجيش به القرآن أسارير البشر هي الحاجة إلى الراحة والاطمئنان والأمن والسلام والحاجة إلى حرمة البيت والحفاظ على أسراره وتلك قد ضمنها الله بالشرع وبالحياء الخلقي الذي أودعه في نفس الإنسان.
وتستمر الآيات في تصوير منح الله للإنسان في نعمة البيت حيث مهد له في الجبال بيوتا وعلمه وسخر له جلود الأنعام ليتخذ منها بيوتا في الظعن وفي الإقامة وفي ثنايا هذه النعمة، ذكرهم بأن الأنعام لها فائدة أخرى، تتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين فتتناسق في الفؤاد نعمتا السكن والأثاث والثياب وكلها من حاجات الإنسان الضرورية له في الحياة.
إنها نعم نأخذ بوجدان الإنسان إلى الشعور بنعمة الطمأنينة والراحة والشعور بها يؤدي إلى الشعور بالاستسلام والراحة والركون إلى خالقها والمنعم بها وفاء وشكرا واعترافا بالجميل {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} .
ولكن الإلف والعادة منعتهم من الإسلام ومنعتهم كذلك من اليقظة فيكرر القرآن لهم النداء والدعوة ويسألهم:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ،
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.
الناس يشتاقون بالطبع إلى مشرق الصبح حين يطول بهم ليل الشتاء ويحنون إلى ضياء الشمس بالحاجة عندما تتوارى عنهم فترات وراء مزن السحاب.
فكيف فقدوا الضياء فكان الليل عليهم سرمدا إلى يوم القيامة؟ أما العلم الحديث فيجيب:
إن الشمس هي مصدر كل حياة وحرارتها تبلغ 12.000 فارنهايت مسطحا، وموقع الكرة الأرضية في بعد عنها يكفي لأن تمدنا هذه الحرارة بالدفء الكافي، ومسافة الأرض من الشمس ثابتة بشكل عجيب ولو أن درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل 50 درجة في سنة واحدة، فإن كل نبت يموت والإنسان يموت حرقا أو تجمدا والكرة الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة فلو تغيرت هذه الزاوية لحدثت أضرار عدة منها:
1-
يكون القطبان في حالة غسق دائم.
2-
يصير البخار المنبعث من المحيطات مكدسا في الشمال والجنوب فقط صانعا قارات من الجليد، وقد يترك صحراء بين خط الاستواء والثلج.
3-
تغطي قاعات المحيط بطبقات من الملح لتكون مصبا لمنبع أنهار من صحراء خط الاستواء فتحدث ملاحات من الملح.
1 الآيات من رقم 71-73 من سورة القصص.
4-
ويؤثر ذلك في ثقل الكتلة على القطبين فيؤدي إلى فرطحة خط الاستواء أو فورانه.
5-
ويقل المطر في كافة أرجاء العالم1.
والناس بالطبع كذلك يحنون إلى الليل حين يطول النهار في فصل الصيف، ويجدون في ظلام الليل وسكونه راحة وسباتا، وكل ما في الكون من حي يحتاج إلى هذه الراحة وذلك السبات فكيف بالناس لو كان النهار عليهم سرمدا إلى يوم القيامة؟ يجيب العلم:
أ- لو زادت سرعة دوران الأرض حول نفسها أو قلت لأصبح طول النهار 120 عشرين ساعة ومائة ساعة فاحترق الزرع واختل ميزان العمل في النهار والراحة والنوم في الليل2.
إن رحمة الله جعلت الليل سكنا والنهار معاشا وجعل ذلك قانونا مسنونا لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
لقد هدهد القرآن على مشاعرهم وآنس قلوبهم وأيقظ فطرتهم وحشد لهم رصيدا من العلم واليقين لعلهم يهتدون.
ب- من نقم الله:
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ،
1 العلم يدعو للإيمان ص53، 54 كريس موريسون، راجع كتاب قصة الإيمان لفضيلة الشيخ نديم الجسر ص322، 323.
2 قصة الإيمان ص320، العلم يدعو للإيمان ص53.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 1.
هنا نرى القرآن الكريم يحاكم المعاندين إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية وتلجأ إليها في ساعة الشدة والحرج والضيق ويرسم لهم في مشهد قصير سريع مشاعرهم أمام رؤية الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائض فلا يتوجهون ساعتها إلى صنم ولا إلى كوكب ولا ملك وإنما يتوجهون إلى الله الذي تعرفه فطرتهم إلها خالقا بيده الأمر وإليه المصير وهو على كل شيء قدير.
إن تصور الخطر وتذكر الهول يردان النفوس الجامحة ويرققان القلوب الفظة ويذكر أن النفس عند لحظة الضعف بالإنابة إلى الله واللجوء إلى سلطانه.
وهي تجربة يعرفها كل من وقع في ضيق ومرات ضيق الإنسان كثيرة ومتعددة في ظلمات البر والبحر، وعندها تتعرى للإنسان حقيقة آلهته التي يعبدها من دون الله ويجدها خلوا من كل حول ولا يرى لنفسه نجاة إلا بالتضرع إلى الله دون شريك معه ولكنهم بعد هذا يشركون2.
1 الآيات من رقم63-65 من سورة الأنعام.
2 في ظلال القرآن ج7 ص266.
بعد ما شاهدوا هذه النعم الجليلة وخلاصهم من الكرب والضيق يعودون إلى نكسة الشرك والضلال فلا يوفون بالعهد ولا يحترمون ما كان منهم من إقرار1.
قد يقدر الوهم للجاهليين أن يدفعوا عنهم العذاب إذا جاءهم من اليمين أو من الشمال فصورت لهم الآية الكريمة أن عذاب الله إذا جاء لا دافع له إنه عذاب غامر من فوق ومن تحت كل فوق سواء ساروا يمينا أو شمالا، وكل تحت سواء هربوا يمينا أو شمالا فهو عذاب غامر للفوقية والتحتية بكل جهاتها فلا مقاومة ولا دفاع ولات حين مناص.
النموذج الثاني: من أحداث التاريخ
وقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ،
1 روح المعاني ج7 ص178، 179.
هي وحدة الدعوة ووحدة الطريق والغاية وباختصار يصور القرآن تكذيبهم للرسل ثم أخذهم بالهلاك والتدمير على سنة الله في أخذ للمكذبين.
لقد أخذوا برجفة زلزلت عليهم بلادهم إثر صيحة مدوية أسقطت قلوبهم في أكعابهم، لقد جاءتهم الصيحة من فوق وجاءهم الزلزال والرجفة من تحت فما كان لهم من ناصري، وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه شديد.
لقد أخذ عادا حاصب وهي ريح صرصر عاتية وتطايرت معه حصباء الأرض فقتلهم فكانوا كأعجاز نخل خاوية.
وثمود أخذتهم صيحة فأهلكوا بالطاغية.
وقارون خسف به وبداره الأرض.
وفرعون وهامان غرقا في اليم وجنودهما.
1 الآيات رقم 36-40 من سورة العنكبوت.
تلك هي مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدى القرون فما أغنى عنهم ما كانوا يشركون، فإلى أين تذهبون أيها المعاندون؟
إنه تصوير دقيق وعجيب لحقيقة القوى في هذا الوجود التي يسيء كثير من الناس تقديرهم لها وتختل في أيديهم موازينها فلا يعرفون إلى أين يذهبون أو إلى أين يتجهون وعند الحيرة والاضطراب تخدعهم قوة السلطان أو الحكم أو التقاليد والعادات فيحسبونها هي القوى التي تعمل في هذه الأرض فيتوجهون إليها جهلا.
قد تخدعهم سلطة الحكم أو المال أو العلم إن في يد الفرد أو في يد الجماعة فيضلون وذلك هو الداء الذي يجعل الناس في جاهلية سوداء وينسون الاتجاه إلى الله الحق فليس هناك سواء من يحمي وينفع أو يضر، يميت ويحيي، إن كل ما عداه مما يشركون به كحشرة العنكبوت وكل ما لديهم من قوة فهي قوى خيط العنكبوت2، وسوف يعلمون.
ويكشف القرآن الكريم عن فطرة الإنسان وقد غسلتها المحن فلجأت إلى الله وعن وحدة الموقف من المعاندين دائما وعن سنة الله في محق هؤلاء الجبارين المشركين.
{فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ،
1 الآية رقم 41 من سورة العنكبوت.
2 في ظلال القرآن ج20 ص129-130.
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} 1.
إنه نموذج مكرر للإنسان في كل عصر إذا فسدت فطرته وضلت واتبع شيطانه واغتر بدنياه هنا يأتي الضر ليغسل الفطرة من ركام الهوى والشهوة وينقيها من العوامل الوراثية المصطنعة التي تحجبها عن الحق الكامن في خلاياها.
إن القرآن يكشف عن سر الابتلاء بالنعم فهي امتحان ليميز الله خبيث النفوس من طيبها، وينبههم إلى الخطر ويحذرهم من الفتنة حتى لا تكون للناس حجة ولا عذر بعد هذا البيان.
ويعرض القرآن هذه المقالة في جوها العام كفلسفة للمشركين دائما في كل عصر قد قالها الذين من قبلهم هي هي الكلمة: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} قالها قارون ويقولها كل قارون في المستقبل ولكن النهاية التي يحذر منها القرآن هي {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
لقد اختلت موازينهم وفسدت معايير الحياة التي يتعايشون عليها فضلوا طريق الحق فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون2.
ويكشف القرآن في آيات أخرى عن طبيعة هذا اللسان إذا مسه الضر وأحاطته المصائب فيلجأ إلى ربه ويتعرف عليه.
1 الآيتان رقم 49، 50 من سورة الزمر.
2 راجع في ظلال القرآن ج 24 ص 38، 39.
لا يذكر الإنسان ربه إلا في ساعة العسرة والحرج ولا يثوب إلى فطرته إلا في ساعة الكرب وقد كشف البلاء عن بصيرته وعرت المحن فطرته فإذا أمن نسي وطغى إلا من رحم ربك.
لقد فعلها قوم فرعون مع موسى.
فعاقبهم الله:
1 الآيتان 22، 23 من سورة يونس.
2 الآيتان 134، 135 من سورة الأعراف.
3 الآية رقم 136 من سورة الأعراف.
وكذلك فعلت قريش:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.
قال ابن مسعود فيها: لما أبطأت قريش عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، ودعوا الله جل شأنه وتعرفوا عليه وابتهلوا إليه، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، قال ابن مسعود فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم2.
وهكذا يدمدم عليهم القرآن الكريم ويقسو ويرهب ويتوعد لعل في هذا الأسلوب رادعة لغلو بعد أن ألان القول. وأطال في الأدلة ولون الخطاب.
لقد ذكر لهم القرآن الكريم أنواعا من نعم الله تشعر بها النفس وتحتاج إليها أعضاء الجسم.
وعرض عليهم مقالات المعاندين ونبههم إلى وحدة المصير وكشف لهم قرى النفس وطول الإنسان وسلطان الله وكيف أخذ بالسنين والنقص في الأموال والأولاد وخسف الأرض، ودمر بالصيحة والزلازل أقواما قالوا مقالة قريش فما أغنت عنهم آلهتهم من دونه من شيء وارتدوا على أدبارهم خاسرين.
1 الآيتان: 10، 11 من سورة الدخان.
2 ابن كثير ج4 ص138 راجع تثبيت دلائل النبوة ج1 ص82.
هكذا يجيش القرآن الكريم أنواع الأدلة.
أدلة تهدي العقل المستنير.
أدلة تجذب البصيرة المعافاة من أمراض التقليد.
أدلة تطهر النفس الخبيثة وترجعها إلى حظيرة الفطرة والإيمان حتى لا تكون للناس حجة ولا تكون بعد البيان معذرة فإذا ما جحد الناس وضلوا وأصروا على هذه الضلالة وعادوا الدعوة وخاصموها كان لها بعد ذلك مندوحة في منهج جديد.