المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

وما أحوج الدعوة الإسلامية في العصر الحديث إلى هذا المستوى من العمل ينجذب إليها الناس كافة، إذ يسمعون عنها سلوكا مطبقا ووجودا عيانا فيه الخلاص والطمأنينة والأنس والسعادة، تعلو فيه أسماء الله الحسنى، وتخضع فيه النفوس كلها لجلال الله العظيم.

ص: 245

‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

"أفرغت يا أبا الوليد؟ ".

بهذا الأدب الجم واستعمال الكنية في مخاطبة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وبنداء رخي هادئ يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عتبة مجيبا عليه بعد أن تحدث طويلا، وأفرط في الحديث، وذكر كلاما يثير الحليم ويهيج العفيف ويغضب الحر. لقد تحدث عتبة بكلام بذيء غير موقر، لقد عرض فيما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم:

"أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وأخذا.

وإن كان إنما بك من الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا"1.

هذا عرض رجل جاهل لا يعرف أقدار الناس، ولا منازل الرجال، فقد عرفت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم في شبابه أعف الرجال

1 الروض الأنف ج3 ص149، الخصائص الكبرى ج1 ص283، الوفا بأحوال المصطفى ج1 ص201.

ص: 245

نفسا وأطهرهم قلبا وأنقاهم خاطرا وما هفا هفوة صغيرة، فقد عصمه الله، وكان هو الأمين وحده دون سائر شباب قريش وشيوخها أجمعين.

لقد كان أرضاهم وهو صغير، فماذا حدث لعقولهم بعد أن جاءهم بالروح الأمين؟

مقالة شنعاء، وقحة، بذيئة، جافية، جامدة، عمياء، قالها عتبة بن ربيعة ويستحق في مقابلها ردا مساويا لها جفوة وقسوة وإيلاما، ولكن الداعية الأول صلى الله عليه وسلم يقدم في رده برهانا على أنه لا يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه.

لقد أبرز النبي صلى الله عليه وسلم مبادئ الدعوة في رده "أفرغت يا أبا الوليد" في هدوء هادئ، واتزان رزين، وصفح كريم، وعفو صادق.

يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا بها أن مبدأ العمل مع الجماعة في نظر الدعوة هو مطابقة سلوك الداعية إلى المبادئ الإسلامية، فتلا عليه القرآن حتى وصل إلى قوله تعالى:

{فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} .

فأمسك عتبة بفم رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من نزولها، فإنه يعلم أن محمدا لصادق، وأنه ما كذب أبدا، فبات ذلك في التاريخ شهادة عليه، وأن ساعة أن عرض ما عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم كان غير كريم السجية، وغير صادق في مسعاه، وأن رد النبي صلى الله عليه وسلم بات في سجلات التاريخ

ص: 246

شهادة رائعة الدلالة على أن الإسلام ما يرجو للبشرية إلا خيرا يحقق لها السعادة والأمن والتكريم1.

ولم يكن ذلك الحلم مرة واحدة لقد كان منهجا في أسلوب العمل للدعوة، لقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وهي دعوة صريحة في احترام الإنسان نفسه وتوقيره لذاته أن يتوجه بالعبادة إلى الله الحق الذي يملك السموات والأرض، وترفع الإنسان عن الانحطاط الذي يزاوله بالسجود إلى حجر أو خشب صنعه بيده، ثم هو لا يملك لنفسه قطميرا من خير أو شر، وهي دعوة تتفق مع العقل العادي الذي يفكر تفكيرا عاديا مستقيما، وكذلك هي دعوة إلى الحق فيما كان عليه الآباء الأطهار سالفا قبل الانحراف الذي جره عمرو بن لحي2، ولكن القوم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة شنيعة قاسية لا تتفق مع الواجبات الأخلاقية لضيف أو قريب أو عابر سبيل.

لقد سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم، فجعلوا يسبونه، ويصيحون به، ويرضخونه بالحجارة حتى أدموا رجليه، وهم يضحكون.

السلوك العادي هنا أن تنفجر النفس غيظا وحنقا، وأن يود الإنسان أن لو كان معه قوة السماء والأرض لينتصر لنفسه من هذه الأهزوءة

1 راجع القصة في السيرة لابن هشام ج1 ص295، السيرة لابن كثير ج1 ص504، 505، المواهب اللدنية ج1 ص256، السيرة الحلبية ج1 ص239، الوفا ج1 ص201، الخصائص الكبرى ج1 ص283، 284.

2 الحلبية ج1 ص11.

ص: 247

التي فعلها قوم ثقيف، وتأتي قوة السماء بجنودها وتستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تطبق الأخشبين على قوم ثقيف، وهذه القوة إذ تأتي إنما تأتي في لحظة حرارة النفس والموقف ما زال ملتهبا، وتأتي وهي تقص عليه الوقائع التي حدثت كأنما تعلل مجيئها بإقامة العدل.

إن الله قد سمع قول قومك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.

ويقول ملك الجبال للنبي صلى الله عليه وسلم:

أنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين1.

ولكن الإسلام دعوة لصلاح الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهل تبقى المبادئ الإسلامية نظرية فقط؟ هنا يأتي دور التطبيق فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:

"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا"2. ويصفح رسول الله الصفح الجميل ويدعو دعاء

1 هما جبلان تارة يضافان لمكة وتارة يضافان لمنى، فيقال: أخشبا مكة وأخشبا منى، وهما أبو قيس وقعيقعان "بالتصغير" ويسميان أيضا الجبجبان. راجع الشفا شرح نسيم الرياض ج2 ص82.

2 الشفا ج2 ص82 الدرر ص67، 68، الحلبية ج1 ص395-396، السيرة لابن كثير ج2 ص152، المواهب اللدنية ج1 ص298، الخصائص الكبرى ج1 ص452، مسلم ج3 ص1450، 1451.

ص: 248

نديا رخيا أخاذا بالنفس، والمشاعر والوجدان يعلم الداعية في كل زمن كيف يكظم غيظه، ويعفو عن قومه ويدعو ربه:

"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"1.

وحق لملك الجبال أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت كما سماك ربك رءوف رحيم2.

وصدق صاحب الهمزية:

جهلت قومه عليه فأغضى

وأخو الحلم دأبه الإغضاء

وسع العالمين علما وحلما

فهو بحر لم تعيه الأعياء

ولم يكن ذلك في مكة فقط، وهي موضوع الحديث والدراسة، بل إن هذا المنهج استمر مع الدعوة في كل ظروفها يخلصها لله، ويجعل

1 السيرة لابن هشام ج1 ص420، تاريخ الطبري ج2 ص345.

2 الحلبية ج1 ص396.

ص: 249

كل حركة فيها ابتغاء وجه الله، ويبرهن في كل مصيبة يأتي بها الأعداء أن الدعوة ما تقصد إلا تكريمهم وتوقيرهم وإعزازهم واحترامهم، ففي الشفا:

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت الله عليهم.

فقال عليه الصلاة والسلام:

"إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون"1.

إنهم حقا لا يعلمون طريق الحق فما زالوا في غواية النفس، ولا يعرفون قدر النبي صلى الله عليه وسلم فما زالوا في حجاب من الجاهلية الأولى ولا يعرفون حقيقة الإسلام فقد طمسوا قلوبهم بثقافة الأجداد، وجعلوا على سمعهم ختما، وران على قلوبهم ما كان به يأفكون.

لقد كان السلوك المطابق هو منهج العمل مع الجماعة الذي كان يوصي به رسول الله صلى الله عليه وسلم القيادة التي تحمل معه في حقل الدعوة الإسلامية مسئولية العمل، لما أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي وعاد إليه قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأبطئوا عليه، فأنف الطفيل منهم ذلك الإبطاء، فهو رجل وجيه في قومه وإنه للبيب ذكي مشهور بالألمعية

1 الشفا ج1 ص14.

ص: 250

والفطنة والرجاحة، وما كان يظن أن قومه يلبثون مليا إذا دعاهم إلى الإسلام حتى يجيبوا داعي الله، فلما أبطئوا عليه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقال له: يا رسول الله! إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم.

لقد ضاقت نفس الداعية، ونفد صبره، وكره من قومه الاستمرار في الضلالة والانحراف، ولكنه هو ذاتيا واثق من دعوته ومبادئه، فاستعان برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله عليهم ليهلكهم.

ولكنه منطق لا يتفق مع عالمية الإسلام واستمراره إلى يوم القيامة، فليس بعد الإسلام دين آخر، حتى يهلك هؤلاء، ثم يأتي قوم آخرون، ولهم نبي آخر كما فعل بأشياع الكافرين في الغابر.

إنه دين خاتم ورسالة سرمدية إلى يوم القيامة، ومنهج يربي ويسوس ويبني لخير الإنسانية كلها.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"اللهم اهد دوسا".

ثم قال للطفيل:

"ارجع إلى قومك، فادعهم، وارفق بهم"1.

1 السيرة لابن كثير ج2 ص74، الحلبية ج1 ص403، 404، الروض الأنف ج3 ص378، الروض الأنف ج3 ص317، الوفا ج12 ص206.

ص: 251

لقد كان الخلق الفاضل والمؤانسة والوداد والصفح هي أسلوب العمل مع معاندي الدعوة حتى تبرز معالم الإسلام وحقائقه وأفضاله؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم دائما ودودا، رءوفا صفوحا، وكان لا ينادي الواحد من أعداء الدعوة إلا بالكنية المؤدبة والاسم اللطيف.

ففي الخصائص الكبرى، عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: "يا أبا الحكم! هلمّ إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله

".

إن سلطة محمد في قومه معروفة، ومكانته مشهورة، ومركزه وحده فريد في القوم، وأبو جهل واحد من كبار أعداء الله ورسالته، ولكن أسلوب التعامل هنا هو أن يظهر الداعية أخلاقيات الدعوة عمليا، فيناديه الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام:"يا أبا الحكم! " 1، إن اسمه المشهور به: عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخ الوليد بن المغيرة2 من أسرة تعادي الله ورسوله وجماعة المسلمين، ولكن الداعية الأول صلى الله عليه وسلم يبسط إليه القول في لين وسماحة ومودة كسلوك عملي لمحاسن الإسلام، وتطبيق وجودي لأخلاقياته حتى يظهر للخصم أن المعركة ليست أنانية، وإنما هي لخير الخصم نفسه أن يثوب إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بعديد الآلاء.

1 الخصائص الكبرى ج1 ص286.

2 الخصائص الكبرى ج1 ص280 تعليق.

ص: 252

ولذا فما كانت تحمل نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألما لواحد من المجابهين للدعوة العتاة القساة في تصرفاتهم نحو المسلمين الأول، فلقد كان يدعو ربه أن يعز الإسلام بأحد الرجلين اللذين أطنبا في السخرية بالإسلام والمسلمين، ففي الدلائل للبيهقي:

"اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك"1.

قال في الخصائص رواية عن الطبراني: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية الخميس فقال:

"اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". فأصبح عمر يوم الجمعة فأسلم2.

ولقد كان عقبة بن أبي معيط من كبار المستهزئين بالإسلام وبالمسلمين وكان كثير الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه صلى الله عليه وسلم:

"كنت بين شر جارين أبي لهب وعتبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي".

ومع هذا فإن صاحب الحلبية يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من مجالسة عقبة بن أبي معيط3، ليدعوه إلى الإسلام.

1 الدلائل للبيهقي ج2 ص3، راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص267.

2 الخصائص الكبرى ج1 ص333، راجع الحلبية ج1 ص367، المواهب ج1 ص272.

3 الحلبية ج1 ص353.

ص: 253

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المستوى الرفيع. تحمل أعباء الرسالة، وكان عمله الكريم نبراسا لمنهجية العمل مع الجماعة في المستقبل، وقد أثبت القرآن الكريم ذلك بقول الله تعالى:

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1.

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 2.

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير} 3.

ولقد وصفه الله جل شأنه بقوله:

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4.

قال ابن كثير في تفسيرها: عن قتادة: سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن5.

1 الآية رقم 112 من سورة هود.

2 الآية رقم 199 من سورة الأعراف.

3 الآية رقم 15 من سورة الشورى.

4 الآية رقم 4 من سورة القلم.

5 تفسير ابن كثير ج4 ص403، راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص364.

ص: 254

يقول شيخنا العارف بالله فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: وحقيقة الأمر أن رسول الله كان في كل ما يأتيه، وكل ما يدعيه قرآنا مطبقا، ومن هنا كان قوله سبحانه وتعالى في بيان ذلك في شأنه صلى الله عليه وسلم:

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 1.

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} .

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} 3.

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} .

كانت تأتيه الدنيا فينفقها وهو جالس، أتى إليه صلوات الله وسلامه عليه سبعون ألف درهم فوضعها، كما يروي هارون بن رباب على حصير، ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها4.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا وأسوة لتطبيق مبادئ الدعوة سلوكيا حتى كانت حقيقة نفسه الشريفة من حقيقة الرسالة، وكانت عظمة نفسه الزكية من عظمة هذه الرسالة.

1 من الآية رقم 15 من سورة يونس.

2 الآية رقم 18 من سورة الجاثية.

3 الآية رقم 37 من سورة الرعد.

4 الإسلام والعقل ص124، 125.

ص: 255

إن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية أبعد من كل مدى يملكه مجهر مكبر بشري، وقصارى ما يملكه راصد لعظمة محمد صلى الله عليه وسلم التي يراها ولا يقدر على تحديدها أنه كان لهذه الرسالة نبيا فلولاه ما كانت لغيره ولو كانت ما كانت إلا له.

إن محمدا صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة إنه وحده الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفحة الله في كيانه هو، هو الذي أعد خاصة لهذه الرسالة الكونية العالمية حتى لتتمثل في شخصيته الحية، إنه وحده أهل لهذا المقام الرفيع {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} ولهذا فقد كان خلقه القرآن، وكان وصفه العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} وليس غير محمد صلى الله عليه وسلم يطيق هذا الثناء من جلال الله وهو ثابت لا ينسحق تحت ضغطها الهائل ولا تأرجحت شخصيته فوق كل دليل، وتلك هي السوية البشرية للأنبياء، وكان هو وحده الأسوة الحسنة التي يتأسى بها الدعاة في كل عصر وحين.

ولقد شهد في العصر الحديث بهذه الأسوة وتطبيق مبادئ الدعوة رجل من الأذكياء المنصفين من متمذهبي البراهمة سئل: بماذا كان رسول الإسلام عندك أكمل رجال العالم؟ فأجاب: لأني أجد في رسول الإسلام خلالا مختلفة وأخلاقا جمة وخصالا كثيرة لم أرها اجتمعت في تاريخ العالم لإنسان واحد في آن واحد، فقد كان ملكا دانت له أوطانه كلها يصرف الأمر فيها كما يشاء، وهو مع ذلك متواضع في نفسه يرى أنه لا يملك من الأمر شيئا، وأن الأمر كله بيد ربه.

ص: 256

وتراه في غنى عظيم تأتيه الإبل موقرة بالخزائن إلى عاصمته، ويبقى مع ذلك محتاجا، ولا توقد في بيته نار لطعام الأيام الطوال، وكثيرا ما يطوي على الجوع.

ونراه قائدا عظيم يقود الجند القليل العَدد الضعيف العُدد، فيقاتل بهم ألوفا من الجند المدجج بالأسلحة الكاملة، ثم يهزمهم شر هزيمة، وتجده محبا للسلام مؤثرا للصلح، ويوقع شروط الهدنة على القرطاس بقلب مطمئن، وجأش هادئ، ومعه ألوف من أصحابه كل منهم شجاع باسل وصاحب حماسة وحمية تملأ جوانحه.

ونشاهده بطلا شجاعا يصمد وحده لآلاف من أعدائه غير مكترث بكثرتهم، وهو مع ذلك رقيق القلب رحيم رءوف متعفف عن سفك قطرة دم.

وتراه مشغولا بجزيرة العرب كلها بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته وأزواجه وأولاده، ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتم بأمر العالم كله، وهو مع ذلك متبتل إلى الله منقطع عن الدنيا فهو في الدنيا وليس فيها؛ لأن قلبه لا يتعلق إلا بالله وبما يرضي الله1.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إلى عمل ما يأمر به، يقول الشيخ الندوي:

ومن أفضل سيرته وأعلاها أنه بعدما أوحي إليه لم يأمر أتباعه وأصحابه بأمر إلا وقد سبقهم إلى العمل به2.

1 الرسالة المحمدية ص87.

2 الرسالة المحمدية ص108.

ص: 257