الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس هناك أدنى شك في أن عرض الدعوة الإسلامية امتاز وحده بالوضوح الدائم على طول الزمن الممتد، وأن غيرها من الدعوات لم ينل هذا الحظ؛ لعجز البشر عن توضيح هدفه، وفساد صنعة التعبير التي تصدر عن الإنسان فشتان ما بين وحي معصوم هو كلام الله المجيد.
وإنشاء مرذول هو كلام البشر الوضيع.
سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة
من عوامل منهج التغيير الاجتماعي إيجاد استقطاب من البيئة حول الدعوة أو المبادئ.
والدراسات الاجتماعية تركز اهتماما بالغا في منهج العمل مع الجماعة على حدوث تغيير في البيئة، ينشد به الناس حول المبادئ المرغوب في تنفيذها، كعنصر أساسي من عناصر النجاح المطلوب.
والاستقطاب أنواع فقد يكون جزئيا، وقد يكون كليا حسب مقدار الداعية وثقله الاجتماعي والفكري.
ولا تعرف الحياة الإنسانية والفكرية على السواء داعية قط أحدث استقطابا كاملا حوله وحول دعوته غير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلقد أنشد نحوه ونحو دعوته أجيال من العلماء والمفكرين منذ نشأ في جوار البيت العتيق حتى أذن له بالجوار في الرفيق الأعلى.
لقد استقطب محمد صلى الله عليه وسلم حوله الفكر الإنساني كله سواء المسلمون الصادقون أو المسلمون المتهوكون أو الكافرون المنصفون أو الكافرون المتعصبون.
لقد ألف في سيرته ومبادئه خلق كثير.
لقد ألف فيه كاتبو اللسان العربي.
وألف في كاتبو اللسان الإنجليزي.
وألف فيه كاتبو اللسان الفرنسي.
وألف فيه كاتبو اللسان الأندونيسي.
وألف فيه كاتبو اللسان الماليزي.
وألف فيه كاتبو اللسان الفارسي.
وألف فيه كاتبو اللسان الصيني والياباني.
وألف فيه كاتبو اللسان الأوردي
…
إلخ.
ولقد بلغت هذه المؤلفات في كل لغة حدود المئات، حتى صار في كل مكتبة ومعهد وجامعة ودولة وجنس ولغة كتاب عن الإسلام، وعن نبيه الكريم.
فصار أمر الإسلام واضحا كل الوضوح ليس فيه سر مكتوم، ولا أحاجي يغمض تفسيرها، ففي أيدي الناس على اختلاف ألسنتهم وجنسياتهم تاريخه ودعوته ومبادؤها وسلوكه ومنهاجه، وهم يعلمون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم كل صغيرة وكبيرة منذ ولادته ورضاعه وشبابه حتى بعثته.
وأن قبره المعطر الكريم لأثبت في سنده التاريخي من كل تواريخ العظماء وجميع أصحاب الدعوات.
فماذا يعرفه الناس عن ذرادشت وكوفشيوس؟
وماذا يعرفه التاريخ عن سولون وسقراط؟
وماذا يعرفه التاريخ عن موسى وعيسى؟
أما قبر محمد صلى الله عليه وسلم فهو منزله الذي كان يعيش فيه، وتلقى فيه الوحي، وخرج منه للجهاد الخالص في سبيل الله، وهو المشكاة التي شع نورها على الدنيا بأسرها.
ولا يزال المسلمون ينشدون إلى الروضة الشريفة وهم على ثقة أن هنا كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان يستقبل الوفود، ويدرب الجيش على السلاح، ويلقي مواعظه وتوجيهاته، فتنشد قلوبهم الطيبة مع الذكريات العظيمة، وهم يؤمنون أن هنا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم معلم البشر أجمعين1.
ومنذ القدم والرسول صلى الله عليه وسلم قد رسم للعمل مع الجماعة منهج الاستقطاب كعامل مثير مغير للبيئة إلى الاتجاه الأفضل المرغوب فيه.
لقد قلقلت الدعوة الإسلامية كل الثقافات الموروثة في البيئة العربية؛ لتحل محلها تصورا جديدا في العقيدة، والأخلاق، والمعاملات. وقد أنشد المجتمع تلقائيا إلى هذا الاستقطاب الذي أحاط بالمنطقة كلها منذ فجر الإرهاصات بالنبوة.
1 راجع حول هذه المعاني: الرسالة المحمدية للأستاذ سليمان الندوي، ص59، 63.
يروي ابن هشام: أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس! فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: نقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر؟ قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: نقول: ساحر. قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا على ذلك1.
1 ابن هشام ج1 ص270-271 دلائل النبوة ج1 ص647-448 الوفاء ج1 ص302.
إن معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث استقطابا حول الدعوة وصل إلى أطراف البيئة، إذ خشيت جماعة الكافرين في مكة من انجذاب الحجاج القادمين من الخارج الذين سمعوا عن الإسلام إلى الدخول فيه، فألهب ذلك قلوب قريش خوفا وهلعا وحيرهم في التعرف على رأي يتفقون عليه؛ ليكون وسيلة إعلام مضادة يشككون بها في دعوة الإسلام.
وما تحير الوليد بن المغيرة على علو منزلته وشرفه في القوم إلا لمعرفته بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه العمى الذي يختم به الشيطان على القلوب والصدور، ومع أنه قد نفى السحر أولا لكنه لم يجد له مخرجا من استخدامه إفكا وتعنتا ضد الدعوة الإسلامية.
ومع هذا فإن الأحداث التي وقعت فيما بعد تبرهن على فشل المواجهة التي شنها الكافرون وأن الاستقطاب الذي أحدثته الدعوة الإسلامية حول مبادئها قد أثمر.
ففي الخصائص الكبرى: أن الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه.
قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت على أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟
فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فتبعته، فقلت: إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فاعرض علي أمرك فعرض علي الإسلام، وتلا القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت1.
لقد اختار القوم كلمة السحر كدعاية مشوهة، ولكن الاستقطاب الذي نشرته الدعوة كان له جاذبية أقوى، فانشد الطفيل على الرغم مما قالوه عنده وانجذب إلى معرفة الحق الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمع وهو رجل لبيب شاعر لا يغيب عنه تمييز الحق من الباطل أسلم، وكان إسلامه خيرا عميما على الإسلام.
1 الخصائص ج1 ص336، الحلبية ج1 ص403، الوفاء ج1 ص204، 205، السيرة لابن كثير ج2 ص72، 73.
والنضر بن الحارث اللبيب المتفيهق، وهو من أشد الأعداء للإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام تزلزله جاذبية الاستقطاب، فيقول في حيرة وغيظ وكمد:
يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، فقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بحنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم1.
هكذا كان عمق الاستقطاب في النفوس تصديقا وجدانيا داخليا متفقا عليه من جميع الكافرين.
إنه ليس مجنونا ولا كاهنا ولا شاعرا ولا ساحرا. ولكنهم مع هذا الانجذاب الوجداني يكابرون ويجادلون بالباطل، ولكن القافلة تسير غير آبهة بمعوق.
قدم ضماد مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من الرياح فسمع سفهاء الناس يقولون: إن محمدا مجنون فقال: آتي هذا الرجل
1 ابن هشام ج1 ص299، 300، دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص448، 449 الشفاء ج2 ص110، 111.
لعل الله أن يشفيه على يدي. قال: فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي من هذه الرياح وإن الله يشفي على يدي من يشاء فهلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله". فقال ضماد: أعدهن علي، فأعادهن. فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشرك فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، ولقد بلغن قاموس البحر فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه1.
لقد فشلت أسلحة الدعاية وخابت مساعي المتهوكين وما زالت القافلة تسير غير آبهة بمعوق.
ففي السيرة لابن هشام: أن عشرين رجلا، أو قريب من ذلك من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه عن رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة.
فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وتلا عليهم
1 الخصائص الكبرى ج1 ص334، حياة الصحابة ج1 ص53، الوفا ج1 ص200، السيرة لابن كثير ج1 ص453، الحلبية ج1 ص384، السيرة لابن كثير ج2 ص40، دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص10، 11.
القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم1.
لقد خرج أبو جهل وجماعته على حدود الأدب في مجابهة هذا الوفد الكريم الذي جاء مستجيبا لنداء الله وانجذب بالروحانية التي استقطب بها نبي الدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بيئات الدعوة في مكة وخارجها.
ولئن كانت أطراف الجزيرة من بعيد قد أنشدت في وثاق حبيب إلى الدعوة فإن القوم في داخل مكة قد أنشدوا إليها كذلك غير أنهم يحملون صدور أصدئة وقلوبا مظلمة وعقولا متحجرة، وآذانا صماء وعيونا عمياء، وأفئدة خاوية.
فقد روى ابن هشام:
أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة؛ ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع
فيه وكل لا يعلم
1 ابن هشام ج1 ص391، 392 الحلبية ج1 ص384 السيرة لابن كثير ج2 ص40.
بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى وصل أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟
فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك.
قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي
رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه1.
ينطق النص بمقدار العمق الذي أحدثه الاستقطاب حول الدعوة الإسلامية حتى أنشد إليها ثلاثة من كبار القوم ومن فحول الكفر دون إرادة ولا وعي ودون موعد ولا اتفاق، فلما كشفهم الصباح مرات ثلاث تعاهدوا وحلفوا على الكفر والضلالة.
ومفهوم هذا النص أنه ليس في الوجود الفكري والإصلاح الاجتماعي رجل قط غير محمد صلى الله عليه وسلم استطاع أن يحدث استقطابا لا شعوريا حول الدعوة والداعية إلى درجة شد الخصوم من عناقيد أفكارهم بالليل ليباتوا ثلاث ليال سويا يستمعون فيها القرآن حتى أحسوا بلذة روحانية ملكت عليهم مشاعرهم فعاودوا الكرة مرات ثلاث حتى عاودهم ما ران على قلوبهم من قبل، فأغمضوا أعينهم عن نور الحقيقة وأغلقوا قلوبهم عن دخول الإيمان.
ولقد أكسبت هذه المعارضة الدعوة الإسلامية انتشارا في البلاد والقبائل التي كانت تفد للحج كل عام.
يقول ابن هشام:
تفرقوا، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره، وجعلوا يقولون
1 ابن هشام ج1 ص315، 316، الخصائص الكبرى ج1 ص285، 286، السيرة لابن كثير ج1 ص506، دلائل النبوة البيهقي ج1 ص452، 453.
ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها1.
وفي الخصائص عن مسلم عن أبي ذر قال: انطلق أخي أنيس إلى مكة ثم أتاني فقال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله، قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن، وكان أنيس أحد الشعراء فقال: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وصفت قوله على أقراء الشعراء، فوالله ما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون2.
فساعدت قريش بهذه المعارضة على توسيع رقعة الاستقطاب، والناس فطريا مجبولون على حب الاستطلاع، وكل قاطن في بيته بعيد عن الجاذبية القرشية، فهو طليق التفكير من ضغط العادات، وجاذبية التقاليد، فسوف يفكر بأسلوب سليم نقي من غوغائية الجهالة الجاهلة التي يعيش، فيها أبو جهل والوليد وعتبة والنضر وأبو سفيان والأخنس بن شريق.
لقد آمن ضماد من أزد شنوءة ومثيله في الصحة النفسية والسلامة العقلية الطفيل بن عمرو من أول مرة يستمعون فيها إلى آي الذكر الحكيم وقد جاءوا من بعيد، كما آمن معهم وفد نجران الذي قال لأبي جهل وهو يسفه عليهم: سلام عليكم.
1 يتصرف ابن هشام ج1 ص271، 272.
2 الخصائص ج1 ص287، وراجع الشفا ج2 ص498، راجع مسلم ج4 ص1920 تخريج المرحوم الأستاذ عبد الباقي.
ولم يؤمن النضر بن الحارث ولا أبو جهل ولا الوليد، وقد اتفقوا على أن الذي يقوله محمد ليس مثل كلام البشر، وأنه لا يكذب قط أبدا. فقد حاولوا أن يخلعوا أنفسهم من استقطاب الإيمان الذي حاصرهم وجدانيا، فأغلقوا دونه القلوب والأسماع، ولكنهم فتحوا بهذا الموقف العنيد آفاقا فسيحة، ونشروا بهذا الجحود والمكابرة والمواجهة استقطابا شاملا في أنحاء البيئة من قريب ومن بعيد، يقول ابن هشام:
فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان، ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك كلما كانوا يسمعون من أحبار اليهود وكانوا حلفاءهم ومعهم في بلادهم، فلما وقع ذكره بالمدينة، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف.
قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف -وكان يحب قريشا- قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشًا فيها عن الحرب ويذكر فضلهم وأخلاقهم، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بآلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده عنهم1.
هكذا آثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بيئة الدعوة باستقطاب شامل كامل ساعدت في اتساع رقعة الجبهة المعارضة {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وتلك واحدة من امتيازات الدعوة الإسلامية يوم أن تكون خالصة لوجه الله يأتيها نصره من حيث لا نعلم.
1 يتصرف ابن هشام ج1 ص282، 283.