المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك: - الدعوة الإسلامية في عهدها المكي مناهجها وغاياتها

[رؤوف شلبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدافع

- ‌ثانيا: المنهج

- ‌الباب الأول: مناهج الدعوة الإسلامية في عهدها المكي

- ‌الفصل الأول: منهج إثبات وحدانية الله تعالى

- ‌تمهيد حول مفهوم الدعوة الإسلامية

- ‌تحديد المراد من محاولة التعريف:

- ‌على بدء نعود ظلال على التعريف:

- ‌نتيجة المحاولة:

- ‌الدعوة الإسلامية:

- ‌منهج إثبات الوحدانية لله تعالى

- ‌مدخل

- ‌أولا: تصوير العقيدة العربية قبل الإسلام

- ‌ثانيا: دعوة المعاندين إلى التجرد من المواريث الثقافية التي تبعدهم عن التفكير السليم في التوصل إلى الحقيقة

- ‌ثالثا: دعوة المعاندين للتفكير بالمشاهدة في آثار قدرة الله جل شأنه وتعريفهم طريقة استخدام هذا المنهج

- ‌أدلة التوحيد والتنزيه:

- ‌أولا: وحدانية الذات:

- ‌ثانيا: وحدانية الصفات:

- ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

- ‌رابعا: بعث الوجدان الفطري

- ‌طريقة استخدام المنهج

- ‌مدخل

- ‌أولا: الدعوة إلى البحث في حقائق التاريخ

- ‌ثانيا: ولكن كيف ينظرون

- ‌الفصل الثاني: منهج العمل مع الجماعة

- ‌مدخل

- ‌أولا: ثقة الداعية

- ‌ثانيا: تحديد الهدف

- ‌ثالثا: التعرف على طبيعة المجتمع

- ‌رابعا: تربية قيادة

- ‌مدخل

- ‌مستوى تربية القيادة:

- ‌خامسا العرض الواضح:

- ‌سادسا: إيجاد استقطاب حول الدعوة

- ‌سابعا: السلوك المطابق للمبادئ

- ‌ثامنا: الصبر وتحمل المشاق

- ‌الفصل الثالث: مراحل الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ضابط التقسيم:

- ‌مراحل تبليغ الدعوة:

- ‌مرحلة التبليغ الأول: إعداد القيادة

- ‌مدخل

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌النموذج الثالث:

- ‌مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين

- ‌مرحلة التبليغ الثالث: لتنذر أم القرى ومن حولها "العرب

- ‌مرحلة التبليغ الرابع: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور "عالمية الدعوة

- ‌أسلوب التبليغ ووسيلته

- ‌مدخل

- ‌الحكمة:

- ‌الموعظة الحسنة:

- ‌وسيلة التبليغ:

- ‌الفصل الرابع: معالم في طريق الدعوة

- ‌المجابهة

- ‌مدخل

- ‌أولا: المعالم التاريخية للمجابهة في العهد المكي

- ‌ثانيا: لماذا كفرت قريش

- ‌ثالثا: النماذج القرآنية لمعالم الطريق

- ‌رابعا: المجابهة الثقافية

- ‌الباب الثاني: الغايات ثمار العهد المكي وخاتمته

- ‌الفصل الأول: في العقيدة الإسلامية

- ‌لا إله إلا الله

- ‌مدخل

- ‌الموجة الأولى تتجه نحو ما يشركون به:

- ‌الموجة الثانية: في تسميتهم الملائكة بنات الله، وقالوا اتخذ الله ولدا

- ‌الفصل الثاني: في التشريع والأخلاق والجماعة الإسلامية

- ‌أولا: في التشريع والأخلاق

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ الأحكام الشرعية والأخلاق:

- ‌بدء التدرج في الأحكام:

- ‌ثانيا: في الجماعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: خاتمة العهد المكي

- ‌التجهيز للهجرة:

- ‌أولا: الإسراء والمعراج

- ‌ثانيا: النشاط النبوي معاهدات العقبة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌أولًا: القرآن الكريم وعلومه

- ‌ثانيا: الحديث وعلومه

- ‌ثالثا: كتب السيرة النبوية

- ‌رابعا: كتب الدعوة

- ‌خامسا: كتب في التصوف

- ‌سادسا: كتب في الفقه وأصوله وتاريخ التشريع

- ‌سابعا: كتب في التاريخ الإسلامي

- ‌ثامنا: كتب في التاريخ العام

- ‌تاسعا: كتب في الفلسفة والدراسات الاجتماعية والنفسية

- ‌عاشرا: كتب الأدب

- ‌حادي عشر "ب": كتب اللغة

- ‌ثاني عشر: الكتب الملاوية

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ثالثا: وحدانية التدبير وتصريف الملك:

واحد يدبرهم ويرعاهم وله الحمد على الرعاية والتدبير وله الكبرياء كذلك، الكبرياء المطلقة في هذا الوجود حيث يتصاغر الكل وينحني الجميع ويستسلم كل متمرد.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 1.

ومع الكبرياء والربوبية فلله القدرة القادرة والحكمة المدبرة، وهو العزيز الحكيم، والحمد لله رب العالمين2.

1 الآية رقم 49 من سورة النحل.

2 راجع في ظلال القرآن ج15 ص142-143.

ص: 128

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.

تلك محاولة يعالج بها القرآن الكريم الاتجاه الفكري عند المعاندين وهي محاولة تتوجه إلى تخليص العبد من هموم ليست في قدرته ولا في استطاعته أن يفعل فيها شيئا مهما تعاون البشر طرا أو انفردوا آحادا.

1 الآيات من رقم 19-27 من سورة الروم.

ص: 129

إن الذي يشغل المرء ويفسد عليه قلبه هو انشغاله بما ليس في استطاعته والقرآن في هذه النماذج من الآيات المكية يوضح للعقل منهاج تفكير منظم.

إنه -أي القرآن الكريم- سيقدم له تحديدا لارتباط الإنسان بهذا الكون الذي يعيش فيه وخضوع الكون كله لله رب العالمين.

والارتباط أو العلاقة بوجود الإنسان في هذا الكون مجالها:

الرزق.

والعمر.

والأولاد.

وقد ضمن الله له الثلاثة وليس في مقدور أحد من البشر أن يعبر بالزيادة أو النقص

منها شيئا ما.

والرزق والعمر والأولاد دائرات في فلك الكون، والكون كله ساجد مسخر بإرادة الله جل شأنه، فهل لمن يشركونهم في عبادة الله من أصنام وجن وملائكة شيء في هذا التدبير الإلهي؟

الرزق:

أودع الله الأرض التي يعيش عليها كل من يدب الإمكانات القادرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات الهائلة الجمة جميعا، وأودع لله في هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض بأية صورة من صور الإنتاج قديما أو حديثا حتى إن بعض

ص: 130

المخلوقات يسر له أن يتنازل رزقه دما مهضوما، وهذا الرزق الممنوح من عطايا الله حق مؤكد مقسم عليه تفضلا من جلاله وكبريائه:

{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 1.

وهي لفتة عجيبة ترد بصر الإنسان ونفسه وعقله إلى مصدر الرزق الأعلى إلى السماء إلى الله ليتطلع الفرد إلى ما قسم له عند ربه فلا يسلم نفسه إلى أسباب الرزق العادية في الأرض، فتحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ له جنات معروشات وغير معروشات في الأرض، وبذلك ينفك القيد الحديدي الذي تغلغلت فيه تلافيف الفكر وتنطلق إلى خالق الأسباب، ويدرك الإنسان السليم في عقله ووجدانه أن ما يدعونه من دون الله لا يقدرون على شيء، فهم صم بكم عمي لا يرجعون2.

والقوم مع جحودهم لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة.

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ

1 الآيتان 22، 23 من سورة الذاريات.

2 راجع في ظلال القرآن ج27 ص19، الإسلام والإيمان ص226.

ص: 131

وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1.

العمر:

تتردد كثيرا في القرآن الكريم الإشارة إلى النشأة الأولى من التراب والنشأة الثانية من النطفة ويتردد كذلك الإشارة إلى مراحل كل منهما وكلاهما عنصر لا حياة فيه تتساوق مع حياة الإنسان.

فالتراب عنصر ميت برأي العين.

والنطفة عنصر هامد مبتذل في العرف العادي.

وإن كانت فيه حياة حسب الأبحاث الطبية الحديثة فهي حياة الميكروب الضعيفة العاجزة. إن تغيرت درجة حرارة الجو الذي تعيش فيه ماتت2.

وعلى كل كيف تلبست الحياة بالعنصر الأول وتلبست الحياة بالعنصر الثاني أما العنصر الأول فهو سر مغلق على البشر وهي حقيقة مشهودة قائمة لا مفر من الاعتراف بها والإقرار بدلالتها على قدرة المحيي القدير.

1 الآية رقم 31 من سورة يونس.

2 علم الأجنة في القرآن للدكتور عفيفي محمود، الموسم الثقافي الثاني للأزهر 1379هـ، 1960م.

ص: 132

أما العنصر الثاني فهو نقلة بعيدة كيف انتقلت خلية مثل الميكروب حجما وحياة إلى خلقه كاملة سوية ثم تشكلت ذكرا أو أنثى حسب ما أودع في النطفة الأمشاج من خصائص أودعها الحكيم الخبير، هذه النقلة من النطفة على ضعفها إلى النوعين المتمايزين بعيدة المدى في إحداث رجة عنيفة في التفكير فأين الخلية الواحدة من ذلك الكائن المعقد التراكيب الدقيق التأليف الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف، المختلف في العقل والمزاج واللون والطول والعرض والعواطف.

أين الخلية الضعيفة التافهة من ذلك الإنسان الذي كرمه ربه ونعمه؟

وأين الذين يشركونهم مع الله في العبادة من هذا التدبير الإلهي؟

ومع هذا فما تحمل من أنثى مطلقا بشرا أو حيوانا

إلخ، ولا تضع كذلك إلا بعلمه، وعلم الله بكل حمل وكل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف شامل ومحيط.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} .

وكيف تصل عبقرية البشر إلى إدراك جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان في البر والبحر أو في الهواء على اختلاف أجسامها وأشكالها وأنواعها وأجناسها وديارها وأزمنتها، ليتابع من عمر أو نقص من عمره؟

ص: 133

إن كل فرد من أفراد هذا الحشد لا يعلمه إلا الله خالقه ومدبر أمره، وإن ذلك العلم المحيط بكل ما في الوجود لا يكلف جهدا عسيرا {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1.

وعمر كل ما في الوجود إذا جاء أجله لا يؤخر ساعة ولا يستقدم ساعة.

{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 2.

ولا يملك أحد غير الله جل جلاله أن يقدم أو يؤخر {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.

فأين ما يعبدونه من دون الله وهذا التدبير البديع المحكم الفسيح؟ الأولاد:

الأولاد أو الذرية مظهر من مظاهر العطاء والحرمان وعلامة من علامات المنح والمنع، فمن الذي يهب الذرية؟

إنها رزق من عند الله وهي زينة الحياة الدنيا، وجعلها الله قرينة النفس الإنسانية، فمن الذي يرزق الناس الأولاد؟

لقد افتتحت الآية بأن لله ملك السموات والأرض وهو افتتاح منبه للعقول؛ لإدراك كل جزئية تأتي فيما بعد في محيط هذه الملكية

1 راجع في ظلال القرآن ج22 ص114-116، راجع فصل كيف بدأت الحياة من كتاب: العلم يدعو للإيمان ص101.

2 من الآية رقم 49 من سورة يونس.

3 من الآية رقم 4 من سورة نوح.

ص: 134

الإلهية. وذكر {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ترشيح للإيحاء النفسي المطلوب من الافتتاحية بالملكية المطلقة لله تعالى، ثم رتب على ذلك تقسيم الرزق منوعا، وجعل الحرمان مقابلا له لتكتمل يقظة بتفقه الواقع الملموس.

{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} وقد كانوا يكرهونها فكيف ينسبون مثلها إلى الله؟

{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} .

وكل هذا خاضع للسلطان الإلهي، مرتبط بمشيئة الله وحده لا يتدخل في ذلك أحد سواه1.

فأين ما يشركونه مع الله سبحانه من هذا العطاء المحمود؟ أو المنع الذي لا معطي له من بعده.

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ب- وحدانية التصرف في الملك:

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} .

1 راجع في ظلال القرآن ج25 ص52، 53.

ص: 135

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 1.

آية السموات والأرض والغيث حقيقة قاطعة في دلالتها على منشئ مدبر، واللمسات في هذه الآيات وفي آيات سورة الروم تحمل الإنسان بكل أقطاره لينتقل من حظيرة الكفر إلى حظيرة الإيمان بالله؛ لأنه أينما حل فهو في كنف الله جل شأنه.

ينزل الغيث من بعد ما قنطوا، لقد غاب عنهم الغيث ولا غوث لهم بعد انقطاع المطر ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول وأدركهم اليأس، ولو دعوا آلهتهم ما سمعوا لهم ولو سمعوا ما استجابوا، فلا قدرة ولا إرادة ولا حركة ألبته، وفي لحظات إدراك اليأس ينزل الله الغيث وينشر رحمته فتحيا الأرض وتنفرج الأسارير وتنفتح القلوب وينبض الأمل ويفيض الرجاء ذلك أن الله هو الولي الحميد المتكفل بولاية خلقه المستحق الحمد بذاته.

1 الآيات من رقم 28-35 من سورة الشورى.

ص: 136

والسفن الجواري في البحر كالجبال آية حاضرة مشهودة أنها آية تقوم على آيات كلها من صنع الله وتدبيره دون جدال.

فمن الذي أنشأ البحر؟ مَنْ مِنَ البشر أو من آلهتهم؟

ومن الذي أودعه خصائص الكثافة والعمق والسعة وعلم الماء يجري ويحمل السفن الضخام؟

مَنْ مِنَ البشر أو من آلهتهم؟

والسفن ذاتها، من هدى الإنسان إلى صنعها؟ وخلق له مواد بنائها؟ وعلمه كيفية تركيبها؟ ثم من الذي حباها نعمة الطفو ومنحها القوة على التحرك؟

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .

والصبر والشكر هما قوام النفس الصادقة في السراء والضراء والتحلي بهما من دلائل الإيمان وعلاماته1.

يخرج الحي من الميت، إنها عملية دائبة لا تتوقف هنيهة من ليل أو نهار، وفي كل مكان في الأرض أو في الفضاء أو في أعماق البحار في كل لحظة يتم هذا التحول يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة.

أو يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى حطام أو هشيم يخرج من خلاله حبة جديدة ساكنة تتهيأ بها حياة في المستقبل بالإثبات.

1 في ظلال القرآن ج25 ص36-39.

ص: 137

ويوجد غاز ينطلق في الجو فتتغذى به التربة ويتم به الإخصاب.

وتدب الحياة في جنين: طير أو حيوان أو إنسان، إنها دورة دائمة رهيبة عجيبة لو تأملها الحس الواعي والقلب البصير؟

فمن المدبر ومن بيده ملكوت السموات والأرض؟

أما هم إذا سئلوا أجابوا خلقهن الله؟

والزوجية مشاعر مشتركة وصلة فطرية بين الجنسين من بني البشر، فمن الذي أودع في النفوس هذه العواطف والمشاعر المشتركة وجعل فيها سكنا ومودة وراحة للقلب والعقل والجسم والمشاعر، وربط استقرار الحياة والعيش بها؟

واختلاف الألسنة في البشر مع اتحاد مطالبهم ووحدة الغاية من اللسان وهو التعبير عن الحاجة وإدراكها آية بينة وهو اختلاف مرتبط بخلق السموات والأرض فاختلاف الأجواء على سطح الأرض فلكيا، واختلاف المناخ له علاقة باختلاف الألسنة والألوان حتى ولو اتحدت النشأة والأصل في بني الإنسان فمن الذي دبر هذا؟

والنوم بالليل والسعي بالنهار آية تجمع بين ظاهرتين تفضل الله بهما على عبادة وقد خلقهم جل شأنه متناسقين النوم في الليل والعمل في النهار فجعل العمل حاجة تلبيها أضواء النهار وجعل النوم حاجة تلبيها ظلمات الليل، والبشر مثلهم في هذا مثل جميع الأحياء على كوكب الأرض.

ص: 138

إن كل حي في الكون الأرضي يجد ما يلبي حاجته ويسمح له بالحياة. عمل بالنهار ليبتغي الحي من فضل الله، وراحته وسكينته بالليل لينام ويهدأ ليزاول بكرة نشاطه من جديد. فمن الذي يسمع لهذه الآيات؟

والبرق مصدر خوف وطمع وهما شعوران فطريان يتعاوران على النفس البشرية أمام تلك الظاهرة.

والعربي في صحرائه الشاسعة أحوج ما يكون إلى قطرة الماء؟ والبرق علامة الغيث في السحاب ولكنه كذلك علامة الصاعقة التي دمرت قوم عاد.

ففي البرق الخوف والرجاء يوقظان الشعور والتعقل ليدركوا من المدبر لهذا الملكوت الجليل.

والسموات والأرض يقومان في انتظام سليم مقدر الحركات آية من آيات التدبير والتصريف الإلهي، فمن يملك أن يدعي أنه هو أو سواه مطلقا يفعل هذا التدبير والتصريف في قيام السموات والأرض؟

إن السموات والأرض تقومان بأمره ملبيتان طائعتان ساجدتان لأوامر الله جل شأنه دون انحراف أو اضطراب أو تلكؤ.

وكل من الكون، في السموات أو في الأرض قانت إن طوعا أو كرها، إنهم جميعا محكومون بسنن الله في كونه حتى ولو كانوا عصاة مثل معاندي الدعوة في مكة المكرمة فإنما عقولهم تعصي وقلوبهم تكفر ولكنهم مع هذا العصيان والكفر محكومون بالناموس الإلهي

ص: 139