الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة، إذ في سورة متقدمة يوجد ذكر للدعوة العامة قبل الدعوة الخاصة، فسورة الأعراف مثلا تأخذ في التسلسل المتفق عليه عند العلماء رقم 39، والشعراء 47، ومع هذا ففي الشعراء:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، وفي الأعراف:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .
فأضفت إلى ترتيب السور الذي اتفق عليه العلماء دلالة الآية على الأمر بالتبليغ، أو بأنها إخبار عن حدوده، ومعالمه، وآفاقه.
وعلى هذا فالضابط الذي سأعتمد عليه -إن شاء الله- في تقسيم مراحل تبليغ الدعوة هو:
الترتيب المتفق عليه بين العلماء لسور القرآن الكريم.
ومدلول الآية: أمر هو أو إخبار؟
فإن اجتمع الترتيب، والدلالة على الأمر بالتبليغ كانت الآية علامة مرحلة من مراحل تبليغ الدعوة.
وهي في نظري قدر ما وصلت إليه كالآتي:
مراحل تبليغ الدعوة:
1-
{قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 1 المدثر "74".
وهذا دور العمل السري واختيار الرعيل الأول وإعداد القيادة التي تتحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم نشر الدعوة.
1 الآيتان 2، 3 من سورة المدثر.
2-
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} الشعراء "47".
وهو بدء بالعمل الجهري بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة. قال في إرشاد الساري: لأن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم2.
3-
{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 3 الشورى "62".
وهو على ما قاله الطبري مكة ومن حولها شرقا وغربا4.
وهو دور دعوة العرب.
4-
{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 5 إبراهيم "72".
وهو دور العمل على المستوى الإنساني كله.
وقد اخترت هذه الآيات كضابط لمراحل تبليغ الدعوة لأنها في سورها المتسلسلة حسب اتفاق العلماء فيها أمر بالإنذار، وفيها سير طبيعي مع منهجية القرآن الكريم التي تأخذ بالتدرج في التربية، والإعداد حتى في العصر المدني نجد التدرج سمة التشريع الإسلامي6 على نحو ما ذكره الكاتبون في تاريخ التشريع الإسلامي.
1 الآية رقم 4-2 من سورة الشعراء.
2 إرشد الساري ج7 ص279.
3 من الآية رقم 7 من سورة الشورى.
4 الطبري تفسير ج7 ص271، روح المعاني ج19 ص134.
5 من الآية رقم 1 من سورة إبراهيم.
6 تاريخ التشريح. الخضري بك ص 17 تاريخ التشريع الشيخ السايس ص53.
حقيقة هناك آيات تدل على عالمية الدعوة في سورة الأعراف "39" آية رقم "158"، ولكنها أخبار عن أبعاد الرسالة وشمولها للناس كافة:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، والأخبار ليس كالأمر بالتبليغ في اتخاذه ضابطا يصطلح عليه في تقسيم مراحل تبليغ الدعوة كذلك في سورة الفرقان "41" آية رقم "1" دلالة على هذا العموم، ولكنه كذلك إخبار عن حدود الرسالة وآفاقها العالمية.
وفي سورة سبأ "58" آية رقم "28"، وهي في نفس الاتجاه الذي يعلن ويخبر أن الإسلام رسالة للعالمين لا لبيئة ولا لقومية خاصة.
وكذلك في سورة الأنبياء "73" آية رقم "107":
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
وفي سورة الأنعام "55" آية رقم "92"{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} مما يفيد تبليغ الدعوة إلى العرب ولكنها جاءت في وسط الآية التي تتوجه إلى الإخبار عن صفة القرآن الكريم، أنه كتاب مبارك مصدق الذي بين يديه.
وإذن فلم يبق على ما وصلت إليه بعون من عند الله إلا الآيات الدالة على الأمر بالتبليغ حسب ورودها ووجودها في السور المتسلسلة باتفاق العلماء، ولعله مما يقوي هذا الضابط الذي أذهب إليه الحديث الشريف الذي أورده شارح الشفاء1:
"بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي".
ذكره السيوطي في جامعه الصغير.
ففي الحديث خمس دعوات:
واحدة للناس كافة.
وواحدة للعرب.
وواحدة لقريش.
وواحدة لبني هاشم.
وواحدة لذاته الشريفة.
1 الشفاء شرح علي القاري ج1 ص300، راجع السراج المنير ج2ص143 من حديث ابن سعد عن خالد بن سعدان مرسلا.
فإذا استثنينا الدعوة الأخيرة؛ لأن الله تعالى فتح به لدينه في كل صوب وحدب بقيت أربع دعوات، للناس كافة وللعرب ولقريش ولبني هاشم.
فإذا ما تتبعنا أحداث التاريخ، وجدنا قريشا وبني هاشم، قد أدخلهما النبي صلى الله عليه وسلم في عشيرته الأقربين يوم أن صعد على الصفا وجعل ينادي:
"يا معشر قريش! -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا"1.
قال ابن جرير في شرح الحديث في رواية موسى بنت طلحة عن أبي هريرة عنه مسلم واحد: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص، فقال: "يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب كذلك، يا معشر بني هاشم كذلك، يا معشر بني عبد المطلب كذلك
…
" الحديث، وقد ذكر صاحب الحلبية أنهم بنو هاشم وبنوا المطلب وبنو عبد شمس وبنو نوفل2.
1 فتح الباري ج10 ص120 راجع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رضا ص82، راجع روح المعاني ج19 ص135، الطبري ج18 ص119، 120، الوفا ج1 ص182، 183، السيرة لابن كثير ج1 ص456.
2 الحلبية ج1 ص319.
فكان ذلك عونا لي على أن أجعل قريشا، وبني هاشم المذكورين في الحديث السالف مرحلة واحدة داخلة ضمن {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
وعلى هذا فأطوار الدعوة في مكة زمنيا اثنتان:
1-
الدعوة وهي في ظل العمل السري ومدتها ثلاثة أعوام.
2-
الدعوة وهي في ظل العمل الجهري ومدتها عشرة أعوام1.
ومراحل تبليغها أربعة:
1-
مرحلة واحدة في دور العمل السري وهي مرحلة إعداد القيادة وثلاث مراحل بعد قوله تعالى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وهي:
1-
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .2- {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
3-
{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
أما ما ذكره صاحب زاد المعاد في فصل ترتيب الدعوة، ففيه تداخل إذ قد جعل إنذار قومه مرحلة ثالثة، وجعل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} مرحلة سابقة عليها، وهما واحد لا فرق بينهما كما أنه
1 تاريخ الطبري ج2 ص318، الكامل في التاريخ ج2 ص60، راجع فتح الباري ج8 ص164، صحيح مسلم ج1 ص1826، محمد رسول الله. محمد رضا ص77، 82، دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص390.
جعل النبوة مرحلة داخل أقسام الدعوة مع أن الدعوة هي وظيفة النبوة على الرأي القائل بالفرق بين الدعوة، وهي الرسالة وبين النبوة، ولهذا لم أحظ بشرف التبعية لابن القيم الجوزية في تقسيمه للدعوة، ونص عبارته:
"فصل في ترتيب الدعوة، ولها مراتب":
المرتبة الأولى: النبوة.
المرتبة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرتبة الثالثة: إنذار قومه.
المرتبة الرابعة: إنذار قوم ما آتاهم من نذير من قبلهم وهم العرب قاطبة.
المرتبة الخامسة: إنذار جميع من بلغته من الجن والإنس إلى آخر الدهر1.
ولو أنه قصد بمرحلة النبوة مرحلة العمل الفردي السري للدعوة الإسلامية، وجعل المرحلة الثانية والثالثة مرحلة واحدة هي: دعوة أهله وأقاربه كما هو واضح من تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم لمدى الأهل والأقربين في ندائه لقريش، وبطونها يوم نزلت هذه الآية، لكان متمشيا مع النصوص القرآنية التي توحي بمدلولها
1 زاد المعاد ج1 ص20، راجع الوحي إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ص66، 67.
ووجودها في السور بتسلسلها على التدرج في التبليغ وهو المنهج الطبيعي الذي دائما يستخدمه القرآن الكريم وهو كذلك منهج يتمشى مع طبائع الأشياء يتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ويتصاعد من القليل إلى الكثير، حتى يشمل الدائرة التي يهدف إليها.
ولكن ابن القيم الجوزية قسم مراتب الدعوة هكذا دون اعتماد على أصل أو ضابط، ولعل عذره أن العمل الأكاديمي للدعوة الإسلامية لما يتهيأ له بعد الجو العلمي الذي يسمح بمثل هذه الدراسات وعلى كل فجزاه الله خيرا ونفع بعلمه.
كذلك لم أحظ بشرف المتابعة للتقسيم الذي ذكره شيخي فضيلة الدكتور المرحوم العلامة محمد بن فتح الله بدران طيب الله ثراه وتغمده برحمته وأفسح له في قبره وتقبل عمله في الصالحين.
لأنه وصل مرحلة إعداد القيادة وهي مرحلة العمل السري للدعوة بمرحلة، {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وهي المرحلة التي نفذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بأن يصدع بما يؤمر قال ابن هشام: ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادئ الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين، فيما بلغني من مبعثه. ثم قال الله تعالى له:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} 1.
1 ابن هشام ج1 ص262، راجع الطبري ج14 ص68، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رضا ص82، راجع تاريخ الطبري ج2 ص318.
قال في شرح المواهب:
ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا هو والمسلمون في دار الأرقم حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فجهر هو وأصحابه1.
فدل ذلك على أن العلاقة بين قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} . وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} هي علاقة التنجيز للأمر، قال في المواهب: قيل معناه أفرق بين الحق والباطل لأن الصدع الفرق بين الشيئين2.
فجعل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} مرحلة.
وجعل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} مرحلة قسيمة للمرحلة الثانية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} ، مع أن {فَاصْدَعْ} ليست مرحلة التبليغ بل هي مرحلة زمنية في التبليغ، والفرق بينهما أن مرحلة التبليغ لها حد تعمل فيه كالأفراد، أو البيئة الخاصة أو البيئة العامة أو الناس جميعا.
أما مرحلة في التلبيغ فهي المرحلة الزمنية الفاصلة بين أسلوبي العمل للدعوة أسلوب العمل بالطريقة السرية، أو بالطريقة الجهرية. والذي يمثل المرحلة في التبليغ هو {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} لأنه يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل بالعمل من طريقته السرية إلى طريقة جديدة وهي الجهر الذي يفصل بين الحق والباطل.
كذلك جعل فضيلته الإسراء والمعراج مرحلة في الدعوة مع أنهما معجزتان للنبي صلى الله عليه وسلم ولهما أسرار خاصة في مجال
1 و2 المواهب ج1 ص249.
العمل للدعوة، وليسا قسما من أقسام الدعوة لا من حيث العمل لها أو من حيث تبليغها.
وعلى كل حال فإن تقسيم فضيلته مراحل الدعوة في العهد المكي -حسبما استخلصته -إلى خمس مراحل1، كان له أثر طيب في إلقاء أضواء على تفهمي خاصة لهذا التقسيم، فجزاه الله خيرا وغفر له ورفعه مكانا عليا إن شاء الله.
وفضيلة الدكتور محمد أبو شهبة يذكر للدعوة طورين: الطور السري والطور الجهري2، ولكنه لم يتحدث عن مراحل التبليغ.
فقد أصاب المحز في جانب تقسيم الدعوة إلى طورين حسب العمل الزمني، ولكنه ترك تقسيمها من الناحية التوجيهية، وهي مراحل التبليغ، ولعل العذر الذي يلتمس لفضيلته أنه اتخذ المنهج التقليدي المألوف للكاتبين أسلوبا لعرضه السيرة النبوية في مجال تخصصه من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
فلم يكن لي كذلك شرف متابعته في التقسيم الزمني فقط؛ لأنه وضع تاريخي لا مفر منه لمن يتصدى لدراسة هذه الفترة المكية في عمر الدعوة الإسلامية.
وأيما كان فجزاه الله خيرا ونفع بعلمه وهدى بفقهه إلى سواء السبيل.
1 الفلسفة الحديثة في الميزان ص452-455.
2 السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ص289، 298.