الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أجلها فيضمن لها بذلك قاعدة في داخل المجتمع تعمل لها، وتدعو إليها، وتخفف عن الداعية الرائد كثيرا من الأعباء.
وأن ذلك لمن أحوج ما تحتاج إليه الدعوة في العصر الحديث. قيادة تؤمن في صدق وإخلاص بأن الله غايتها، والرسول زعيمها، والقرآن الكريم وحده هو دستورها، والجهاد الخالص لوجه الله سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها، وإذا وجدت تلك القيادة فيومها يبدأ الطريق إلى تحقيق رسالة الإسلام التي تتركز في قوله تعال:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 1.
1 الآية رقم 19 من سورة محمد.
مرحلة التبليغ الثاني: وأنذر عشيرتك الأقربين
قال البيهقي في دلائله:
لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك"، قال علي: فدعاني، فقال: "يا علي، إن الله قد أمر أن أنذر
فصمت عن ذلك، ثم جاءني جبيل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك"، قال: "فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام وأعد تعب لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب" ، ففعلت فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث، فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قطعة فشقها بأسنانه، ثم رمى بها نواحيها وقال: "كلوا باسم الله"، فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما يرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم يأكل مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي"، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي! عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما قد سمعت قبل أن أكلم القوم"، ففعلت ثم جمعتهم له، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم فشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا عنه، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها، ثم قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم "يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة"1.
هذه محاولة أولى مع عشيرته الأقربين وخطوة أساسية في وسيلة تبليغ الدعوة عن طريق اللقاء الشخصي، وهو أجدى وسائل العمل الاجتماعي في كل عصر وحين، ولهذا كرر النبي صلى الله عليه وسلم اللقاء بعشيرته في الحلبية: فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا وخطبهم، ثم قال لهم:"إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة"، فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال: يا بني عبد المطلب هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ على يده غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم.
فقالت أخته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها: أي أخي! أيحسن بك خزلان ابن أخيك.
1 دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص428، 429، وهذه الرواية نظيفة من الزيادة التي رواها الطبري في تفسيره ج19 ص121، 122، وردها ابن كثير في السيرة ج1 ص459، والحلبية ج1 ص322، ولهذا لم أعتمد على رواية الطبري في التفسير راجع الوفاء ج1 ص184، 185، الخصائص الكبرى ج1 ص306- 309، الكامل في التاريخ ج2 ص62-63، تفسير بن كثير ج3 ص351.
فوالله ما زال العلماء يخيرون أنه يخرج من بني عبد المطلب نبي، فهو هو، قال: هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش، وقامت معها العرب فما قوتنا بهم فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس، فقال أبو طالب، والله لنمعنه ما بقينا.
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع قريش، وهو قائم على الصفا وقال:"إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سنح""سفح" هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني؟ "، قالوا ما جربنا عليك كذبا، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد" 1.
والنص الذي ساقه صاحب الحلبية يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلح في دعوة أهله وعشيرته2، وكان يزاوج في استخدامه لوسائل التبليغ بين الحديث الشخصي والندوة والمؤتمر المؤقت، فهو يتحدث إليهم في جو عائلي ويكرر هذا اللقاء، ثم يصعد على الصفا ويناديهم، ففي البخاري:
لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي:"يا بني فهر! يا بني عدي! " لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتكم
1 الحلبية ج1 ص321.
2 راجع روح المعاني ج19 ص135.
لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 1.
وبذلك يتم توصيل الدعوة إلى عشيرته الأقربين، وسورة النقاش التي دارت بين صفية بنت عبد المطلب، وأبي لهب "عبد العزى بن عبد المطلب" أثر طبيعي لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم وهو، انفعال أو تفاعل داخل الجماعة مطلوب حصوله؛ لأن الإقناع لا يتم إلا عن طريق المناقشة الضيقة التي تعطي وتأخذ وتقيم الأدلة وتناقش البراهين2. وقد حجت صفية أخاها أبو جهل فلم يخرج من المأزق إلا بغلظة التعبير "كلام النساء في الحجال".
لقد ثبت بهذه النصوص:
أن نقل الدعوة من طورها السري إلى طورها الجهري، كان بإذن من عند الله حيث أمر صلى الله عليه وسلم بأن ينذر عشيرته الأقربين، فثبت أن الدعوة تسير في رعاية الله وكنفه.
1 فتح الباري ج1 ص118-120، راجع السيرة لابن كثير ج1 ص456، تفسير الطبري ج19 ص121 دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص431، الوفا ج1 ص183.
2 راجع القيادة ودينامكية الجماعات ص199.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم في هذه المرحلة وسيلتين للتبليغ:
1-
اللقاء الشخصي فيما صنعه سيدنا علي رضي الله عنه من طعام مرات تمكن في آخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ رسالته.
وهذه الرواية على ما ذكره ابن كثير في سيرته أو ما ذكره الطبري في تفسيره تفيد حدوثها تاريخيا بغض النظر عن الزيادة التي لم يقبلها ابن كثير وصاحب الحلبية1.
2-
والوسيلة الثانية المؤتمر المؤقت على نحو ما ذكره الإمام البخاري فيما نقلته عنه سالفا.
3-
أخبار العلماء السابقين بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يؤكد مرحلة التمهيد للدعوة.
لقد كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار أهله بعد مرحلة التبليغ السري لإعداد القيادة حتى تكون عشيرته لمن سواهم عبرة، فهؤلاء مع قربهم وقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون، وقد أخرج مسلم والترمذي بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية
1 السيرة لابن كثير ج1 ص459، الحلبية ج1 ص322 ففيهما أنكرا الزيادة المذكورة "أخي ووزيري" ومع رفض الزيادة فالحادثة صحيحة، راجع روح المعاني ج19 ص135.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص، فقال:"يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها".
ففي هذه النصوص توضيح شفاف لكيفية تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف بلغه لعشيرته الأقربين، ونفض يديه الكريمتين من أمرهم، ووكل موقفهم وشئونهم إلى ربهم، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم، وبأنه لا يملك لهم من الله شيئا وهو رسول الله، وهذا هو الإسلام في نصاعته: أنه يتقي الوساطة بين الله وعباده، حتى ولو كانوا أقرباء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا مسلمين1.
1 مع تصرف في ظلال القرآن ج19 ص117، من راجع هذا البحث الخصائص ج1 ص306-309، الوفا بأحوال المصطفى ج1 ص182 -185 تاريخ الطبري ج2 ص319-322 الطبقات ج1 ص200، دلائل النبوة البيقهي ج1 ص431، 432، مسلم ج1 ص192، 193، اللؤلؤ والمرجان ج1 ص52.
2 الآية رقم 22 من سورة لقمان.