الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كانت السلطة التشريعية مردها إلى الله وحده فإن النبي صلى الله عليه وسلم مفوض من قبل الله جل وعلا ليبين لهم الذي يختلفون فيه قال تعالى:
1 من الآية رقم 44 من سورة النحل.
ب-
الأحكام الشرعية والأخلاق:
وفي العهد المكي كانت هناك أحكام شرعية لها وزنها في تربية الجماعة الإسلامية، ولها ارتباطها بالعقيدة ولهذا امتازت الشريعة الإسلامية بقدرتها الدائمة على تنظيم المجتمع دائما في كل زمان.
لقد فرض الله الصلاة والصيام والزكاة، فرضها ليدخل العبد في العبودية محققا كلمتي الشهادة، أما تنظيم هذه الواجبات فله مناسبته حسب طبيعة التشريع الإسلامي القائم على التدرج والأخذ بالحسنى وتربية النفوس بالهوينى1.
وكان هناك محرمات: لقد حرم الله من المطعومات ما لم يذكر اسم الله عليه. وحرم قتل النفس، وأكل مال اليتيم والزنا وشهادة الزور؛ لأنه دور الحكم الشرعي هنا كان لتربية النفس، وبذل المجهود الكامل في امتثال حقوق الله ورعايته.
لقد كانت غاية الحكم الشرعي هنا أن يظهر السلوك الإسلامي بالمظهر الأخلاقي الرفيع ليبين للناس أن مستوى الإنسانية الفاضل
1 راجع حول هذا الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ص19، 21.
إنما هو في التبعية لهذا الدين، وقد ظهر ذلك واضحا في حديث سيدنا جعفر بن أبي طالب مع النجاشي:
…
حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام1.
وآيات القرآن الكريم في العهد المكي تؤكد ذلك يقول الله تعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} 2.
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4.
1 السيرة لابن هشام ج1 ص336 الحلبية ج1 ص378، 379.
2 الآية رقم 118 من سورة الأنعام.
3 الآية رقم 121 من سورة الأنعام.
4 من الآية رقم 141 من سورة الأنعام.
وروى الطبري عن العلماء في تفسيرها أقوالا تدور كلها حول "الصدقة الواجبة1.
وجاء في روح المعاني: لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة2.
ولكن سورة "المؤمنون" فيها حديث عن الزكاة. يقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون} 3.
وقد وضح ابن كثير معنى الزكاة في العهد المكي وتنظيمها في العهد المدني فقال:
الأكثرون على أن المراد ههنا زكاة الأموال مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة. قال الله تعالى في سورة الأنعام:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 4. ا. هـ.
قال الشيخ الخضري: ومما فرض بمكة الزكاة، وقلما وجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة واستشهد بآية سورة الأنعام {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، ثم قال: إلا أن هذه الحقوق
1 تفسير الطبري ج8 ص53 وما بعدها.
2 روح المعاني ج8 ص38.
3 الآية رقم 4 من سورة "المؤمنون".
4 تفسير ابن كثير ج3 ص238، 239.
الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود وبحسب حاجة الناس1. ا. هـ.
وتلك هي السنة الطبيعية للتشريع الإسلامي حتى في عهده المدني:
قال الطبري في تفسيرها: عن ابن طاوس عن أبيه كان أهل الجاهلية يستحلون أشياء ويحرمون أشياء فقال الله لنبيه قل: لا أجد فيما أوحي إلي محرما مما كنتم تستحلون إلا هذا3.
قال الآلوسي: فيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى4. ا. هـ.
فدل ذلك على أن الحصر هنا مراد به مواجهة المشركين الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. وحرموا وحللوا افتراء على الله وإلا فبقية الأحكام الملحقة بهذه الآية موكولة إلى السنة النبوية على نحو ما ذكر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم5:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
1 تاريخ الأمم الإسلامية ج1 ص92.
2 الآية رقم 145 من سورة الأنعام.
3 تفسير الطبري ج8 ص69.
4 روح المعاني ج8 ص43.
5 راجع كتاب الأم ج2 ص241.
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1.
لقد حرم الله في هاتين الآيتين الشرك مطلقا: شرك العقيدة وشرك الربوبية، شرك الإيمان وشرك الحاكمية، فإن القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي والإيمان السليم هي أن يعترف الناس بالألوهية والربوبية لله وحده، والربوبية: قوامة وتوجيه وتربية، والألوهية: خالقية وحاكمية، وواجب البشر أن يقرر ويستقر في قلبه أن الله وحده هو المتصرف، وإنه وحده هو المشرع وأنهم يجب عليهم أن يخضعوا لتشريعه في كل ما يأتون ويدعون2.
1 الآيتان 151، 152 من سورة الأنعام.
2 راجع الطبري ج8 ص82، ابن كثير ج2 ص187، 188 المصطلحات الأربعة في القرآن ص79، 87، 94، راجع القرطبي ط الشعب ص2573.
إنها تنقية كاملة من أوشاب الشرك والخرافات، وتطهير من استعباد الحكم البشري وارتباط كامل بالله عز وجل في كل لمحة وحين.
وبالوالدين إحسانا:
تأتي رابطة الأسرة بعد رابطة العقيدة تأتي رابطة الأسرة في رحاب الإيمان بالله والخضوع لربوبيته جل شأنه فهو أرحم بالناس من الآباء بالأبناء، ويوصي القرآن في العهد المكي برعاية الأسرة والأبناء، وينهي عن قتل الأبناء لخشية الفقر أو لوجوده فالمتكفل بالرزق هو الله، إن القرآن يريد أن يخلع من قلب البشر اتكالهم على التصور الأرضي في مفهوم الحياة، إن الحياة كلها تسير في ظل ربوبية الله، فلا ينبغي أن يتصرف الفرد من عند نفسه لشهوة أو فكرة أو ذكاء، فهو مأمور أن يخضع للسلطان الإلهي، وتأتي آيات جمة في هذا الموضوع:
1 الآيتان 23، 24 من سورة الإسراء.
2 الآية رقم 8 من سورة العنكبوت.
وفي مواجهة قتل الأبناء للإملاق والفقر يقول الله تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 5.
1 الآيتان 14، 15 من سورة لقمان.
2 الآية رقم 15 من سورة الأحقاف.
3 الآية رقم 140 من سورة الأنعام.
4 الآية رقم 31 من سورة الإسراء.
5 الآيتان 8، 9 من سورة التكوير.
وحرم الله الزنا والفواحش كلها:
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال الطبري في تفسيرها عن السدي، أما ما ظهر منها فزواني الحوانيت، وأما ما بطن فما خفي.
وعن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية1، وإلى مثل هذا ذهب الآلوسي.
وفي القرآن المكي آيات مستفيضة في بيان حرمة الزنا، منها قال الله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 2.
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3.
{وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} 4.
تحريم القتل:
هذه هي الجريمة الثالثة5 يحرمها الإسلام منذ العهد المكي لقد حرم جريمة الشرك ففيه قتل للفطرة التي فطر الله الناس عليها.
1 راجع تفسير الطبري ج8 ص83 روح المعاني ج8 ص54.
2 الآية رقم 32 من سورة الإسراء.
3 الآية رقم 7 من سورة "المؤمنون".
4 من الآية رقم 68 من سورة الفرقان.
5 المراد بالعدد هنا الترتيب في آية سورة الأنعام 151 التي صدر بها هذا الحديث.
وحرم جريمة الزنا وهي قتل للجماعة الإنسانية، ثم حرم الجريمة الثالثة وهي قتل الفرد.
ومعنى هذا أن الإسلام منذ فجره يحمي الإنسان من الاعتداء عليه في فطرته وأسرته وذاته حتى يضمن الطمأنينة والانطلاق الحيوي للإنسان في ظلال ربه وكنف دستوره لا يؤذى بشيء إلا حين يتعدى هذه الحدود التي شرعها الله له، فليس على الإنسان في الأرض وصاية إلا من عند الله وليس للإنسان أن يطيع أحدا إلا في الله ودمه محترم وتصرفاته مكفول لها التحرك ما دامت في حوزة الربوبية لله رب العالمين.
وتأتي آيات في السور المكية تقوي هذا الحكم "تحريم قتل النفس دون حد شرعي" يقول الله تعالى:
{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 2.
وبهذا فقد سبق الإسلام -لأنه وحي الله- جميع القوانين البشرية في تقرير حق الإنسان في الحياة وتأكيد كرامة الجنس البشري وارتفاع مكانته على سائر المخلوفات:
1 الآية رقم 32 من سورة الإسراء.
2 من الآية رقم 68 من سورة الفرقان.
3 الآية رقم 70 من سورة الإسراء.
في شئون المال:
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
ما أظن أن الجماعة الإسلامية في مكة كانت قد بلغت حدا من التجمع يمكنها من تنظيم مجتمع له سيادة وحرية كاملة في إدارة شئونه، ومع هذا فإن رعاية اليتامى والحرص على تنمية أموالهم {حَتَّى يَبْلُغََ أَشُدَّهُ} كانت من الأحكام التي شرعها الإسلام في مكة وهي هي بمستواها المكي توجد في العهد المدني. يقول الله تعالى:
وإذن فلا غرو أن قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم.
وفي هذا الجو من رعاية أموال اليتامى يقرر العهد المكي مبدأ أساسيا في سياسية الإنفاق وهو مبدأ "الوسط في النفقة" أو الاعتدال في تصريف الأموال أو الاقتصاد وعدم التبذير، وبذلك يحفظ الإسلام الجماعة الإسلامية من هزة اقتصادية سواء كان ذلك في عهد الرخاء والسراء أو في عهد الحاجة والضراء.
وتسبق الدعوة الإسلامية بهذا المبدأ جميع أنظمة الاقتصاد إذ حجم الإنفاق له دخل في المشكلة الاقتصادية، ولقد شاء الله تعالى أن يعلم المسلمين منذ اللحظة الأولى أن التوسط في النفقة يحمى المجتمع
1 الآية رقم 34 من سورة الإسراء.
الإسلامي من الضيق الاقتصادي يقول الله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} 1.
ولهذا جعل القرآن الكريم في العهد المكي هذا المبدأ من سمات المؤمنين يقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 3.
وقد وضح القرآن في العهد المكي أن توزيع الأرزاق، ونسب الثراء موكل إلى الله جل شأنه وحده. يقول الله تعالى:
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} 5.
وتلك الحقيقة غابت عن أعين الاقتصاديين في العصر الحديث فباتوا يتخبطون في تخير مذهب لتوزيع الثروات، ولن يفلحوا أبدا.
1 من الآيتين 26، 27 من سورة الإسراء.
2 الآية رقم 29 من سورة الإسراء.
3 الآية رقم 66 من سورة الفرقان.
4 الآية رقم 12 من سورة الشورى.
5 الآية رقم 19 من سورة الشورى.
ثم أكد لهم أن سيادة الأمة الإسلامية هي جزء من النشاط الإسلامي في تملكهم واستخدامهم خيرات هذه الأرض التي سخرها الله تعالى لهم. يقول الله تعالى:
فدلت رسالة الإسلام بهذه الثمار اليانعة في العهد المكي -عهد التدريب والتربية والإعداد- على أن موقف الجماعة الإسلامية هو موقف السيد الجليل على هذا الكون الذي سخر له.
1 الآيتان 13، 14 من سورة النحل.
2 الآية رقم 12 من سورة فاطر.
3 الآية رقم 15 من سورة الملك.
4 راجع الرسالة المحمدية ص134، 135، الآية رقم 12 من سورة النحل.
الوفاء والعدل والإحسان:
لقد كان الوفاء في الكيل والميزان بالقسط من أهم الأحكام الشرعية والأخلاقية التي قررها العهد المكي. يقول الله تعالى:
وقد استفاضت السور المكية في شرح هذه الخلفية على لسان الأنبياء السابقين، ففي سورة الأعراف قال شعيب لقومه من مدين:
وقال لهم في سورة هود:
1 من الآية رقم 152 من سورة الأنعام.
2 الآية رقم 35 سورة الإسراء.
3 من الآية رقم 85 من سورة الأعراف.
4 الآيات من رقم 84-86 من سورة هود.
وقال لهم في سورة الشعراء:
وقد هدد الله المطففين وتوعدهم فقال جل شأنه:
وإذا قلتم فاعدلوا:
لقد جعل الإسلام منذ العهد المكي العدل أساسا للعلاقات والتعامل بين المسلمين وقد حرم شهادة الزور وبرأ منها الأخلاق الإسلامية يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} 2.
إن العدل يكفل لكل فرد وكل جماعة قاعدة التعامل القائمة على الاستقرار والثقة البريئة من الميل مع الهوى، ولا تتأثر بالحب والبغض ولا تتبدل لعلاقة النسب والمصاهرة والغنى والفقر والضعف والقوة، إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع وتزن بميزان واحد للجميع، لهذا جاءت الآيات المكية تقرر العدل قاعدة للعلاقات الإسلامية. يقول الله تعالى:
1 أول سورة المطففين.
2 الآية رقم 72 من سورة الفرقان.
3 الآية رقم 90 من سورة النحل.
وهذا العدل الذي يدعو إليه القرآن في العهد المكي متفق مع عالمية الإسلام نفسه، فقد جاء القرآن الكريم لينشئ أمة وسطا وقيما ربانية وموازين ثابتة للإنسانية كلها "إنسانية واحدة" بعيدا عن التعصب لقبيلة أو أمة أو جنس، إنما هي آصرة واحدة ورابطة فريدة، "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، يجتمع عليها الأسود والأبيض والأحمر والأصفر من أجل تحقيق العبودية الكاملة نحو الله رب العالمين1.
ومن ثم كان الأمر بالعدل هو الأساس الذي ضمن به الإسلام منذ العهد المكي سلامة الآصرة التي تحقق للناس جميعا انتظام العلاقات على أساس متين {وِإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} .
ويهتم الإسلام بالإحسان ففيه تلطيف من صرامة العدل الجازم ما لم تنتهك محارم الله، وهو باب مفتوح لقاعدة الإيثار والود {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ، ففي الإحسان مجال للتسامح في بعض الحقوق وتشريع لمستوى خاص من الأخلاق للذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهو تشريع لمن شاء أن يأخذ بالرحمة، وهو أسلوب في التعايش والأخذ والعطاء، وتبادل المنافع والحقوق والواجبات، ثم هو عنصر التكافل الاجتماعي وآصرة إيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وقد كان الوفاء بالعهد منذ العهد المكي قبل أن تولد الدولة الإسلامية وتعقد مع جيرانها معاهدات والتزامات، كان خلقية يُسأل
1 هذا الدين ص76، 78.
عنها الفرد المسلم وقد عُني به القرآن الكريم أيما عناية يقول الله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} 3.
ويجعل العهد صفة من صفات المفلحين:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} 4.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} 5.
لقد تشادّ الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود منذ العهد المكي، فلم يتسامح فيه أبدا، لأن الوفاء بالعهد قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة وينهدم صرحها.
وبذلك فقد ضمن القرآن المكي للجماعة الإسلامية أسس الحياة الصحيحة، وكانت ثمار العهد المكي سواء كانت قواعد كلية كما يقول الكاتبون6 في تاريخ التشريع، أو كانت أحكاما تنظر تدرجها على سنة
1 الآية رقم 91 من سورة النحل.
2 الآية رقم 95 من سورة النحل.
3 من الآية رقم 34 من سورة الإسراء.
4 الآية رقم 8 من سورة "المؤمنون".
5 الآية رقم 32 من سورة المعارج.
6 الموافقات للشاطبي ج4 ص236 تاريخ التشريع الإسلامي للسايس ج30، 31 تاريخ التشريع الإسلامي الخضري ص14، 15، تاريخ الأمم الإسلامية ج1 ص85، 92.
المنهاج القرآني فقد كانت ثمارا مرتبطة بالعقيدة كدستور للتعاشر الإنساني كله في كل زمان ومكان.
ولم تنتقل الدعوة من مكة إلا وقد زرعت في أرض خصبة مجموعة المبادئ الإسلامية التي تشكل القانون الإلهي للإنسان حيث يكون.
المسئولية والتوبة:
كان العهد المكي عهد بناء للتصور الإسلامي الذي يحدد أبعاد المعركة التي يخوضها المسلم ليحقق عبوديته لله جل شأنه، ومع أن نظام الدولة بعد لم يكتمل له مقومه من مجتمع وحكومة وأرض يقوم عليها المجتمع وحكومته لرعاية هذا النظام الرباني، فإن الدعوة الإسلامية في مكة كانت تعلم المسلمين أبعاد المسئولية، وتدربهم على العودة إلى الله دائما في كل وقت وحين، فكانت آيات القرآن المكي دروسا مفيدة في تربية الجماعة الإسلامية على تحمل المسئولية، وهي عنصر أساسي، للجهاد في سبيل الله الذي بدأ بإعلان الصبر، وتحمل المشاق في مواجهة غضبة كاذبة محمومة من المعتدين الجاهلين.
في المسئولية:
وحول المسئولية يقول الله تعالى:
1 الآية رقم 164 من سورة الأنعام.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2.
ولئن كانت هذه الآيات تصور المسئولية في الدنيا والآخرة، فإن القرآن يقرر أن مبدأ هذه المسئولية، هو مبدأ ديني منذ بعث الله للناس رسلا يهدونهم إلى الصراط المستقيم. يقول الله تعالى:
1 الآية رقم 25 من سورة الإسراء.
2 من الآية رقم 15 من سورة الإسراء.
3 الآية رقم 36 من سورة الإسراء.
4 الآية رقم 7 من سورة الزمر.
5 الآية رقم 18 من سورة فاطر.
6 الآيات من رقم 36-41 من سورة النجم.
فهو دين موصول أوله بآخره، ثابتة أصوله وقواعده، يصدق بعضه بعضا على توالي الرسالات والرسل وتباعد المكان والزمان، فهو في صحف موسى، وهو في ملة إبراهيم قبل موسى، هو هو لا تحمل نفس حمل أخرى لا تخفيفا ولا تثقيلا، ولا تملك نفس أن تتطوع، فتحمل عن غيرها شيئا من أثقالها:
فلا مفر فإنما هو الحساب والجزاء والتذكير لمن ينسى، سوف يذكر بما قدم وأخر، وسوف لا يقبل منه اعتذار فقد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، فعلى كل فرد أن يهدي نفسه إلى الخير ويقودها إلى النجاة.
التوبة:
ومع هذه الصرامة في إدراك مدى المسئولية في الدنيا والآخرة، فإن الله وهو البر الرحيم يفتح أبواب التوبة لمن أناب إليه إن عائدا من ذنب أو راغبا في تقرب. يقول الله تعالى:
1 الآيات من رقم 11-15 من سورة القيامة.
2 الآية رقم 54 من سورة الأنعام.
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} 5.
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} 7.
1 الآية رقم 153 من سورة الأعراف.
2 الآية رقم 3 من سورة هود.
3 الآية رقم 169 من سورة النحل.
4 الآية رقم 60 من سورة مريم.
5 الآية رقم 60 من طه.
6 الآيتان 70، 71 من سورة الفرقان.
7 الآية رقم 67 من سورة القصص.
وتقرر الآيات في سورة هود أن التوبة مبدأ ديني رحم الله به عباده وبلغته رسله وأنبياؤه إلى الناس. يقول الله تعالى:
هكذا قال هود لقومه عاد.
وقال صالح لقومه ثمود:
وقال شعيب لقومه مدين:
{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} 4.
هذه التوبة من الذنوب قررها الوحي كمبدأ، وبلغها الأنبياء كما قررت ذلك آيات سورة هود، وكان سيدنا نوح قد علم قومه ذلك من قبل. يقول الله تعالى:
1 الآية رقم 25 من سورة الشعراء.
2 الآية رقم 52 من سورة هود.
3 من الآية رقم 61 من سورة هود.
4 الآية رقم 90 من سورة هود.
5 الآيات من رقم 10-12 من سورة نوح.
ومع هذا فإن التوبة ليست من الذنب فقط، فقد تكون طاعة لله وتعبدا لجلاله، توحي بذلك الآية الكريمة في سورة المزمل:
فالتوبة هنا لمسة التخفيف الندية تمسح على التعب والمشقة بالحنان والرأفة، وهي دعوة التيسير الإلهي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه وقد علم الله منهم خلوصهم لطاعته، فهي توبة لا عن ذنب بل عن طاعة، صبروا عليها حتى انتفخت أقدامهم من القيام الطويل بالليل، فعطف ربهم عليهم وخفف عنهم وهو وحده الذي يقدر الليل والنهار، فيطيل ويقصر في أحدهما، والمؤمنون مع هذا ماضون على ما هم عليه من قيام الليل: نصفه أو ثلثه، وربهم لا يريد بهم العنت ولا المشقة2، فتاب عليهم بعد أن تزودوا بالطاعة، وتدربوا على المشقة في عبادته، مع الحب فيها والرغبة إلى التقرب من جلاله، فكانت التوبة هنا في هذا الفجر الصادق من العام الأول لحياة الدعوة إيحاء بأن التوبة طاعة ورحمة وحنان وأنس من الله لبعض أوليائه المخلصين في طاعته، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
1 من الآية رقم 20 من سورة المزمل.
2 راجع في ظلال القرآن ج29 ص177، 168.
هكذا يقدم العهد المكي مجموعة من المبادئ والنظم والأحكام والأخلاق التي تهيئ الجماعة الإسلامية لحمل رسالة الله، وقد قدمت بسلوكها دليلا عمليا في الفكر والتطبيق على أن دين الله هو قانونه الذي ارتضاه للبشر؛ ليؤدوا رسالتهم نحو ربهم كما تؤدي وحدات الكون كله رسالتها حسبما شرع الله لها من قوانين.
وموجز ما أثمرت الدعوة الإسلامية في مكة من غايات على غرار ما سلف بيانه:
أولا: حصر السلطة التشريعية في الوحي وتفويض رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبيين ما نزل إلى الناس.
وهذا يستدعي إلغاء سلطة البشر في التحليل والتحريم، ورفض كل دعوى يدعيها البشر أنهم حللوا أو حرموا بإذن من الله افتراء عليه.
ثانيا: أن العهد المكي امتاز بمجموعة من الأحكام بعضها له صفة الحكم الشرعي الثابت كتحريم ما ذبح على النصب ما لم يذكر اسم الله عليه.
وبعضها احتاج إلى تفصيل أو اكتمال بعض أجزائه حسب نمو الجماعة الإسلامية مثل الصلاة والزكاة والصوم، فهي أحكام شرعية واجب على المكلف أن يفعلها غير أن عدد الصلاة في اليوم والليلة وعدد ركعات كل صلاة يحتاج إلى تفصيل يأتي فيما بعد، والزكاة والصوم كذلك هي أحكام واجبة، غير أن أنواع الزكاة ومقدارها وأيام الصوم الواجبة لما تحدد بعد، وتلك سنة الله في تربية الجماعة الإسلامية وبنائها وإعدادها.
كذلك حرم الزنا ما ظهر منه وما بطن، أما الآثار المترتبة عليه مما يحتاج إلى سلطة حكومية لم توجد بعد في فترة العهد المكي فقد انتظرت مناسبتها هناك في المدينة المنورة أما الحكم فهو هو الزنا حرام البتة.
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق حكم شرعي ثابت مستقر، وبقي ما يستتبعه هذا التشريع من آثار عندما يوجد المجتمع الذي يحتاج إلى ما يستتبعه هذا الحكم من تفصيل أو عقوبات.
وحرم الله مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وهو نفس الحكم الذي فصلته سورة النساء، فالحكم بحرمة التصرف في أموال اليتامى بغير حق ثبات والتصرف فيها بالحق قررته سورة النساء.
وهذا شرح وتفصيل لقوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} .
فالتصرف بالتي هي أحسن مأذون فيه وذلك ما وضحته سورة النساء. و {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} تبيان للمرحلة التي لا ينبغي أن يسلط الولي يده في التصرف في أموال اليتامى، وذلك ما قررته الآيات في العهد المكي.
1 الآية رقم 6 من سورة النساء.
والوفاءُ بالعهد. وإقامة العدل أحكام قررها الإسلام في العهد المكي واستقرت على ما هي عليه في العهد المدني.
وكذلك رعاية الأسرة والأبناء له مثل هذا المستوى والتفصيل في سورة النور الذي يتعلق بالعورة، ومخالطة الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بالوالدين
…
إلخ، إنما استلزمته الحياة الإسلامية في المدينة حيث استقرت الأسرة الإسلامية في كنف الدولة الإسلامية التي قامت واستقرت بعد فتح مكة حيث زال الشرك نهائيا، ولم يبق إلا تأمين الحدود على الدولة الشابة ثم الانطلاق لتبليغ الرسالة إلى الأمم المجاورة.
والمسئولية التي قررها العهد المكي هي هي كما جاءت في العهد المدني وكذلك التوبة بجانبيها: توبة من الذنب، وتوبة للطاعة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} 1.
قال الإمام الشاطبي:
المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف عن كل ما هو منكر في محاسن العادات فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلاة وما أشبهها، فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العبادات ومصروفا إلى اجتهادهم
1 الآية رقم 22 من سورة البقرة.
ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ومواساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات التي لم ينص على تقييدها بعد، وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن، فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
إلا أن خطة الإسلام اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحنات في المعاملات ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي أحكاما خاصة أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات، إذا كان أكثرها جزئيات "يعني إضافية" لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلا عن غيرها
فأنزل الله تعالى ما بين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان تارة بالقرآن وتارة بالسنة، فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المحتملات وقيدت تلك المطلقات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا واصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلا من الله ونعمة، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمور كليات ضروريات، وما لحق بها وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات، وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مبينة على الاتصاف من النفس، وبذل الجهد في الامتثال بالنسبة إلى حق الله أو حقوق الآدميين، وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها، ولذلك يؤتى بها في السور المدنية تقريرا وتأكيدا، فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين، وتمت واسطتها بالطرفين1.
هكذا يقرر الشاطبي أن الأحكام في مكة كانت كلية؛ فالصلاة حكم شرعي كلي، والصوم حكم شرعي كلي، والزكاة حكم شرعي كلي، بمعنى أنه يحتاج في المستقبل إلى تفصيل غير أنه يؤخذ على تعبيرات الشاطبي أنه ذكر أن تنفيذ هذه الأحكام كان موكولا إلى اجتهادهم
1 الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي ج4 ص233، 237.
وهذا لا يتفق مع غاية التشريع في العهد المكي الذي رفض أن يكون للبشر سلطة تشريعية، والأليق أنه كان يقول: ومصروف ذلك إلى طاقتهم ليأخذ كل بما لاق به، إذ إن هذه الطاقة التي تربى عليها سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان قد دربتهم على التبرع السخي في سبيل الله حتى بعد فرض الزكاة، فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه تبرع بكل ماله في غزوة العسرة، وعمر تبرع بنصف ماله، وعثمان جهز ثلث الجيش1، فغاية العهد المكي من تشريع الزكاة هي تدريب الطاقة المؤمنة في نفس الفرد المسلم على مثل هذا التصرف عندما تحل الدولة المسلمة أزمة يجد المسلم طاقته فوق تنفيذ الحكم الشرعي الذي لا يسعفه الدولة أو المجتمع في ظروف الحرج والضيق والشدة.
كذلك فإني لا أوافق على تعبير الإمام الشاطبي: "على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب إذ ليس للعقل في مجال الشرع استحسان أو استقباح، وإنما مجاله التنفيذ والخضوع".
وهذا هو مراد الإمام الشاطبي: إن الأحكام التي شرعت مطلقة في العهد المكي وترك تنفيذها لدى الجهد للفرد المسلم، وخضوع عقله للنص الشرعي، وهذا ما شرحه بعد إذ يقول:
"وإذا نظرت إلى أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق القسمين وبين ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة وانصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم
1 محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "رضا" ص336، 337 راجع عبارة الدر ص253، راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص277.
عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات، والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها. بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ"1.
ويمضي الإمام الشاطبي في بيان استمساك الصحابة بتنفيذ هذه المبادئ الكلية كأحكام شرعية مقررة، فيقول:
"كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه احتياطهم، فسبقوا غاية السبق حتى سمعوا السابقين بإطلاق، ثم لما هاجروا إلى المدينة، لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم الكليات، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما منعوا به من الأخذ بحظوظهم، وهم منها في سعة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى الصوفية الأول، وعلى الثاني جرى من عداهم، ومن هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة.
فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظان أنهم شادّوا على أنفسهم
1 الموافقات ج4 ص338.
وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا لله ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق هي التي سلك هؤلاء، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر، فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال: أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبكم فخمسة دراهم، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله، ولم يبين فيه الواجب من غيره1.
أقول على هامش الموضوع: ومن هنا كانت دعوة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، ومن هنا تأثر أبو ذر بالعهد المكي، فقال بوجوب إنفاق الفائض في سبيل الله، وليس دون ذلك مؤثر أو دافع له على دعوته.
هكذا شاء الله جل شأنه أن تكون أغلب الأحكام الشرعية في هذا الطور المكي كلية عامة لتربي الجماعة الإسلامية على أبعد مدى يفهم من الحكم الكلي، ولتدخر هذه الطاقة التي دربوا عليها لمستقبل الأمة يوم نحتاج إلى ذلك.
وبهذا يسبق الإسلام جميع نظريات علم الاجتماع، والقانون البشري التي تتحدث عن السلطة في المجتمع، فلم يشاء الله تعالى أن ينزل التشريع الإسلامي مفصلا، ليختزنه المسلمون حتى يطبق مرة واحدة بمجرد النقلة
1 الموافقات ج4 ص239، 240.
إلى المدينة وقيام الدولة الإسلامية في طابة فإن هذا المسلك ليس منهاجا للقرآن ولا للإسلام، فإن الإسلام لا يفترض المشكلات افتراضا، ثم يقدم لها الحلول.
ولكنه يواجه الواقع حيث يكون، ويهذب الأمة في المجتمع حين يوجد المجتمع، ويتكون من اللبنات الصالحة التي يربيها على الأكمل والأمثل من الخلق والفهم والإدراك والعقيدة الصافية، وبناء المجتمع الإسلامي لا يقوم بصيحة أو بتكوين سياسي إنما يقوم صرحه على العقيدة والأخلاق، فمتى استقرت لا إله إلا الله محمد رسول الله في الأعماق الغائرة استقر بها في نفس المؤمن النظام الذي تتمثل فيه هذه العقيدة، وتغذيه بنظامها الذي ترتضيه النفوس وتستسلم له حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلات هذا النظام، فالمطلوب أولا هو الاستسلام لله، وبمقتضى هذا الاستسلام بالرضى والقبول والانشراح لا تجد صدور المسلمين حرجا فيما فرض لله عليهم بعد ذلك، ولا تتلكأ الجماعة الإسلامية في تنفيذ ما حلل لها أو حرم عليها فيما بعد.
وهكذا نجح الإسلام في العهد المكي بخلق هذا الاستسلام يغرس لا إله إلا الله محمد رسول الله كأساس للحياة يتقبل معه المسلمون كل ما يشرعه الله من حلال أو حرام.
وهكذا كان هذا العهد المكي عاملا مساعدا في بناء المجتمع الإسلامي فيما بعد بالمدينة، ونجاحه في إلغاء الخمر والربا والميسر والرق والتقاليد الجاهلية كلها، دون مضاعفات تهز المجتمع أو ثورات تشوشر على التشريع أو تكره الناس في القانون نفسه.
لقد نجح الإسلام في المدينة في محاربة هذه الأمراض دون كثير من الجهد والسلطة والإعلام كما تفعل الحكومات الأرضية الحديثة؛ ذلك لأن ثلاثة عشر عاما كانت تجاهد فيها الدعوة الإسلامية لخلق إيمان في صدور الجماعة الإسلامية يملك على المسلمين كل شيء في صدورهم وجوارحهم ويستسلمون لله رب العاملين، وهم راغبون إلى الله مؤتنسون برضوانه، وقد تدربوا على سمو كامل من الخلق والأحكام التي تقبلوها بكلياتها فربت فيهم الطاعة إلى غير ما حدٍّ، ما دام ذلك يرضي الله ورسوله وجماعة المسلمين.
ومن هنا فإن الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ينبغي أن ترجع إلى هذا المنهج حيث تعمل على إيجاد "لا إله إلا الله" في الصدور كنور يجذب الوجدان والأعضاء إلى خضوع كامل للسلطان الإلهي، ورغبة جياشة في الخضوع لتشريع الله وحده، وإنكار كل سلطان بشري ونظام أرضي يريد أن يفتن الناس عن هذا الصراط المستقيم.
إن القلوب يجب أن تخلص لله أولا وتعلن عبوديتها لجلاله وحده، وتقبل عن حب ورغبة في قبولها شرعه على ما يريده ويشاؤه وترفض أي شرع آخر غيره من ناحية المبدأ والموضوع والغاية، فإذا ما اكتمل لهذا التصور أبعاده في القلب والسلوك قامت الجماعة الإسلامية1 التي تخاطب بتفصيلات ذلك الشرع لتنفذه برغبتها المنبثقة من إخلاصها في العبودية لله وحده، والتحرر من ربقة السلطان البشري، وذلك ما ينبغي أن تتوجه إليه الدعوة الإسلامية في العصر الحديث لا سيما في
1 راجع حول هذا في ظلال القرآن ج7 ص85-90.
جنوب شرقي آسيا حيث توجد مع النعرة الإسلامية الدائبة في الصباح جحافل الأصنام التي تعبد من دون الله، دون أن تسمع صيحة واحدة "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ، وكسروا الأصنام واعبدوا الله ربكم وحده لا شريك له.
إنها صيحات خرساء مشوبة بعواطف ممزوجة بكثير من الطيش، "نريد دولة إسلامية" والأكثرية هنا بوذية رسمية يحميها القانون والمجتمع الذي يعبدها من دون الله.
ما أحوج الأمة الإسلامية إلى العودة إلى هذا المنهاج حتى تستعيد من جديد ذاتيتها: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1 " ،
وليت شعري لو أنصف المتحمسون للدعوة الإسلامية هنا في جنوب شرقي آسيا، فأخذوا أنفسهم بعهد مكة الجليل فكسروا الأصنام، وربوا جماعة الإيثار، واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم وصبروا حتى تعلو كلمة الله، وتنظف الشوارع والحدائق والبساتين والحقول من قصور الأصنام، ويسمع الوجود كله نداء خاشعا تستجيب له القلوب والعقول.
إنه لا إله إلا أنا فاعبدون، فذلك أنقع للإسلام من الخبط السياسي المشبوه.
1 رواه الشيخان. راجع اللؤلؤ والمرجان ج1 ص5 كتاب الإيمان.