الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كِتَابِ الوَصَايَا)
جمع وصيةٍ، مأخوذةٌ مِن وَصَيتُ الشيء: إذا وصلتُه، فالموصي وصل ما كان له في حياته بما بعد موته.
واصطلاحاً: الأمر بالتَّصرُّف بعد الموت، أو التبرُّع بالمال بعده.
والأصل في مشروعيتها: قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» [البخاري: 2738، ومسلم: 1627]، وقال ابن قدامة:(أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية).
- مسألة: لا يخلو حكم الوصية من أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون واجبة: وذلك على من كان عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب من زكاة أو كفارة، وليس عنده وثيقة بذلك، فيجب عليه أن يوصي، لأن الله تعالى فرض أداء الأمانات.
الحالة الثانية: أن تكون مستحبة: وأشار إليها المؤلف بقوله: (يُسَنُّ لِمَنْ
تَرَكَ مَالاً كَثِيراً عُرْفاً الوَصِيَّةُ)؛ لما تقدم من أدلة مشروعة الوصية. ولا تجب؛ لعدم الدليل على وجوبها، وأما قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، فمنسوخة؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما:«كَانَ المَالُ لِلوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ الله مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ» [البخاري: 2747].
- فرع: يسن أن تكون الوصية (بِخُمُسِهِ) أي: خُمُس ماله؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «الَّذِي يُوصِي بِالخُمُسِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُوصِي بِالرُّبُعِ، وَالَّذِي يُوصِي بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُوصِي بِالثُّلُثِ» [البيهقي: 12575]، وروي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما [عبد الرزاق: 16361، 16363].
الحالة الثالثة: أن تكون محرمة: وأشار إليها المؤلف بقوله: (وَتَحْرُمُ) الوصية في ثلاثة مواضع:
1 -
إذا كان الموصي (مِمَّنْ) له وارث (يَرِثُهُ، غَيْرُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ)، كابن وأخ وعم ونحوهم، إذا أوصى (بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ) أي: ثلث ماله (لِأَجْنَبِيٍّ)، فتلزم الوصية في الثُلُث من غير إجازة، وما زاد على الثُلُث يقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء؛ لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما مرض بمكة، وفيه: قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال:«لَا» ، قلت: فالشطر؟ قال: «لَا» ، قلت: الثُلُث؟
قال: «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ» . [البخاري: 2742، ومسلم: 1628].
أما إن أوصى بأكثر من الثُلُث وكان وارثه أحد الزوجين فقط، وردَّ الوصية ولم يُجِزها: أُعطي الموصى له الثُلُث؛ لأنه لا يتوقف على إجازة، ويأخذ أحد الزوجين فرضه من الثلثين، والباقي من الثلثين يكون للموصى له؛ لأن الزوجين لا يُرد عليهما الميراث، فلا يأخذان من المال أكثر من فرضيهما.
2 -
(أَوْ) أن يوصي (لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ)، قليلًا كان أو كثيرًا، فتحرم ولا تصح إجماعًا إلا بإجازة الورثة كما سيأتي؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» [أحمد: 22294، وأبو داود: 2870، والترمذي: 2120، وابن ماجه: 2713]. قال شيخ الإسلام: (هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه).
3 -
وعند شيخ الإسلام: تحرم المضارة في الوصية، لقوله تعالى:{غَيْرَ مُضَارٍّ} ، وقال ابن عباس:«الإِضْرَارُ فِي الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» [النسائي في الكبرى: 11026].
قال شيخ الإسلام: (فمتى أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار، قصد أو لم يقصد، فترد هذه الوصية، وإن وصى بدونه ولم يعلم أنه قصد الضرار فيمضيها، فإن علم الموصى له إنما أوصى له ضرارًا لم يحل له الأخذ).
- فرع: (وَتَصِحُّ) الوصية لأجنبي بما زاد على الثلث، والوصية لوارث (مَوْقُوفَةً عَلَى الإِجَازَةِ) أي: إجازة الورثة لهما بعد الموت؛ لأن المنع لحقهم فإذا رَضُوا بإسقاطه جاز.
- فرع: تعتبر الإجازة بعد موت الموصي؛ لأن حق الورثة لا يثبت إلا بموته.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: تصح في حياة الموصي إذا وقعت في حال مرضه؛ فليس له الرجوع؛ لأنه تعلق حقهم بماله وانعقد لهم سبب الإرث؛ فيصح ولو قبل وجود الشرط.
الحالة الرابعة: أن تكون مكروهة: وأشار إليها المؤلف بقوله: (وَتُكْرَهُ) الوصية (مِنْ فَقِيرٍ) عرفًا (وَارِثُهُ مُحْتَاجٌ)؛ لحديث سعد السابق، ولأنَّه عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب.
الحالة الخامسة: أن تكون مباحة: إذا وصى بجميع ماله وليس له وارث؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إِنَّكُمْ مِنْ أَحْرَى حَيٍّ بِالكُوفَةِ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُكُمْ وَلَا يَدَعْ عَصَبَةً وَلَا رَحِمًا، فَمَا يَمْنَعُهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِي الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ» [عبد الرزاق: 16371]، ولأنَّ المنع فيما زاد على الثُّلث لحقِّ الورثة، فإذا عُدموا زال المانع.
- مسألة: (فَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالوَصَايَا)، كأن يكون ثلث ماله عند
الموت خمسين، وقد أوصى لزيد بمائة ولعمرو بخمسين ولمحمد بخمسين، ولم تُجِز الورثةُ الوصيةَ؛ (تَحَاصُّوا) أي: الموصى لهم (فِيهِ) أي: في الثُلث، فيدخل النقص على الجميع بالقِسط، وعلى هذا فإن نسبة الثُلُث إلى مجموع الوصايا في المثال السابق: الرُبُع، فيعطى كل واحد رُبُعَ وصيته، ولا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم؛ لأنَّهم تساوَوا في الأصل وتفاوتوا في المقدار، فوجبت المُحاصَّة؛ (كَمَسَائِل العَوْلِ) ويأتي بيانها في كتاب الفرائض.
- مسألة: (وَتُخْرَجُ) جميع (الوَاجِبَاتِ) التي على الميت (مِنْ) قضاء (دَيْنٍ، وَحَجٍّ) واجب، (وَزَكَاةٍ)، ونذر، وكفارة (مِنْ) جميع (رَأْسِ المَالِ مُطْلَقاً) أي: سواء كان أوصى به أو لم يوص اتفاقًا؛ لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء: 12]، ولحديث سعد بن الأَطْوَل رضي الله عنه قال: مات أخي وترك ثلاث مائة دينار، وترك ولدًا صغارًا، فأردت أن أنفقها عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَخَاكَ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ، فَاقْضِ عَنْهُ» [أحمد: 17227، وابن ماجه: 2433]، ولأن حق الورثة إنما هو بعد أداء الدين.