الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
إذا رأى ما يكره
جاءت الأحاديث السابقة ببيان أن هناك نوعًا من الرؤى يكرهها الرائي، وقد تبين لنا علامات هذا النوع، وأنه من تهويل الشيطان وتحزينه لابن آدم، لأن الشيطان يحب إحزان المؤمنين، كما قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [المجادلة: 10].
فكل شيء ينكد على الإنسان في حياته، ويعكر صفوها عليه فإن الشيطان حريص عليه سواء ذلك في اليقظة أو في المنام، لأن الشيطان عدو كما قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].
ومن عداوته أن يصور للإنسان في منامه ما يفزعه في نفسه أو ماله أو في أهله أو في مجتمعه، وهذا يحصل لكثير من الناس ويكثر السؤال عنه، وهذا النوع من الرؤيا أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التحرز منه، ومع ذلك تجد كثيرًا من الناس يجهل هذه الآداب التي أرشدنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد دلت الأحاديث التي ذكرتها في المباحث السابقة على بعض الآداب وكذلك ما أذكره من أحاديث أخرى في بيان الآداب التي يتأدب بها المسلم إذا رأى ما يكره وهي أحاديث كثيرة منها:
(1)
حديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه: «وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره» .
(2)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق عند أحمد وفيه: «وإذا رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصلِّ» .
(3)
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السابق وفيه: «ومن رأى سوى ذلك، فإنما هي من الشيطان ليحزنه، فلينفث عن يساره ثلاثًا، وليسكت ولا يخبر بها أحدًا» .
(4)
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما السابق وفيه: «ومن رأى غير ذلك، فليستعذ بالله من شر رؤياه، ولا يذكرها، فإنها لا تضره» .
(5)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق عن ابن عبد البر وفيه: «وإذا رأى أحدكم الرؤيا تسوؤه، فلا يذكرها ولا يفسرها» .
(6)
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق وفيه: «فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدثه أحدًا وليقم فليصل» (1).
وفي لفظ: «فمن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل» (2).
(7)
ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» (3).
وفي رواية أحمد «فليبزق» وقال يونس أحد رواة الحديث «فليبسق» .
(1) سبق تخريجه هذا الأحاديث.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
مسند الإمام أحمد (3/ 350) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا الحديث رقم (2262)(4/ 1772).
(8)
ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثًا وليستعذ مما رأى» (1).
(9)
ما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتحول، وليتفل عن يساره ثلاثًا، وليسأل الله من خيرها، وليتعوذ بالله من شرها» (2).
(10)
أخرج الإمام مالك والبخاري ومسلم من حديث يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت قتادة بن ربعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره إن شاء الله» قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أباليها (3).
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 178) رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات.
(2)
سنن ابن ماجة كتاب تعبير الرؤيا 4 - باب من رأى رؤيا يكرهها، الحديث رقم (3910)(2/ 1286) وإسناده ضعيف، لكن له شاهد من حديث جابر عند مسلم، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1311)، (3/ 294).
(3)
موطأ الإمام مالك، كتاب الرؤيا (2/ 957) وصحيح البخاري كتاب الطب 39 - باب النفث في الرقية الحديث رقم (5747)(4/ 45) وكتاب التعبير 3 - باب الرؤيا من الله الحديث رقم (6984)(4/ 296) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1771).
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة مختصرًا (1).
وزاد مسلم في رواية له: «وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» (2).
وفي رواية ابن ماجة قال: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإن رأى أحدكم شيئًا يكرهه، فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» .
ورواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم أيضًا من طريق الزهري عن أبي سلمة قال: كنت أرى الرؤيا أعرى منها (3)، غير أني لا أزمل (4) حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 310) وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا (5021)(2/ 724) وجامع الترمذي، كتاب الرؤيا 5 - باب إذا رأى في المنام ما يكره ما يضع الحديث رقم (2277)(4/ 535) وسنن ابن ماجة، كتاب التعبير الحديث رقم (3909)(2/ 1286).
(2)
صحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1772).
(3)
أعْرى: قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (3/ 226)"أي يصيبني البرد والرعدة من الخوف، يقال عُرِي فهو معروّ، والعرواء: الرعدة" وقال النووي في شرح صحيح مسلم (15/ 16) أعرى أي أُحمُّ لخوف من ظاهرها، قال أهل اللغة: عُري الرجل إذا أصابه عُراء، وهو نفض الحمَّى وقيل رعدة" وقال الجوهري في الصحاح (6/ 2424) "والعراء: قرة الحمى ومسها في أول ما تأخذ بالرعدة" ولهذا جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث عند البخاري «كنت أرى الرؤيا تمرضني» وفي لفظ لعبد الرزاق «ألقى منها شدة» وفي رواية «غير ألا أعاد» وفي رواية لمسلم (15/ 16)«أُزمَّل: أُغطى وأُلف كالمحموم» وانظر غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 71) والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 313) والصحاح للجوهري (4/ 1718).
(4)
أزَمَّلُ: قال النووي في شرح صحيح مسلم (15/ 16) أزمل: أغطى وألف كالمحموم. وانظر غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 71) والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 313) والصحاح للجوهري (4/ 1718).
والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثًا وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره» (1).
وفي رواية لأحمد قال: «فمن رأى رؤيا يكرهها فلا يخبر بها، وليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من شرها، فإنها لا تضره» قال سفيان مرة أخرى: «فإنه لن يرى شيئًا يكره» (2).
ورواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم أيضًا من طريق عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة، فقال: وأنا فكنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى ما يكرهه فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم وشرها، ولا يحدث بها أحدًا فإنها لا تضره» (3).
وفي رواية لمسلم قال: «الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئًا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا» (4).
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 305) وصححه البخاري كتاب التعبير 14 - باب الحلم من الشيطان «الحديث رقم» الحديث رقم (7005)(4/ 301) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا الحديث رقم (2261)(4/ 1771).
(2)
المسند (5/ 296).
(3)
مسند الإمام أحمد (5/ 303) وصحيح البخاري كتاب التعبير 46 - باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها الحديث رقم (2261)(4/ 309) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1772).
(4)
صحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1772).
ورواه الإمام أحمد والبخاري أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى رؤيا تعجبه فليحدث بها، فإنها بشرى من الله عز وجل، ومن رأى رؤيا يكرهها فلا يحدث بها، وليتفل عن يساره، وليتعوذ بالله من شرها» وهذا لفظ أحمد (1).
ولفظ البخاري قال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم فليتعوذ منه وليبصق عن شماله فإنها لا تضره» (2).
ورواه البخاري أيضًا من طريق عبيد الله بن جعفر بن أبي سلمة عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثًا، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره» (3).
ورواه الإمام أحمد والبخاري أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يخافه فليبصق عن شماله ثلاث مرات، وليتعوذ بالله من الشيطان فإنه لا يضره» وهذا لفظ أحمد (4).
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 309).
(2)
صحيح البخاري كتاب التعبير 4 - باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة الحديث رقم (6986)(4/ 296).
(3)
صحيح البخاري، كتاب التعبير 10 - باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام الحديث رقم (699)(4/ 299).
(4)
مسند الإمام أحمد (5/ 300).
وعند البخاري قال: «
…
فليبصق عن يساره وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره» (1).
فهذه جملة الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلم إذا رأى ما يكره، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مما يكره» أي يهوله، ويفزعه على ما تقدم في تفسير الحلم وأنه من تخيل الشيطان وتحزينه.
وحاصل هذه الآداب التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي ستة آداب كما يلي:
(1)
أن يستعيذ بالله من الشيطان ثلاثًا.
(2)
أن يستعيذ بالله من شر ما رأى.
(3)
أن يبصق عن يساره ثلاثًا.
(4)
أن يقوم فيصلي.
(5)
أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر.
(6)
ألَاّ يحدث بها أحدًا.
وإليك تفصيل هذه الآداب، وبيان الحكمة منها.
أولا: أن يستعيذ بالله من الشيطان ثلاثًا:
وذلك لأن الرؤى المكروهة من تخييل الشيطان وتحزينه وتهويله ليحزن بها الرائي، كما سبق في الأحاديث «والحلم من الشيطان» وفي بعضها «ورؤيا تحزين من الشيطان» وفي بعضها «تخويف من الشيطان» ، وفي بعضها «أهاويل من الشيطان»
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق 11 - باب صفة إبليس وجنوده الحديث رقم (3292)(2/ 441).
وأما معنى الاستعاذة من الشيطان، وصيغ الاستعاذة فهذا مبسوط في مواضعه (1).
ثانيًا: أن يستعيذ بالله من شر ما رأى:
فالاستعاذة بالله مشروعة عند كل أمر يكره، وقد جاء في هذه الأحاديث الأمر لمن رأى رؤيا يكرهها أن يستعيذ بالله من شرها، كما استعاذ بالله من شر الشيطان.
أما صفة التعوذ بالله من شر ما رأى فقد جاء في غير هذه الأحاديث.
فأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي قال: "إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي التي رأيت الليلة أن تضرني في ديني ودنياي يا رحمن"(2).
وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك في الموطأ، قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشيطان، وأن يحضرون» (3).
(1) انظر: جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (31 - 38) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 12 - 16) وتفسير المعوذتين لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والتفسير القيم لابن القيم (538 - 624).
(2)
الكتاب المصنف (6/ 183) الأثر رقم (30528) والمصنف لعبد الرزاق (11/ 214) وصحح أسانيدهما الحافظ في فتح الباري (12/ 371).
(3)
الموطأ (2/ 950) قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/ 372) وأخرجه النسائي من رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (كان خالد بن الوليد يفزع في منامه) فذكر نحوه، وزاد في أوله «إذا اضطجعت فقل: بسم الله» فذكره.
ورواه الإمام أحمد عن الوليد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني أجد وحشة، قال:«فإذا أخذت مضجعك فقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشيطان، وأن يحضرون، فإنه لا يضرك وبالحري ألَاّ يقربك» (1).
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: «بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشيطان وأن يحضرون» (2).
ولفظ الترمذي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا فزع أحدكم في النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره» .
ثالثًا: أن يبصق عن يساره ثلاثًا:
في الأحاديث السابقة، أمر صلى الله عليه وسلم من أُري رؤيا يكرهها أن يبصق عن يساره ثلاثًا إذا استيقظ.
(1) مسند الإمام أحمد (4/ 57)(6/ 6).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 181) وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (10/ 170)"إسناده صحيح" الحديث رقم (6696) وسنن أبي داود، كتاب الطب، باب كيف الرقي (2/ 405) رقم الحديث (3893) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 737) وسنن الترمذي، كتاب الدعوات الحديث رقم (3528)(5/ 541) وقال أبو عيسى "حديث حسن غريب" وحسنه الألباني كذلك في صحيح الترمذي (3/ 171) وأخرجه الحاكم في مستدركه وصححه.
وقد جاء الأمر بالبصق في حديث جابر، أما في حديث أبي قتادة فجاء بلفظ «فلينفث» وفي بعض رواياته بلفظ «وليتفل ثلاثًا» (1).
وفي حديث جابر عند الإمام أحمد بلفظ («فليبزق) ولفظ «فليبسق» (2).
فحاصل الألفاظ الواردة في هذه الأحاديث خمسة ألفاظ:
1 -
فلينفث.
…
2 - فليبصق.
3 -
فليبزق.
…
4 - فليبسق.
5 -
فليتفل.
أما البصق والبزق والبسق فهي بمعنى واحد، كما جاء في القاموس المحيط: البصاق والبساق والبزاق: ماء الفم إذا أخرج منه، وما دام فيه: فريق (3).
فحصل بذلك ثلاثة ألفاظ وهي:
1 -
فلينفث
…
2 - فليبصق
…
3 - فليتفل.
قال الجوهري في الصحاح: «التَفل: شبيه بالبزق، وهو أقل منه، أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ» (4).
وقال النووي رحمه الله: "وأكثر الروايات (فلينفث) وهو نفخ بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه"(5).
(1) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12/ 370) وهذه أتم الروايات عن أبي سلمة لفظًا.
(2)
مسند الإمام أحمد (3/ 350).
(3)
القاموس المحيط (1121).
(4)
الصحاح (4/ 1644) وانظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 298) والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/ 88).
(5)
شرح صحيح مسلم (15/ 18) وانظر: (14/ 182) في التفريق بين هذه الألفاظ.
وقال ابن حجر رحمه الله: "والذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى الريق قيل له بصاق، وبالنظر إلى النفخ قيل له نفث"(1).
وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك طردًا للشيطان، وتحقيرًا له، واستقذارًا، وخص باليسار لأنها محل الأقذار والمكروهات، واليمين ضدها والتثليث فيها للتأكيد (2).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "واستدل به على أن للوهم تأثيرًا في النفوس لأن التفل، وما ذكر معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا، فلو لم يكن للوهم تأثير لما أرشد إلى ما يدفعه، وكذا في النهي عن التحديث بما يكره، والأمر بالتحديث بما يحب لمن يحب"(3).
وقال الألوسي رحمه الله: "ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سببًا للسلامة عن المكروه، كما جعل الله الصدقة سببًا لدفع البلاء، وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار، والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلاً في السببية"(4).
والواجب على المسلم هو التسليم والامتثال لأمر الله ورسوله، ثم بعد ذلك لا مانع أن يسأل عن الحكمة والله أعلم.
رابعًا: أن يقوم فيصلي:
والأمر بالصلاة لما فيها من التضرع، والمناجاة لله عز وجل، وإغاضة الشيطان بعدم رجوعه إلى النوم ليعيد عليه التحزين.
قال ابن العربي رحمه الله: "لأن التحريم بها عصمة من الأسواء، ونهي عن المنكر والفحشاء"(5).
(1) فتح الباري (12/ 371).
(2)
انظر: المرجع السابق (12/ 371) وعارضة الأحوذي (9/ 129).
(3)
فتح الباري (12/ 372).
(4)
روح المعاني (12/ 182) المجلد (4) وانظر: عارضة الأحوذي (9/ 129).
(5)
عارضة الأحوذي (9/ 129).
وقال ابن حجر رحمه الله: "أما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجوء إليه، ولأن في التحريم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة، وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده"(1).
خامسًا: أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر:
أي يتحول عن الجنب الذي رأى فيه ما يكره إلى الجنب الثاني، والتحول للتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها، وسبق في الأدب الثالث أن الواجب على المسلم التسليم والامتثال لأمر الله ورسوله، وهذه الأمور جعلها الله أسبابًا للسلامة من الضرر.
سادسًا: ألا يحدث بها أحدًا.
فقد جاء في الأحاديث السابقة نهي من رأى رؤيا يكرهها أن يحدث بها أحدًا، بخلاف الرؤيا التي يحبها؛ فإنه يحدث بها من يحب، وذكرت بعض الحكم في ذلك.
ومن ذلك ما قاله النووي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يحدث بها أحدًا» .
سببه أنه ربما فسرها تفسيرًا مكروهًا على ظاهر صورتها، وكان ذلك محتملاً وجهين ففسرت بأحدهما وقعت على قرب تلك الصفة.
قالوا: وقد يكون ظاهر الرؤيا مكروهًا ويفسر بمحبوب وعكسه، وهذا معروف لأهله (2).
وذكر القاضي عياض رحمه الله فائدة أخرى في عدم الإخبار بها وهي:
(1) فتح الباري (12/ 371).
(2)
شرح صحيح مسلم (15/ 18).
خوف الشغل بمكروه تفسيرها، والتعذيب به مدة لا يعلم قربها من بعدها، فإن الرؤى تخرج بعد سنين، فإذا لم يخبر بها كان ذلك دواء لمكروهها.
وأيضًا إذا لم يخبر بها أحدًا بقي بين الرجاء والطمع في أنه لعل لها تفسيرًا حسنًا أو أنها من أضغاث الأحلام، وحديث النفس، فكان ذلك أسكن لنفسه، وأقل لتعذيب قلبه (1).
وقد جاء النهي أيضًا عن إخبار الرجل بتلعب الشيطان به في النوم من حديثين:
أحدهما: ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حلم أحدكم فلا يخبر أحدًا بتلعب الشيطان به في المنام» (2).
وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه، فقال: إني حلمت أن رأسي قطع، فأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام» (3).
ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضًا من حديث أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، رأيت البارحة فيما يرى النائم كأن عنقي خرجي فسقط رأسي فأتبعه فأخذته، فأعدته مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يحدثن به الناس» (4).
(1) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم للأبي (6/ 71).
(2)
مسند الإمام أحمد (3/ 350)(3/ 383) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا 1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث رقم (2268)(4/ 1776).
(3)
صحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1776).
(4)
مسند الإمام أحمد (3/ 315) وصحيح مسلم كتاب الرؤيا (4/ 1777).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد، وابن أبي شيبة وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت رأسي ضرب فرأيته يتدهده، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:«يطرق أحدكم الشيطان فيتهول ثم يغدو يخبر الناس» (1).
فإذا عرفنا هذه الآداب التي أرشد إليها نبينا صلى الله عليه وسلم يبقى أن نعرف بعض المسائل المتعلقة بهذه الآداب كما يلي:
المسألة الأولى: هل يكفي العمل ببعض هذه الآداب أو لا بد منها جميعًا؟
قال النووي رحمه الله: "وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات، ويعمل بها كلها، وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث"(2).
قال ابن حجر رحمه الله معقبًا على هذا: "لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [النحل: 98، 99] فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان"(3).
(1) مسند الإمام أحمد (2/ 364) وكتاب المصنف لابن أبي شيبة (6/ 175) الحديث رقم (30474) وسنن ابن ماجة، كتاب تعبير الرؤيا 5 - باب من لعب الشيطان به في منامه فلا يحدث به الناس الحديث رقم (3913)(2/ 1287).
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (15/ 18).
(3)
فتح الباري (12/ 371).
وقال أبو عباس القرطبي رحمه الله: "الصلاة تجمع ذلك كله؛ لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه، وبصق، ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنة وكرمه"(1).
المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا تضره» :
هذا إخبار بأن من فعل ما أمر به إذا رأى الرؤيا المكروهة، واجتنب ما نهى عنه من التحديث بها فإنها لا تضره؛ لأن الله تعالى جعل هذه الأشياء سببًا لسلامته من كل مكروه يترتب على تلك الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وسببًا لدفع البلاء، إذا فعل ذلك مصدقًا ومتكلا على الله سبحانه في دفع المكروه.
ولهذا قال أبو سلمة رحمه الله: "إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أباليها".
وفي بعض الروايات قال أبو سلمة: "إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني. قال: فلقيت أبا قتادة فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
الحديث".
وقوله: "فما كنت أباليها" أي فما التفت إليها، ولا ألقي لها بالاً (2).
وفي بعض الروايات، قال أبو سلمة:"كنت أرى الرؤيا أعرى منها، غير أني لا أزمل حتى لقيت أبا قتادة، فذكرت له ذلك".
وذكر المازري في قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لن تضره» قولين:
الأول: أن معنى تضره، أن الروع يذهب بهذا النفث المذكور في الحديث، إذا كان فاعله مصدقًا به متكلاً على الله جلت قدرته في دفع المكروه عنه.
(1) المرجع السابق (12/ 371).
(2)
انظر: إكمال إكمال المعلم (6/ 70).
الثاني: يحتمل أن يريد أن هذا الفعل يمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه، ويكون ذلك سببًا فيه، كما تكون الصدقة تدفع البلاء إلى غير ذلك من النظائر (1).
وقد جاء في بعض الروايات الحديث «(فإنه لن يرى شيئًا يكرهه» .
وإذا كانت تلك الرؤيا المكروهة من الشيطان ليحزن المؤمن، فإن الله قد رد كيده في نحره، ولن يضر المؤمن بإذن الله، إذا تمسك بأمر الله، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10].
المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى ما يكره» :
استثنى بعض العلماء من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ما يكره» الرؤيا الصادقة، لكونها قد تقع إنذارًا كما تقع تبشيرًا، وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي، فقالوا: لا يشرع إذا عرف أنها صادقة ما ذكر من الاستعاذة ونحوها، واستندوا في ذلك إلى ما ورد من مرائي النبي صلى الله عليه وسلم كالبقر التي تنحر، ونحو ذلك (2).
ولكن يرد على من قال هذا القول أن الحديث عام فيما يكره، ولهذا يرى بعض العلماء أن يلتزم بهذه الآداب في عموم الرؤيا التي يكرهها، ثم كون الرؤيا المكروهة صادقة هذا لا يقطع به إلا بعد الوقوع. وعلى هذا يبقى الحديث على عمومه.
(1) انظر: المعلم (3/ 116).
(2)
انظر: فتح الباري (12/ 372).
قال أبو عباس القرطبي رحمه الله: "ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا يعني ما كان من تهويل أو تخويف أو تحزين هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله، وفعل ما أمر به من التفل والتحول والصلاة، أذهب الله عنه ما به وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء".
وقيل: بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي بتناول ما يتسبب به الشيطان، وما لا تسبب له فيه، وفعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه، كما جاء في أن الدعاء يدفع البلاء، والصدقة تدفع ميتة السوء، وكل ذلك بقضاء الله وقدره (1).
وقال القاضي عياض رحمه الله: "يحتمل قوله «الرؤيا الحسنة» والصالحة أن يرجع إلى حسن ظاهرها أو صدقها كما أن قوله: «الرؤيا المكروهة» أو «رؤيا السوء» يحتمل سوء الظاهر أو سوء التأويل، وأما كتمها مع أنها قد تكون صادقة فخفيت حكمته، ويحتمل أن يكون لمخافة تعجيل اشتغال سر الرائي بمكروه تفسيرها؛ لأنه قد تبطئ فإذا لم يخبر بها زال تعجيل روعها، وتخويفها ويبقى إذا لم يعبرها له أحد بين الطمع في أن لها تفسيرًا حسنًا أو الرجاء في أنها من الأضغاث فيكون ذلك أسكن لنفسه"(2).
ويرى بعض العلماء أن كون الرؤيا مما يكره الرائي دليل على عدم صدقها، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه قال صلى الله عليه وسلم:«وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان» .
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (220) المخطوط.
(2)
فتح الباري (12/ 372) وإكمال إكمال المعلم (6/ 69 - 70).
قال ابن حجر رحمه الله في هذا الحديث: "ظاهر الحصر أن الرؤيا الصالحة لا تشمل على شيء مما يكره الرائي، ويؤيده مقابلة رؤيا البشرى بالحلم، وإضافة الحلم إلى الشيطان، وعلى هذا ففي قول أهل التعبير، ومن تبعهم أن الرؤيا الصادقة قد تكون بشرى، وقد تكون إنذارًا نظر؛ لأن الإنذار غالبًا يكون فيما يكره الرائي".
ثم أجاب على ذلك بقوله: "ويمكن الجمع بأن الإنذار لا يستلزم وقوع المكروه كما تقدم تقريره، وبأن المراد بما يكره ما هو أعم من ظاهر الرؤيا، ومما تعبر به"(1).
وقد تقرر سابقًا أن كون الرؤيا الصادقة تأتي في صورة إنذار لا يلزم من ذلك ترك ما أمر ما أمر به من الاستعاذة ونحوها، فقد يكون ذلك سببًا لدفع المكروه الإنذار مع حصول مقصود الإنذار.
وقال أيضًا: "فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة لأن من أنذر بما سيقع له، ولو كان لا يسُره أحسن حالا ممن هجم عليه ذلك، فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه فيكون ذلك تخفيفًا عنه، ورفقًا به» "(2).
ثم ليعلم أن هذه الآداب فيما يكره الرائي، أما ما لا يكره فإن هذا لا حكم له، فلا يضر ولا ينفع.
كما قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "وأما ما يرى أحيانًا مما يعجب الرائي، ولكنه لا يجده في اليقظة، ولا ما يدل عليه، فإنه يدخل في قسم
(1) فتح الباري (12/ 372).
(2)
المرجع السابق (12/ 372).
آخر، وهو ما كان الخاطر به مشغولا قبل النوم، فيراه فهذا لا يضر ولا ينفع" (1).
وعلى ذلك لا بأس أن يحدث به، لأنه لا حكم له، ولهذا جاء تقسيم الرؤيا في حديث أبي قتادة إلى قسمين: من الله، ومن الشيطان، لأن هذه الأقسام لها أحكامها التي ذكرت سابقًا، أما القسم الثالث فلا حكم له.
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم ص (220) المخطوط.