الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الرَّدُّ على شبهاتهم
تبيَّن في المبحث السابق أن الرؤى والمنامات مصدر تلق عند الصوفية، وهذا المصدر عندهم لا يتطرق إليه شك؛ بل هو من الأمور اليقينية، والعقائد الراسخة، وتبين كيف أنهم بنوا عليه كثيرًا من عقائدهم الباطلة، وكثير ممن كتب منهم في تراجم الصوفية ذكروا في تراجمهم أنهم رأوا الله، ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرهم بكذا أو نهاهم عن كذا، وهذا أمر لا ينكره أحد منهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكثير من المتصوفة يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة، وأوهام غير صادقة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم](1).
والرد على مذهبهم وشبهاتهم يكون من وجوه عامة وخاصة:
أما الوجوه العامة فكما يلي:
أولا: أن الحق الذي لا يشوبه باطل هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما عدا ذلك من المنامات والحكايات ونحوها ففيها الحق والباطل، ويعرف ذلك بعد عرضها على الكتاب والسنة؛ فما زكياه منها قبل وإلا رد على صاحبه مهما كان القائل به (2).
(1) قاعدة في المعجزات والكرامات لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوع ضمن مجموع الفتاوى له (11/ 339، 429).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 5، 7).
فالمؤمن هو الذي يستغني بالوحي، ويكتفي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيتبعه اتباعًا عامًا غير مشروط، وأما غيره فيتبع بشرط موافقته للشرع، ولهذا وجب عند التنازع والاختلاف: الردُّ إلى الله ورسوله، وكذلك يجب رد المنامات ونحوها إلى الكتاب والسنة، ووزنها بميزان الشرع.
فمن لم يبن على هذا الأصل العظيم علمه وعمله وسلوكه وجميع أمره، فليس من الدين في شيء (1)؛ فالله تعالى يقول:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31].
وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} . [النساء: 59].
وقال ابن الحاج رحمه الله: وليحذر مما يقع لبعض الناس في هذا الزمان؛ وهو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فيأمره بشيء أو ينهاه عن شيء فيتبعه فيقدم على فعله أو تركه لمجرد المنام دون عرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى
(1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (19 - 66) ومدارج السالكين (1/ 496) وقطر الولي شرح حديث الولي للشوكاني (278).
أقوال السلف رضي الله عنهم؛ قال تعالى في كتابه العزيز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ؛ فمعنى قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ} إلى كتاب الله تعالى.
ومعنى قوله: {وَالرَّسُولِ} أي إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته
…
إلى أن قال رحمه الله: ووجه ثالث وهو أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي» . جعل صلى الله عليه وسلم النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الأصلين الذين لا ثالث لهما، ومن اعتمد ما يراه في منامه فقد زاد لها ثالثًا (1).
وقال الشاطبي رحمه الله: وأضعف هؤلاء احتجاجًا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات وأقبلوا وأعرضوا بها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق هذا كثيرا للمتمرسين (2) برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي كذا، وأمرني بكذا. فيعمل بها ويترك بها، معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها (3).
(1) المدخل (4/ 286 - 287) والحديث سبق تخريجه.
(2)
التمرس: شدة الالتواء، والمراد التلعب بالدين والعبث به، والمقصود بهم هنا المقلدون للصوفية، انظر النهاية في غريب الحديث (4/ 318).
(3)
وقد سبق في مبحث هل يسوغ العمل وفق الرؤيا الصالحة؟ وأن ذلك بشرط موافقتها للشرع؛ فالعبرة حينئذ بالشرع لا بها، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم لا يعملون بالرؤيا حتى يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم كما في قصة الأذان، فإن أقرها وإلا فلا، وكذلك المؤمن لا بد أن يعرض رؤياه على الشريعة فإن وافقتها وإلا تركها، وانظر: المدخل لابن الحاج (4/ 293).
وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا، كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله ألا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة، يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت؛ فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعًا وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهو من ناحية البشارة؛ وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام.
وعن أبي يزيد البسطامي (1) رحمه الله قال: رأيت ربي في المنام، فقلت: كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالَ.
وشأن هذا الكلام من الشرع موجود، فالعمل بمقتضاه صحيح؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل؛ لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق، والوقوف على قدم العبودية والآيات تدل على هذا المعنى، كقوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41] وما أشبه ذلك، فلو رأى في النوم قائلا يقول: إن فلانًا سرق فاقطعه، أو عالمًا فسأله أو اعمل بما يقول لك، أو فلانًا زنى فحده، وما أشبه ذلك، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملاً بغير الشريعة، إذ ليس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وحي (2).
(1) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي، ويقال با يزيد (188 - 261هـ) صوفي شهير له شطحات كثيرة، ويعرف باتباعه الطيفورية أو البسطامية.
انظر ترجمته ومذهبه في طبقات الصوفية (ص74 - 76) والطبقات الكبرى (1/ 65، 66) والرسالة للقشيري (1/ 80 - 82) وشذرات الذهب (2/ 143 - 144).
(2)
الاعتصام (1/ 260، 261).
وقال ابن القيم رحمه الله: وأما رؤيا غيرهم - أي غير الأنبياء - فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقت وإلا لم يعمل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة، أو توطأت؟
قلنا: متى كانت استحال مخالفتها للوحي، بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمة، لم يعرف الرائي اندراجها فيه فتنبه الرؤيا على ذلك (1).
فالشريعة حاكم، لا محكوم عليها، ولو كان ما يقع من المنامات ونحوها حاكمًا على الشريعة بتخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تأويل ظاهر، أو نحو ذلك لكان غيرها حاكمًا عليها، وصارت محكومًا عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق (2).
ثانيًا: أن الرؤى منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
1 -
رؤيا من الله.
2 -
حلم من الشيطان.
3 -
وحديث نفس.
والتميز بينها مشكل، فمن أين يأتي اليقين بأن رؤيا فلان هذه من الله لا من النفس ولا من الشيطان، ولهذا لا عصمة فيها بخلاف رؤيا الأنبياء (3).
قال ابن الحاج رحمه الله: وإذا كانت الرؤيا على ما تقدم ذكره من التفصيل وأن المعتبر منها قسم واحد، فكيف يمكن السكون إلى ما يراه الرائي في نومه مع وجود
(1) مدارج السالكين (1/ 52).
(2)
انظر: مشتهى الخارف (ص81).
(3)
انظر: مدارج السالكين (1/ 62) والاعتصام (1/ 262) والتنكيل (2/ 259).
تلك الاحتمالات أو الإقدام على العمل بما يراه الرائي في نومه قبل أن يعرضه على الكتاب والسنة المضمون له العصمة اتباعهما هذا مما لا يتعقل (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء؛ أن يدعي أنه رأى منامًا فأما المنامات فكثير منها بل أكثرها كذب، وقد عرفنا في زماننا بمصر، والشام، والعراق من يدعي أنه رأى منامات تتعلق ببعض البقاع أنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك؛ ويكون كاذبًا وهذا شيء منتشر فرآئي المنام غالبًا ما يكون كاذبًا، وبتقدير صدقة فقد يكون الذي أخبره بذلك شيطان.
والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق؛ فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان» (2).
فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلا بد من تمييز كل نوع منها عن نوع (3).
وقال الشاطبي رحمه الله: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا بلا خلاف؛ إما لأنه لا يخطئ البتة، وإما أنه لا يقر على خطأ إن فرض فما ظنك بغير ذلك؟
(1) المدخل (4/ 292).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
رسالة لشيخ الإسلام في جواب لسؤال عن رأس الحسين، مطبوع ضمن مجموع الفتاوى له (217/ 457، 458).
فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم، أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل.
وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم؛ بل يجوز عليه الغلط، والخطأ والنسيان ويجوز أن يكون رؤياه حلمًا وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقه، واعتيد ذلك فيه، واطرد فإمكان الخطأ، والوهم باق، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم (1).
وقال ابن القيم رحمه الله: "ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي، والزهد، والرياضة والعمل بهاجسهم، وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع.
ويقولون: القلب إذا كان محفوظًا مع الله كانت هواجسه، وخواطره معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، الذين هم وسائط بين الله، عز وجل، وبين خلفه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ وليس بحجة على الخلق.
وقد كان سيد المحدثين الملهمين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ فيرجع إليه، وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها، ولا يحكم بها ولا يعمل بها (2).
(1) الموافقات (4/ 83، 84).
(2)
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 143) تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى (1407 هـ).
وما أحسن الرد الذي رد به الشنقيطي رحمه الله على الصوفية، حيث قال: إن المقرر في علم الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به، لعدم العصمة ولعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به.
وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضًا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم دون غيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن من دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات (1).
ثالثًا: إن الرؤيا قد تكون على خلاف ظاهرها، حتى رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سبق لنا (2).
رابعًا: يلزم من القول بحجية الرؤى أن تكون تجديدًا في الوحي يحكم به بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل بالإجماع.
قال الشاطبي رحمه الله يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي، فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع، قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على من عبرها، فقال لي: يظهر لك طاعة ويضمر معصية.
(1) أضواء البيان (4/ 159).
(2)
انظر التنكيل (2/ 259).
فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا معبرك بيوسف عليه السلام، أفبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحى المهدي، وقال: اخرج عني، ثم صرفه وأبعده.
ثم قال الشاطبي رحمه الله: "وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم فلا بد من النظر فيها أيضًا، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم استقر وإن أخبر بمخالف، فمحال لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية، لأن ذلك باطل بالإجماع؛ فمن رأى شيئًا من ذلك، فلا عمل عليه، وعن ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة، إذ لو رآه حقًا لم يخبره بما يخالف الشرع"(1).
خامسًا: أن النائم ليس من أهل التحمل للرواية، لعدم حفظه.
قال النووي رحمه الله: "إن الرائي وإن كانت رؤياه حقًا ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها، لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظًا لا مغفلا ولا سيئ الحفظ، ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه.
هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف ما يحكم به الولاة، أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه، أو ينهاه عن منهي عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة، فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه، لأن ذلك ليس حكمًا بمجرد المنام بل ما تقرر من أصل ذلك الشيء، والله أعلم" (2).
(1) الاعتصام (1/ 162).
(2)
شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 115).
وقال ابن الحاج رحمه الله: " إن الله لم يكلف عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة» وذكر منهم «النائم حتى يستيقظ» (1) لأنه إذا كان نائمًا فليس من أهل التكليف فلا يعمل بشيء يراه في منامه"(2).
وقال الشوكانيُّ رحمه الله في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكر جماعة من أهل العلم أنه يكون حجة، ويلزم العمل به، وقيل لا يكون حجة، ولا يثبت به حكم شرعي، وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رؤية حق، والشيطان لا يتمثل به، لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه"(3).
سادسًا: أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال فيها بقول، أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة، بل قبضه الله إليه عندما كمَّل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه، فأين الدليل على حجية الرؤى؟ (4).
أما الوجوه الخاصة في الرد على ما أوردوه من أدلة فكما يلي:
(1) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق (9/ 344) وأبو داود في سننه (9/ 4399) والترمذي في سننه (1423) وابن ماجه في سننه (2043) من حديث عائشة.
(2)
المدخل (4/ 286).
(3)
إرشاد الفحول ص (242)، وانظر: المدخل لابن الحاج (4/ 286) وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر (2/ 162) وطرح التثريب (8/ 213) وتهذيب موعظة المؤمنين للشيخ جمال الدين القاسمي ص (171، 172) راجعه وحققه محمود مهدي الاستانبولي ومحمد عيد عباس دار ابن القيم.
(4)
انظر: المدخل لابن بدران (297) وإرشاد الفحول للشوكاني (249).
أولاً: قولهم إن الرؤيا من أجزاء النبوة، فلا ينبغي أن تهمل.
يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست تعدل كمال الوحي، بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم في مقامه في بعض الوجوه، فقد صرف هذا الجزء إلى جهة البشارة والنذارة، وقد تقدم بيان كون الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة، وأن ذلك لا يعني أنها نبوة.
الوجه الثاني: من شرط الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، أن تكون صالحة من الرجل الصالح، وحصول هذه الشروط مما ينظر فيه، فقد تتوافر وقد لا تتوافر (1).
ثانيًا: قولهم إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد قال: «من رآني في المنام فقد رآني حقًا، فإن الشيطان لا يتمثل بي» وعلى هذا فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة.
والجواب أن معنى هذا الحديث أن رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام صحيحة وليست من أضغاث الأحلام إذا رآه على صورته التي وصفت لنا (2).
قال ابن رشد رحمه الله: "وليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني حقًا» أن كل من رآه في المنام فقد رآه حقيقة، بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة، ويراه الرائي على صفة، وغيره على صفة أخرى، ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته.
(1) انظر: الاعتصام (1/ 261) وعمدة القارئ شرح صحيح البخاري (24/ 134) وطرح التثريب (8/ 215).
(2)
انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 115).
وإنما معنى الحديث: من رآني على صورتي التي خلقت عليها، وإنما قال:«من رآني فقد رآني» وأني لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة، أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها، وهذا ما لا طريق لأحد إلى معرفته".
قال الشاطبي رحمه الله: "فهذا ما نقل عن ابن رشد، وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم وإن اعتقد الرائي أنه هو، ثم إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما، من معارف الرائي وغيرهم فيشير إلى رجل آخر هذا فلان النبي"(1).
(1) الاعتصام (1/ 263).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 43).
ثالثًا: ما ورد في خبر أبان بن أبي عياش، فقد قال القاضي عياض رحمه الله: هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة تثبت، ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء.
قال النووي رحمه الله معقبًا على كلام القاضي: "وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا الاتفاق على أنه لا يغيَّر بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع"(1).
قال الألباني رحمه الله: "ومن المقرر عند العلماء أن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي فبالأولى ألا يثبت بها حديث نبوي، والحديث أصل الأحكام بعد القرآن"(2).
هناك شبهات أخرى ذكرها ابن الحاج رحمه الله وأجاب عليها فقال:
فإن قال قائل: قد شرع الأذان بسبب المنام.
فالجواب: أن هذا يؤيد ما تقدم ذكره من عرض الرؤيا على الشريعة المطهرة فإذا وافقت أمضيت، وإن خالفت تركت بدليل أنهم لم يعملوا بما رأوه حتى عرضوه على صاحب الشريعة، صلوات الله وسلامه عليه فشرع بما رآه عليه الصلاة والسلام، فوجب أن يرجع في ذلك إليه، عليه الصلاة والسلام في حياته وإلى سنته بعد انتقاله إلى ربه عز وجل.
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (1/ 115).
(2)
سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 456) قال الشيخ ذلك في رده على السيوطي عندما ساق قصة عن حمزة بن عبد المجيد في أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن الحديث الموضوع من بلغه عني شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانًا به ورجاء لثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك، فقال: إنه عني وأنا قلته!
فإن قال قائل: فقد ورد من حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فيقول: «من رأى منكم الليلة رؤيا، فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول ما شاء الله أن يقول، فسألنا يومًا، هل رأى أحدكم رؤيا» قلنا: لا، وقال:«لكني رأيت الليلة رجلين أتياني» (1).
فالجواب: أن هذا يؤيد ما تقدم ذكره أيضًا، فكانوا يرجعون إليه، عليه الصلاة والسلام، لا إلى ما رأوه فكذلك الحكم بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام فالرجوع إلى شريعته لا إلى المرائي على ما تقدم ذكره.
فإذا عرضت الرؤيا على الكتاب والسنة فوافقت فهو حق وبشارة للرائي أو من رآه له لقوله عليه الصلاة والسلام: «لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات يراها
…
» (2).
وخلاصة الأمر كما قال الشاطبي رحمه الله: "وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة، نعم يأتي المرئي تأنيسًا، وبشارة، ونذارة خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا، ولا يبنون عليها أصلا وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم (3).
(1) سبق تخريجه ص 25.
(2)
المدخل لابن الحاج (4/ 293، 294) والحديث سبق تخريجه (205).
(3)
الاعتصام (1/ 264) وانظر: مناقشة الشيخ سعيد حوي للصوفية، في كتابه تربيتنا الروحية الباب الرابع عشر، في الرؤى والكشف والإلهام والكرامة ومحلها في دين الله والأخطاء الشائعة عنها وفيها وفي بعض الدوائر (209، 210) مع التنبه لما في هذا الكتاب من أخطاء عقدية، وخاصة فيما يتعلق بالكرامات، وانظر: نقد الدكتور عبد العزيز القارئ لهذا الكتاب في كتابه، العقيدة أولا .. لو كانوا يعلمون (42/ 48) الطبعة الثانية (1406هـ) مكتبة الدار بالمدينة المنورة.