الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
شروط المعبر للرؤيا
تعبير الرؤيا من باب الفتيا، والاستفتاء يشمل السؤال عن الأحكام والرؤى جميعًا.
وقد استعمل القرآن الاستفتاء بمعنى السؤال عن الرؤيا في قوله عز وجل حكاية عن يوسف عليه السلام: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46].
وإذا كان الأمر كذلك، فقد وضع العلماء شروطًا للمفتي ينبغي أن يتحلى بها المعبر للرؤيا (1) بل قد يكون الأمر أشد في باب الرؤيا كما قيل للإمام مالك رحمه الله، أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟! وقال مالك: "لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرًا أخبر به، وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا أو ليصمت".
قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؟ لقول من قال إنها على ما أولت عليه؟
(1) انظر: الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي (4/ 244 - 261) وإعلام الموقعين لابن القيم (4/ 157 - 414) وكتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، تأليف أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي، خرج أحاديث وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1404 هـ، وكتاب أدب الفتيا، لجلال الدين السيوطي، وكتاب الفتيا ومنهاج الإفتاء تأليف محمد سليمان الأشقر.
فقال: لا، ثم قال:"الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة"(1).
وقال السعدي رحمه الله: "تعبير الرؤيا داخل في الفتوى، واستشهد بالآيات السابقة، ثم قال: فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم"(2).
ولهذا لا ينبغي ألا يعبر الرؤيا إلا من توفرت فيه الشروط التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التالية:
(1)
أخرج الحاكم في مستدركه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا عالمًا، أو ناصحًا» (3).
(2)
أخرج الترمذي والدارمي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقصوا الرؤيا إلا على عالم، أو ناصح» (4).
(3)
أخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجة من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وهي على رجل طائر ما لم يحدث، فإذا حدث وقعت، ولا تحدثوا بها إلا عالمًا أو ناصحًا أو لبيبًا» (5).
وفي رواية قال، وأحسبه قال:«لا يقصها إلا على وادٍّ أو ذي رأي» .
وفي رواية قال: «لا يحدث بها إلا حبيبًا أو لبيبًا» .
(1) التمهيد لابن عبد البر (2/ 288).
(2)
تيسير الكريم الرحمن (4/ 77).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
فدلت هذه الأحاديث على أن الرؤيا الحسنة لا يحدث بها إلا العالم الناصح، الحبيب، اللبيب، الواد، ذو الرأي.
وإليك تفصيل هذه الشروط.
الأول: العالم، وهو المتفقه في الكتاب والسنة، مع مزيد فهم ومعرفة بالتعبير، وقد يكون الرجل عالمًا ولا يعبر الرؤيا.
قال ابن العربي رحمه الله: أما العالم فإنه يؤولها له على الخير مهما أمكنه (1).
وقال أيضًا في ذكر فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أول عالم بالرؤيا وتأويلها، ولا يكون ذلك إلا لمتبحر في العلوم كلها، فإن تفسير الرؤيا لا يستمد من بحر واحد، بل أصله الكتاب والسنة، وأمثال العرب، وأشعارها، والعرف والعادة (2).
الثاني: الناصح: لأنه يرشده إلى ما ينفعه ويعينه عليه، فلا يقع في قلبه إلا كل خير، ولا يعبر له إلا ما يسره.
الثالث: اللبيب: وهو العاقل (3) العارف بتأويلها، فإنه يخبر بتأويلها، وإن ساءته سكت وتركها.
الرابع: الحبيب وقد سبق أن الرؤيا لا يخبر بها إلا من يحب، فالحبيب إن عرف قال، وإن جهل سكت.
(1) عارضة الأحوذي (9/ 129).
(2)
عارضة الأحوذي (9/ 152).
(3)
انظر: الصحاح للجوهري (1/ 216) والنهاية في غريب الحديث (4/ 223) والقاموس المحيط ص (171).
أما غير الحبيب فربما حمله البغض والحسد على تفسيرها بمكروه فيحصل للرائي حزن ونكد، وسبق تفصيل ذلك.
قال ابن حجر رحمه الله: "والأولى الجمع بين الروايتين، فإن اللبيب عبر به عن العالم، والحبيب عبر به عن الناصح"(1).
ولكن جاء التفريق بينهما في حديث أبي رزين عند الإمام أحمد والترمذي حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ولا تحدثوا بها إلا عالمًا، أو ناصحًا، أو لبيبًا» ففرق بين العالم واللبيب.
الخامس: الواد، وهو الحبيب، فالود هو الحب (2).
قال أبو إسحاق الزجاج: "الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلا بما تحب، وغن لم يكن عالمًا بالعبارة، لم يعجل لك بما يغمك"(3).
السادس: ذو الرأي: هو ذو العقل والتدبير، قال في المصباح المنير:"ورجل ذو رأي، أي بصيرة وحذق في الأمور"(4).
قال أبو إسحاق الزجاج: "ذو الرأي، معناه ذو العلم بعبارتها، فهو يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منها، ولعله أن يكون في تفسيرها موعظة تردعك عن قبيح أنت عليه، أو يكون فيها بشرى، فتشكر الله عليها"(5).
وهذه الأوصاف الستة الواردة في الأحاديث السابقة ترجع إلى ثلاثة أوصاف: العالم، الناصح، اللبيب.
(1) فتح الباري (12/ 369).
(2)
انظر: القاموس المحيط ص (414).
(3)
شرح السنة للبغوي (12/ 214).
(4)
المصباح المنير ص (247).
(5)
شرح السنة للبغوي (12/ 214).
لأن الواد هو الحبيب الناصح، واللبيب هو العاقل ذو الرأي، ولهذا جاءت هذه الأوصاف الثلاثة في حديث أبي رزين وهي قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تحدثوا بها إلا عالمًا أو ناصحًا أو لبيبًا» .
وقد قال بعض العلماء أن «أو» الواردة في الحديث للتنويع (1).
وهذه الشروط المنصوص عليها في هذه الأحاديث شروط إجمالية، فيدخل فيها ما يذكره العلماء من الشروط التفصيلية (2).
(1) انظر: تحفة الأحوذي (6/ 559).
(2)
انظر: شروط المعبر في كتاب الحكومة النبوية ص (60).