المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية: الرؤى اصطلاحا - الرؤى عند أهل السنة والجماعة والمخالفين

[سهل العتيبي]

فهرس الكتاب

- ‌أصل هذا الكتاب

- ‌إهداء

- ‌المقدمة

- ‌أهمية هذا الموضوع

- ‌ صلة هذا الموضوع بالعقيدة والمذاهب المعاصرة

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج الدراسة:

- ‌تمهيد

- ‌أهمية الرؤى في حياة الناس

- ‌الباب الأولحقيقة الرؤى وأقسامها وعلاماتهاوعلاقتها بالنبوة

- ‌الفصل الأولحقيقة الرؤى

- ‌المبحث الأولالرؤى لغة واصطلاحًا

- ‌المسألة الأولى: الرؤى في اللغة

- ‌المسألة الثانية: الرؤى اصطلاحًا

- ‌المبحث الثانيالفرق بين الرُّؤْيا والحُلُم والفرق بين الرُّؤيا والرُّؤْية

- ‌المسألة الأولى: الفرق بين الرؤيا والحلم

- ‌المسألة الثانية: الفرق بين الرؤيا والرؤية

- ‌المبحث الثالثدلالات الرؤيا

- ‌المبحث الرابعتعلُّق الرؤيا بالروح

- ‌المسألة الأولى: تعريف الروح وصفاتها وخصائصها

- ‌المسألة الثانية: هل روح النائم تفارق جسده في المنام

- ‌المسألة الثالثة: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام

- ‌المطلب الأول: تلاقي أرواح الأحياء والأموات في المنام:

- ‌المطلب الثاني: تلاقي أرواح الأحياء في المنام:

- ‌الفصل الثانيأقسام الرؤى وعلاماتها

- ‌المبحث الأولأقسام الرؤى وعلاماتها

- ‌المبحث الثانيعلامات الرؤيا الصالحة وأقسامها

- ‌المسألة الأولى: صفات الرؤيا الصالحة

- ‌المسألة الثانية: أقسام الرؤيا الصالحة

- ‌المسألة الثالثة: علامات الرؤيا الصالحة

- ‌المسألة الرابعة: رؤيا المؤمن عند اقتراب الزمان

- ‌المسألة الخامسة: أسباب صدق الرؤيا الصالحة:

- ‌المسألة السادسة: هل يسوغ العمل وفق الرؤيا الصالحة

- ‌المبحث الثالثأقسام الناس في الرؤى

- ‌الفصل الثالثعلاقة الرؤى بالنبوة

- ‌المبحث الأولرؤيا الأنبياء وحي

- ‌المسألة الأولى: تعريف الوحي وأقسامه

- ‌المسألة الثانية: الرؤيا الصالحة أول مبدأ الوحي للأنبياء

- ‌المسألة الثالثة: رؤيا الأنبياء في المنام وحي وحق

- ‌المبحث الثانيكون الرؤيا الصالحة جزءًا من أجزاء النبوة

- ‌المسألة الأولى: الأحاديث الواردة في كون الرؤيا الصالحة جزءًا من أجزاء النبوة

- ‌المسألة الثانية: معنى كون الرؤيا الصالحة جزءًا من أجزاء النبوة

- ‌المسألة الثالثة: مواقف العلماء من اختلاف الروايات في تحديد أجزاء النبوة

- ‌المسألة الرابعة: هل تنسب رؤيا الكافر الصادقة إلى أجزاء النبوة

- ‌الباب الثانيأقوال المخالفين في الرؤىومناقشتهم

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولنظريات علماء النفس في الرؤى ومناقشتهم

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف علم النفس

- ‌المسألة الثانية: نشأة علم النفس وأطواره

- ‌المسألة الثالثة: مصادر المعرفة عند علماء النفس

- ‌المبحث الأولنظرية التحليل النفسي، ومناقشتها

- ‌المسألة الأولى: نظرية التحليل النفسي

- ‌المسألة الثانية: مناقشة هذه النظرية

- ‌المبحث الثانينظرية التنبيهات الخارجية، ومناقشتها

- ‌المسألة الأولى: نظرية التنبيهات الخارجية

- ‌المسألة الثانية: مناقشة هذه النظرية

- ‌الفصل الثانيمذهب الصوفية في الرؤىوالرد عليهم

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: أصل التسمية

- ‌المسألة الثانية: التصوف اصطلاحًا

- ‌المسألة الثالثة: نشأة التصوف وأطواره

- ‌المسألة الرابعة: وسائل المعرفة عند الصوفية

- ‌المسألة الخامسة: كيفية اكتساب المعرفة الصوفية

- ‌المبحث الأولمذهب الصوفية في الرؤى

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصوفية للرؤيا

- ‌المسألة الثانية: مكانة الرؤى عند الصوفية

- ‌المسألة الثالثة: الأمور التي يستمدونها من الرؤى

- ‌المسألة الرابعة: شبهاتهم في جعل الرؤى مصدرًا للتلقي والمعرفة

- ‌المبحث الثانيالرَّدُّ على شبهاتهم

- ‌الباب الثالثأحكام الرؤى وآدابها

- ‌الفصل الأولأحكام الرؤى

- ‌المبحث الأول: رؤية الله في المنام

- ‌تمهيد: رؤية الله عيانًا

- ‌المسألة الأولى: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام

- ‌المسألة الثانية: هل يرى المؤمن ربه في المنام

- ‌المبحث الثانيرؤية الملائكة في المنام

- ‌المبحث الثالثرؤية الأنبياء في المنام

- ‌المسألة الأولى: الأحاديث الواردة في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام

- ‌المسألة الثانية: أقوال العلماء في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام

- ‌المسألة الثالثة: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة»

- ‌المبحث الرابعرؤية الأنبياء في المنام

- ‌المبحث الخامسالكذب في الرؤيا

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكذب

- ‌المسألة الثانية: تحريم الكذب عمومًا

- ‌المسألة الثالثة: تغليظ الكذب والافتراء على الله

- ‌المسألة الرابعة: الكذب في الرؤيا

- ‌الفصل الثانيأحكام تعبير الرؤى

- ‌تمهيدحقيقة علم التعبير

- ‌المسألة الأولى: تعريف التعبير لغة واصطلاحًا

- ‌المسألة الثانية: حقيقة علم التعبير

- ‌المسألة الثالثة: هل هذا العلم توقيفي أو لا

- ‌المسألة الرابعة: مكانة هذا العلم

- ‌المبحث الأولأقسام تأويل الرؤى وقواعده

- ‌المسألة الأولى: تعريف التأويل لغة واصطلاحًا

- ‌المسألة الثانية: الأصل في التعبير

- ‌المسألة الثالثة: أقسام تأويل الرؤيا

- ‌المسألة الرابعة: من كليات التعبير

- ‌المبحث الثانيهل الرؤيا إذا عبرت وقعت

- ‌المبحث الثالثأمثلة من تأويل الرؤى في السنة

- ‌الفصل الثالثآداب الرؤى

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولإذا رأى ما يحب

- ‌المبحث الثانيإذا رأى ما يكره

- ‌المبحث الثالثشروط المعبر للرؤيا

- ‌المبحث الرابعآداب المعبر

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع والمصادر

- ‌من إصدارات الصندوق الخيريلنشر البحوث والرسائل العلمية

الفصل: ‌المسألة الثانية: الرؤى اصطلاحا

يرى في المنام، وهو فعلي، وقد يخفف فيه الهمزة فيقال بالواو» (1).

والألف فيها للتأنيث ولذلك لم تنصرف (2).

‌المسألة الثانية: الرؤى اصطلاحًا

إذا عرفنا أن الرؤى في اللغة جمع رؤيا، وهي ما يراه الإنسان في منامه، فإننا لا نجد فرقًا بين المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي، وإنما اختلف الناس في بيان كيفية هذه الرؤى وحقيقتها اختلافًا عظيمًا {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].

وسبب اختلافهم في حقيقة الرؤيا، هو إعراضهم عن الكتاب والسنة، ومحاولة الوقوف على أمور لا تدرك بالعقول.

قال المازري (3) رحمه الله: «كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لما حاولوا الوقوف على حقائق لا تعلم بالعقل، ولا يقوم عليها البرهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت لذلك مقالاتهم» (4).

(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن (188) تحقيق: نديم المرعشلي، دار الفكر، بيروت.

(2)

انظر: المصباح المنير، تأليف أحمد بن محمد الفيومي (247) المكتبة العلمية، بيروت.

(3)

هو الشيخ الإمام العلامة البحر المتقن، أبو عبد الله، محمد بن علي المازري (453 - 536) من فقهاء المالكية، وينسب إلى مازر بجزيرة صقلية، مصنف كتاب المعلم بفوائد مسلم" و"الكشف والإنباء في الرد على الإحياء للغزالي" أخذ عنه القاضي عياض. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (20/ 104 - 107) ووفيات الأعيان (3/ 413) وشذرات الذهب (4/ 114).

(4)

المعلم بفوائد مسلم (3/ 115) تقديم وتحقيق: محمد الشاذلي النيفر، دار العرب الإسلامي، بيروت الطبعة الثانية (1992) م.

ص: 44

وقال أبو العباس القرطبي (1) رحمه الله في كتابه المفهم: "وقد اختلف في كيفية الرؤيا قديمًا وحديثًا، فقال غير الشرعيين أقوالاً مختلفة وصاروا فيها إلى مذاهب مضطربة قد عريت عن البرهان فأشبهت الهذيان، وسبب ذلك التخليط العظيم؛ الإعراض عما جاءت به الأنبياء من الصراط المستقيم (2).

ونتيجة لهذا السبب تعددت أقوالهم في الرؤيا، وقد ذكر جملة من هذه الأقوال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (3) والإمام ابن حزم (4) رحمه الله في كتابيه الفصل في الملل

(1) هو أبو العباس، أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث، وهو شيخ القرطبي المفسر (578 - 656 هـ) من كتبه المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، قال ابن كثير رحمه الله: وشرح صحيح مسلم المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة.

انظر: ترجمته في: البداية والنهاية (13/ 226) والأعلام للزركلي (1/ 1869) ومعجم المؤلفين (2/ 27).

(2)

المفهم (4/ 216) مخطوط مصور في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (7497) ف.

(3)

انظر: مقالات الإسلاميين (2/ 107) تحقيق: محمد محيي الدين، الطبعة الأولى، عام (1369) هـ، مكتبة النهضة المصرية.

(4)

هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلس القرطبي (384 - 456) كان إمامًا حافظًا فقيهًا ظاهري المذهب، فاق أهل زمانه، تبحر في علم المنطق حتى أدى به إلى تأويل الصفات، وكان في بيت وزارة ورئاسة ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحبًا للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري.

انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 183 - 212) وأطال في ترجمته والبداية والنهاية (12/ 98) وشذرات الذهب (3/ 299 - 300) ولسان الميزان (4/ 198 - 202) وغيرها كثير.

ص: 45

والأهواء والنحل (1) والأصول والفروع (2) وذكرها ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح (3) وغيرهم.

وسأذكر - بعون الله - أهم هذه الأقوال وأشهرها، مع المناقشة لكل قول ثم أختم بقول أهل الحق مع بيان أدلته النقلية والعقلية إن شاء الله تعالى.

القول الأول: قال صالح بن قبة (4): إن الرؤيا حق، وما يراه النائم في نومه صحيح كرؤية العينين في اليقظة، فإذا رأى الإنسان في المنام كأنه بأفريقية وهو ببغداد فقد اخترعه الله سبحانه بأفريقية في ذلك الوقت (5).

الرد: قوله: «إن الرؤيا حق» هذه العبارة فيها إجمال فإن كان المقصود بها أن الرؤيا الصالحة حق بمعنى أنها ليست خيالات باطلة، فهذا صحيح.

أما إن كان قصده بهذه العبارة أن ما يراه النائم كرؤية اليقظة فهذا لا يشك عاقل في بطلانه فهو في غاية الفساد والبطلان، فالواقع والعقل يبطلانه.

أما الواقع: فنحن نشاهد أن النائم عندنا، ورأى نفسه في ذلك الوقت في أفريقية مثلاً.

(1) انظر: الفصل (5/ 123، 124) بتحقيق محمد نصر وعميرة دار الجيل (1405) هـ

(2)

انظر: الأصول والفروع (1/ 243 - 245) الطبعة الأولى (1978) دار النهضة القاهرة.

(3)

انظر: الروح (29، 30) مكتبة الرياض الحديثة.

(4)

هو أبو جعفر صالح بن محمد بن قبة، من متكلمة الشيعة، ومن أئمة المعتزلة، وله كتب كثيرة، ذكره ابن طاهر في الفرق بين الفرق (124) أنه من المرجئة القدرية وذكر زهدي النجار في كتابه المعتزلة (145) أنه توفي سنة 246 هـ انظر ترجمته في: فرق وطبقات المعتزلة (281) للقاضي عبد الجبار الهمذاني.

(5)

انظر: كتاب المواقف في علم الكلام للإيجي (6/ 112) ومقالات الإسلاميين للأشعري (2/ 107) والفصل في الملل والنحل لابن حزم (5/ 71، 123) والأصول والفروع له (1/ 243).

ص: 46

وأما من طريق العقل، فإن النائم يرى من الأحلام من كونه مقطوع الرأس مثلا، وهو حي، وما أشبه ذلك، كما جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:«لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك» (1) فعلى هذا القول يكون رأسه قد قطعت حقيقة وهو حي، وهذا من الباطل بمكان (2).

القول الثاني: قال أكثر المعتزلة (3) إن ما يراه الإنسان في منامه إنما هو تخيلات باطلة لا حقيقة لها ولا تدل على شيء (4).

الرد: إن القول بأن الرؤيا جميعها خيالات باطلة، قول باطل وغريب، حيث دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الرؤيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام ومنها الرؤيا الصادقة، والتي منها رؤيا الأنبياء والتي هي من الوحي.

فمن الكتاب قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] ورؤيا الحق

(1) سبق تخريجه (24) وله روايات متعددة عند مسلم في صحيحه.

(2)

انظر: الفصل في الملل والنحل (5/ 123) والأصول والفروع (1/ 243).

(3)

المعتزلة: هم اتباع واصل بن عطاء الغزال (ت131 هـ) سمي هو وأصحابه بالمعتزلة لأنه اعتزل مجلس الحسن البصري عندما سئل عن حكم صاحب الكبيرة، فقال، واصل بأنه ليس بمؤمن ولا كافر، وسلكت المعتزلة منهجًا عقليًا في العقيدة، وهم فرق كثير لكل فرقة آراء تميزت بها، لكن اتفقوا على أصول خمسة هي: التوحيد، والعدل والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهم تفسيراتهم المنحرفة لهذه الأصول.

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 235) والفرق بين الفرق (20) والملل والنحل للشهرستاني (1/ 50). والتنبيه والرد للملطي (35 - 41) والبرهان في عقائد أهل الأديان (26، 27).

(4)

انظر: جواهر الكلام للإيجي (173) تحقيق: الدكتور عفيفي والموافق (6/ 111) ومقالات الإسلاميين (2/ 107) وفيه قال الأشعري رحمه الله: «وقال بعض المعتزلة الرؤيا ثلاثة أنحاء» ثم عقب يقول أهل الحديث.

ص: 47

هي التي لا بد من وقوعها وصدقها، فهي ليست من قبيل أضغاث الأحلام.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان ..» (1).

قال الخوارزمي (2) في كتابه مفيد العلوم ومبيد الهموم: «الباب السادس في سؤال المعتزلة في الرؤيا» .

قالوا: كيف يجوز أن يرى ألف إنسان في وقت واحد النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم في بلد غير بلد صاحبه، وهل يجوز أن يكون جسم واحد في ألف مكان، فلهذا أجمعنا على إبطال الرؤيا سوى رؤية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

أجاب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: تجويزكم صحة رؤيا الأنبياء يبطل قولكم ببطلانها لغير الأنبياء .. (3).

(1) أخرجه الترمذي في جامعة في كتاب الرؤيا، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوية (4/ 532) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى، كاب التعبير، باب إذا رأى ما يكره (4/ 390) من حديث أبي هريرة رحمه الله، وصححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 328 - 330).

(2)

هو جمال الدين أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي، ثم البغدادي (ت403 هـ) كان ثقة دينا حسن الصلاة على طريق السلف انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 2359 والبداية والنهاية (11/ 374) وشذرات الذهب (3/ 170).

(3)

مفيد العلوم ومبيد الهموم (534) تحقيق: عبد الله الأنصاري طبعة (1400) المكتبة العصرية، بيروت وقد طبع هذا الكتاب ثلاث طبعات وينسب فيها للخوارزمي المذكور ومنها الطبعة التي ذكرتها بحقيق الأنصاري، وطبعتين بمصر سنة 1310هـ، 1331 وطبع ونسبت في هذه الطبعة إلى زكريا بن محمد بن محمود القزويني (605 - 682) ولم يذكر سببًا واضحًا في نسبة الكتاب للقزويني سوى أنه وجده على بعض النسخ، والله أعلم.

ص: 48

(1) هو الإمام العلامة الحافظ القاضي، أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المالكي الأندلسي (468 - 543هـ) كان فقيهًا عالمًا صحب الغزالي وأخذ عنه وكان يتهمه برأي الفلاسفة.

انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (20/ 197 - 204) والبداية والنهاية (12/ 245) وشذرات الذهب (4/ 141).

(2)

انظر قولهم في إنكار الجن: الفصل في الملل والنحل (5/ 57) وتفسير الرازي (1/ 432).

(3)

إكمال المعلم (6/ 69) وانظر: إشارات الإمام (158).

(4)

القدرية هم الذين ينفون مشيئة الله في أفعال العباد، والمراد بهم هنا المعتزلة لأنهم زعموا أن هم الذين يخلقون أفعالهم استقلالاً وليس لمشيئة الله أثر فيها.

قال البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق (115) في بيان لما أجمعت عليه المعتزلة، وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون إكسابهم وأنه ليس لله عز وجل، في إكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية، وسماهم المسلمون أيضًا مجوس هذه الأمة.

وانظر: تأويل مختلف الحديث (91 - 95) والفصل في الملل والنحل (3/ 33) والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (26) والملل والنحل (1/ 54).

(5)

عارضة الأحوذي (9/ 130).

ص: 49

وممن نسب هذا القول لبعض المعتزلة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو معروف بدقة معرفته بأقوال أهل الملل والنحل ورده عليهم.

حيث قال في كتابه بيان تلبيس الجهمية: «وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، يعني في المنام، والنقل بذلك متواتر عمن رأي ربه في المنام، ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام، فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم» (1).

وقريب من قول المعتزلة السابق في حقيقة الرؤيا، ما ينسب إلى الأشاعرة (2) فقد ذكر الإيجي (3) وهو أشعري العقيدة، في كتابه المواقف في علم الكلام أن قول المعتزلة والأشاعرة في الرؤيا أنها خيال باطل، وإنما فرق بين القولين في التعليل فقط.

فقال: «وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين، أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك، من المقابلة وانبعاث الشعاع، وتوسط الهواء، وأما عند الأصحاب إذا

(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 73).

(2)

هم الذي ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، من المتكلمين، يقولون لله تعالى سبع صفات، السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والقدرة، والإرادة والحياة، وبقية الصفات يؤولونها وينكرون الأسباب والحكم، وأهم خلاف لهم مع أهل السنة في الصفات وفي كلام الله، وعندهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، انظر آرائهم في: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 94) والفصل في الملل والنحل (5/ 77).

(3)

هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي (708 - 756 هـ).

انظر ترجمته في: الدرر الكامنة (2/ 323) وشذرات الذهب (6/ 174، 175) ومعجم المؤلفين (5/ 119).

ص: 50

لم يشترطوا شيئًا من ذلك، فلأنه خلاف العادة، والنوم ضد للإدراك» (1).

وقد نسب هذا القول الألوسي (2) رحمه الله للمتكلمين، والأشاعرة من المتكلمين فقال:«والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها» (3).

ولكن لما ذكر ابن القيم رحمه الله اضطراب الناس في حقيقة الرؤيا، ذكر أن هناك من يعرف الرؤى بأنها: علوم علقها الله في النفس ابتداء بلا سبب.

ثم قال: «وهذا قول منكري الأسباب والحكم والقوي، وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة» (4).

وقوله رحمه الله: وهذا قول منكري الأسباب والحكم هذه العبارة كثيرًا ما يطلقها ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمها الله على الأشاعرة (5).

(1) المواقف (6/ 111).

(2)

الألوسي: شهاب الدين، أبو الثناء محمود بن عبد الله الألوسي (1217 - 1270 هـ) صاحب التفسير المشهور روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني"

انظر ترجمه في: معجم المؤلفين (12/ 175).

(3)

روح المعاني (12/ 182) ويظهر أن هذا القول لبعض الأشاعرة لأن الرازي وهو أشعري قال بقول الفلاسفة، والمازري وهو أشعري يخالف هذا القول، وكذا الغزالي وهو من مثبتي دعائم المذهب الأشعري ومن أكابر أنصاره يميل إلى قول الفلاسفة كما سيأتي توضيح أقوالهم إن شاء الله.

(4)

الروح (30).

(5)

انظر: الصفدية (1/ 143، 147) تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، وأشار إلى هذا الرأي الألوسي رحمه الله في تفسيره بعد أن ذكر الأقوال في أسباب الرؤيا وأن هناك من قال بأنها اعتقادات يخلقها الله في قلب النائم، وقيل هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة، ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة، قال: وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب النائم .. إلخ، أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك. أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلاً ثم قال: والمسببات في المشهور عند الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها فتدبر روح المعاني (12/ 181).

ص: 51

ولم يبين رحمه الله وجه مخالفة هذا القول للشرع، والعقل، والفطرة، ولعل ما ذكرته في الرد على المعتزلة يبين وجه هذه المخالفة.

القول الثالث: قال الفلاسفة (1) في حقيقة الرؤيا:

إن الحس المشترك (2) في الإنسان والذي هو مجمع الحواس

الظاهرة، إذا أخذ الصورة الخارجية من الحواس الظاهرة

يؤديها إلى القوة المتخيلة (3) التي من شأنها تركيب الصورة

فربما انطبعت تلك الصور في الحس المشترك وصارت مشاهدة

(1) الفلاسفة: من ينسبون إلى الفلسفة وهي كلمة يونانية تعني محبة الحكمة، يبنون آرائهم على نظريات باطلة كنظرة الاتصال بالعقل الفعال ونظرية السعادة وغيرهما، ومن مذهبهم أن العالم قديم وعله مؤثرة بالإيجاب وليست علة فاعلة بالاختيار، وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل (1/ 8، 12) إن الفلاسفة يسلكون طريق التبديل مثل المتكلمين، ولكنهم أهل الوهم والتخييل، والمتكلمون هم أهم التحريف والتأويل، وكذا وصفهم ابن القيم رحمه الله بأنهم أصحاب التخييل، لأنهم يعتقدون أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق إذ لهم إدراكها، وإنما أبرزوا لهم المعقول في صورة المحسوس، انظر: كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" تحقيق الدكتور: علي بن محمد الدخيل الله (2/ 418).

انظر في عرض آرائهم والرد عليهم: الملل والنحل للشهرستاني (2/ 58) وهو من أحسن ما كتب الفلاسفة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب الرد على المنطقيين والصفدية، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتاريخ الفلسفة اليونانية يوسف كرم (17 - 19).

(2)

الحس المشترك عرفه التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 302، 304) بأنه: القوة التي ترتسم لها صور الجزئيات المحسوس بالحواس الظاهرة، وانظر التعريفات للجرجاني (91) والمباحث المشرقية للرازي (2/ 429).

(3)

قال الجرجاني في التعريفات (308): هي قوة محلها مقدم التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها التصرف في الصور والمعاني بالتركيب والتفصيل فتركب الصور بعضها ببعض .. وانظر: المباحث الشرقية للرازي (2/ 429).

ص: 52

على حسب مشاهدة الصور الخارجية، فإن الصور الخارجية لم تكن مشاهدة لكونها صورة خارجية بل لكونها مرتسمة في الحس المشترك.

قالوا: ومن طباع القوة المتخيلة التصوير والتشبيح دائمًا، إلا أن هناك أمرين صارفين لها عن فعلها:

أحدهما: توارد الصور من الخارج على الحس المشترك، فإنه إذا انتقش بهذه الصورة لم يتسع لانتقاشه بالصور التي تركبها القوة المتخيلة فيعوقها ذلك عن عملها لعدم القابل.

وثانيها: تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها فتتعوق بذلك عن عملها، وإذا انتفى هذان الشاغلان أو أحدهما تفرغت القوة المتخيلة لفعلها في التصور، والشخص إذا نام انقطع عن الحس المشترك توارد الصور من الخارج، فيتسع لانتقاش الصور من الداخل.

قالوا: إذا عرفت هذا فنقول ما يدركه النائم ويشاهده صور مرتسمة في الحس المشترك موجودة فيه ويكون ذلك على وجهين:

الأول: أن يرد ذلك المدرك على الحس المشترك من النفس الناطقة (1) وهي تأخذه من العقل الفعال (2) فإن جميع صور الكائنات من الأزل إلى الأبد مرتسم فيه.

(1) هي الروح عند الفلاسفة، عرفها الجرجاني في التعريفات (293) فقال:"هي الجوهر المجرد عن المادة في ذواتها مقارنة بها في أفعالها" وانظر: كتاب المباحث الشرقية (2/ 433).

(2)

وهو عندهم أحد العقول العشرية المتصرفة في الكون، وهو نقطة الاتصال بين العبد وربه ومصدر الشرائع والقوانين، فالله سبحانه وتعالى، عندهم لم يخلف إلا شيئًا واحدًا وهو العقل الأول وكان العقل الأول غيره، فالعلم بالحوادث منتقش في العقل أو النفس الملكية فإذا اتصلت به النفس الناطقة عملت ذلك في صورة خيار، والسبب الموجب للاتصال ضعف تعلقها بالبدن وانظر: آراء أهل المدينة الفاضلة (57، 58) وقد رد عليهم شيخ الإسلام في هذه المسألة في كتابه الصفدية (1/ 201 - 209).

ص: 53

قالوا: فإن تصرف فيه الحس المشترك، فيحتاج إلى تعبير وإن لم يتصرف فيه فلا يحتاج إلى تعبير.

الثاني: أن يرد على الحس المشترك، صور المحسوسات بالحواس الظاهرة مما ارتسم في الخيال، أثناء اليقظة، أو يرتسم فيه مما يوجبه مرض كثوران خلط، أو تغير مزاج.

والوجه الأول عندهم هو سبب الرؤيا الصادقة.

والوجه الثاني: هو سبب الرؤيا الكاذبة (1).

الرد:

هذا القول لا شك في بطلانه وذلك من وجوه.

أولا: فيما يتعلق بقولهم في سبب الرؤيا الصادقة، وأنها تأتي نتيجة ارتسام

(1) انظر: آراء أهل المدينة الفاضل للفارابي (63 - 68) وكتاب الشفاء لابن سينا، المقالة الرابعة من الفن السادس (157 - 177) والمباحث المشرقية للرازي (2/ 429 - 433) والنجاة لابن سينا (334، 335) ومقاصد الفلاسفة للغزالي (157 - 161) وكتاب المواقف في علم الكلام للإيجي (6/ 112 - 115) وتفسير الرازي (18/ 135) وهذا القول في حقيقة الرؤيا بني عليه الفلاسفة نظريات باطلة في النبوة، حيث قالوا إن النبوة مكتسبة، ولا تنقطع لأنه إذا جاز أن يرى الإنسان منامًا يدل على أمور غائبة أمكن العلم بجميع الأمور الغائبة. انظر: الصفدية (1/ 79) بل قالوا إن الحكيم أفضل من النبي لأنه يتصل بالله مباشرة بخلاف النبي فيحتاج إلى واسطة وهي قدرة المتخيلة على الاتصال بالعقل الفعال في اليقظة. ولهذا قال الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضل (63) القول في سبب المنامات" ثم عقب ذلك بقوله: "القول في الوحي ورؤية الملك" ومن اهتمامات الفلاسفة، بالرؤى في المنامات ألفوا فيها الكتب الخاصة مثل: رسالة الأحلام ورسالة التنبوء بواسطة النوم، كلاهما أرسطو، وألف الكندي رسالة في ماهية النوم انظر: كتاب "في الفلسفة الإسلامية" (1/ 9) للدكتور إبراهيم مدكور، وانظر: المباحث المشرقية (2/ 429 - 435).

ص: 54

الصور في الحس المشترك الذي يأخذها من النفس الناطقة والتي تأخذ ذلك من العقل الفعال. وهذا قول باطل لأنه لا دليل عليه من النقل ولا من العقل، فلم يرد عن طريق الوحي، والعقل لا يدرك هذه الأشياء. وعامة ما يعتمدون عليه هو التجويز الذهني (1).

ثانيًا: قولهم في الوجه الثاني أن حصول الرؤيا الكاذبة بسبب الأخلاط.

قال ابن العربي المالكي رحمه الله في رده عليهم: "تقسيمه صلى الله عليه وسلم الرؤيا ثلاثة أقسام هي قسمة صحيحة مستوفية للمعاني، وهي عند الفلاسفة على أربعة أقسام بحسب الطبائع الأربع (2).

وقد بينا في كل كتاب، ونادينا على كل باب وصرخا على الوهاد والأنقاب (3)، بأنه لا تأثير للأخلاط (4).

وقال المازري رحمه الله بعد أن ذكر قول الفلاسفة السابق: "وهذا مذهب وإن جوزه العقل وأمكن عندنا أن يجري الباري جلت قدرته العادة بأن يخلق مثلما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط فإنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط

(1) وانظر المنهج في الرد على الفلاسفة في كثير في مقالاتهم في الصفدية (1/ 163، 181) فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن عامة ما يعتمد عليه الفلاسفة إنما هو التجويز الذهني.

(2)

هي عند الفلاسفة كما يقول الرازي في المباحث المشرقية (2/ 431) الذي يميل مزاجه إلى الحرارة يرى النيران في النوم، ومن مال مزاجه إلى البرودة يرى الثلوج، ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى الأمطار، ومن مال مزاجه إلى اليبوسة يرى الأشياء المظلمة.

(3)

الوهاد: هي الأماكن المطمئنة. انظر: الصحاح للجوهري (2/ 554) والأنقاب هي الطرق المرتفعة بين جبلين انظر: لسان العرب (1/ 767).

(4)

عارضة الأحوذي (9/ 127).

ص: 55

على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل إليها فإنا نقطع بخطأهم، ولا نجوز ما قالوه، إذ لا فاعل إلا الله سبحانه (1).

ثم قال: «ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا، وكأنه يرى أن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الكرة، فما حاذى بعض النفوس منه انتقش فيها، وهذا أوضح فسادًا من الأول (2) مع كونه تحكما بما لم يقم عليه برهان ..» (3).

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله اضطراب الناس في الرؤى، ثم ذكر قولاً قريبًا من قول الفلاسفة وإن خالفه من بعض الوجوه، ولم ينسبه إلى أحد، ثم رد عليه حيث قال: «فمن قائل: إن العلوم كلها كامنة

في النفس، وإنما اشتغالهم بعالم الحس يحجب عنها مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها ولما كان تجردها بالموت أكمل كانت علومها ومعارفها هناك أكمل، وهذا فيه حق وباطل فلا يرد كله، ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية، والأمم الخالية وتفاصيل المعاد، وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي،

(1) ذكر الأشعري في المقالات (2/ 107) عن معمر أنه قال: «إن الرؤيا من فعل الطبائع وليس من قبل الله» وقد تأثر بهذا القول في كون الرؤيا بسبب الأخلاق كثير ممن تكلموا في الرؤى وانظر على سبيل المثال الفصل في الملل والنحل (5/ 123) كما تأثر بقول الفلاسفة الأول كثير من الصوفية كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

(2)

يعني بالأول: قول الفلاسفة أن الرؤيا من فعل الطبائع.

(3)

المعلم بفوائد مسلم (3/ 115، 116).

ص: 56

والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يعلم به إلا الوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك، وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية» (1).

ومن الأقوال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله ولم ينسبها لأحد ورد عليها وهي قريبة من قول الفلاسفة السابق من بعض الوجوه.

أن هناك من قال: بأن الرؤى كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم.

قال ابن القيم رحمه الله في رده على هذا القول: "وهذا عين الباطل والمحال، فإن النفس لم يكن فيها قط معرفة هذه الأمور"(2).

القول الرابع: قول أهل الحق أهل السنة والجماعة:

فقالوا: لا نعدوا قول نبينا صلى الله عليه وسلم فقد بين الرؤيا بيانًا واضحًا شافيًا فقسمها إلى ثلاثة أقسام: رؤيا حق من الله عز وجل، والله أعلم بكيفية ذلك، ورؤيا باطلة فهي أضغاث أحلام من تهويل الشيطان وتحزينه وتمثيله لابن آدم، أو مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام.

فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاث، فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان» (3).

(1) الروح (30).

(2)

المرجع السابق وانظر كذلك: سرح الروح للبقاعي (183) بتحقيق محمود محمد نصار، مكتبة التراث الإسلامي.

(3)

سبق تخريجه (48).

ص: 57

وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» (1).

وفي أحاديث أخرى يقسم صلى الله عليه وسلم الرؤيا إلى قسمين كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان ..» (2).

قال ابن عبد البر رحمه الله: "وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، وأن التصديق بها حق، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه، ما يزيد المؤمن إلى إيمانه.

ولا أعلم بين أهل الدين والحق، من أهل الرأي والأثر خلافًا فيما وصفت ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد، وشرذمة من المعتزلة (3).

(1) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الإيمان والرؤيا (6/ 181)(30507) تحقيق الحوت وسنن ابن ماجه، كتاب تعبير الرؤيا 3 - باب الرؤيا ثلاث (2/ 1285) وموارد الظمآن في زوائد ابن حبان (444)(1794).

وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1870)(4/ 487، 488).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التعبير، باب الرؤيا من الله (4/ 296)(6984) ومسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، (2261)(4/ 1771) وله طرق وألفاظ متعددة سوف يأتي ذكرها إن شاء الله في مبحث إذا رأى ما يكره.

(3)

التمهيد (1/ 285).

ص: 58

فنحن لا نقول كما تقول المعتزلة أن الرؤى كلها خيالات باطلة لا حقيقة لها، ولا كما تقول الفلاسفة أنها من فعل الطبائع بل نقول كما يقول ربنا عز وجل:{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] وكما يقول نبينا صلى الله عليه وسلم «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان» .

وفي بيان حقيقة الرؤيا الصادقة وأنها حق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من رآني في المنام فقد رآني حقًا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» (1) هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقًا، فمن قال: ما رآه في المنام حقًا فقد أخطأ، ومن قال: إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ، ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك (2).

وفي مواضع متعددة يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن ما يراه النائم في نومه عبارة عن أمثال مضروبة له.

فيقول في كتابه منهاج السنة النبوية: "والنائم يرى في المنام إنسانًا يخاطبه ويشاهده، ويجري معه فصولاً، وذلك المرئي قاعد في بيته، أو ميت في قبره، وإما رأى مثاله (3).

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام (4/ 299) ومسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «من رآني في المنام فقط رآني» (4/ 1775) وله ألفاظ متعددة سوف يأتي إن شاء الله التفصيل فيها، وهو من الأحاديث المتواترة.

وانظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي (171 - 173) تحقيق: خليل محيي الدين، المكتب الإسلامي.

(2)

ضمن جواب لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوع ضمن مجموع الفتاوى له (12/ 278).

(3)

منهاج السنة النبوية (5/ 378) تحقيق: محمد رشاد سالم رحمه الله من مطبوعات جامعة الإمام.

ص: 59

وفي كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان يقول رحمه الله ما ملخصه:

إن النائم يرى الأشياء في منامه ولها وجود وتحقق، ولكنها أمثلة فلما عزب عقله في أثناء النوم ظنها الرائي نفس الحقائق كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتًا ويكلمونه، ويفعل أمورًا كثيرة، وهو في النوم يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل؛ لأن عقله عزب عنه، وتلك الصورة التي رآها مثال صورته لكن غاب عقله عن نفسه، حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه، فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك مثالات.

ومن الناس من لا يغيب عقله؛ بل يعلم أن ذلك في المنام، وهو كالذي يرى صورته في المرآة، أو صورة غيره (1).

وقد ذكر قريبًا من ذلك في كتابه قاعدة في المعجزات والكرامات (2).

فإذا كانت الرؤى عبارة عن أمثلة وأحاديث نفس، فإنه قد ورد في بعض تعاريف العلماء كلمات تحتاج إلى تفصيل فمن ذلك أن منهم من يعرف الرؤيا بأنها إدراكات مخلوقة أو اعتقادات مخلوقة، فهل هذا التعريف صحيح أو لا؟ (3).

قال ابن العربي رحمه الله في حقيقة الرؤيا: أنها إدراكات يخلقها الله في قلب العبد على يدي الملك أو الشيطان، إما بأمثالها، وإما أمثالاً بكناها، وإما

(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ضمن مجموع الفتاوى (13/ 76).

(2)

مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (11/ 636، 637) وانظر: كتاب بيان تلبيس الجهمية (1/ 72).

(3)

وإنما نبهت على هذه المسألة لكثرة من يذكر هذا التعريف في الكتب المتداولة بين الناس وينسبه إلى أهل السنة والجماعة.

ص: 60

تخليطًا، ونظير ذلك في اليقظة الخواطر فإنها تأتي على نسق في قصد، وتأتي مسترسلة غير محصلة، فإذا خلق الله من ذلك في المنام على يدي الملك شيئًا كان وحيًا منظومًا وبرهانًا مفهومًا.

ورد على من قال أن الرؤيا اعتقادات (1).

وقال المازري رحمه الله: «والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنة وهو أن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء ولا يمنعه من فعله نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه سبحانه جعلها علمًا على أمور أخر يخلقها في ثاني حال أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم اعتقاد الطيران، وليس بطائر فقصارى ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرًا على غير ما هو عليه فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يكون خلق الله سبحانه للغيم علمًا على المطر، والجميع خلق الله سبحانه، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علمًا على ما يسره بحضرة الملك، أو بغير حضرة شيطان، ويخلق ضدها مما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان» (2).

وعلى هذا التعريف بعض الملحوظات:

أولا: قول المازري والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنة، معلوم أن المازري أشعري العقيدة، وقد صرح بأشعريته في كتابه المعلم بفوائد مسلم،

(1) عارضة الأحوذي (9/ 123، 124)، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1073، 1074)، وفتح الباري (12/ 352، 353).

(2)

المعلم بفوائد مسلم (3/ 116).

ص: 61

فيعني بأهل السنة الأشاعرة، فهو إذا ليس بحجة على أهل السنة والجماعة (1).

ثانيًا: قوله وهو أنه سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات.

أقول: أن القول بأن الرؤيا عبارة عن اعتقادات مخلوقة، هذه من الألفاظ المحدثة عند المتأخرين، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟

وبين رحمه الله أنه يقال لمن قال ذلك، ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئًا من صفات الله وكلامه، كقوله لا إله إلا الله وإيمانه الذي دل عليه اسم المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد شيئًا من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة (2).

ومما يزيد هذا التعريف إشكالاً أن رؤية الأنبياء وحي، ولا يقال في الوحي أنه اعتقادات مخلوقة، كما تقوله المبتدعة عياذا بالله.

ثالثًا: قوله بأن الرؤيا التي تسر تخلق بحضرة ملك، والتي بضدها بحضرة شيطان هذا يحتاج إلى دليل من الشرع.

أما تعريف الرؤيا بأنها اعتقادات فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3).

(1) انظر المعلم (1/ 74، 191، 194، 197، 203، 205، 224، 226، 227، 303، 308، 322)(2/ 13، 14، 18)(3/ 93، 94، 116، 161، 165، 167، 168، 176، 179، 183، 186، 187، 189، 190، 191، 195، 198، 201، 202).

(2)

انظر كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية المطبوع ضمن مجموع الفتاوى له (7/ 664).

(3)

انظر: بيان تلبس الجهمية (1/ 68 - 73).

ص: 62