الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 -
أخرج ابن ماجة من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة، إن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي» (1).
المسألة الثانية: أقوال العلماء في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام
دلت الأحاديث السابقة على أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق، وأن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل به عليه الصلاة والسلام، ولكن يبقى السؤال هل كل من ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تكون رؤياه حقًا؟
الجواب: أن في هذه المسألة خلافًا بين العلماء.
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي ثبتت في السنة أن تلك الرؤيا حق، لأن الشيطان لا يتمثل به، واختلفوا فيمن رآه على غير صورته هل رؤياه حق أو لا؟
وسبب الخلاف بينهم هو: هل للشيطان أن يتمثل في غير صورة النبي ويدعي أنه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ أو بمعنى هل يمكن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم على غير صورته؟ اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن رؤيته عليه الصلاة والسلام في المنام صحيحة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها.
وبهذا قال الإمام النووي (2) رحمه الله، وأبو العباس القرطبي رحمه الله حيث
(1) سنن ابن ماجة (2/ 1284).
(2)
انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (15/ 25).
قال: "من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقًا ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: «فإن الشيطان لا يتمثل بي» فالأولى أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته".
قال: "والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حال ليست باطلة ولا أضغاثًا بل هي حق في نفسها ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان: بل هو من قبل الله"(1).
القول الثاني: قالوا إن رآه على صفته تكون رؤيا حق، ولو رآه على غير صفته تكون رؤيا مثال.
وبهذا قال أبو بكر بن العربي، والقاضي عياض رحمهما الله.
قال أبو بكر بن العربي: "أما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فمن رآه في المنام بصفة معلومة فهو إدراك الحقيقة، وإن رآه على غير صفته فهو إدراك المثال"(2).
وقال القاضي عياض: "يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «فقد رآني» المعرفة له في حياته، فإن رؤي على خلافها كانت رؤيا تأولاً لا رؤيا حقيقة".
قال النووي رحمه الله معقبًا على كلام عياض: "وهذا الذي قاله القاضي عياض ضعيف؛ بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها"(3).
(1) فتح الباري (12/ 383).
(2)
عارضة الأحوذي (9/ 130).
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (15/ 25).
وقد تعقب الحافظ ابن حجر كلام النووي فقال: "لم يظهر لي من كلام القاضي ما ينفي ذلك: "بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة في الحالين، لكن في الأولى مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية مما يحتاج إلى تعبير" (1).
وحجة أصحاب هذا القول والذي قبله، هي ما فهموه من عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن الشيطان لا يتمثل بي» وقوله: «من رآني فقد رآني الحق» .
قال النووي: "قال القاضي عياض قال بعض العلماء، خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما فرق الله تعالى العادة للأنبياء عليهم السلام بالمعجزة وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا التصور فحماها الله من الشيطان ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده (2).
القول الثالث: أن رؤيته عليه الصلاة والسلام في المنام حق إذا كانت على صفته المعروفة، أما إذا كانت على غير صفته، فليست كذلك.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وبهذا قال كثير من العلماء المحققين، وأشار إلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في كتابه "الجامع الصحيح" حيث قال في أثر رواه معلقًا بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي» قال أبو عبد الله "يعني نفسه" قال ابن سيرين "إذا رآه على صورته"(3).
(1) فتح الباري (12/ 383).
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (15/ 25).
(3)
صحيح البخاري، كتاب التعبير، 10 - باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على الأثر السابق: "وقد رويناه موصولا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب وهو من شيوخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره" وسنده صحيح (1).
ويؤيد ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي في الشمائل والحاكم من طريق عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» قال عاصم: قال أبي: فحدثنيه ابن عباس فأخبرته أني قد رأيته، قال: رأيته؟ قلت: أي والله لقد رأيته، قال: فذكرت الحسن بن علي، قال: إني والله قد ذكرته ونعمته في مشيته، قال: فقال ابن عباس: إنه كان يشبهه (2).
وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد، والترمذي في الشمائل، وابن أبي شيبة، عن يزيد الفارسي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم زمن ابن عباس رضي الله عنهما وكان يزيد يكتب المصاحف، قال: فقلت لابن عباس: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، قال ابن عباس: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي فمن رآني في النوم فقد رآني» فهل تستطيع
(1) فتح الباري (12/ 383).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 342) والشمائل المحمدية للترمذي ص (321) تعليق محمد عفيف الزغبي، وصححه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية ص (208) والحاكم في مستدركه (4/ 393) كتاب التعبير وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق، ووافقه الذهبي وقال الحافظ في الفتح (12/ 383) وسنده جيد.
أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: قل: نعم، رأيت رجلاً بين الرجلين جسمه، ولحمه أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذا إلى هذه حتى كادت تملأ نحره، قال: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا (1).
وممن رجح هذا القول أيضًا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث قال في مجموع الفتاوى له، بعد أن ذكر بعض الأحاديث الواردة في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام ثم قال: "وقد دلت كلها على أن عدو الله الشيطان قد حيل بينه وبين أن يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه في صورته التي هي معروفة عند أهل العلم، وهو عليه الصلاة والسلام ربعة من الرجال، حسن الصورة، أبيض، مشرب بحمرة، كث اللحية، سوداء، وفي آخر حياته حصل فيها شعرات قليلة من الشيب عليه الصلاة والسلام فمن رآه على صورته الحقيقية فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام (2).
وبهذه الآثار يرد أصحاب القول الأول والثاني، قال القرافي رحمه الله: قال العلماء: إنما تصح رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لأحد رجلين أحدهما صحابي رآه فعلم
(1) مسند الإمام أحمد (1/ 361، 362) وله رواية أخرى في المسند (1/ 379) والشمائل المحمدية للترمذي ص (322) وحسنه الألباني في مختصر الشمائل ص (208).
(2)
مجموع فتاوى مقالات متنوعة لابن باز (4/ 445).
وانظر: صفات النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري كتاب المناقب 33 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه البخاري رحمه الله سبعة وعشرين حديثًا (3542 - 3568)(4/ 514 - 519) وصحيح مسلم كتاب الفضائل بعد، كتاب الرؤيا 3 - باب صفة النبي ص (4/ 1824).
صفته فانطبع في نفسه مثاله، فإذا رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان، فينتفي عنده اللبس والشك في رؤيته عليه الصلاة والسلام.
وثانيهما رجل تكرر عليه سماع صفاته المنقولة في الكتب حتى انطبعت في نفسه صفته عليه الصلاة والسلام، كما حصل ذلك لمن رآه، فإذا رآه جزم برؤية مثاله عليه الصلاة والسلام كما يجزم به من رآه فينتفي عنه اللبس في رؤيته عليه الصلاة والسلام.
وأما غير هذين فلا يحصل له الجزم، بل يجوز أن يكون رآه عليه الصلاة والسلام بمثاله، ويحتمل أن يكون من تخييل الشيطان، ولا يفيد قول المرئي لمن يراه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قول من يحضر معه هذا رسول الله؛ لأن الشيطان يكذب لنفسه ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم (1).
وبهذا تعرف أهمية دراسة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الخلقية، فإذا رآه على صورته يأمر بالحق فليستقم، ومن رآه ينهي عن الشر فلينته، أما إذا أمره بباطل هذا من القرائن على عدم رؤيته.
وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان المراد بقولنا «رآه حقًا» .
حيث قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني حقًا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» هو كما قال صلى الله عليه وسلم: «رآه في المنام حقًا» .
فمن قال: ما رآه حقًا فقد أخطأ.
ومن قال: إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية المقيدة بالنوم فقد أخطأ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون ذلك (2).
(1) الفروق (4/ 244، 245).
(2)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (12/ 278).