الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
أقسام الناس في الرؤى
إذا علمنا أن الرؤى تنقسم إلى ثلاثة أقسام كما دلت على ذلك الأحاديث؛ رؤيا من الله، وحديث نفس، وأحلام من الشيطان، ولكل قسم من هذه الأقسام علامات يعرف بها.
وجاء تقسيمها في بعض الأحاديث إلى قسمين رؤيا من الله، وأحلام من الشيطان ولكل قسم آدابه وأحكامه، إذا علمنا ذلك فإن الرائين لهذه الرؤى ينقسمون كذلك إلى ثلاثة أقسام بحسب صدق رؤياهم وكذبها وصلاحها وفسادها، وكل قسم من الأقسام درجات متفاوتة، وإليك بيان ذلك مع الدليل والتمثيل بتوفيق الله.
القسم الأول: الأنبياء:
ورؤياهم كلها صدق وحق، فرؤيا الأنبياء وحي (1) وهي من دلائل نبوتهم، وذلك لعدم تمكن الشيطان منهم يقظة ومنامًا، فالأنبياء لا يقولون من الكلام إلا الصدق ولذلك لا يرون إلا الحق، فجميع رؤى الأنبياء حق لا استثناء.
ولذلك ورد عن جماعة من أنبياء الله ورسله في القرآن الكريم مراءٍ رأوها وكانت حقًا لا شك فيها، ولعل من أشهرها رؤيا يوسف عليه السلام.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
(1) سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
قال في ختام السورة: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].
وكذلك رؤيا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى حكاية عن إبراهيم:{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 102 - 105].
وكذلك رؤيا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تبارك وتعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43].
وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27].
وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم رؤى كثيرة جدًا كما في الصحيحين وغيرهما وكلها من دلائل نبوته، وإخباره بالمستقبل فوقع كما رأى وأخبر، وسيأتي إن شاء الله تفصيل أكثر لرؤيا الأنبياء وما يتعلق بها من أحكام.
القسم الثاني: الصالحون:
والأغلب على رؤياهم الصدق، وإنما كان الأغلب على رؤياهم الصدق للأسباب التالية.
1 -
قلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف غيرهم فإن الشيطان متسلط عليهم،
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].
ولهذا يحرص المسلم الصالح على تحصين نفسه من الشيطان بقراءة القرآن الكريم وخاصة آية الكرسي، وأواخر سورة البقرة، والمعوذات وكثرة ذكر الله، فلا يكون للشيطان عليه سبيل.
2 -
صدق حديثهم في اليقظة، فإذا كان الرجل صدوق الحديث في يقظته، وعنده إيمان، وتقوى، فإن الغالب أن رؤياه تكون صادقة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا» كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: وإنما كان كذلك من كان غالب حاله وقوي إدراكه فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في اليقظة استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقًا، وهذا بخلاف الكاذب، والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم فلا يرى إلا تخليطًا وأضغاثًا.
(1) سبق تخريجه.
وقد يندر أحيانًا فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم والله أعلم (1).
ولهذا والله أعلم قيدت الرؤيا الصالحة يكونها من الرجل الصالح كما جاء في بعض الروايات، لأن المسلم الصالح هو الذي يناسب حاله حال الأنبياء ولذلك أكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب كما نسبت رؤياه إلى أجزاء النبوة.
ولذلك من فقه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه ذكر الباب الأول في كتاب التعبير بعنوان "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة"، ثم عقب بالباب الثاني بعنوان "رؤيا الصالحين" وأخرج بسنده من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» (2).
ورؤيا الصالحين مع أن الغالب عليها الصدق لا يقطع بصحتها إلا بعد ظهورها ووقوعها بخلاف رؤيا الأنبياء، فإنه مقطوع بصحتها.
والصالحون درجات متفاوته فمنهم من بلغ الذروة في الصلاح ومنهم من هو دون ذلك، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا» فدل على أنهم متفاوتون في صدق الرؤيا.
وقد سبق لنا بحمد الله بيان الأشياء التي يتحرى بها المسلم صدق الرؤيا.
وإليك بعض أمثلة رؤيا الصالحين وهي كثيرة في الصحاح والسنن وغيرها، ومن ذلك:
(1) فتح الباري (12/ 406).
(2)
صحيح البخاري كتاب التعبير 2 - باب رؤيا الصالحين (4/ 296).
(1)
رؤيا عبد الله بن سلام رضي الله عنه في الأخذ بالعروة والاستمساك بها:
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم من حديث قيس بن عبادة قال: "كنت جالسًا في مسجد المدينة في ناس فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل منن أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة - ذكر من سعتها وخضرتها - وسطُها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارقَهْ، قلت لا استطيع، فأتاني مُنْصَف (1) فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت في العروة، فقيل له استمسك فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«تلك الروضة الإسلام، وذلك العموم عمود الإسلام، وتلك العروة الوثقى، فأنت على الإٍسلام حتى تموت، وذلك الرجل عبد الله بن سلام» (2).
وفي رواية للبخاري ومسلم عن قيس بن عباد قال: «كنت في حلقة فيها سعد بن مالك، وابن عمر فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، ثم ذكر الحديث ثم قال في آخره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يموت
(1) قال ابن عون، أحد رواه الحديث "والمنصف: الخادم".
(2)
مسند الإمام أحمد (5/ 452) وصحيح البخاري كتاب التعبير الحديثان رقم (7010، 7014)(4/ 302) وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة 33 - باب من فضائل عبد الله بن سلام (4/ 1930).
عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» (1).
ورواه مسلم عنه بلفظ مطول، فراجعه إن شئت.
(2)
رؤيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أبا بكرة، ثم قال:(إني رأيت رؤيا لا أراها إلا حضور أجلي، رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات وإني لأراه إلا حضور أجلي" (2).
وسبق ذكر أمثلة كثيرة لرؤى الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الثالث: من عدا الأنبياء والصالحين:
وهذا القسم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، لكن الغالب عليها الأضغاث وذلك لتسلط الشياطين عليهم، وقلة الصدق عندهم.
يقول القاضي عياض رحمه الله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا» كان ذلك، لأن غير الصادق يعتري الخلل رؤياه من وجهين:
أحدهما: أن تحديثه نفسه يجري في نومه على جري عادته من الكذب فتكون رؤياه كذلك.
والثاني: قد يحكي رؤياه ويسامح في زيادة، أو نقص أو تحقير عظيم، أو تعظيم حقير فتكذب رؤياه (3).
(1) مسند الإمام أحمد (1/ 15، 37، 48، 51) صحيح مسلم بشرح النووي (5/ 51، 52).
(2)
إكمال المعلم (6/ 73).
(3)
إكمال المعلم (6/ 73).
وذكر ابن حجر رحمه الله عن المهلب رحمه الله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح» قال: "المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم فإن الصدق فيهم نادر لغلبة تسلط الشياطين عليهم.
قال: فالناس على ثلاث درجات: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهي ثلاثة أقسام: "مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل الصدق فيها، وكفار ويندر في رؤياهم الصدق جدًا (1).
وقد تقع الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كرؤيا صاحبي السجن في قصة يوسف عليه السلام ورؤيا الملك سبع بقرات.
ولذلك ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التعبير "باب رؤيا أهل السجود والفساد والشرك"(2).
لقوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} إلى قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 36 - 50].
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (12 - 362).
(2)
صحيح البخاري كتاب التعبير (4/ 298).
وفي هذه إشارة إلى أن الرؤيا الصادقة وإن اختصت غالبًا بأهل الصلاح لكن قد تقع لغيرهم.
يقول سماحة الشيخ عبد الله بن باز، رحمه الله في تعليق على ترجمة البخاري السابقة: "يريد المؤلف رحمه الله أن الرؤيا قد تقع من كافر أو فاسق وقد تصدق.
ولهذا قال البخاري رحمه الله بعد ترجمة هذا الباب لقوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} كأنه يحتج بالآيات على اعتبار الرؤيا الصادقة في حق أهل السجن والفساد والشرك، وهو أيضًا يوضح حكم الترجمة فإنه لم يتعرض فيها إلى بيان الحكم (1)
ويقول القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى لا سيما إذا تعلق بمؤمن، فكيف إذا كانت آية لنبي، ومعجزة لرسول، وتصديقًا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله وبين عباده (2).
وهؤلاء وإن صدقت رؤياهم، فلا تعد من أجزاء النبوة، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
(1) انظر عمدة القارئ للعيني (24/ 137) أحكام القرآن للقرطبي (9/ 125).
(2)
أحكام القرآن للقرطبي (9/ 204).