الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: رؤية الله في المنام
وفيه تمهيد ومسألتان:
ال
تمهيد: رؤية الله عيانًا
وفيه:
أولا: رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة.
ثانيًا: رؤية الله في الدنيا.
ثالثًا: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه يقظة؟
المسألة الأولى: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام.
المسألة الثانية: هل يرى المؤمن ربه في المنام؟
تمهيد
رؤية الله عيانًا
أولاً: رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة:
رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة في عرصات القيامة وبعدما يدخلون الجنة عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة وتلقتها الأمة بالقبول.
فمن الكتاب قول عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23](1).
وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه أتباعه بكل قبول وارتياح وانشراح لها، وكلهم يرجو ربه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن يوم يلقاه، إذ رؤيته سبحانه هي أعلى مراتب نعيم الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب
(1) وانظر تفسير الآية في تفسير ابن جرير وابن كثير رحمهما الله.
قربهم من الله ومعرفتهم به.
فأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث جرير رضي الله عنه قال: "كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال:«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون (1) في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا» (2).
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد، يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» (3).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك» (4).
ففي هذه الأحاديث وغيرها دلالة على وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم
(1) أي لا يلحقكم ضيم وهو المشقة في رؤيته، انظر: شرح السنة للبغوي (2/ 226) وروي بتخفيف التاء والميم.
(2)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (12/ 419) وأخرجه البخاري كذلك من حديث أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ مطول.
(3)
صحيح مسلم كتاب الإيمان 80 - باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (1/ 193)(181).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 264) والنسائي (1/ 192) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني كما في صفة الصلاة (165) وظلال الجنة في تخريج السنة (1/ 166)(378).
عز وجل يوم القيامة، وأنها من نعيم الله ومزيد إفضاله على عباده المؤمنين والإيمان بذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة، ولم يَرُدَّ هذه الأحاديث إلا أهل البدع والضلال، الذين اعتاضوا بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم آراء فاسدة، زعموا أنها معتقدات وضلالات وشبهات (1).
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح:
الباب الخامس والستون في رؤيتهم لربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة كما يرى القمر ليلة البدر وتجليه لهم ضاحكًا إليهم.
هذا الباب أشرف أبواب الكتاب - يعني كتابه حادي الأرواح - وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدع والضلالة، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فيعمل العاملون إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون.
وأنكرها أهل البدع المارقون (2)، والجهمية المتهوكون والفرعونية
(1) انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للدكتور عبد الله الغنيمان (2/ 118) الطبعة الأولى (1409) هـ.
(2)
ومن أشهر هؤلاء: المعتزلة، وانظر: الأصول الخمسة (232) والمغني (4/ 224) كلاهما للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
وانظر في الرد على هؤلاء وغيرهم في: بيان تلبيس الجهمية (2/ 345) لشيخ الإسلام ابن تيمية ومختصر الصواعق (1/ 284) لابن القيم.
المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون (1).
ثم ساق رحمه الله الأدلة من الكتاب والسنة، ثم أتبعها بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، وهي أقوال تثبت رؤية المؤمنين لربهم بأبصارهم عيانًا وترد على المعتزلة والجهمية.
وقد أفرد كثير من أهل السنة هذه المسألة بمؤلفات خاصة (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم بذلك عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر"(3).
ثانيًا: رؤية الله في الدنيا:
أهل السنة والجماعة يعتقدون أن رؤية الله في الدنيا جائزة وممكنة شرعًا وعقلاً ولكن البشر لا يقدرون على رؤيته سبحانه والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة منها قوله تعالى لموسى عليه السلام لما سأله أن ينظر إليه، فقال له ربه تبارك وتعالى:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 43].
(1) حادي الأرواح (326).
(2)
مثل كتاب الرؤية للدارقطني والآجري في كتابه التصديق بالنظر إلى وجه الله عز وجل وهو الجزء السابع من كتاب الشريعة له.
(3)
رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أهل البحرين، مجموع الفتاوى له (6/ 486).
ووجه الدلالة من هذه الآية:
1 -
أن موسى عليه السلام سأل رؤية الله ولو كانت الرؤية مستحيلة (1) لما سألها موسى لأنه كليم الرحمن وأعلم الناس في وقته، فدل على أنها ممكنة وجائزة.
2 -
لو كانت الرؤية مستحيلة لأنكر الله على موسى سؤالها، كما أنكر على نوح لما سأله لابنه، فلما لم ينكر عليه دل على الجواز.
3 -
لو كانت الرؤية غير ممكنة لعلقها الله بأمر غير ممكن، ولأجاب موسى بجواب يدل على عدم إمكان الرؤية، والفرق بين الجوابين ظاهر.
4 -
أن الله تجلى للجبل الذي لا ثواب له ولا عقاب، فلو كانت الرؤية مستحيلة لما تجلى له.
5 -
أن الرؤية ممكنة، ولكن البشر لا يقدرون لضعفهم، فإذا كان يوم القيامة استطاعوا ذلك.
6 -
أن الله كلم موسى وناداه، ومن جاز تكليمه ومناداته جازت رؤيته (2) فإذا علمت أن رؤية الله في الدنيا جائزة وممكنة فاعلم أنه قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا (3).
ومن الأدلة على ذلك أيضًا:
(1) مستحيلة بالنسبة لغيره سبحانه، بخبره بأنه لن يراه أحد، إذ لا يمكن أن يتخلف مدلول خبره تعالى. وانظر: شرح لمعة الاعتقاد (87) للشيخ محمد بن صالح العثيمين، تحقيق أشرف عبد المقصود، ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين (3/ 40).
(2)
انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (327).
(3)
انظر: الحجج العقلية والنقلية فيما ينافي الإسلام من بدع الجهمية والصوفية، لشيخ الإسلام ابن تيمية والمطبوع ضمن مجموع الفتاوى (2/ 335).
1 -
في حديث جرير رضي الله عنه الذي سبق ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة» ففي هذا الحديث بيان أن الرؤية تكون في المستقبل لئلا يتوهم أحد أنه يرى ربه قبل يوم القيامة.
2 -
ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وتعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت» (1).
ولهذا لما يدعي الدجال أنه ربنا يرد عليه بهذا الحديث، بأننا لن نرى ربنا في الدنيا كما دل عليه هذا الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل من ادعى أنه رأى ربه بعينه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة، لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت"(2).
وسئل رحمه الله عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا، وأنهم يحصل لهم بغير سؤال ما حصل لموسى بالسؤال؟
فأجاب: أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال (3) مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، لا سيما إذا ادعوا
(1) صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة (4/ 2245).
(2)
الوصية الكبرى لشيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله (76).
(3)
قال بذلك الصوفية انظر: إحياء علوم الدين (3/ 15، 16) دار المعرفة، وروضة الطالبين (45) مجموعة القصور العوالي وكيمياء السعادة (75) ملحق بالمنقذ من الضلال كلها للغزالي.
أنهم أفضل من موسى، فإن هؤلاء يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا (1).
ثالثًا: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه يقظة؟
اختلف الصحابة رضي الله عنه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج على قولين:
الأول: أنه لم ير ربه وذهب إلى هذا القول عائشة رضي الله عنها حيث قالت: «من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب» (2).
الثاني: أنه رأى ربه وبهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ربي عز وجل» (3) وأخرج مسلم من حديث ابن عباس قال: «رآه بقلبه» (4).
والظاهر والله أعلم أن الخلاف بينهم خلاف لفظي، وذلك للأسباب التالية:
أ- أن الروايات عن ابن عباس جاءت مطلقة أو مقيدة بالقلب، فيحمل المطلق على المقيد، وخاصة أن المقيدة رواية مسلم.
ب- أنه يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس رضي الله عنهما ونفي عائشة رضي الله عنها بأن يحمل نفيها على الرؤية البصرية وإثباته على رؤية القلب (5).
(1) مسألة ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإٍسلام ابن تيمية (6/ 512).
(2)
أخرجه البخاري كتاب التفسير (4855) وأخرجه مسلم (177)(1/ 158) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
(3)
المسند (1/ 190، 285) وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة (1/ 188).
(4)
أخرجه مسلم (176)(158) من طريق عطاء، وفي لفظ آخر لمسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين.
(5)
انظر: الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (72) ومجموع الفتاوى له (6/ 507 - 510)(2/ 335، 336) وزاد المعاد لابن القيم (3/ 36، 37) والبداية والنهاية لابن كثير (3/ 110) وفتح الباري (8/ 608).