الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الكذب في الرؤيا
وفيه أربعة مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الكذب
قال ابن منظور: الكذب هو نقيض الصدق (1)، والكذب يقال في المقال والفعال قال الراغب في معجم مفردات ألفاظ القرآن: الصدق والكذب أصلها في القول ماضيًا كان أو مستقبلاً وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والأمر والدعاء.
وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو صدق ظني وكذب ويستعملان في أفعال الجوارح فيقال صدق في القتال، ومنه قوله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27](2).
قال الإمام النووي رحمه الله: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، تعمدت ذلك أم جهلته، لكن لا يأثم في الجهل وإنما يأثم في العمد (3).
المسألة الثانية: تحريم الكذب عمومًا
الكذب عمومًا محرم وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد تضافرت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة على تحريمه، فقد أنزل الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم
(1) لسان العرب لابن منظور (1/ 704).
(2)
معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم (284، 285) بتصرف.
(3)
الأذكار للنووي (326) وشرح مسلم له (1/ 69).
أكثر من مائتين وثمانين آية (1) كلها تنهى عن الكذب وتضرب لنا أمثلة على النهاية السيئة للمكذبين والكاذبين قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
فدلت هذه الآية على أن الذين يفترون الكذب لا يؤمنون بآيات الله فهذه هي الصفة الأولى والثانية أنهم هم الكاذبون.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الكذب يهدي إلى النار كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب كذابًا» (2).
وفي رواية لمسلم: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» .
قال النووي: قال العلماء: معناه أن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، والبر: اسم جامع للخير كله، وقيل البر: الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة.
وأما الكذب، فيوصل إلى الفجور وهو الميل عن الاستقامة وقيل الانبعاث في المعاصي.
(1) انظر: المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم (598 - 602).
(2)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (7/ 95) ومسلم مع شرح النووي (16/ 160).
قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به وكتبه الله لمبالغته صديقًا إن اعتاده، أو كذابًا إن اعتاده (1).
ويقول ابن القيم رحمه الله: فما أنعم الله على عبد من نعمة بعد الإسلام أعظم من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده والله المستعان (2).
وقد اقترن الكذب بالنفاق والكفر، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أمارات النفاق كما في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» (3).
وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر، عن أبي بكر الصديق، قال:«الكذب يجانب الإيمان» (4).
ومما جاء في التحذير من الكذب وبيان عقوبة الكاذب، ما
أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التعبير وغيره من
حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم
من رؤيا؟» قال: فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات
(1) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 160).
(2)
زاد المعاد، لابن القيم (3/ 24).
(3)
فتح الباري (10/ 507).
(4)
فتح الباري (10/ 508).
غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني (1) وإنهما قالا لي: انطلق: وإني انطلقت معهما» فذكر الحديث وفيه قال:
«فانطلقا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه (2) إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه» ، قال: وربما قال أبو رجاء فيشق، قال:«ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت سبحان الله ما هذان؟ قال لي: انطلق انطلق، فانطلقنا» .. ثم ذكر في آخر الحديث.
«وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق» .. الحديث (3).
وفي رواية للبخاري أيضًا: «الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة» (4).
(1) قال الجوهري في الصحاح بعثه وابتعثه أي أرسله، قال الحافظ في الفتح (12/ 441) قال ابن هبيرة معنى ابتعثاني أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه فرأى ما رأى في المنام ووصفه بعد أن أفاق على أن منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالاً كشفه التعبير دل على أنه كان منامًا.
(2)
يشرشر: أي يقطع وشدقه أي جانب الفم فتح الباري (12/ 442).
(3)
البخاري مع شرحه فتح الباري (12/ 438) وسبق تخريج اللفظ الأول من الحديث ص (23).
(4)
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (3/ 251)(10/ 507).