الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة»
جاء في بعض ألفاظ الأحاديث السابقة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسيراه في اليقظة، ومن تلك الألفاظ:
ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» زاد مسلم: «أو لكأنما رآني في اليقظة» .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «من رآني في المنام، فقد رآني في اليقظة» وهذا لفظ ابن ماجة.
فهذه ثلاثة ألفاظ: فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة أو فقد رآني في اليقظة.
فما معنى هذا الألفاظ؟
ذكر المازري والنووي رحمهما الله أنه إذا كان المحفوظ من هذه الألفاظ: «فكأنما رآني في اليقظة» فهو ظاهر، وهو بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «فقد رآني» أو «فقد رأى الحق» أي رؤياه صحيحة ليست بأضغاث أحلام، ولا من تشبيهات الشيطان (1).
وأما إن كان المحفوظ «فسيراني في اليقظة» ففي معنى ذلك أقوال لأهل العلم.
القول الأول: أن معنى هذا الحديث تشبيه من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه رآه في اليقظة، فكان معناه أن الذي يراني في المنام فكأنه رآني في اليقظة لأن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم على صورته.
(1) انظر: المعلم بفوائد مسلم (3/ 120) وشرح صحيح مسلم للنووي (15/ 26).
ويدل على هذا المعنى ما جاء في رواية مسلم: «لكأنما رآني في اليقظة» .
القول الثاني: أن هذا خاص بأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم ممن آمن به قبل أن يراه، فكأن فيه بشرى له بأنه سيراه في اليقظة قبل موته.
وقال بهذا ابن التين والمازري (1).
القول الثالث: أن الرائي سوف يرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وخروجها على الحق.
وبهذا قال ابن بطال، والقاضي عياض، وابن العربي (2).
القول الرابع: أنه يراه في المرآة التي كانت له صلى الله عليه وسلم إن أمكنه ذلك، وهذا قول لأبي جمرة وهو أضعف الأقوال، قال ابن حجر رحمه الله:"وهذا من أبعد المحامل"(3).
القول الخامس: أن من رآه في المنام فسيراه في الآخرة وهذا الذي عليه جمهور العلماء المحققين.
وقد اعترض على هذا القول ابن بطال وابن العربي بأنه رؤيته صلى الله عليه وسلم في الآخرة تكون لجميع المؤمنين من رآه في النوم، ومن لم يره، فلا مزية لمن رآه في النوم على غيره (4).
(1) انظر: المعلم (3/ 120) وشرح صحيح مسلم للنووي (15/ 26) وفتح الباري (12/ 385).
(2)
انظر: فتح الباري (12/ 384، 385) وعارضة الأحوذي (9/ 131).
(3)
فتح الباري (12/ 385).
(4)
انظر: عارضة الأحوذي (9/ 131) وفتح الباري (12/ 385).
وأجاب القاضي عياض رحمه الله على هذا الاعتراض باحتمال أن تكون رؤياه له صلى الله عليه وسلم في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف بها موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة، ونحو ذلك من الخصوصيات (1).
وعلى هذا القول فيه بشارة لمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بأنه سيموت مسلمًا (2).
القول السادس: وبه قالت الصوفية: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسيراه في اليقظة في الحياة الدنيا حقيقة ويخاطبه، وذكروا أن جماعة من الصالحين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك (3).
وهذا القول باطل من وجوه:
الأول: أنه مستحيل شرعًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ولا يعقل أن يحيا بعد موته لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] فكيف يقول عاقل بعد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
(1) انظر: فتح الباري (12/ 385).
(2)
انظر: الفتح الرباني (17/ 225) ومشتهى الخارف ص (54).
(3)
انظر: فتح الباري (12/ 385) ومشتهى الخارف ص (54).
وممن قال بهذا القول ابن أبي جمرة في كتابه بهجة النفوس (4/ 237 - 239) وتبعه في ذلك السيوطي في كتابه تنوير الحلك في رؤية النبي والملك، المطبوع مع الحاوي في الفتاوى للسيوطي (2/ 255 - 269) وكذلك أحمد عز الدين البيانوني في كتابه: الرؤى والأحلام" (13ص 2، 133).
ثم هؤلاء لم يستندوا إلى دليل من الشرع، سوى الاحتمال في هذه الأحاديث، ولذا لم يذكر السيوطي في رسالته "تنوير الحلك" سوى الاحتمال في تلك الأحاديث، بل ولم يذكر حديثًا ضعيفًا ولا موقوفًا ولا مرسلاً مع سعة اطلاعه وطول باعه في الحديث، وشدة انتصاره لهذا المذهب.
ولم يذكر عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه وقعت له هذه الرؤية في اليقظة.
قال صاحب "المواهب اللدنية": "وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته، فقال شيخنا يعني السخاوي لم يصل إلينا ذلك عن أحد الصحابة، ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاور لقبره، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه"(1).
الثاني: يلزم من هذا القول أن كل من رآه صلى الله عليه وسلم في النوم أن يراه في اليقظة وهذا باطل لأن أناسًا كثيرة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ولم يروه في اليقظة في الحياة الدنيا، فيلزم على ذلك أن يكون خبر النبي صلى الله عليه وسلم كذبًا، وهذا مستحيل شرعًا (2).
الثالث: أنه مستحيل عقلاً، فيستحيل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم رائيان في مكانين مختلفين فيلزم من ذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم شخصية متعددة توجد في كل زمان ومكان.
(1) المواهب اللدنية مع شرحها للزرقاني (5/ 295).
(2)
انظر: فتح الباري (12/ 385) ومشتهى الخارف ص (55).
كما يلزم عليه أن يكون النبي خرج من قبره، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يقوم بالجهاد والدعوة إلى الله عز وجل.
ويلزم عليه أن الذين يزورون القبر يأتون ويسلمون على مجرد القبر، وليس فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد خرج على رأيهم.
كما يلزم عليه أيضًا أن كل من رآه يقظة يكون صحابيًا فتدوم الصحبة في الناس إلى يوم القيامة.
وكل هذه لوازم عقلية تدل على بطلان هذا القول.
والمقصود من هذا المبحث بيان أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جائزة إذا رآه الرائي على صفته التي كان عليه صلى الله عليه وسلم فعندئذ تكون رؤياه رؤيا حق، لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم.
وأما أن رآه على غير صفته، أو رآه يأمره بباطل فهي أضغاث أحلام، وقرائن تدل على عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام.
وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته فهذه غير جائزة ولا ممكنة، إذ لا دليل عليها من الشرع ولا من العقل، بل الشرع والعقل يمنعان وقوعها.