الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلعل هذه الأحاديث تكون دليلاً لمن قال بدخول روح النائم إلى الجنة، وإن كان الدليل فيها محتملاً، لأن رؤية النائم قد تكون عبارة عن ضرب أمثال للنائم، ولكن كون الذي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استدل البخاري بها على صفة الجنة، فإن هذا مما يقوي ما ذكره ابن القيم رحمه الله وإن كانت المسألة تحتاج إلى دليل صريح، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة: علامات الرؤيا الصالحة
العَلامات جمع عَلامَة، وهي التي يعرف بها الشيء (1).
وعلامات الرؤيا الصالحة هي الأمارات التي يستدل بها ويستأنس بها على صلاح الرؤيا، وقد جاءت السنة المطهرة ببيان علامات الرؤيا الصالحة، فمن علامات صلاحها ما يلي:
أولاً: التواطؤ عليها:
والتواطؤ هو التوافق وزنًا ومعنى، يقال:(وطأه على الأمر مواطأة: وافقه وتواطأنا عليه وتوطَّأنا: توافقنا: وتواطؤوا عليه: توافقوا)(2).
وأصله أن يطأ الرجل مكان وطء صاحبه.
فالتواطؤ على الرؤيا: هو توافق جماعة على رؤيا واحدة ولو اختلفت عباراتهم (3).
(1) انظر: لسان العرب (12/ 420) والمصباح المنير (427).
(2)
انظر: لسان العرب (1/ 199) والنهاية في غريب الحديث (5/ 22) وفتح الباري (4/ 257).
(3)
انظر: فتح الباري (12/ 379) وعمدة القارئ (24/ 127).
ولهذا يقول الإمام البخاري رحمه الله في كتابهِ: «الجامع الصحيح» باب التواطؤ على الرؤيا، ثم ساق بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أناسًا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وأن أناسًا أروها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«التمسوها في السبع الأواخر» (1).
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، منهم من رأى ليلة القدر في العشر الأواخر، ومنهم من رآها في السبع الأواخر، فتوافقت رؤياهم على السبع الأواخر.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: (لم يلتزم البخاري إيراد الحديث بلفظ التواطؤ وإنما أراد بالتواطؤ التوافق، وهو أعم من أن يكون الحديث بلفظه أو بمعناه، وذلك أن أفراد السبع داخلة في أفراد العشر، فلما رأى قوم أنها في السبع كانوا كأنهم توافقوا على السبع فأمرهم بالتماسها في السبع لتوافق الطائفتين عليها، ولأنه أيسر عليهم فجرى البخاري على عادته في إيثار الأخفى على الأجلى، وقد جاء بلفظ "التواطؤ" من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (وكانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنها في الليلة السابقة من العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان متحريًا فليتحرها من العشر الأواخر» (2).
(1) صحيح البخاري كتاب التعبير 8 باب التواطؤ على الرؤيا (6991)(4/ 298).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التهجد 21 - باب فضل من تعار الليل فصلى الحديث رقم (1158) ، (1/ 359) وأحمد في مسنده من طريق (2/ 806) بلفظ "السبع" بدل العشر.
ومن طريق مالك بن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريَها، فليتحرها في السبع الأواخر» (1).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويستفاد من هذا الحديث أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها، وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الأخبار من جماعة (2).
يقول ابن القيم رحمه الله: فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤ روايتهم له، وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح (3).
ويقول رحمه الله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر» .
قال: فاعتبر صلى الله عليه وآله وسلم تواطؤ رؤيا المؤمنين، وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم لما شاهدوه فهم لا يكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم إذا تواطأت (4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضل ليلة القدر 2 - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر الحديث رقم (2015) ، (2/ 62) ومسلم في صحيحه (2/ 822) ومالك في الموطأ (1/ 321).
(2)
فتح الباري (12/ 380).
(3)
الروح (ص9).
(4)
المرجع السابق (2/ 483) تحقيق العموش.
ولما ترجم الذهبي رحمه الله للإمام أحمد رحمه الله ذكر منامات صالحة رويت لأحمد بعد موته أكثر من عشر ورقات ثم قال: «ولقد جمع ابن الجوزي فأوعى من المنامات في نحو من ثلاثين ورقة، وأفراد ابن البناء جزءًا في ذلك، وليس أبو عبد الله ممن يحتاج في تقرير ولايته إلى منامات، ولكنها جند من جند الله تسر المؤمن، ولا سيما إذا تواترت» (1).
ثانيًا: كونها من المبشرات.
والمبشرات جمع مبشرة، وهي البشرى بمعنى البشارة.
يقول ابن الصلاح رحمه الله في بيان علامات الرؤيا الصالحة: (ومن أمارات صلاحها أن تكون تبشيرًا بالثواب على الطاعة، أو تحذير من المعصية)(2).
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في تعظيم شأن الرؤيا الصالحة، وبيان أنها من المبشرات النبوية فمن ذلك:
(أ) أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (3).
وقد بوب رحمه الله في "الموطأ" بلفظ (كان إذا انصرف من صلاة الغداء يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: «ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» (4).
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 344، 354) ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص853 - 638).
(2)
فتاوى ابن الصلاح (4/ 1).
(3)
صحيح البخاري، كتاب التعبير 5 - باب المبشرات رقم الحديث (6990)(4/ 297).
(4)
الموطأ (2/ 325).
وقد رواه الإمام أحمد (1) في مسنده وأبو داود (2) والحاكم في مستدركه (3) كله من طريق مالك.
(ب) أخرج الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له
…
» (4).
وفي رواية لمسلم بلفظ كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه فقال: «اللهم هل بلغت ثلاث مرات، إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها العبد الصالح، أو ترى له ..» (5).
ورواه عبد الرزاق في مصنفه (6)، وابن أبي شيبة (7)، وأبو داود (8) والنسائي (9).
(1) المسند (2/ 325).
(2)
سنن أبي داود (2/ 723) تحقيق الحوت.
(3)
المستدرك (4/ 390) وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 706) وإرواء الغليل (8/ 128).
(4)
المسند (1/ 219) وصحيح مسلم بشرح النووي (4/ 196) سبق تخريجه.
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 198) سبق تخريجه.
(6)
المصنف (2/ 145).
(7)
الكتاب المصنف (2/ 436).
(8)
سنن أبي داود (1/ 545).
(9)
في السنن الصغرى (1/ 160، 128) والكبرى (4/ 382).
والدارمي (1)، وابن ماجة (2)، وابن خزيمة (3)، وابن حبان (4)، والبيهقي (5).
(ج) أخرج الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وابنه عبد الله في زوائد المسند من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له» (6).
(د) أخرج الإمام أحمد في مسنده (7)، والترمذي (8)، والحاكم (9) من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي» قال: «فشق ذلك على الناس» فقال «ولكن المبشرات» قالوا وما المبشرات؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة» .
(1) سنن الدارمي (1/ 304).
(2)
سنن ابن ماجة (2/ 1283) كتاب التعبير.
(3)
صحيح ابن خزيمة (1/ 276).
(4)
الإحسان (7/ 615).
(5)
سنن البيهقي (2/ 110).
(6)
مسند الإمام أحمد (6/ 129) وقال الألباني في إرواء الغليل (8/ 129) وهذا إسناد جيد على شرط مسلم.
(7)
مسند الإمام أحمد (3/ 167).
(8)
جامع الترمذي (4/ 533) وقال حديث حسن صحيح كتاب الرؤيا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات.
(9)
مستدرك الحاكم (4/ 391) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي والألباني في إرواء الغليل (8/ 128).
(هـ) أخرج الإمام أحمد في مسنده والطبراني من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «لا نبوة بعدي إلا المبشرات» قال: قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: «الرؤيا الحسنة» أو قال: «الرؤيا الصالحة» (1).
(و) وأخرج الطبراني والبزار من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ذهبت فلا نبوة بعدي إلا المبشرات» قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له» (2).
(ز) وأخرج الإمام أحمد، والدارمي وابن ماجة، من حديث أم كُرْز الكعبية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«ذهبت وبقيت المبشرات» (3).
(ح) أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات» فقالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» (4) وهذا مرسل صحيح الإسناد ويشهد له ما سبق من الأحاديث وما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(1) سبق تخريجه (ص106).
(2)
البزار (2121) والطبراني (3051) وقال الهيثمي: ورجال الطبراني ثقات.
(3)
مسند الإمام أحمد (6/ 281) وبيان الدارمي كتاب الرؤيا، باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات (2/ 166).
وسنن ابن ماجة (2/ 1283) في كتاب باب الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له وصححه الألباني في صحيح الجامع (3/ 158).
(4)
الموطأ، كتاب الرؤيا (2/ 957).
ففي هذه الأحاديث وغيرها تعظيم شأن الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له وبيان أنها من المبشرات التي يبشر بها المؤمن، وأن النبوة ستذهب بموته صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه خاتم النبيين بعده، وتبقى المبشرات التي هي الرؤيا الصالحة في هذه الأمة بعد انقطاع النبوة.
فقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» يعني أن الوحي منقطع بموته رضي الله عنه فلا يبقى بعده ما يعلم به ما سيكون إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا الصالحة.
قال ابن التين: "معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا (1).
وقيل: هو على ظاهره، لأنه قال ذلك في زمانه، واللام في النبوة للعهد والمراد لنبوته، أي لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات.
ويرد على ذلك بالأحاديث الأخرى الصريحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبوة بعدي إلا المبشرات» وحديث ابن عباس أنه قال ذلك في مرض موته صلى الله عليه وسلم (2).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم «إلا المبشرات» ثم فسرها بالرؤيا الصالحة.
ووصف الرؤيا الصالحة بأنها مبشرة إما على التغليب وإما على أصل اللغة (3) فمن الرؤيا الصالحة ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى عبده المؤمن.
(1) فتح الباري (12/ 376).
(2)
انظر: عون الباري (6/ 373).
(3)
قال في لسان العرب (4/ 61) والبشارة المطلقة لا تكون إلا في الخير، وإنما تكون في الشر إذا كانت مقيدة، كقوله عز وجل:{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
يقول ابن المهلب (1) رحمه الله: التعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله للمؤمن رفقًا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه (2).
ويقول أبو العباس القرطبي رحمه الله في كتابه "المفهم" البشرى من الله أي مبشرة بخير، ومحذرة عن شر فإن التحذير عن الشر خير فتضمنته البشرى، وإنما قلنا ذلك هنا، لأنه قد قال في حديث الترمذي المتقدم: «الرؤيا ثلاث، رؤيا من الله
…
» مكان بشرى من الله، فأراد بذلك، والله أعلم، الرؤيا الصادقة المبشرة والمحذرة (3).
ويقول أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قال: "وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقًا به ورحمة؛
ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه، فإن أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك، وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتبت إليه بذلك؛ ليستعد لذلك (4) وقد تقدم في "يونس" في تفسيره قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
(1) هو أبو العباس بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي، ت (345 هـ) له شرح لصحيح البخاري انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (7/ 579) والعبر (2/ 272).
(2)
فتح الباري (12/ 375).
(3)
المفهم الجزء الرابع (ق220أ) مخطوط في جامعة محمد بن سعود الإسلامية.
(4)
روى ذلك ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص609) بإسناده إلى الربيع بن سليمان.
الْآخِرَةِ} [يونس: 64] أنها الرؤيا الصالحة، وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم (1).
فتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبشرات بالرؤيا الصالحة إن كان المراد بالرؤيا الصالحة أي الحسنة والمبشرة فهذا ظاهر؛ لأن البشارة كل خير صدق بتغير بشرة الوجه واستعمالها في الخير أكثر.
إن كان المراد بالرؤيا الصالحة هي الصادقة وهي التي فيها بشارة أو تنبيه عن غفلة، فتسيرها بالمبشرات في الحديث مخرج على الأغلب أو على أصل اللغة والله أعلم.
قد جاء في تفسيره قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64].
أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة وقد وردت أحاديث متعددة في تفسير الآية بالرؤيا الصالحة فمن ذلك.
1 -
ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن جرير، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت، هي الرؤيا الصالحة
(1) الجامع لأحكام القرآن (9/ 127).
يراها المسلم، أو ترى له
…
»
زاد أحمد، وابن جرير في إحدى الروايات عندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وبشراه في الآخرة الجنة» وقد جاءت هذه الزيادة في رواية ابن أبي شيبة مختصرة (1).
2 -
أخرج الإمام أحمد في مسنده، والدارمي، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول تبارك وتعالى: {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» (2).
3 -
أخرج ابن جرير رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له» .
(1) مسند الإمام أحمد (6/ 445، 447، 452)، ومصنف ابن أبي شيبة (11/ 51)، وجامع الترمذي (6/ 53)، وحسنه وتفسير ابن جرير الطبري (11/ 93، 94، 95)، وأطال في ذكر طرقه ومستدرك الحاكم (4/ 391)، ومشكل الآثار للطحاوي (3/ 47)، وحسن الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 392).
(2)
مسند الإمام أحمد (5، 315، 321، 325) وسنن الدارمي كتاب الرؤيا، باب قوله تعالى:{الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2/ 165) وجامع الترمذي كتاب الرؤيا، باب قوله تعالى:{الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (4/ 535) وقال هذا "حديث حسن" وسنن ابن ماجة (2/ 338) صحيح سنن ابن ماجة للألباني وابن جرير (11/ 133، 134، 136) ومستدرك الحاكم (4/ 391) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (4/ 392).
وفي رواية له عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح، أو ترى له، وهي في الآخرة الجنة.
وفي رواية له قال أبو هريرة رضي الله عنه: «الرؤيا الحسنة بشرى من الله وهي المبشرات» (1).
4 -
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن جرير في تفسيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: «الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن، هي جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان؛ ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثًا وليسكت ولا يخبر أحدًا» (2).
وقد جاء عن جماعة من الصحابة والتابعين وأتباعهم تفسير الآية بالرؤيا الصالحة فمن ذلك:
1 -
أخرج ابن جرير الطبري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: (هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه) ورواه ابن أبي شيبة بنحوه هذه الرواية (3).
(1) تفسير ابن جرير (11/ 94) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3/ 183)(3521) وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1786)(4/ 392).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 219) وتفسير ابن جرير (11/ 93) ذكر وله روايات عدة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد (12/ 9)(7044) وهذه الآثار لها حكم الرفع لأن ألفاظها تقدمت الأحاديث المرفوعة.
(3)
تفسير جرير الطبري (11/ 9695) ومصنف ابن أبي شيبة (6/ 174) تحقيق كمال الحوت.
2 -
أخرج الإمام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان يقول، في هذه الآية:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: (هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له).
ورواه ابن أبي شيبة، وابن جرير بنحوه (1).
3 -
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد رحمه الله قال: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: (هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)(2).
4 -
وأخرج ابن جرير رحمه الله عن عطاء في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: (هي رؤية الرجل يبشر بها في حياته)(3).
5 -
وأخرج ابن جرير رحمه الله عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: (الرؤيا من المبشرات)(4).
6 -
وأخرج ابن جرير رحمه الله عن يحيي بن أبي كثير رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: (هي الرؤيا الصالحة يرها المسلم أو ترى له)(5).
وقد أخرج ابن عبد البر رحمه الله بعض هذه الآثار وأشار إلى بعضها ثم قال معقبًا على ذلك: وعلى ذلك أكثر أهل التفسير في معنى هذه الآية، وهو أولى
(1) الموطأ للإمام مالك (2/ 958) وسنده صحيح.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (6/ 174) وتفسير ابن جرير (11/ 96).
(3)
تفسير ابن جرير الطبري (11/ 96).
(4)
المرجع السابق (11/ 96).
(5)
المرجع السابق (11/ 96) وهذه الآثار لها حكم الرفع لأنها تقدمت بألفاظها في الأحاديث المرفوعة.
ما اعتقده العالم في تأويل قول الله عز وجل: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وروى عن الحسن والزهري وقتادة أنها البشارة عند الموت (1).
ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله بعد أن ذكر بأسانيده عن جماعة من الصحابة والتابعين وأتباعهم أنها الرؤيا الصالحة عقب على ذلك بقوله: (وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له.
ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الملائكة التي حضره عند خروج نفسه تقول لنفسه اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه» (2).
ومنها بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل كما قال ثناؤه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] الآية.
وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها ولم يخصص الله ذلك المعنى دون معنى، فذلك مما عمَّمه جل ثناؤه، أي:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وأما في الآخرة فالجنة (3).
(1) التمهيد (5/ 59) وانظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 313).
(2)
سبق تخريجه (ص82).
(3)
تفسير ابن جرير الطبري (11/ 96).
وقال السعدي رحمه الله: البشرى هي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته، فيدخل في ذلك الرؤيا الصالحة (1).
ثالثًا: كونها من أهل الصدق والصلاح:
من علامات الرؤيا الصالحة التي تدل عليها كونها من أهل الصدق والصلاح والاستقامة؛ فإن الغالب على رؤياهم الصدق وذلك لقلة تسلط الشياطين عليهم، ولكثرة الصدق في حديثهم، فمن كان أصدق الناس حديثًا كان أصدقهم رؤيا.
ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكن رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا
…
» (2).
وفي رواية لمسلم: «وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا
…
».
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث السابق: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا» ظاهره أنه على إطلاقه وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أن هذا يكون في آخر الزمان عند انقطاع العلم وموت العلماء والصالحين ومن يستضاء بقوله وعمله، فجعل الله تعالى جابرًا وعوضا ومنبهًا لهم، والأول أظهر لأن غيره الصادق في حديثه يتطرق الخلل إلى رؤياه وحكايته لها (3).
(1) القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص51).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 269، 507) وصحيح مسلم بشرح النووي (15/ 20) ومصنف عبد الرزاق (20352) وسنن الدارمي (2/ 168) كتاب الرؤيا، باب: أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثًا.
(3)
شرح صحيح مسلم (15/ 20).
ويقول ابن العربي المالكي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وآله وسلم «أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا» وذلك لأن الأمثال إنما تضرب له على مقتضى أحواله من تخليط وتحقيق، وكذب وصدق، وهزل وجد ومعصية وطاعة، قال ابن سيرين ما احتلمت في حرام قط، فقال بعضهم ليت عقل ابن سيرين في المنام لي في اليقظة (1).
وفي تعليق لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على الحديث السابق، قال:(أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثًا وأكثرهم دينًا لأن الفاسقين يصيبهم من تحزين الشيطان)(2).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الذي تصدق رؤياه فأجاب بقوله: (وأما الذي تصدق رؤياه فهو الرجل المؤمن الصدوق إذا كانت رؤياه صالحة، فإذا كان الإنسان صدوق الحديث في يقظته، وعنده إيمان وتقوى فإن الغالب أن الرؤيا تكون صادقة، ولهذا جاء هذا الحديث (3) مقيدًا في بعض الروايات بالرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا» (4)
ولذلك بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتاب:
"الجامع الصحيح" المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه في كتاب التعبير، بابًا بعنوان (2 - رؤيا الصالحين)
ثم ساق بسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي
(1) عارضة الأحوذي (9/ 125).
(2)
من دروس الشيخ في الجامع الكبير بالرياض.
(3)
يعني حديث «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» كما سيأتي تخريجه إن شاء الله.
(4)
المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين (2/ 205).
- صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» إشارة إلى أن الصالحين هم الذين يغلب على رؤياهم الصدق (1).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن حال الرجل، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه، كما أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسنادين صحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة فربما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا» فإذا رأى الرجل رؤيا سأل عنه فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه، قال: فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني دخلت الجنة فسمعت بها وَجْبَة (2) ارتجت بها الجنة فنظرت فإذا قد جيء بفلان بن فلان، وفلان بن فلان حتى اثني عشر رجلاً وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل ذلك، قالت: فجيء بهم عليهم ثياب طلس (3) تشخب أوداجهم (4) قال: فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر السرخ أو قال: إلى نهر البيدح قال: فغمسوا فيه فخرجوا منه وجوههم كالقمر ليلة البدر، قال: ثم أتوا بكراسيّ من ذهب فقعدوا عليها وأتى بصحيفة - أو كلمة نحوها - فيها بسرة فأكلوا منها فما يقلبونها لشق إلا أكلوا من فاكهة ما أرادوا وأكلت معهم، قال: فجاء البشير من تلك السرية، فقال: يا رسول الله كان من
أمرنا كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عدّ الاثنى عشر الذين عدّتهم المرأة
(1) صحيح البخاري، كتاب التعبير 2 - باب رؤيا الصالحين رقم الحديث (6983)(4/ 296).
(2)
الوجبة: صوت السقوط، انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 154).
(3)
طلس: أي متغيرة انظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 132).
(4)
تشخب: أي تسيل دمًا والأوداج: ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح النهاية في غريب الحديث (2/ 450).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليّ بالمرأة» فجاءت قال: «قصّي علىّ رؤياك» فقصت، قال: هو كما قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ورواه النسائي في السنن الكبرى، وابن حيان في صحيحه، والبيهقي في دلائل النبوة بنحوه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد تحت باب:"ما يدل على صدق الرؤيا" ووجه الاستشهاد بالحديث على صدق الرؤيا سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الرجل، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه (1).
وفي هذا الحديث دليل على أن رؤيا الرجل والمرأة سواء، وإنما العبرة بالتقوى والصلاح والصدق.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث السابقة «من الرجل» ذكر للغالب فلا مفهوم له فإن المرأة الصالحة كذلك.
ولهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله قال في صحيحه في كتاب التعبير "باب رؤيا النساء" منعًا للفهم القاصر، ثم ساق بسنده من حديث خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء - امرأة من الأنصار - بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة، قالت: فطار لنا عثمان بن مظعون وأنزلنا في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) مسند الإمام أحمد (3/ 135، 257) والسنن الكبرى للنسائي (4/ 382) وموارد الظمآن زوائد ابن حبان (446) ودلائل النبوة (7/ 26) ومجمع الزوائد للهيثمي (7/ 78) قال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.