الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني
علم وحي القرآن
وحقيقة الوحي
النوع الثاني
علم وحي القرآن وحقيقة الوحي
وهذا النوع أيضاً لم يذكره الإمام السيوطي، - رحمه الله تعالى - أقول: والتحقيق في ذلك - والله أعلم -: أن يكون تلقي جبريل الوحي عن الله سبحانه وتعالى بنوع من التجلي، وهو أن يتجلى الحق عز وجل له بصفة الكلام، فيسمع ما أوحى الله إليه من غير صوت ولا جهة ولا حرف في أيسر وقت، جميع القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى، ثم هو يلقيه على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك
الكيفية، والنبي صلى الله عليه وسلم يلقيه على الصحابة بمثل ما أوحي إليه، بلفظه ومعناه.
وإنما لا يمكن لبشر سماعه مثل ما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، لعدم كمال استعدادهم للتلقي الروحاني، وبقائهم على البشرية، بخلافه هو عليه السلام فإنه هو في حال الوحي يصير روحاً نورانياً، فيسمع من جميع أجزاء جسده، كما هو شأن الأرواح، ولهذا السر شق عن صدره مراراً، وأخرجت منه العلقة البشرية، فصارت له القدرة على التلقي عن الحق سبحانه وتعالى، فضلاً عن ذلك، والحروف والأصوات إنما ظهرت لأجل كثافة العالم الجسماني، وعدم القدرة على التعبير بالعبارة الروحانية، فظهرت الحروف الكامنة، فإنها في العالم الروحاني معان كالمعاني في هذا العالم، ليس لها ظهور ولا تجسد.
فظهر من هذا التحقيق، أن الوحي عبارة عن تجلي الحق لجبريل أو للنبي صلى الله عليه وسلم بصفة الكلام النفسي، وهو عبارة عن هذا اللفظ والمعنى، غير أن اللفظ في ذلك التجلي ليس متجسداً، بل هو معنى عبر عته في هذا العالم لضيقه عن التعبير بتلك العبارة، كما يعبر عن رؤية اللبن في المنام بالعلم.
وبما ذكر علم أن صفة الكلام متعقلة، وأنها عبارة عن تجلي الله تبارك وتعالى على جبريل أو على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الكلام، فيحصل له إدراك اللفظ والمعنى من ذلك التجلي، والصفة القديمة. والكلام الإلهي في ذلك التجلي منزه عن الصوت والحرف.
فإن قلت: قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن القرآن نزل من عند الله - تعالى - من اللوح المحفوظ جملة إلى السفرة الكرام في السماء الدنيا، وإن السفرة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وجبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. فهذا يقضي أن جبريل ما أخذه إلا عن السفرة.
قلت: لا تنافي، لاحتمال أن جبريل عليه السلام سمعه من الله سبحانه وتعالى كما تقدم بصفة التجلي، فعلمه جميعه، ثم أمره الله أن يأخذه من اللوح المحفوظ، فيضعه في بيت العزة، عند السفرة، ثم أمر الله سبحانه وتعالى السفرة أن تنجمه على جبريل في عشرين ليلة، لكل سنة ليلة، وإنما كان التنجيم من السفرة على جبريل، لما ذكره الحكيم الترمذي:(إن سر وضع القرآن في السماء الدنيا، ليدخل في حدها، فإنه رحمة لأهلها)، فأخذ جبريل عن السفرة، إشارة إلى أنه صار مخصوصاً بهم، فلا يؤخذ إلا عنهم، وكان مقتضى الأمر، أن ينزل جملة إلى الأرض، لكن لما كان في ذلك حكم ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله:(كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)[الفرقان: 32، 33] وسيأتي تفصيله في العلم الثالث.
ويدل غلى سماع جبريل من الحق سبحانه وتعالى ما أخرجه الطبراني، من حديث
النواس بن سمعان مرفوعاً: (إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي إلى الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهلها، ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر)، انتهى.
فإن قلت: بعد إنزال القرآن إلى السماء الدنيا، وتنجيم السفرة له على جبريل، هل يحتاج في كل نزول إلى وحي إلهي؟ أو لا يحتاج، لكونه قد علم ما ينزل به في كل عام؟
قلت: الظاهر أنه لا يمكن أن ينزل في شيء إلا بوحي إلهي، لوجهين:
أحدهما: عدم علمه بوقت الواقعة الموجبة لنزول شيء يناسبه، فيوحى إليه: أن قد وقع ذلك، فانزل بكذا مما هو عندك.
الثاني: لو فرض أن الله عز وجل أعلمه ذلك، فلا يمكن النزول - أي بالوحي -، لقوله تعالى على لسان الملائكة:(وما نتنزل إلا بأمر ربك)[مريم: 64].
وأخرج البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له
ما بين أيدينا وما خلفنا) الآية [مريم: 64].
وقال الجويني: كلام الله المنزل على قسمين:
قسم: قال الله عز وجل لجبريل: قل للذي أنت مرسل إليه، إن الله تعالى يقول:
افعل كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا. ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال ما قاله له ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإن قال لك الرسول: يقول لك الملك: لا تتهاون في الخدمة، ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب، ولا تقصير في الرسالة.
وقسم آخر: قال الله عز وجل لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل به جبريل من غير تغيير، كما أن يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأ على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفاً.
قال الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى -: القسم الثاني هو القرآن، والأول هو السنة، كما ورد أن جبريل ينزل بالسنة كما ينزل القرآن.