الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثالث عشر
علم مقدار فترة الوحي وحكمة الفترة
النوع الثالث عشر
علم مقدار فترة الوحي وحكمة الفنرة
ولم يذكر هذا النوع أيضاً الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى -.
اختلفوا في مقدار فترة الوحي، قال السهيلي: جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها كانت سنتين ونصف. ويخدش فيه ما ذكره ابن عباس في تفسيره أنها كانت أربعين يوماً. وفي تفسير ابن الجوزي، ومعاني الزجاج، والفراء، وخمسة عشر يوماً. وفي تفسير مقاتل: ثلاثة أيام.
قال الحافظ السيوطي: وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً. انتهى.
أقول: ولعل ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الصحيح من هذه الأقوال، لأن قول السهيلي يبعد لعناية الله تعالى بنبيه وكمال جلاله عنده، فلا يمنعه ما هو متشوق إليه سنتين ونصف. والقول بأنه ثلاثة أيام أو خمسة عشر يوماً يبعد؛ لما يأتي: أنه عليه السلام كان إذا طالت عليه مدة الفترة غدا حتى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، وأن ذلك كان مراراً. فلا يصح أن يكون ذلك في ثلاثة أيام، وكذلك في الخمسة عشر. فالمعتمد ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما.
روى ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما والإمام أحمد والبخاري والبيهقي عن الزهري - رحمه الله تعالى -، والشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي بحراء، مكث أياماً لا يرى جبريل، فحزن لذلك حزناً شديداً، ولفظ ابن عباس: حتى كان يغدو إلى (ثبير) مرة وإلى
(حرى) مرة أخرى يريد أن يلقي نفسه منه - فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عامداً لبعض تلك الجبال قال الزهري: فكلما وافى بذروة جبل ليلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، وإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
قال الحافظ ابن كثير في البداية: قال بعضهم: وكانت مدة الفترة قريباً من سنتين أو سنتين ونصف، والظاهر - والله أعلم - أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي وغيره، ولا ينافي هذا تقدم إتيان جبريل إليه أولاً بـ (اقرأ باسم ربك الذي خلق) [اقرأ: 1]، ثم حصلت الفترة التي اقترن معه ميكائيل، ثم اقترن به جبريل بعد نزول (يا أيها المدثر) [المدثر: 1]، فحمي الوحي وتتابع. انتهى كلامه.
وهذا مؤيد بما سبق في (أول من نزل) من حمل كلام الحافظ ابن حجر على ما ذكر. والظاهر - والله أعلم - أن ميكائيل - في عبارة الحافظ ابن كثير - إما غلط من الكاتب أو سهو منه، فإن الثابت عن الشعبي إنما هو إسرافيل.
وأما نزول الوحي بعد الفترة، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ثم نظرت عن يساري فلم أر شيئاً، ثم نظرت عن أمامي فلم أر شيئاً، ثم نظرت عن خلفي فلم أر شيئاً، ثم نوديت، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: (يا أيها المدثر. قم فأنذر).
وأما فترة الوحي، فلحكم - والله أعلم -:
أحدهما: الاختبار له عليه السلام، الذي جرت عادة الله سبحانه أن لا يمنح أحد من أصفيائه حتى يختبره، كما قال تعالى في حق موسى عليه السلام:(وفتناك فتوناً)[طه: 40]، وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام:(إن هذا هو لهو البلؤا المبين)[الصافات: 106]، وفي حق داوود عليه السلام:(وظن داوود أنما فتناه)[ص: 24]، وفي حق سليمان عليه السلام:(ولقد فتنا سليمان)[ص: 34]، ثم قال تعالى في المنحة بعد المحنة:(فسخرنا له الريح تجري بأمره حيث أصاب)[ص: 36] إلى آخر الآية.
فهذه عادة الله له في أحبائه له في ذلك حكم، أن يبتليهم قبل الاصطفاء الكامل، قال تعالى:(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)
[محمد: 31]، وقرئ " أخياركم ".
ففترة الوحي عنه عليه السلام من هذا القبيل، فظهر صدق توجهه إلى ربه وانقطاعه إليه، وإيثاره مخاطبته على أعز الموجود عند البشر وهي النفس، فكاد مراراً أن يتلفها شوقاً إلى مولاها، وخوفاً أن يفوته الحظ الأكبر منه، فلما ظهر ذلك، حصلت المنحة العظمى، والولاية الكبرى، وخوطب بأفخم الخطاب من ذلك الجناب.
الثاني: من حكم الفترة: أن الفترة تورث الحزن، والحزن يورث التفكير، والتفكير يورث المعرفة، والمعرفة تورث المحبة، والمحبة تورث الشوق، والشوق يورق الانقطاع والتبتل إلى المشوق إليه، فكانت الفترة سبباً لكمال انقطاعه
عليه السلام إلى ربه، وتفرغه عن جميع العلائق البشرية، فتتابع الوحي إليه وليس فيه متسع إلا لما هو بصدده وهو الوحي الإلهي.
الثالث: من حكم الفترة: أن الوحي عبارة عن التلقي عن الحضرة الإلهية بواسطة الأرواح الطيبة، أو بغير بواسطتها، وذلك لا يكون إلا بمناسبة كاملة.
والإنسان من حيث هو له مناسبة لذلك من حيث روحه، وعدم مناسبة من حيث جسمه، فكلما غذيت الروح بما يناسبها من الذكر والاتصاف بصفات
الأرواح الطيبة من صفات الكمال، قهرت الجسم وصار تحت أمرها، فيكون مندرجاً فيها، فيصير الإنسان كله مناسباً للعالم الروحاني، ومتى ما كان بالضد كان بضد ذلك ويبعد عن العالم، فكانت الفترة - والله أعلم -
استخلاصاً له عليه السلام وتقوية لروحه بالانقطاع إلى الله والاشتغال به، حتى صار الجسم في ملك الروح، فحصل كمال المناسبة اللائقة به عليه السلام لذلك الجناب، والله الموفق للصواب.
ومن هذا السر - والله أعلم - قوله عليه السلام: (من أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)، حيث ناسب بالإخلاص الذي هو من صفات تلك الأرواح المقدسة، أفيضت عليه سجال الحكمة.
الرابع: من حكم الفترة: أن الفترة كانت تمريناً له عليه السلام، فإن مقام الرسالة الذي أوحى إليه به بعد الفترة مقام صبر وتحمل ومسايسة، فإذا حمل وصبر على ما هو أشد وهو انقطاع الوحي، فيحتمل ما هو أخف وهو أذى الخلق وتكذيبهم وجفاهم. والله أعلم.