الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثالث والعشرون
علم أسباب النزول
النوع الثاني عشر
علم أسباب النزول
قال الجعبري - رحمه الله تعالى -: نزل القرآن على قسمين:
قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال. انتهى.
أقول: وهذا يجب أن يبحث عنه لفوائد:
منها: معرفة الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
ومنها: أن اللفظ قد يكون عاماً، وحمله على العموم يشكل، لمعارضته لآيات أخر أو نحو ذلك، فإذا علم السبب قصر على صورة المسبب.
مثال ذلك:
ما أشكل على مروان بن الحكم من قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا .... ) الآية [آل عمران: 188]، فقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذباً، لنعذبن أجمعون. حتى بين له ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه. أخرجه الشيخان.
وقال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. انتهى.
أقول: مثال ذلك قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)[البقرة: 115]، فإن مقتضى اللفظ يفيد أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة لا سفراً ولا
حضراً، فلما عرف السبب علم المعنى. وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله:(فول وجهك شطر المسجد الحرام)[البقرة: 144]، فارتاب لذلك اليهود، وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله تعالى:(قل لله المشرق والمغرب)[البقرة: 142]، (فأينما تولوا فثم وجه الله) [البقرة: 115].
فظهر بهذا أن معنى الآية الرد على اليهود، حيث ارتابوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس؛ بأن التوجه إلى الله تعالى ليس محصوراً إلى جهة بيت المقدس، بل هو في كل وجهة. وللآية أسباب أخر هذه أصحها، منها:
أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة، وهو مروي عن ابن
عمر رضي الله عنهما.
ومنها أنها نزلت في ليلة مظلمة في سفر، فصلى كل رجل على حاله، فلما أصبحوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت.
ومن ذلك أنها لما نزلت (ادعوني أستجب لكم)[غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت.
وعلى كل حال، فمعرفة سببها بين أن المعنى غير ما تبادر من اللفظ.
فإن قلت: إن القاعدة المشهورة: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
فالجواب: أنه كذلك ما لم يقم دليل على تخصيص اللفظ، وقد قام غليه.
ومن فوائد علم أسباب النزول: أن اللفظ قد يراد به المعارضة، والرد على قوم لإثبات أمر أو حكم، فإذا علم أن السبب هو الرد والمعارضة اتضح المعنى، وإذا لم يفهم استشكل.
مثال ذلك: قوله تعالى: (إن الصفا والمروة .... ) إلى أن قال: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما)[البقرة: 158]، فإن اللفظ يفهم منه أن السعي ليس واجباً، وليس المعنى على ذلك، ولذا ردت عائشة - رضي الله تعالى عنها- على عروة في فهمه ذلك، وبينت أن السبب في ذلك: أن الصحابة تحرجوا من السعي بينهما؛ لكونه من عمل الجاهلية، فنزلت فظهر من السبب المعنى.
وكذا قوله تعالى: (قل لآ أجد في مآ أوحي إلي محرماً)[الأنعام: 145]، وهو أن الكفار لما أحلوا ما حرمه الله تعالى من هذه الأشياء، نزلت هذه الآية على جهة المضادة والإفحام. مثاله: من يقول: لا تأكل اليوم حلوى، فيقال: لا آكل اليوم إلا حلوى.
فالمقصود من هذه المضادة لا الحصر، وهو أن لا يأكل في ذلك اليوم غير الحلوى، وكذلك الآية، فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من (الميتة والدم ولحم الخنزبر ومآ أهل لغير الله به)، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات تحريم ما أحلوه لا حصر المحرمات.
وهذا الفهم في الآية من استخراجات الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلله دره ما أعلمه بأساليب الكلام، ولو لم يفهم الإمام هذا الفهم، لكان ظاهر الكلام يقتضي حصر المحرمات في هذه الأشياء.
وقد ذهب إليه بعضهم بمقتضى الظاهر.
وقد تحمل الآية على الحصر الادعائي، حيث إن الكفار يرون حل هذه الأشياء، فادعى حصر هذه المحرمة فيها.