المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع التاسععلم أول ما نزل - الزيادة والإحسان في علوم القرآن - جـ ١

[محمد عقيلة]

فهرس الكتاب

- ‌قال في خطبة هذا الكتاب:

- ‌النوع الأولعلم حقيقة القرآن ما هو

- ‌النوع الثانيعلم وحي القرآنوحقيقة الوحي

- ‌فائدة:اختلف في سماع النبي صلى الله عليه وسلم للوحي

- ‌النوع الثالثعلم أنواع الوحي

- ‌فأما وحي الرؤيا:

- ‌وأما وحي الإلهام:

- ‌وأما وحي الملك:

- ‌وأما وحي المشافهة:

- ‌النوع الرابععلم بدء الوحي وما ابتدئ بهرسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي

- ‌فلنتكلم على بعض أنواع الوحي بحسب الإمكان والوقت، فنقول:

- ‌النوع الخامسعلم صفة حال النبي صلى الله عليه وسلمحين ينزل عليه الوحي

- ‌والحاصل:

- ‌النوع السادسعلم كيفية استعجال النبي صلى الله عليه وسلمبحفظ الوحي قبل أن يتممه جبريل،ونهي الله تعالى له عن ذلك

- ‌النوع السابععلم نزول القرآن من اللوح المحفوظإلى السماء الدنيا

- ‌تنبيه:قال أبو شامة: الظاهر أن نزوله جملة إلى السماء الدنيا قبل نبوته صلى الله عليه وسلم

- ‌فائدة:قد تبين بقول الحكيم حكمة نزوله إلى السماء الدنيا

- ‌فائدة أخرى:الذي يظهر من سياق الأحاديث، أن القرآن كان ينزل على حسب الوقائع

- ‌النوع الثامنعلم معنى نزوله، وإنزاله، وتنزيله

- ‌تنبيه:إنزال القرآن على ثلاثة أقسام:

- ‌والفرق بين إنزال القرآن وتنزيله:

- ‌النوع التاسععلم أول ما نزل

- ‌النوع العاشرعلم آخر ما نزل من القرآن

- ‌النوع الحادي عشرعلم أول من نزل بالقرآن

- ‌فائدة:هذا الذي كان يعلمه إسرافيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما هو

- ‌النوع الثاني عشرعلم اليوم الذي أنزل فيه القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت

- ‌النوع الثالث عشرعلم مقدار فترة الوحي وحكمة الفترة

- ‌النوع الرابع عشرعلم المكي والمدني

- ‌النوع الخامس عشرعلم الآيات المكية في السور المدنية والآيات المدنية في السور المكية

- ‌النوع السادس عشرعلم ما نزل بمكة وحكمه مدني وبالعكس

- ‌وأما ما نزل بالمدينة وحكمه مكي:

- ‌النوع السابع عشرعلم الأماكن التي أنزل فيها القرآن

- ‌النوع الثامن عشرعلم الأرضي والسمائي

- ‌النوع التاسع العاشرعلم ما نزل نهاراًوما نزل ليلاً من القرآن

- ‌فصل: فيما نزل وقت الصبح:

- ‌النوع العشرونعلم الصيفي منه والشتائي

- ‌النوع الحادي والعشرونعلم الحضري والسفري

- ‌النوع الثاني عشرعلم الفراشي والنومي

- ‌النوع الثالث والعشرونعلم أسباب النزول

- ‌فائدة:العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

- ‌فائدة:كثيراً ما يذكر المفسرون للآية الواحدة أسباباً متعددة

- ‌تنبيه:وهو عكس من تعدد الأسباب في آية واحدة، وهو أن يكون السبب الواحد للآيات

- ‌النوع الرابع والعشرونعلم ما نزل موافقاً لقول قائل

- ‌النوع الخامس والعشرونعلم ما تكرر نزوله

- ‌تنبيه:أنكر بعضهم كون شيء من القرآن تكرر نزوله، والمشهور هو ما تقدم

- ‌النوع السادس والعشرونعلم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تاخر نزوله عن حكمه

- ‌النوع السابع والعشرونعلم ما نزل مفرقاً وما نزل مجتمعاً

- ‌النوع الثامن والعشرونعلم ما نزل مشيعاً وما نزل مفرداً

- ‌تنبيه:لا منافاة بين ما تقدم أن المشيع بعض القرآن

- ‌النوع التاسع والعشرونعلم ما نزل على بعض الأنبياء وما لم ينزل

- ‌النوع الثلاثونعلم أسماء القرآن

- ‌النوع الحادي والثلاثونعلم أسماء سور القرآن

- ‌فصل:قد يكون للسورة اسم واحد، وقد يكون لها اسمان فأكثر:

- ‌تنبيه:قال الزركشي في " البرهان ": ينبغي البحث عن تعداد الأسماء

- ‌النوع الثاني والثلاثونعلم إعراب أسماء سور القرآن

- ‌النوع الثالث والثلاثونعلم معرفة إعراب القرآن

- ‌ومن فوائد هذا النوع:

- ‌فائدة:قال أبو عبيد في " فضائل القرآن

- ‌تتميم:

- ‌فائدة:في ما قرئ بثلاثة أوجه: الإعراب أو البناء أو الحذف

- ‌فائدة:قال بعضهم: ليس في القرآن على كثرة منصوباته مفعول معه

- ‌النوع الرابع والثلاثونعلم معرفة الأحرف المقطعات التي في أوائل السور

- ‌النوع الخامس والثلاثونعلم الأحرف السبعةالتي أنزل القرآن عليها، ما هي

- ‌النوع السادس والثلاثونعلم الظاهر والباطنوالحد والمطلع لكل آية من القرآن

الفصل: ‌النوع التاسععلم أول ما نزل

‌النوع التاسع

علم أول ما نزل

ص: 165

النوع التاسع

علم أول ما نزل

اختلف في أول ما نزل من القرآن. فالمشهور أنه سورة (اقرأ)، وقيل:(المدثر)، وقيل:(الفاتحة)، وقيل:(البسملة)، ولكل من هذه الأقوال مستند.

فأما الأول: فلما روى البخاري بسنده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يختلي بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك،

ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها، حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال:

ص: 166

اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال:(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم)[العلق: 1 - 3]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. الحديث.

وهذا هو المشهور الصحيح، أن أول ما نزل سورة (اقرأ) بغار حراء يقظة.

وروى الكلاعي وابن سيد الناس في سيرتيهما عن عبيد بن عمير: كان رسول الله صلى الله غليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرز - وكان يجاور ذلك

ص: 167

الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى فيه ما أراد من كرامته، - وذلك الشهر رمضان - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء - كما كان يخرج - لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالتة، ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، فقلت: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، فقلت: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع، فقال:(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم)، فقرأتها ثم انتهى.

فانصرف عني، ووهبت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاباً،

ص: 168

فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله حقاً وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فيما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني، ثم انصرف عني وانصرفت عنه راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذيها مضيقاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، والذي نفسي بيده، لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر

ص: 169

الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي لي: فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.

قال ابن سيد الناس في آخر الباب: فهذه حالة، وحديث عائشة وغيرها أنه كان في اليقظة حالة ثانية، ولا تعارض لجواز الجمع بينهما بوقوعهما معاً، ويكون الإتيان في النوم توطئة للإتيان في اليقظة. انتهى.

وأقول: ما ذكره من جواز الجمع بينهما على الوجه المذكور قد تحقق، فقد روي في أول المبعث عن أبي بشر الدولابي إلى محمد بن عمرو ابن حزم قال: كان من بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤيا، فشق ذلك عليه، فذكر ذلك لصاحبته خديجة رضي الله عنها فقالت: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيراً. فذكر لها أنه رأى أن بطنه هزج، فطهر وغسل، ثم

ص: 170

أعيد كما كان، فقالت: هذا خير فأبشر. ثم استعلن له جبريل .... وفي الحديث - ثم أنزلت: (اقرأ)، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة. قال: أرأيتك الذي كنت حدثتك ورأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن. وكذا روي عن ابن عباس من طريق الدولابي كما تقدم.

فعلى هذا يكون كما في حديث عبيد بن عمير من وحي (اقرأ) في المنام توطئة لوحي اليقظة المروي في حديث عائشة رضي الله عنها، والله أعلم.

وفي سيرة الكازروني - وهو من أئمة الحديث - ولم أرها في غيرها: أنه أول ما تراءى له جبريل أتاه من خلفه فضربه برجله فاستوى قائماً جالساً، ونظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً. ثم أتاه فضربه برجله ثم قال: قم يا محمد.

فإذا هو بشخص رجل يسير يبن يديه والنبي صلى الله عليه وسلم يتبعه، ثم خرج من باب الصفاء، فلما كان بين الصفا والمروة أنشب رجله في الأرض، ومد رأسه إلى السماء، ونشر جناحيه فملأ بهما ما بين المشرق والمغرب، فإذا رجلاه مغموستان في صفرة، وإذا جناحاه مغموستان في الخضرة، وعليه

ص: 171

وشاحان من ياقوت أحمر، أجلى الجبين، واضح الجبهة، براق الثنايا، شعره كالمرجان الرابية شعره حبك، مكتوب بين عينيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم رعب من عظم خلقه

وفي الحديث: اقرأ يا محمد، قال: وما أقرأ، ولم أقرأ قط، فأخرج جبريل من تحت جناحه درنوكاً من درانيك الجنة منسوج بالدر والياقوت، فوضعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم غمه به حتى كاد يغشى عليه، ثم خلى عنه،

فقال: اقرأ، فأجابه بما أجابه به أولاً، ففعل به كالأول، فلما أفاق قال: اقرأ، قال: فخفت أن أقول لا، فيعود علي، قال:(اقرأ باسم ربك الذي خلق) إلى آخره [العلق: 1 - 5]، ثم همز الأرض بعقبه فنبعت عين ماء، فتوضأ وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم وصلى، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم معه يقتدي بصنيعه، ثم غاب عنه. وذكر حديثاً طويلاً، وهذا الذي نقلته بعضه بمعناه.

لكن هذا يعارض الرواية الصحيحة: أن نزول (اقرأ) إنما كان بحراء لا بين الصفا والمروة، ولا بهذه الكيفية. فإن صح هذا الحديث فيحتاج إلى الجمع بينهما.

ص: 172

ويمكن الجمع: بأنه أول ما أتاه جبريل وهو بغار حراء، وجاءه على صورة رجل وأنزلت اقرأ فيه على ما ساقه البخاري، ثم عقب ذلك أتاه جبريل بصورته المذكورة وفعل به ما فعل، وأعاد عليه القراءة، ليطيب بذلك قلبه، ويتيقن أن ذلك حق لا مرية فيه، وأن الآتي بالوحي يتشكل بأشكال مختلفة، في الأولى أتاه في صورة رجل، وفي هذه المرة أتاه في هذه الصورة. وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما أقرأ وما قرأت قط)، ظن أنه يريد ليقرأه غير ما تقدم في حراء. وقوله:(قط) مبالغة في عدم المعرفة.

وأيضاً فكان نزول (اقرأ) في هذه القصة ليس مقصوداً، بل المقصود تعليمه الوضوء والصلاة - كما تقدم في آخر الحديث - ويكون معنى أولية رؤية جبريل أولية مخصوصة، وهو رؤيته له على هذه الصفة. وتكرر نزول السورة ليس ممنوعاً، ويدل لهذا الحمل ما روي أن جبريل عليه السلام أتاه في يوم الثلاثاء ثاني مبعثه فوافاه بأعلى مكة، فهمز جبريل بعقبة إلى ناحية الوادي، فنبعت عين ماء، فتوضأ جبريل وأرى النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء، ثم قام فصلى به ركعتين.

فلعل الحديث المتقدم كان في هذا اليوم وهذا من تمامه، فحينئذ يصح الجمع.

ص: 173

ويمكن الجمع بالعكس وهو: أنه أول إتيان جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم كان بين الصفا والمروة على الكيفية المذكورة، ثم لما كانت تلك الكيفية مزعجة بعيدة عن المألوف، ولهذا وقع له صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث أنه هم يصعد إلى قلة جبل فيرمي نفسه، لما خشي أن يكون مجنوناً فأتاه جبريل الثانية في غار حراء بصورة معهودة لا تنكر، فتحقق أنه الحق واتضح له.

ويدل على هذا الجمع قوله في هذا الحديث: (ما أقرأ وما قرأت قط). وإن أمكن أن يحمل على المبالغة لكنه خلاف الظاهر.

وأما من قال: إن أول ما أنزل (المدثر)، فلما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: سألت جبريل بن عبدالله: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: (يا أيها المدثر) فقلت: أنبئت أنه (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فاستنبطت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض - يعني جبريل - فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماءاً بارداً، فأنزل علي: (يا أيها المدثر. قم

ص: 174

فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر). انتهى.

وأجيب على ذلك بأجوبة أحسنها أن السائل كان عن أول سورة كاملة أنزلت من القرآن، فأجاب جبريل رضي الله عنه بأن سورة نزلت بكاملها قبل نزول تمام سورة (اقرأ). ويدل على أن جابراً أراد ذلك، ما أخرجه البخاري في باب " بدء الوحي " قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقال: زملوني، زملوني، فأنزل الله تعالى: (يا أيها المدثر. قم فأنذر) إلى قوله: (والرجز فاهجر)، فحمي الوحي وتتابع ".

فهذا صريح في أن جبريل رضي الله عنه لا يعني أن سورة (المدثر) نزلت قبل (اقرأ)، وإنما مراده أنها أول سورة من القرآن نزلت وتكملت قبل أن يتكمل غيرها.

ص: 175

وأما من قال أول ما نزلت (الفاتحة) فلما روى الواحدي بسنده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً)، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقص عليه فقال:(إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هارباً في الأرض). فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع مايقال، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد قل: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين) حتى بلغ: (ولا الضالين)[الفاتحة: 1 - 7].

وأخرجه البخاري في التفسير عن أبي ميسرة، لكن زاد فنودي فقال: لبيك، فقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالها، فقيل: قل: (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى آخر السورة.

وهذا الحديث مرسل، قال البيهقي: إن كان محفوظاً فيحتمل أن يكون

ص: 176

بعدما أنزل عليه (اقرأ) و (المدثر).

ويمكن الجمع بوجه آخر وهو: إن هذا الحديث ليس فيه ظهور الملك، فيمكن أن يكون هذا قبل وحي (اقرأ)، ووحي (اقرأ) كان بظهور الملك، وبه حصل العلم واليقين للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله، فوحي (اقرأ) هو الأول بالنسبة إلى حصول المشافهة واليقين، وهذا أول بالنسبة إلى أنه أول وحي سمعه في اليقظة.

وأما من ذهب إلى أن أول ما نزل البسملة، فلما روى الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن قال: أول ما نزل من القرآن: (بسم الله الرحمن الرحيم) وأول سورة: (اقرأ باسم ربك).

قال السيوطي - رحمه الله تعالى - في الإتقان: وعندي أن هذا لا يعد قولاً برأسه، فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها، فهي أول آية على الإطلاق.

ص: 177